بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فستكون وقفتنا في هذا الوقت القصير في ظلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه, وعن عمره فيما أفناه, وعن علمه فيما عمل به, وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ ).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة )، معناه لا تتحركان عن مكانهما, فـ (زال) في اللغة تستعمل لثلاثة أمور: يقال: زالت الشمس عن كبد السماء، أي: تحركت, ومضارع هذا الفعل (يزول), زال فلان عن مكانه يزول, وزالت الشمس عن مكانها تزول.
والاستعمال الثاني: زال بين الشيئين أي: ميز بينهما, زال المؤمنين عن الكافرين يزيلهم عنهم: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25], أي: لو امتازوا.
وأما زال يزال فهي ملازمة للاعتماد، لا بد أن يكون قبلها نفي أو استفهام، وهي التي تستعمل بمثابة كان، فيقال: ما زال فلان قائماً, ولا يزال فلان قائماً، ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ), فهذا هو الفعل الناقص، وهو الذي مضارعه يزال.
والحديث هنا فيه: زال يزول أي: ذهب وتحرك عن مكانه, والمقصود بذلك أن كل إنسان يحشر إلى الله سبحانه وتعالى فيوقف بين يديه للعرض, وهذا الموقف العظيم هو الذي يحاسب فيه الإنسان على نعم الله عليه وعلى أعماله، فالإنسان لم يأتِ إلى هذه الدنيا عن طواعية، ولا جاء عن ملكه واختياره، وإنما أرسله الله تعالى في مهمة ومدتها محددة هي مدة العمر، وجاء لأداء هذه المهمة، وقد أوتي وسائلها فأنعم الله عليه بأنواع النعم، فأولى النعم عليه خلقه, ثم بعد ذلك هدايته, وأسباب الهداية التي منها بعثة الرسل وإنزال الكتب، ومنها: السمع، والبصر، والفؤاد، وغير ذلك من وسائل العلم, ثم بعد هذا ما يتعلق بعمره وهذا يشمل شبابه وما بعده.
ثم بعد ذلك ما يتعلق بالنعم المادية التي أنعم الله بها عليه, فهذه هي النعم التي أعطيها في هذه الحياة الدنيا, وإنما أعطيها ليستعين بها على الوظيفة التي أنزل وأهبط من الجنة إليها وهي الاستخلاف في الأرض وتحقيق عبادة الله فيها, فيحاسب إذاً على الأمرين: على ما أوتي من النعم؛ لأنها أمانة لديه, وعلى ما صرفها فيه مما أرسل من أجله وهو تحقيق العبادة لله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وهذا العرض على الله سبحانه وتعالى وقته وقت حرج؛ لأن الإنسان فيه تزول عنه المعاذير، ويختم على لسانه، ولا يستطيع أن يكذب على الله, وتبدو سرائره وكل ما كان مخفياً لديه يظهر, كما قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18], وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9-10].
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9], فقال: منها الجنابات، أي: الطهارة، فهي أمانة لدى الإنسان وتبلى بين يدي الله تعالى: هل قام بها على وجهها الصحيح أو لا؟ ومثل ذلك أعمال الإنسان كلها، فهي من السرائر التي تبلى أي: تمتحن وتختبر عند العرض على الله تعالى, كما تبلى الفضة أي: تذاب حتى يزال عنها ما فيها مما ليس منها.
وعرض الإنسان على الله سبحانه وتعالى هو المرحلة الأولى بعد الانطلاق من المحشر، فإن القيامة الكبرى تبدأ بإذن الله للملك في النفخ في الصور، وقد التقمه الآن وأصغى ليتاً ينتظر الأمر، فإذا أذن له ينفخ فيه نفخة الفزع, وإذا نفخ فيه يصعق الناس لها جميعاً، ثم يمكثون أربعين سنة, ثم بعد ذلك ينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون, وفي ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، فتزلزل ويزول ما فيها من الجبال فتكون كالعهن المنفوش، أي: كالصوف المندوف تهيئه الرياح يميناً وشمال، ويزول ما فيها من الأودية فتستوي جميعاً، وتنفض وترج رجاً حتى يخرج ما فيها من المقبورين وما فيها من الأجداث, ثم بعد ذلك يخرج ما فيها من الكنوز، وما فيها من المعادن تنفض ذلك جميعاً، كنفض الجراب أي: كنفض الوعاء عندما ينفض فيذهب كل ما فيه.
وفي ذلك الوقت تشقق السماء وتطوى كطي السجل للكتب, والملائكة على أرجائها أي: على أطرافها, وهي يومئذٍ واهية، يسهل كسبها وطيها بأمر الله سبحانه وتعالى, ثم بعد هذا ينادى في الناس: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون, ويجتمعون في الساهرة، وهي أرض كالكرسفة البيضاء لم ينبتها نبات، ولم يمطرها مطر قط، كما خلقت، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر, فيجتمعون فيها جميعاً أولهم وآخرهم من لدن آدم إلى نهايتهم, يقف الواقف فيراهم جميعاً، ويحشرون كما خلقوا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104], فيؤتى بهم حفاة عراةً غرلاً ليس مع أحد منهم إلا عمله,كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنكم ملاقو ربكم حفاة عراةً مشاةً غرلاً ليس مع أحد منكم إلا عمله, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله واسوأتاه! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال: يا عائشة ! الأمر أعظم من ذلك ).
فالأمر عظيم جداً وهو الهول العظيم جداً, فإذا حشروا جميعاً في الساهرة جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك, وتأتي من كل الجهات يقودها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة، وهم يجرونها جراً والناس يرونها يركب بعضها بعضاً، فيرون ما فيها من الأهوال والألوان والروائح المفظعة المروعة، فإذا أحاطت بهم من كل جانب جيء بالشمس فتدنو فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعا, ثم بعد ذلك يرتفع فوقها، فمنهم من يصل إلى كعبيه, ومنهم من يصل إلى ركبتيه, ومنهم من يصل إلى حقويه, ومنهم من يصل إلى سرته, ومنهم من يصل إلى ثدييه, ومنهم من يصل إلى ترقوتيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاما, ويطول بهم الموقف طولاً غير معهود, وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
فإذا طال بهم الموقف نسوا كل ما مر عليهم في المواقف السابقة, فذلك الموقف منسٍ لكل ما مر على الإنسان من نعيم أو عذاب أو أذىً أو لذة أو غير ذلك، يزول عنه كل ذلك, وينسى كلما مر به من قبل, فالإنسان في قبره يعرف مصيره هل هو إلى جنة أو إلى نار, يعرض عليه مقعده من الجنة أو من النار, وفي جوابه للملائكة يعلم هل ثبت بالقول الثابت أو قال القول المشئوم نسأل الله السلامة والعافية.
لكن ينسى ذلك كله بمجرد هذا الموقف, ولذلك يذهب على الإنسان ما كان يعلمه من أمور الجنة والنار، ومن الرغبة في ذلك، حتى إنه يقول: يريد الخروج من هذا الموقف إما إلى جنة، وإما إلى نار, يظن أن هذا الموقف ليس شيئاً أعظم منه, حتى أنه يتمنى الخروج منه ولو إلى النار, نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك فعرصات القيامة ما فيها مقام إلا والذي بعده أعظم منه, كل موقفٍ من تلك المواقف ينسي الذي قبله بالكلية, وهم يرون جهنم من بعيد فلا يدركون حقيقتها، وهي تحيط بهم من كل جانب، لكنهم يرون منظراً مفظعاً ومع هذا يتمنون الخروج عن هذا المقام وهذا الموقف؛ لأن انتظار العذاب في تصور الإنسان أشد من وقوعه في بعض الأحيان.
ثم بعد هذا إذا طال بهم الموقف يرجعون إلى العلماء فيقولون: كنا نعود إليكم في مشكلاتنا في الدنيا, فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء, فيدلوهم العلماء على الأنبياء, فيأتون آدم يبدءون به فيقولون: ( يا آدم خلقك الله بيمينه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض، وأنت أبو البشر فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار, فيقول آدم: نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله تعالى فأكلت من الشجرة, ولكن أذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح أنت أبو البشر بعد آدم ، وأنت أول الرسل إلى أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول نوح : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإني قد سألت الله ما لم يأذن لي به, ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتونه فيقولون: إبراهيم قد اصطفاك الله بخلته من الناس فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول إبراهيم : نفسي نفسي رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وهل كنت إلا خليلاً من وراء وراء، وقد كذبت ثلاث كذبات, ولكن اذهبوا إلى موسى ، فيأتونه فيقولون: يا موسى قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول موسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى ، فيأتونه فيقولون: يا عيسى أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار, فيقول عيسى : نفسي نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله, وإني عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يذكره غير ذلك, ولكن اذهبوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيأتونه فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الأنبياء وإمامهم فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لها, فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله تعالى ثناءً لم يثنِ به أحد قط عليه, فيقول: يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفع واسأل تعطى ), فينال المقام المحمود الذي ادخر الله له، فيشفع للناس بالخروج من الموقف فيدخل في شفاعته آدم ومن دونه من الخلائق برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، يدخلون جميعاً في هذه الشفاعة الكبرى, فيؤذن لهم في الخروج من الموقف, وفي ذلك الوقت تجلى جهنم، أي: تبعد عن الساهرة ثم يتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24], وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17], فيتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام ويعرض الناس عليه جميعاً, وحينئذٍ يقفون بين يديه سبحانه وتعالى, فكل إنسان تستوي قدماه ولا تزولان حتى يسأل عن هذه المواقف عن نعمة الله عليه وعن تكاليفه التي كلفه بها.
وفي ذلك الوقت يتبين المضيعون الذين استغلوا نعمة الله في غير مرضاته، فأولئك هم الخاسرون قامت عليهم الحجة بالنعمة التي أنعم الله بها عليهم, ثم لم يستغلوها فيما كلفوا من أجله فكانت أعمارهم سدى، أرسلوا إلى هذه الحياة الدنيا فأوتوا فيها ليالي وأياماً وشهوراً وسنوات، وأوتوا من الطاقات والنعم الشيء الكثير ومع ذلك كانت حجة عليهم لا لهم، كما يخاطب الله تعالى أهل النار فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
فإذا عرضوا عليه سبحانه وتعالى تفاوتت أحوالهم تفاوتاً عظيماً جداً، فأحوال أهل الدنيا متقاربة، وأحوال أهل الآخرة متباعدة, نتائجهم في ذلك اليوم متباينة تبايناً لا يمكن أن يتصور, فنهاية ذلك الموقف بالعرض على الله سبحانه وتعالى أن يأذن الله للمؤمنين فيبسط عليهم كنفه، فيقول: ( أي عبدي! أتذكر يوم كذا إذ فعلت كذا وكنت قد نهيتك عنه, فيقول: نعم يا ربي! وكنت قد نسيته فيقول: لكنني لم أنسه ).
ثم بعد ذلك يفضح الله تعالى الغواة العاصين، فتظهر أعمالهم تتكلم بها جوارحهم ويختم على ألسنتهم: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36], تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون, وفي ذلك الوقت يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين, فتتكلم جوارحهم جميعاً وتشهد عليهم بما عملوا, ثم بعد ذلك يؤتى بالسائق والشهيد مع كل إنسان من الناس سائق وشهيد، وتكون نفسه عليه بصيرة تشهد عليه وهي خصمه وهي أقرب الناس إليه، فيخاصمها فيقول: ويلك يا نفسي أقرب إلي من هذا، وهي تشهد عليه وتخاصمه.
ثم بعد ذلك يأتي وقت عرض الكتب، فكل إنسان يعقد له طائره في عنقه: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14], فيقرأه بأعلى صوته على رؤوس الأشهاد، يقول: فعلت كذا يوم كذا, وتركت كذا يوم كذا, وفعلت كذا ليلة كذا, وتركت كذا ليلة كذا, وهو يشهد على نفسه بذلك بأعلى صوته وهو يقرأه بين يدي الملك الديان والملائكة جميعاً, جبريل يستمع إليه و إسرافيل و ميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم وجميع أنبياء الله، وهم شهود الله تعالى يستمعون إليه، وهو يعلن جميع ما عمل, إذا مر بموقف مشرف وعمل صالح ابيض وجهه وغشيه السرور, وإذا مر بموقف مخزٍ وعملٍ سيئ اسود وجهه وغشيته الكآبة.
ثم بعد ذلك تعطى الكتب للناس إما باليمين، وإما بالشمال، فالذي يأخذون كتبهم بأيمانهم يشرفهم الله تعالى فتبيض وجوههم فيسيرون في النور خمسمائة عام, والذين يأخذون كتبهم بشمائلهم -نسأل الله السلامة والعافية- يسود الله وجوههم فيتخبطون في الظلام الشديد لا يرون إلا ضوء المؤمنين وأنوارهم، وهم يقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، انظرونا، أي: انتظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13], وحينئذٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
فيفصل بين المؤمنين والمنافقين، فقد كانوا في المحشر وما قبله مجتمعين, فالمنافقين يقبروا في مقابر المؤمنين فهذا اسمه عبد الله وهذه اسمها عائشة أو فاطمة فيقبرون جميعاً في مقابر المؤمنين، ويحشرون معهم، لكن يميز بينهم عند هذا الوقت, فيفصل بينهم هذا الفصل النهائي لا يرونهم بعد ذلك إلا بمجرد التخاصم في النار, ولذلك يقولون: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:14-15].
ثم بعد ذلك تتالى مشاهد القيامة فيأخذ أهل الإيمان والتقوى كتبهم بأيمانهم فيفرحون بها غاية الفرح, إذا نال أحدهم كتابه بيمينه يصيح بأعلى صوته: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24], وفي مقابل ذلك يأخذ الغواة كتبهم بشمائلهم وراء ظهورهم فتدخل, أيديهم الشمائل من بين ثديهم وتخرج من بين أكتافهم -نسأل الله السلامة والعافية- فيعطون بها كتبهم وراء ظهورهم, ثم بعد ذلك يسحبونها من صدورهم وهم يتألمون غاية الألم ويحزنون غاية الحزن، فيصيح أحدهم: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:25-27], يريد إخراج اليد: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27], أي: القاتلة وهي لا تقتله لأنه يلتئم جرحه بعد خروج يده مباشرة: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29].
فيقول الله لملائكة الشمال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:30-37], فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:35]، أي: ليس له نصير ولا معين, فالحميم هو الصديق, فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:35], ليس له صديق فلا يمكن أن يشفع له أحد, وليس له طعام كذلك إلا طعام أهل النار, ولا شراب إلا شراب أهل النار، وهو الماء الساخن الذي يذيب الأمعاء ويزيل ما في الجوف، نسأل الله السلامة والعافية.
وطعامهم قد وضع عليه القطران الذي لو قطرت قطرة واحدة منه في الأرض كل ما فيها، فلم يستطيع أحد أن يتنفس في هوائها ولا أن يشرب من مائها، ولا أن يأكل من طعامها.
ثم بعد ذلك تزلف الجنة لأهلها، وتقرب النار لأهلها، فتكون في طريق الجنة فينصب عليها الصراط -وهو الجسر- أحد من السيف، وأرق من الشعر، وعليه كلاليب كشوك السعدان, وعليه مراقب والأنبياء على مراقبه، يقولون: اللهم سلم سلم، ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم سلم، ويمر الناس عليه يتفاوتون بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف, ومنهم من يمر كالريح المرسلة, ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل, ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا, ومنهم من يزحف على مقعدته, فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
ثم بعد ذلك يأتي أهل الجنة إلى بابها فأول من يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما أن أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يكسوه الله تعالى من ديباج الجنة، وهو الحرير الأبيض.
ثم بعد ذلك تأتي الشفاعة الثانية وهي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولها, وتتوالى بعد ذلك الشفاعات، حتى يكون آخرها شفاعة أرحم الراحمين، عندما يقول الله تعالى لملائكته: انتهت شفاعات الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين, ثم يقول: ( أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان, ويمكث ما شاء أن يمكث ثم يقول: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله فيخرجون منها قد اسودوا وامتحشوا فيلقون في نهر الحياة فتنبت أجسامهم كما تنبت الحبة في حميل السيل ), ثم بعد ذلك يؤمر بهم إلى الجنة.
وهذه المواقف كما سمعتم أولها بعد المحشر هو العرض على الله تعالى، وهذا الموقف يشيب له الولدان، وينسى فيه الإنسان؛ لأنه سيذهل، عندما يعرض عليه جميع أعماله وهي بين يديه فيقول الطاغي الذي كان يتمنى ألا ينال إلا خيراً وتغره الأماني وهو يظن أنه سيكون من الفائزين يوم القيامة يقول: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ثم إن هذا الموقف بين يدي الملك الديان, نتيجته أن يأمر الله تعالى آدم فيناديه فيقول: ( أخرج بعث النار, فيقول: يا رب! من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ), فذلك يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2], ولذلك لا بد أن يعد الإنسان الجواب لهذا السؤال قبل ذلك الموقف فكلنا سائر إليه، ولا يمكن أن ينجو منه أحد بحال من الأحوال، وبالأخص إذا تذكر أنه سيأتي كالمكبل فيوقف بين يدي الله لا تتقدم قدمه على الأخرى، ولا يستطيع أن يتحرك أية حركة حتى يجيب عن هذه الأسئلة الأربعة، والجواب لا بد أن يكون صدقاً، يمكن أن يقبل فيه المعاذير.
أول ما يسأل عنه الإنسان: شبابه، فإن نعمة الخلق نعمة عظيمة، ولذلك قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50], الذي أعطى كل شيئاً خلقه, لأن النعمة الأولى على الناس: هي خلقهم, ثم بعدها الهداية: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
فنعمة الخلق نعمة عظيمة وبدايتها شباب الإنسان الذي يعجبه وفيه الغضارة والنضارة والقوة، وفيه كذلك عدم تحمل الكثير من المسئوليات, فالإنسان في شبابه لم يتعهد بعد بكثير من المتطلبات ولا من المسئوليات يتولاها عنه أهله، وهو في قوته وتمام خلقته، فبصره على أتم ما يكون, وسمعه على أتم ما يكون, وقوة جوارحه كذلك في نشاطه على أتم ما يكون, وعظامه ما زالت قابلة للتمدد, ولحمه ما زال قابلاً للزيادة, وأمله ما زال ممتداً أمامه، إذا حصل أي كدر فإنه يأمل أن يعيش بعده وأن يفارق ذلك الكدر, فلذلك كان شبابه مدة ذهبية إذا لم يستغلها الإنسان في الطاعة كانت حسرة وندامة, ولهذا فإن الذين استغلوا هذه الفترة في مرضات الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, ولذلك عد منهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( وشاب نشأ في عبادة الله ), يعزلون فيظلون بظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
وغيرهم -نسأل الله السلامة والعافية- الذين أضاعوا شبابهم في غير طائل، كان حجة عليهم، فهم معرضون على الله تعالى ويسألون عنه فيقال: يسأل الإنسان عن شبابه فيما أبلاه؟ فهو سيبلى لا محالة، البصر ينقص, والسمع ينقص, وحتى لون البشرة يتغير, وما كان في الإنسان مما يعجبه سيذهب كله, كل ما فيه من الطاقات, وكل ما فيه من القوى, وكل ما فيه من الجمال, كل ذلك يذهب.
وليتذكر الإنسان حاله بعد ثلاث في القبر: أليس الوجه سيبلى, أليست العينان سيأكلهما الدود, أليست قوى الإنسان ستذهب بالكلية، إذا تذكر الإنسان ذلك فليعلم أن هذا الشباب بعده البلى والتغير، وأن ما يشهده الإنسان يومياً من تغير حال الشمس هو دليل على تغير حاله هو، فأنتم رأيتم الشمس هذا اليوم في شبابها عندما طلعت، وهي في أول طلوعها تمتد أشعتها فتغطي العالم كله, وترونها عند غروبها مكسوفة قد تغير لونها وذهب ما كان فيها من الجمال بالكلية, ولذلك قال الحكيم :
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح و عساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيــــفة الأمــــس
فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس
فهذا البلى سيفعل بوجه كل إنسان، ما فعله الظلام بصورة الشمس على حسنها وكمالها، فلا يمكن أن يكون وجه الإنسان مثلاً بمنزلة الشمس منزلة وجه الشمس، ومع ذلك فوجه الشمس يبلى ويذهب كل ما فيه من جدة وجمال, فكذلك وجه الإنسان, ولهذا لا بد أن يحص الإنسان على تدارك شبابه قبل فواته, فإن كثيراً من الشباب يعولون على أنهم إذا تقدم بهم العمر فسيستقيم حالهم ويهتدون وينافسون أهل التقوى.
والغريب في الأمر أن كثيراً من الكبار الذين جربوا لا يعينون الشباب على الالتزام في هذه المرحلة، بل إذا رأوا ملتزماً من الشباب في شبابه استغربوا ذلك وظنوا أنه لعقدة أو مشكلة، وهذا غريب جداً, فالكبار من المعلوم أنهم قد جربوا الشباب ومروا من هذا الطريق وعرفوا أنه لا فائدة فيه, فلذلك كان اللازم أن يختصروا على الآخرين وأن يصدروا تجاربهم إليهم.
ولذلك لا بد أن يدرك الشباب أنهم إذا تقدم بهم العمر فهم بين أمرين: إما أن يعاجلهم الموت ويداهمهم قبل أن يحصل الالتزام والطاعة، وهذه الطامة الكبرى؛ لأن الإنسان حينئذٍ قامت عليه الحجة والتكاليف متراكمة عليه، والملائكة يكتبون الليل والنهار, فإذا عاجلته المنية ومات قبل أن يقدم شيئاً لنفسه فهو الخسران الذي ما بعده خسران.
الحال الثاني: إذا لم تعاجله المنية ومد له في عمره، فإلى أين يذهب؟ لا يذهب إلا إلى الضعف والشيبة، والهرم والعجز والكسل, فإن الإنسان إذا تقدم به العمر تغيرت أحواله بالكلية, كما قال الشاعر:
فما تشتهي غير أن تشتهي
وكما قال الفرزدق :
اسمع أحدثك بآيات الكبر تقارب الخطو وضعف في البصر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر وقلة الزاد إذا الزاد حضر
فسيكون الإنسان عاجزاً إذا عجز عن المعصية فسيعجز أيضاً عن الطاعة، ما ضعف عنه من المعاصي يضعف عن مقابله من الطاعات، ولذلك فإن الإنسان ينبغي أن يعلم أن تقدم السن ينبغي أن يكون دروساً، فكل ساعة تمر على الإنسان هي فرصة أتيحت له وكان بالإمكان أن لا تتاح له، فكثير هم أولئك الشباب الذين ماتوا على حال الغرور، ينام أحدهم فتؤخذ نفسه في نومته، أو يخرج من بيته بكامل قواه فيصاب بداء عضال يموت به، أو يموت في حادث سير وكل يموت بأجله.
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيب
ونحن نشاهد كل يوم بعث يتجه إلى الدار الآخرة، فيهم الشباب وفيهم الشيب، يذهبون جميعاً فيداركون هنالك، وتكاليفهم واحدة، وسؤالهم بين يدي الله واحد، فلذلك لا بد أن نحرص على أن يكون الجواب مشرفاً، وأن تستغل هذه الفترة وهي فترة الشباب فيما يرضي الله تعالى قبل فوات الأوان، وعلى الإنسان إذا علم أنه فرط فيما مضى من شبابه أن يحاول تدارك ما بقي منه، فقد قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
ولهذا فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وكان من أبناء الملوك، ومن بني عبد مناف، ومن المعلوم أنهم آتاهم الله تعالى من كمال الخلقة وتمام الجمال الشيء الكثير، فمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان منعماً مرفهاً حتى إنه كان يقول:
إن الأحامرة الثلاثة أفسدت مالي وكنت بهن صباً مولعا
الراح واللحم السمين وأطلي بالزعفران فلن أزال مروعا
وكانت تعجبه هذه الحياة وشبابها وما فيها من الملذات، كما قال الشاعر:
أودى إن الشباب الذي مجد عواقبه فيه نلذ ولا لذات للشيبِ
وكما قال عبيد بن الأبرص :
كان الشباب يلهينا ويعجبنا فما كسبنا ولا بعنا بأرباح
فلذلك استمر على هذا الحال برهة من الزمن, فلقيه شيخ كبير في السن بخناصرة وهي بلد من بلدان الشام، فقال له: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول, فقد قال الله تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16], فلما سمع عمر هذه الكلمة أثرت في كيانه وهزته هزةً كان لها ما بعدها في حياته, فتقلبت حياته وتغيرت بالكلية, ما كان يعجبه من أمر هذه الدنيا, وما كان يرغب فيه من جمع حطامها تغير إلى رغبة في الدار الآخرة ورجاءٍ لما عند الله تعالى وإعداد لتلك المواقف, فكان مضرب المثل في الطاعة واستغلال الأوقات.
حتى إنه لم يكن رحمه الله يمضي عليه وقت فيه فراغ، فلم يكن يجد فراغاً في حياته, كل أوقاته مستغلة بأبلغ ما يمكن استغلالها فيه, ولذلك كتب إلى عدي بن عدي كما أخرج البخاري في الصحيح: إن للإسلام فرائض وسنناً وحدوداً، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وكذلك كان إذا ليم على أمر من أمور الدنيا يقول: أي يوم أخشاه قبل يوم القيامة فلا أوقيت شره, فلا يخشى أي يوم من أيام الدنيا، وإنما يخشى يوماً واحداً وهو يوم القيامة، فلذلك استفاد عمر بن عبد العزيز رحمه الله من هذه النصيحة البالغة فأثرت فيه تأثيراً بليغا.
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن فضالته الحكمة, فإذا سمع موعظة وعرف أنها الحق, وباشرت شغاف قلبه ينبغي أن تترك فيه أثراً, وأن تترك فيه بصمة, وأن تغير شيئاً من حياته، وإلا كان كسائر البهائم التي يمر عليها من المواعظ والأيام والليالي والسنوات والشهور ما لا يؤثر في طبيعتها وحياتها، فهي منطلقة إلى وجهها لا تبالي, والإنسان قامت عليه الحجة، فإذا كان يسمع الوعظ البالغ فلا ينتفع به حده منه وقت سماعه، ثم بعد ذلك يذهب عنه كأنه ما سمع شيئاً، هذا إنما هو بهيمة من البهائم.
وقد قال الحكيم:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزكي بعضهم بعضاً ليدفع معور عن معور
أبـني إن من الرجـــــال بهيمـــــــــــة في صورة الرجل السميع المبصر
فطنٍ لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر
هذا السؤال الأول: هو عن شبابه فيما أبلاه، وهذا الشباب يشمل ما فطر الله عليه الإنسان، وما خلقه عليه، فكل عضلة من العضلات, وكل شعرة من الشعر, وكل حركة من الحركات داخلة فيه وهو يسأل عنها.
ثم بعد ذلك السؤال الثاني: عن عمره فيما أفناه، فالعمر فيه سؤالان: سؤال عن الشباب بخصوصه لخطورته وقوة الإنسان فيه، والسؤال الثاني: عن بقيت العمر فيما أفناه, فهذا العمر يفنى ويمضي فيما يستغل فيه؛ لأنه ظرف وهو قابل للاستغلال في الخير، وقابل للاستغلال في الشر, فسيسأل الإنسان عنه: فيما أفناه؟
فما مضى من هذا اليوم عدد الساعات قد أفنيناها أي: أمضيناها، وكل إنسان منا إذا لم يكن ركب رقبة هذا اليوم من أوله واستغله في طاعة الله قبل أن يفوت الأوان، فإن هذا النهار قد فات، والإنسان لا يملك زمام النهار إلا بأن تكون له خبيئة من الذكر في صباحه يملك بها زمام هذا الأمر, إذا كان استيقظ عند طلوع الفجر فذكر الله تعالى واستاك وتوضأ، وصلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح في جماعة، ثم ذكر أذكار ما بعد الصلاة, ثم بعد هذا قال: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم مائة مرة، أو قال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيئاً قدير مائة مرة, أو تصدق بثلاثمائة وستين صدقة, أو انتظر حتى تطلع الشمس وهو يذكر الله ثم صلى ركعتين، فتعدلان له ثلاثمائة وستين صدقة, فهذا الإنسان قد ملك زمام هذا اليوم؛ لأنه ملك مفتاحه من أول وهلة.
أما إذا كان فرط في ذلك كله فلم يشهد الفجر في جماعة, ولم يؤدِ هذه الأذكار فعليه ترة من الله تعالى بهذا اليوم؛ لأنه حق في عنقه لم يستغله فيما ينجيه, وسيندم غاية الندم إذا وقف بين يدي الميزان وله كفتان، فكفة اليمين فيها الحسنات، وكفة الشمال فيها السيئات، تخرج له صحائفه فيرى كل ما فيها، ويعلم أنه الحق، وأنه لم يظلم شيئا، فيرى النعم الكثيرة, يرى الأيام الطائلة والأوقات الواسعة ولم يستغلها في شيء هو صامت ساكت هامد لم يذكر الله تعالى,لم يقل: ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين,لم يضرع إلى الله تعالى بالمسألة, فيندم على ذلك غاية الندم حين يرى تلك الأوقات كلها توضع في كفة السيئات، وهي راجحة فيها, يندم ندماً شديداً للضياع الذي حصل فيه.
ثم بعد هذا، هذا العمر الذي هو حجة قائمة بكل ما فيه من تفاصيل، ففيه عبرة وتذكرة، فالأيام والليالي تناوبها وتداولها إنما هو أعمار بكاملها، فكل أربع وعشرين ساعة عبارة عن عمر تطوى صحائفه ويختم عليها ولا تفتح إلا عند العرض على الله تعالى, وانصداع المنذر أي: طلوع الفجر ينادي فيه المنادي: يا ابن آدم أنا وقت جديد لله عليك في خطاب جديد وأمر أكيد فيذكره بنفسه، فإذا لم يستغل هذا الوقت الذي أتيحت له فرصته فسيعلم عند موته أنه قد فاته الخير الكثير, فالإنسان عند الموت إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30], يتمنى الإنسان الرجوع إلى الدنيا ولو لطرفة عين, يتمنى لحظة واحدة أن يتأخر عنه الموت ثانية واحدة حتى يقول: لا إله إلا الله، مجرد ثانية واحدة يتمناها الإنسان, ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
في أحد الأيام أتاني بعض الشباب فذكروا أنهم كانوا مجموعة من الشباب نذروا أعمارهم للفساد, فكانوا يدرسون في فصل واحد ولا يحضرون إلا لماماً، ومهمتهم في الليل والنهار هي إدخال الأذى على الناس، وأن أحدهم خطف سيارة فذهب بها مسرعاً فطارده آخرون بسيارة فصدم في سيارة كبيرة فتحطمت عليه السيارة ومات, فجاء أصحابه وكانوا يظنون أنه سيقوم ببطولة حين يختطف سيارة مسلم، فإذا هو يخرج وقد تقطعت أعضاؤه وانفصلت عظامه من تلك السيارة، فرأوا ذلك المشهد الفظيع فأثر فيهم تأثيراً بالغاً هز كيانهم، وهم يشاهدون هذا أمام ثانوية أبو حديده، فجاءوا يريدون ما ينفع صاحبهم ويريدون التوبة، ويريدون الإنابة؛ لأنهم شاهدوا مشهداً فظيعاً عجيباً، فحصل لهم هذا الندم فلعله يكون خيراً لهم إن شاء الله, لكن هذا الحال ينبغي أن يتعظ به كل إنسان منا, فنحن كل يوم نشهد الذين يموتون وينتقلون إلى الدار الآخرة، كل لحظة تموت طائفة منهم، وأكثرهم غير مستعد للموت, وأكثر الذين يموتون غير مستعدين للموت.
وبعد هذا يأتي السؤال الثالث: عن علمه فيما عمل به؟ نعمة أخرى عظيمة تساوي نعمة العمر، وهي نعمة الثقافة والعلم سواءً كان ذلك العلم حاصلاً أو كان متوقعاً, فالإنسان بطبعه أوتي وسائل العلم: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10], فأوتي هذه الوسائل ليتعلم بها ما ينجيه, ومن تعلم ما يؤدي به إلى خشية الله كان من العلماء، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28], فأهل الخشية هم العلماء، ومن ليس كذلك ليس من العلماء عند الله تعالى.
فكل إنسان إذاً قابل لأن يكون من العلماء إذا تعلم ما يزيده خشية من الله سبحانه وتعالى, وإذا لم يفعل فإن الحجة قائمة عليه لله تعالى بما أوتي من وسائل العلم ولم يتعلم, فالإنسان إذاً بين صور:
الصورة الأولى: إذا لم يتعلم أصلاً، فأهمل ما أوتيه من الطاقات فعاش كما تعيش البهائم في هذه الحياة الدنيا، يستغل طاقاته من أجل جمع المعاش وهي مهنة تتقنها الفأرة وتتقنها النملة، فالنملة تستطيع أن تجمع معاشها وتعرف كيف تجمعه, والفأرة تستطيع أن تجمع معاشها وتعرف كيف تجمعه, والإنسان إنسان شريف كريم ليس مثل الفأرة والنملة, ولذلك ينبغي أن يكون همه في أعظم من هذا، وأن يكون تفكيره في الطريقة التي ينجو بها من عذاب الله، وأن يكون تفكيره فيما يشرفه عند العرض على الملك الديان يوم القيامة, وإذا كان منتهى علمه وغاية أمله ما يتعلق بالحياة الدنيا فلا خير فيه؛ لأنه بهيمة من البهائم.
فلذلك لا بد أن يعلم أن هذه الصورة الأولى لا يرتضيها الإنسان لنفسه، وهي أن يؤتى وسائل العلم ثم لا يتعلم ما يرضى الله منه.
الصورة الثانية: أن يتعلم ما يرضي الله ولكنه لم يعمل به، وهذا شر من سابقه؛ لأنه قامت عليه الحجة تماماً، فلا يستطيع أن يقول: فعلت كذا عن جهالة, ولذلك فإنما التوبة هي ما كان عن جهالة، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17].
ثم الصورة الثالثة: أن يكون قد تعلم ما ينجيه فعرفه ثم لزمه فانقاد لأوامر الله، كلما جاءه موعظة من ربه بادر للعمل بها، إذا سمع أي أمر من عند الله تعالى بادر إليه، وإذا سمع أي نهيٍ كف عنه, فهذا الإنسان هو الذي استفاد من علمه، واستطاع أن ينجو في هذا السؤال بين يدي الله تعالى، إذا وقف بين يديه واستوت رجلاه لا يستطيع أن يقدم واحدةً ولا أن يؤخر الأخرى، فسئل عن علمه فيما عمل به؟ فيستطيع أن يجيب الجواب الصحيح المنجي بين يدي الله تعالى.
وهذا العلم حجة عظيمة، فكل آية تسمعها من كتاب الله، أو كل حديث تسمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو كل حكم من أحكام الشرع؛ هو منذر جاءك من عند الله تعالى.
ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيمَ عملت فيما علمت؟ وقال رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي.
حجج كبيرة قائمة لله تعالى علينا بهذا العلم الذي بين أيدينا, فكل إنسان منا إذا مد يده تصل إلى المصحف إما في بيته، وإما في مسجده، وإما في مكتبه، وهذا المصحف فيه علم الأولين والآخرين، وخلاصة علم الأولين والآخرين هي ما ألهم الله تعالى سحرة فرعون عند هدايتهم فقالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76], فمن علم هاتين الجملتين فقد علم علم الأولين والآخرين.
فمن علم أنه من أتى ربه مؤمناً صادقاً صالحاً فهو من أهل الجنة, ومن أتاه منكراً أو فاجراً أو مكذباً فهو من أهل النار, من علم هاتين الجملتين فقد قامت عليه الحجة بكل العلوم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76], وعن علمه فيما عمل به.
ثم بعد ذلك يأتي السؤال الرابع: وأقصد، وهو يتعلق بالمال وفيه شطران أي: سؤالان: أحدهما: من أين اكتسبه؟ والثاني: فيما أنفقه؟ فهذا المال نعمة على الإنسان كنعمة بدنه ووقته ونعمة علمه, فهو النعمة الثالثة في هذا الترتيب فالإنسان أولاً: أوتي خلقه وهدايته، فأوتي شبابه وعمره وجوارحه وهدايته، ثم أوتي علمه وهو ما أوتي من وسائل الثقافة والإدراك, ثم بعد ذلك أوتي رزقه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6], فهو النعمة الثالثة في الترتيب، فلذلك يسأل عنه أيضاً سؤالين: من أين اكتسبه؟ وهو لا يستطيع أن يكتم شيئاً منه، يقال: ألم يصل يدك كذا وكذا؟ في وقت كذا وصل يدك كذا, وفي وقت كذا وصل يدك كذا، فمن أين وصل يدك أولاً؟ هذا السؤال الأول: من أين اكتسبه؟
فالاكتساب وجهان: اكتساب حلال، واكتساب حرام, فالاكتساب الحلال مأذون فيه شرعاً, بل هو من الاستخلاف في الأرض, وبذلك إذا أتى الإنسان الحلال بنية التعبد يكون به مثاباً عند الله سبحانه وتعالى.
والوجه الثاني: أن يكون الاكتساب حراماً، فيصل إلى يده هذا المال بسرقة, أو غصبٍ, أو غشٍ, أو رباً, أو غلول, أو مسألة حيث لا تحل له المسألة، أو غير ذلك من أوجه وصول المال إليه من حيث لا يستحقه, فإذا أجاب فسيكون الجواب قطعاً صدقاً؛ لأن المعاذير كلها تذهب فيقول: من أين اكتسبه؟
ثم بعد ذلك يقال له: فيما أنفقه؟ هل كان إنفاقه في الوجه المرضي لله تعالى, فكل مال اكتسبه الإنسان كتب عليه مصرفه في أي اتجاه يصرفه, فإن صرفه فيما يرضي الله كان في كفة الحسنات, وإن صرفه فيما يسخط الله كان في كفة السيئات, وهو لا يعدو أن يصرف في أحد الأمرين، أو أن يتركه وراءه, فالذي يتركه وراءه هو لغيره ليس من ماله هو.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم, ومال وارثه ما أخر ).
وبعد ذلك ماله هو إما أن يصرفه في الخير في أداء الواجبات في إعفاف نفسه وكفها عن المحرمات, في وجه مرضي شرعاً, فهذا المال الذي أخذ من حله ووضع في محله، فينميه الله تعالى له تنمية عجيبة؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, ومن تصدق بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيباً- كان كأنما وضعها في يمين الرحمن, فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل ).
فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب كما أمر بذلك، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا.
وبذلك يتذكر الإنسان أوجه النعم الكبرى التي عليه ثم بعدها التكاليف، فالتكليف على قدر التشريف: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], فالإنسان الذي لديه نقص خلقي -نقص في العقل مثلاً، وعقله لا يصل إلى مقام التكليف- رفع عنه القلم مطلقاً, والإنسان الذي أوتي عقلاً يميز به بين الحلال والحرام، ويعرف به النفع والضر فهذا مكلف، فإذا جاء نقص في جارحة من جوارحه نقص عنه التكليف في مقابل تلك الجارحة: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61], هذا يكون في الجهاد في سبيل الله، فيسقط عنهم الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، إذا كان لديه نقص في الخلقة.
ثم بعد ذلك النقص في الثقافة، والنقص في المال في مقابله يقع النقص أيضاً في التكاليف، فمن كان أقل حظاً من هذه الدنيا كان حسابه أقل يوم القيامة, ومن كان أوفر منها حظاً كان حسابه أكبر، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عرضت علي الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين, وأصحاب الجد محبوسون، غير أنه قد أمر ببعث النار إلى النار ), وأصحاب الجد، أي: أصحاب الغنى محبوسون، أي: مؤخرون عن الجنة وهم يستحقونها وهم من أهلها، لكنهم يؤخرون حتى يحاسبوا على جميع ما ملكوا, وأنتم تعلمون أن تأخر الإنسان على أمر يحبه فيه مضرة عظيمة عليه فكيف بتأخره عن الجنة.
ولذلك على الإنسان ألا يحرص على التزيد من هذه الدنيا؛ لأنه يعلم أنه سيحاسب عليها, وعليه أن يحرص في حال الحساب أن تكون حساباته واضحة؛ لأن الذي يؤتى كتابه بيمينه هو الذي حساباته واضحة: يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:8-9], ومن كانت حساباته غير واضحة وفيها الدخن فإنه لا شك سيؤخر حتى يحاسب على تلك الأمور وتلك الأعمال التي كان يخفيها فتبرز وتظهر.
وبهذا نعلم أن هذه الأسئلة الأربعة هي أمامنا جميعاً، ما منا أحد إلا سيسأل عنها، فعلينا في هذه الدار أن نعد الجواب لكل واحد منها، وأن نتهيأ لذلك، وأن نعلم أن كثيراً مما ينتابنا سيحاول إرداءنا وصرفنا عن الجواب الصحيح.
فما يحف بنا في هذه الدار من المخاطر من أخطر آثاره أنه يقعد بالإنسان عن الجواب الصحيح, فالإنسان وهو في شبابه عليه أن يعلم أنه سيسأل عن هذا الشباب فعليه أن يبادر الآن، ويتدارك بقية شبابه فلا يصرف شيئاً منه في معصية الله، ويحاول صرف جميعه في طاعة الله، وإن استزله الشيطان فوقع في معصية بادر إلى التوبة قبل أن يفوت الأوان، وقبل أن يسخط الله عليه.
وكذلك عليه أن يستعين بصحبة الصالحين الذين سلكوا هذا الطريق قبله، والتزموا ولزموا الهداية وعرفوها، فإنها مما يقوي الله سبحانه وتعالى بها الناس على سلوك الحق.
ثم بعد هذا لا بد أن يحرص أيضاً على بقية عمره حتى تكون حياته لله، فإنه إن لم تكن حياته لله كان كاذباً عندما يقرأ قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام:162-163], فيا رب قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه, كثير هم أولئك الذين يقرءون هذه الآيات وهي تلعنهم؛ لأنهم قرأوها على غير وجهها الصحيح، ولم يعملوا بها, ولم يصدقوها بأعمالهم فكانت حجة عليهم لا لهم.
كذلك لا بد أن يستحضر كل إنسان منا أن ما بلغه من نذارة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله سبحانه وتعالى؛ حجة قائمة عليه، فعليه أن يبادر العمل بها، ثم ما أوتيه من المال أيضاً حجة قائمة عليه فعليه أن يتداركه, فإن كان لديه ما أخذه من غير حله فلا بد من الخروج منه في أسرع وقت والتخلص منه بالكلية, وإن كان ما معه قد أخذه من حله فعليه أيضاً أن يجتهد في أن يضعه في محله المأذون به شرعاً، قبل أن يكون حجة عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر ), وكذلك المال كله فهو لهؤلاء الثلاثة، إما أن يكون أجراً، وإما أن يكون وزراً، وإما أن يكون ستراً.
فالذي هو أجر هو: ما قصد به وجه الله والدار الآخرة, وأنفق في أوجه البر والخير.
والذي هو ستر: ما كف الإنسان عن المسألة وقصد به التعفف عن الناس.
والذي هو وزر: ما أخذ من غير حله أو وضع في غير محله, فصرفه الإنسان في غير مصرفه الشرعي.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا من الفائزين, وأن يسترنا بستره الجميل, وأن لا يفضحنا بين يديه, وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا, وأن يعلمنا ما ينفعنا, وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر