بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى شرف هذه الأمة من بين الأمم، فأرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل إليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين، ختم بها الأمم، وختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء على فترة من الرسل بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وأيده الله بهذه المعجزة الخالدة الباقية التي هي هذا الكتاب الذي يحفظ في الصدور، ويتلى في السطور، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، أحدث الكتب بالله عهداً، وأبينها بياناً، وأوضحها حلالاً وحراماً، فيه خبر ما قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما يأتي من بعدكم، وقد ارتضاه الله سبحانه حكماً على البشرية، وتعهد بحفظه بنفسه، وكانت الكتب السابقة يوكل حفظها إلى حفظتها وأهليها، فتولى الله حفظ هذا القرآن بنفسه فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وقد بين الله سبحانه وتعالى شمول هذا القرآن، واحتواءه على كل ما يحتاج إليه الناس، فقال: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهو تبيان أي: إيضاح لكل شيء، أي: مما يحتاج إليه الناس، فكل ما يحتاج إليه الناس من أمور دنياهم ومعاملاتهم، أو من أمور أخلاقهم، أو من أمور عباداتهم وتعاملهم مع الله جل جلاله، أو من أمور عقائدهم، أو حتى من أمورهم الدنيوية البحتة كل ذلك في القرآن أصوله وجوامعه، وهو من جوامع الكلم التي لا يمكن أن تنقضي فيها العجائب، ولذلك قال فيها علي رضي الله عنه: إن القرآن حمال كثير الوجوه، لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، فهو مائدة الله في الأرض.
ومن هنا فقد جاءت أساليبه متنوعة، جاء فيه ما هو واضح الدلالة يفهمه الذين أنزل إليهم فهماً كاملاً، وجاء منه ما هو دون ذلك في الخفاء حتى يصل الخفاء إلى المتشابه الذي يزول عنه التشابه بالتدريج مع مضي الوقت، حتى يفهم أهل كل عصر منه ما يحتاجون إليه؛ لأنه لو فهمه الصحابة جميعاً واستوعبوه لم يبق لنا نحن حظ فيه كأنه لم ينزل إلينا، وقد أنزل تشريفاً لنا جميعاً، فلذلك لا بد أن ينال أهل كل عصر من معانيه وتدبره حظهم ونصيبهم، وإذا رجعتم إلى المكتبة الإسلامية تجدون أن تفسير القرآن كان الشغل الشاغل لعلماء هذه الأمة من عهد الصحابة إلى عصرنا.
وقد اشتهر في الصحابة مدرستان في التفسير:
الأولى: مدرسة التفسير بالأثر، وكان مقرها بالحجاز، وهم تلامذة عبد الله بن عباس ، و أبي بن كعب ، و عثمان بن عفان .
الثانية: مدرسة التفسير بالرأي وكانت بالعراق، وهم تلامذة علي و ابن مسعود و أبي موسى الأشعري .
واستمر هذا الحال في أيام التابعين، فاشتهر من المفسرين في الحجاز تلامذة ابن عباس كـعطاء بن أبي رباح ، و طاوس بن كيسان ، و سعيد بن جبير ، و عكرمة مولى ابن عباس .
واشتهر بالمدينة عدد من المفسرين الذين اعتنوا كذلك بتفسير كتاب الله كـمحمد بن كعب القرظي و أبي العالية و الضحاك .
واشتهر بالعراق عدد كبير من المفسرين كذلك من التابعين كـقتادة بن دعامة السدوسي ، وكـالحسن بن أبي الحسن البصري ، وكـمحمد بن سيرين وغيرهم. كما اشتهر في الشام أبو إدريس الخولاني ، واشتهر في مصر سليم بن عتر وغيرهم من كبار أئمة أهل التفسير في عصر التابعين.
ثم جاء أتباع التابعين فنقلوا عنهم ذلك، وأول من جمع تفسيراً مكتوباً محتوياً على كل القرآن هو يزيد بن هارون على الراجح، وبعده استمرت العصور، فكل عصر يشتهر فيه عدد من المفسرين، وأقدم تفسير وصل إلينا بكامله محتوياً على القرآن هو تفسير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، وقد توفي ببغداد سنة (310ه)، ووصل إلينا جزء صالح من تفسير أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، وقد توفي بالشام سنة (303ه)، ووصل إلينا كذلك جزء لابأس به من تفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم بن الرازي ، وقد توفي سنة (327ه)، ثم بعد ذلك لم يخل عصر من العصور من عدد من المفسرين، وما زالت تفاسيرهم موجودةً، وكثير منها قد وصل إلى أيدينا اليوم بالطباعة والنشر، أو بالرواية والتلقي، ومع ذلك لم يغن هؤلاء الأسلاف في أي عصر من العصور من يأتي بعدهم على أن يقتحموا هذا اللجة، وأن يفسروا القرآن.
وقد عرفتم في هذه البلاد عدداً كبيراً من المفسرين الذين اعتنوا بتفسير كتاب الله سبحانه وتعالى، فكتبوا تفاسير مناسبةً لأوقاتهم، ومن ذلك تفسير محمد اليدالي المسمى بـ (الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز)، وكذلك تفسير محمد يحيى الولاتي ، و تفسير محمد بن محمد سالم الذي سماه: الريان في تفسير القرآن، وبعد هؤلاء عدد كبير من الطبقة التي فوقنا التي أدركنا تلامذتها من أمثال الشيخ أحمد وولده حظية ، وقد ألف: مراقي الأواه في تدبر كتاب الله، وهو نظم، و حبيب الله بن محمد بن محمود ، وقد ألف نظم: غريب القرآن، وكذلك عدد كبير من الذين نظموا في متشابهه، أو في مفرداته وغريبه من أهل هذه البلاد.
وقد اشتهر أهل هذه البلاد قديماً بحفظ هذا القرآن، وتاريخهم في ذلك طويل من أيام عبد الله بن ياسين الجزولي رحمة الله عليه، وقد جاء إلى أهل هذه البلاد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى في أوائل القرن الرابع الهجري مع يحيى بن إبراهيم الجدالي ، وأقام الرباط الذي أقامه في جزيرة قريبة من نواكشوط، والتحق به طلاب العلم حتى زادوا على ثلاثة آلاف حافظ لكتاب الله، وكان يربيهم على سلوك أهل القرآن، وهدي أهله، ويأطرهم على ذلك ويؤدبهم، وانطلقت قوافلهم حاملةً هذا القرآن تدك به الأمصار، وتفتح به البلدان، وتجاهد به جهاداً كبيراً كما أمر الله بذلك، منذ ذلك العصر إلى وقتنا لم يخل بلدن من بلدان هذا القطر من عدد كبير من حفظة القرآن حتى اشتهر أهله بأنهم حفاظ جميعاً، وهذا لا يخلو من مبالغة.
لكن لا شك أن فيه مستوى من الصدق، وقد أخبرني شيخ من شيوخ المقارئ بمصر، فقال: أنزل القرآن بالحجاز، ورسم بالشام، وقرئ بمصر، وحفظ ببلاد شنقيط.
ويقصد هنا أن أهل الشام اشتهروا بحسن الكتابة وكتابة المصاحف، مع أن أهل مصر اشتهروا كذلك بتجويد وحسن القراءة، وأن أهل هذه البلاد اشتهروا بحفظه وإتقانه، فلذلك نحمد الله تعالى أن قامت هذه الرابطة لتجديد هذا العهد، والحفاظ على هذه المكتسبات الكبيرة لهذا البلد وتراثه، ولتكون صلةً مستمرةً بماضي هذا البلد المشرف، فالماضي إذا لم يتصل به حال صعب تصديقه، بل كان ضرباً من الخيال، فإذا ذكرنا الآن بعض ما كان عليه الأسلاف الأوائل، وما كان يحصل من تدبرهم للقرآن وقراءتهم له، وسهرهم عليه، وقيامهم به، ولم نجد مثالاً حياً لذلك في أوساط شبابنا، فيصعب أن نقنع الناس بصدق ذلك، لكن إذا بقي الأمر متوارثاً مستمراً فهذا دليل على صدق التراث والتاريخ؛ لأن آثاره شاهدة باقية في الأجيال تتناقلها، وقديماً قال الحكيم: إن غاب عنك أبو ابن لم يغب، فلمن يبدو لنا إنما يبدو لنا غيبه.
وقد قال الشيخ محمود المامي رحمة الله عليه في ذكر أهل هذه البلاد يقول:
بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا
إلى أن يقول:
فكانت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا
نزور بها مقابر خالدات على قدم العهود مخلدينا
لهم همم على شوق الثريا بها شادوا لنا حرماً أمينا
وعابونا بها فمتى نزلنا سوى زحل عددنا عابثينا
هي الحسب الرفيع لنا لو أنا على الآثار منهم مقتدونا
القرآن الكريم سيرفع في آخر هذه الأمة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يوشك أن يسرى على القرآن فيمحى من الصدور والمصاحف )، وذلك مصداق لقول الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86]، وهذا تهديد للناس بأن القرآن سيرفع، فهو قد جاء من عند الله، وسيعود إليه منه بدأ وإليه يعود، وذلك حين يقع التودّع من أهل الأرض فلا يبقى فيهم خير؛ لأن هذا القرآن شريف على الله سبحانه وتعالى، ولم يكن ليدعه بدار هوان، لم يكن ليأتمن عليه المفلسين، ما دام الناس يحكمون محكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويتلونه آناء الليل وأطراف والنهار، ويقومون به في الليل، ويحكمونه في سلوكهم ومعاملاتهم وعبادتهم فيبقى القرآن بينهم بركةً لهم، وتثبيتاً، ونوراً، وحبلاً من الله متصلاً، وإذا أعرضوا عنه فتركوه ظهرياً فإنه لم يكن لينزل بدار هوان، وحينئذ سيرفعه الله إليه جل جلاله.
ومن هنا فإن رفع القرآن له مظاهر متعددة
فمن مظاهره وأشراطه: ألا يحكم به في النهار، فإذا استكتب الناس ما استكتبوا من غير كتاب الله فعادوا إليه وحكموه في معاملاتهم وشئونهم، وصارت تنظم أمورهم قوانين وضعية مخالفةً لما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، فحينئذ قد رفع القرآن في مجال الحكم.
وإذا أعرض الناس عنه في أخلاقياتهم، فتعاملوا بالكذب، والغش، والخداع، وكل ما حرمه القرآن من الأخلاق فحينئذ قد رفع القرآن في مجال الأخلاق.
وإذا أعرضوا عنه في مجال العقائد فذهبوا إلى الفلسفات والإيدلوجيات وتركوا النور المنزل من عند الله سبحانه وتعالى، الذي جعله الله هدايةً للناس وقال فيه: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فحينئذ يرفع القرآن في مجال الاعتقاد، وهكذا في كل مجالات الحياة، وهذا لا شك تهديد للبشرية كلها، وعلى أهل الهمم ومن أعانهم الله على حفظ كتابه ويسره لهم أن يحرصوا على ألا يكونوا شر طبقة من طبقات هذه الأمة، وهي الطبقة التي يرفع عنها القرآن، فو الله لا خير في أهل الأرض بعد رفعه.
والحفاظ على هذا القرآن يقتضي حفظ حروفه وحدوده كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يحافظ على حروفه فقط، يقرأ المصحف ويتقن قراءته وحفظه، ولكنه بعيد عنه جداً، فالقرآن في واد وهو في واد آخر، فيا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه.
إذا ذهب إلى مجال الاعتقاد يجد ما يعتقده غير ما يصرح به القرآن، وإذا ذهب إلى مجال الأحكام يجد ما يطبقه غير ما يصرح به القرآن، وإذا ذهب إلى الأخلاق يجد أخلاقه مخالفةً لما يأمر به القرآن، فالقرآن يلعنه وهو يقرؤه، وهؤلاء يكون القرآن خصماً لهم يوم القيامة، فهو يأتي يوم القيامة شافعاً لأقوام يقودهم حتى يدخلهم الجنة، ويأتي ماحلاً على آخرين يسوقهم حتى يكبهم على وجوههم في النار، وهو يجادل عن صاحبه في القبر تتقدمه البقرة وآل عمران، ولذلك تحفظون قول الشاطبي رحمه الله في الشاطبية في القراءات السبع يقول:
وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهباً متفضلا
وخير جليس لا يمل سماعه وترداده يزداد فيه تجملا
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يلقاه سناً متهللا
هنالك يهنيه مقيلاً وروضةً ومن أجله في ذروة العز يجتلا
يناشد في إرضائه لحبيبه وأخلق به سؤلاً إليه موصلا
فهذا القرآن حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، وإذا كان الإنسان يحفظ حروفه فقط، فهذه الحروف هي حجة قائمة عليه، ولذلك قال أبو الدرداء رضي الله عنه فيما أخرج أبو عمر في جامع بيان العلم وفضله: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرةً فلم تنزجر بي.
والناس أنواع في حفظه:
النوع الأول: الذي يحفظ الحروف ولا تصل إلى قلبه ولا يتدبر قلبه لا محالة مطوي عن القرآن، قد ختم عليه وأغلق، ولذلك قال الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلوابٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
والنوع الثاني من الناس: الذين يحفظون حروفه، ويتفهمون معانيه، ولكنهم لا يعملون به، فهم يسعون لفهمه، ولديهم ولع بذلك، يدرسون تفسيره، فتقوم عليهم الحجة به دون أن يبقى لذلك أثر على سلوكهم، وهؤلاء حالهم حال اليهود، والقسم الأول حالهم حال النصارى، فالنصارى حفظوا ألفاظ كتابهم، لكنهم ضلوا عنه؛ لأنهم جهلوا معانيه، فهم الضالون.
واليهود حفظوا كتابهم، وحفظوا معانيه، ولكنهم ضيعوا العمل به، فهم المغضوب عليهم؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري في تفسير قول الله تعالى: غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، قال: ( المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى )، فالمغضوب عليهم لم يأتوا عن جهل، بل قد علموا ولكنهم لم يعملوا بما علموا، والضالون أتوا عن جهل فلم يتعلموا أصلاً، وهذا الفرق بين الطائفتين، فالطائفة الثانية المحاكية لليهود يحفظونه ويتعلمون تفسيره، ويفهمون معانيه ولكنهم لا يعملون به، وقد ضرب الله لليهود شر الأمثلة في القرآن، وشر الأمثلة في الدنيا ما يضرب للإنسان من الأمثلة، شره في الحيوانات الكلب والحمار، وقد ضرب الله بهما مثلاً لليهود، فقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلوا شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَهمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف:175-177]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلواهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5].
وقد عرفتم أن التكذيب هنا ليس راجعاً إلى تكذيب دلالاته، وإنما هو للإعراض عنه، فمن لم يطبقه فهو مكذب له بأفعاله لا بأقواله، قد يكون الإنسان مصدقاً للقول بقوله، ولكنه مكذب له بفعله كحال المنافقين، إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ [المنافقون:1]، فهم يصدقونه بقولهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، فهم يكذبونه بفعلهم.
ومن هنا فهؤلاء المعرضون ينسون العمل بالقرآن في خاصة أنفسهم، وهم يدعون الناس إليه؛ لأنهم يعلمونه ويدرسونه، وقد نهى الله عن ذلك فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلوانَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، وهذا تحذير بليغ.
أما النوع الثالث: فهم الذين يحفظون حروفه وحدوده معاً، فيطبقون أحكامه ويعملون بها، وهؤلاء بشرهم الله ببشارته في كتابه، فقال: فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [الفرقان:73].
وقد بين سلفنا الصالح أروع الأمثلة في الحفاظ على حروف القرآن وحدوده والعمل به، فقد ثبت عن أبي عبد الرحمن السلمي وهو من أئمة التابعيين، قال: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وذكر منهم: أبي بن كعب ، و أبا هريرة و ابن عباس - قالوا: ما كنا نتعلم عشر آيات فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم، وحتى نعمل بها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل. تعلموا القرآن وحفظوا كلام الله جل جلاله، وتعلموا العلم بفهمهم له وتفسيره، وتعلموا العمل؛ لأنهم جعلوا القرآن شاهداً على أنفسهم.
ومن هنا نصل إلى أدب طالب القرآن، ومعلمه، وسامعه، وأدب الناس جميعاً في التعامل معه.
فهذا القرآن تشريف لهذه الأمة كما ذكرنا، وميراث لهذا الرسول الكريم، والمعرض عنه يأتي أعمى يوم القيامة، فالذي لا يهتم به لا يريد أن يكون من حفظته، لا يريد أن يكون من أهل تفسيره، لا يريد أن يكون من أهل تدبره، إذا سمعه ينادى إليه أعرض، وإذا رآه لم يكن له ولع به، يكون المصحف في متناول يده فلا يفتحه يوماً من الأيام وهو في مكتبه، أو في بيت نومه، أو في أي مكان يقرب منه فلا يتناوله، ولا يعرف كيف يتناول المصحف، ولا كيف يقرؤه، هذا المعرض يأتي أعمى يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:124-127].
فقد أعرض عن القرآن، ولم يرغب فيه، ورغب في مقابله في حطام الدنيا، فزهد فيما عند الله، ورغب فيما عند الناس، وبهذا كان معكوس الفطرة، منكوس العقل حين رضي بالتافه، ورغب عن الشريف، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، فهذا انتكاس في العقل، وانتكاس للفطرة، وصاحبه لا يرجى منه خير أبداً.
إذا عرف الإنسان أن هذا القرآن كان خطاباً له جاءه من عند الله، موجهاً إليه هو بالخصوص، فما منكم من أحد كبير ولا صغير، ولا ذكر، ولا أنثى، ولا أبيض، ولا أسود، ولا عالم، ولا جاهل إلا قد جاءه هذا الكتاب من عند الله جل جلاله رسالةً خاصةً إليه، وتصور لو أنك أتاك كتاب من إنسان تحبه غاية المحبة، لو جاءك كتاب الآن من مالك بن أنس مثلاً فيه: من أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، كيف سيقع منك وما مكانته عندك؟ أليس محل احترام، وتقرؤه بتدبر وإمعان، وتحاول المبادرة لتطبيق ما فيه؟ بلى.
لو جاءك كتاب من علي بن أبي طالب كتب فيه: من أبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى فلان، أليس سيقع منك في محل إجلال وتوقير؟ وكذلك لو جاءك كتاب من أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب إلى فلان مثلاً، فكيف لو جاءك من أبي القاسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان ابن فلان؟ كتاب موجه إليك أنت بالخصوص، أليس سيقع منك في محل إجلال وتقدير وتوقير، ولن تدعه لأي أحد آخر، لو جاءك كتاب من النبي صلى الله عليه وسلم فهل ترضى أن يبقى عند أمك، أو عند أختك، أو عند أبيك، أو عند أي أحد آخر من أسرتك؟ لا، لن تؤثر به أحداً، فكيف بكتاب من الرب جل جلاله الذي خلق محمداً وشرفه وأرسله؟ فهذا كتاب من الله إليك أنت بالخصوص، إلى كل واحد منا رسالة خاصة من عند الله أرسل بها أشرف ملائكته، فنزل بها على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل القلوب وأشرفها، وأجراه على لسانه وهو أفضل الألسنة وأصدقها، فوصل إليك كما أنزل، وكما تكلم الله به وصل إليك؛ ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:192-196]، وبين اختياره لمن أتى به، فقال في جبريل : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22].
وقال في الطبقة التي بعده في الإسناد وهي طبقة محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيه: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلوا تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الواتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:40-47].
وبين الله سبحانه وتعالى منزلته في السماء، فهذه منزلته في الأرض، بين بعد ذلك منزلته في السماء فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلوانَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:1-4]، أعلى الله شأنه فجعله في أم الكتاب علياً، وجعله حكيماً يحكم على أهل السماء كما يحكم على أهل الأرض.
فإذا كان الكتاب بهذه المثابة فلا يرضى أحد ذكراً كان أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، أبيض أو أسود، عربياً أو أعجمياً أن يترك نصيبه منه وحظه منه؛ لأن هذا هو غاية الخسارة، لو أنك كنت من أهل هذه البلاد، وكنت واعياً فظهر فيها خير من عند الله كالنفط، أو الغاز، أو الحديد، أو الذهب، أو أي معدن آخر، أخرجه الله لأهل البلد هذا هديةً ومنحةً من الله لأهل سكان البلد، فهل ترضى أن يأخذ غيرك نصيبك منه؟ في الغالب أنك لا ترضى بذلك، فكيف بالوحي المنزل ليس مثل المعادن الترابية الأرضية التي يغاص لها، ويدخل لها في الأرض، بل هو آت من العلو، جاء من فوق سبع سموات، فلا يمكن أن ترضى أبداً بذهاب نصيبك منه إلى أي أحد، لا بد أن تحرص على نصيبك منه غاية الحرص، وإذا حرصت على ذلك فنحن نعلم أن أهله يتفاوتون فيه.
أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن ولا يتتعتع فيه، ولا يشق عليه، أو وهو عليه غير شاق مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، ممن يؤتى أجره مرتين)، فإذاً الربح حاصل لكل من اشتغل به، سواءً شق عليه، وكان صعب عليه حفظه، أو صعب عليه قراءته، أو لم يجد معلماً، لم يجد وقتاً، فهذا شاق عليه، لكنه يؤتى أجره مرتين، أو كان لا يشق عليه، كمن وجد والدين اهتما به، ووجد معلماً وأستاذاً، ووجد وقتاً للتعلم، فلا يشق عليه تعلم القرآن فهذا مع السفرة الكرام البررة الملائكة الكرام، فمخالط هذا القرآن رابح لا محالة؛ ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ القرآن كان له بكل حرف عشر حسنات، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف )، فكل حرف أقل ما فيه عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.
وكذلك قال في شأن الآخرة: ( يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها )، وانظروا إلى تفاوت الناس في حفظ القرآن، وفي ترتيله، والقيام به، والقيام بحقه، يتفاوتون هذا التفاوت العظيم في منازل القيامة، وفي درجات الجنة، هم درجات عند الله، درجات الجنة متباينة بعيدة جداً، ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء )، فإن بعض الكواكب التي ننظر إليها الآن بيننا وبينها مسافة خمسمائة سنة ضوئية، أشياء خيالية لا تتصور، مسافات شاسعة جداً، بعضها في مجرات، وفي مجموعات شمسية غير المجموعة التي نحن فيها؛ لشدة بعدها، ولذلك نراها صغيرة، وقد يكون بعضها قدر الأرض مائةً وعشرين مرة مثلاً، كوكب واحد في الجوزاء وهو الكوكب الأحمر الذي نراه في الجوزاء قدر الأرض مائة وعشرين مرة، لكن لبعد مسافته عنها تراه كوكباً صغيراً، ( فأهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء ).
وهذه المنازل لا شك أن من كان من أهل الهمم لا يرضى بـأقلها شأناً، لا يرضى إلا أن يكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة الذي سقفه عرش الرحمن جل جلاله، فالفردوس الأعلى هو مقر المقربين عند الله، الذين يرافقون النبيين والصديقين والشهداء والصلحين وحسن أولئك رفيقاً، جارهم محمد صلى الله عليه وسلم، و إبراهيم و موسى و عيسى و نوح وأنبياء الله في ذلك المقام المشرف الكريم عند الله جل جلاله؛ ولذلك فأهل الجنة بحسب النظر إلى وجه الله الكريم، وبحسب زيارته يتفاوتون، فمنهم من يرى الله جل جلاله ولا يحجب عنه، ومنهم من يراه في أوقات الصلوات الخمس يومياً، ومنهم من يراه من الجمعة إلى الجمعة، ومنهم من يراه من الشهر إلى الشهر، ومنهم من يراه من رمضان إلى رمضان.. وهكذا، ورؤيتهم له متفاوتة بحسب إيمانهم وإخلاصهم وخشوعهم في الصلاة، والإنسان الذي يعلم أنه سيساق إلى عرصات القيامة وحيداً طريداً فريداً ليس بينه وبين أحد مسد، وليس له أمل إلا فيما قدم من العمل لا شك أنه محتاج إلى الشفاعة، والإنسان الذي يذهب إلى بلد ليس له فيه معرفة، فلو أن أحداً سافر في طائرة إلى الصين، ولا يعرف أحداً، ولا عنواناً، ولا لغة، أليس هذا من الهموم والغموم العظيمة؟ سفر إلى بلد لا تعرف فيه أحداً، ولا تعرف فيه عنواناً، ولا تعرف لأهله لغة، لا شك أنه شاق، وأنه هم وغم، وعرصات القيامة أكبر من ذلك فأنت مسافر إليها لا محالة، والفرق بين هذا السفر مثلاً السفر الدنيوي تعد له العدة، وتتهيأ، وتأخذ أغراضك وحوائجك وأمتعتك وزادك، أما السفر الأخروي فمشكلته أنه في كثير من الأحيان يأتي بين طرفة العين والانتباهة، أو يأتي والإنسان وهو نائم، أو يأتي في حادث سير دون مقدمة ولا إنذارات.
كم من إنسان نشاهده وهو في الغصص وقد رأى مقعده من الجنة أو النار، ونحن بين يديه نؤمل حياته ونتكلم وننظر إليه، ونعالجه نظن أنه سيبقى معنا، وهو الآن قد عرض عليه مقعده من الجنة ومقعده من النار، فإذا كان الحال كذلك وأنت قادم لا محالة على تلك العرصات الموحشة، وتعلم أنها أمامك لا محالة، وأنت تذكر أنك فرطت في جنب الله كثيراً، قصرت في الواجبات، ضيعت كثيراً من الأوقات، وقعت في كثير من المخالفات، تحمل كل ذلك على ظهرك، ويؤتى به في طائرك وهو معقود على عنقك، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14]، وأنت تجادل عن نفسك وحدك ليس معك محام ولا حميم، كما قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111]، وقال تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:95]، فإذا كان الحال كذلك فلا شك أنك محتاج إلى الشفيع.
وهذا القرآن قطعاً شفيع لا يرد، فهو شافع مشفع، يأتي يجادل عنك فيقول: ( يا رب! منعته نومه في الليل، ومنعته راحته في النهار، فشفعني فيه )، فيشفعه الله جل جلاله في أهله، وكل من كان من أهله فإن القرآن يقوده ويصارع عنه ولا يدع الخصوم يأخذونه، فالخصوم ينتظروننا ونحن سنأتي جميعاً نتسابق إلى أسفل الصراط، فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ [يس:66]، نتسابق مسابقة إلى الصراط، وأنتم ترون في الزحام لو حصل حريق أو أي مشكلة استبق الناس إلى الباب، وحصل ازدحام شديد فيه، وسنستبق الصراط، فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ [يس:66]، والصعود فيه لا شك أنه مروع؛ لأنه ( أرق من الشعر، وأحد من السيف )، وعليه كلاليب كشوك السعدان، كل كلوب يسقط به سبعون ألفاً في النار، وهذا الصراط عليه عقبات وعراقيل، وعلى مراقبه الأنبياء، وكلام الأنبياء يومئذ: ( اللهم سلم سلم ).
فإذا كنت تريد النجاة، وتريد الثبات على الصراط فالزم هذا القرآن؛ فهو منادي الله، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً عجيباً لهذا الصراط الدنيوي، فشبهه بلا حب أي: طريق معبد بين السورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه يقول: ( إلي إلي )، وفوق السورين منادي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لن تخرج منه ). فالسوران المحيطان هما جنبات الطريق يميناً وشمالاً، فاليمين جهة الإفراط، واليسار جهة التفريط، وكلاهما مذموم؛ ولذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم حامل القرآن فيما يتعلق بخلقه فقال: ( غير الجافي عنه، ولا الغالي فيه )، فالذي يميل يميناً فهذا غال فيه، والذي يميل شمالاً فهذا جاف عنه.
وفي السورين أبواب مفتحة وهي بنيات الطريق والفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وعليها ستور، فما فطرنا الله عليه من فطرة الإيمان يقتضي كراهتنا للذنوب، وكراهتنا للفسق والمعصية، لكن مع ذلك في كل باب داع يدعو إليه يستزل الإنسان ويحاول الوصول إلى غفلته وضعفه، أو نعاسه، أو كربه، أو همه؛ لينال منه غفلةً حتى يدخله في هذا الباب، ومنادي الله ينادي وهو هذا القرآن: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لن تخرج منه ).
وهذا الكتاب ينطق علينا بالحق، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية:29]، فينادي إلى منهج الله وسبيله المستقيم، يأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويدلنا على الله جل جلاله.
فلذلك لا بد من الأخذ به، والاجتماع معه دائماً حتى يوردنا الحوض، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: ( تركت فيكم الثقلين لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض: كتاب الله وعترتي آل بيتي )، فلن يتفرقا حتى يردا الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن صحب هذا القرآن لا بد أن يرد الحوض، لا يمكن أن يضل يميناً ولا شمالاً، ولا يذهب في الغاوين والضالين، بل موعده حوض النبي صلى الله عليه وسلم المورود الذي لا يظمأ من شرب منه أبداً، كيزانه بعدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عليه وهو يسقي الواردين المرضيين، وهو يرى أقواماً يعرفهم وهم يطردون كما تطرد غرائب الإبل يضربون ضرباً شديداً مثل ضوال الإبل، فيقول: ( يا رب! أمتي أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً )، هذا الرسول الشفيع يدعو عليهم في مثل هذا المقام.
وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس، ويكذبون في الحديث، فمن صدقهم في كذبهم، أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد علي الحوض )، فهؤلاء أيضاً يضلون عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يردونه؛ لأنهم باعوه بعرض دنيوي، وذلك بمؤازرة الظلمة في الحياة الدنيا، هذا القرآن من أوتيه فقد أوتي خيراً كثيراً، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، لا يمكن أن يختار الله له المفلسين أو من لا يرتضيهم، بل لا يمكن أن يودع هذا القرآن في قلب إلا وهو قلب مرضي عند الله جل جلاله، لكن إذا رضي الله عن عبد فيسر له حفظه فذلك امتحان لذلك العبد، وابتلاء له، فإن استمر على طريق الهداية وعرف فلزم كان من الراشدين المهديين، وإن ضيع ذلك كان ممن أوتي فرصةً نادرةً عظيمة فأهملها فكان من الخاسرين.
أكتفي بهذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر