الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
نحمد الله تعالى إذ جمعنا بهذه الوجوه الخيرة النيرة في هذا الشهر الكريم في هذا المسجد المبارك، ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه الوجوه جميعاً من الوجوه الناضرة الناظرة إلى وجه الله الكريم، وأن يجعلنا من المتحابين فيه الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أما بعد:
فمن المعلوم أن الله جل جلاله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وقد اختار من الأماكن المساجد فنسبها إلى نفسه وحررها من الأغيار، وجعلها أحب البقاع إليه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها )، وحررها الله سبحانه وتعالى من الأغيار؛ فقال تعالى: وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا [الجن:18]، وهذا التشريف للبقعة المكانية مكتوب قبل خلق السموات والأرض؛ فكل مدينة تؤسس يختار الله منها نقاطاً محددة يرفع عنها أيدي المخلوقين، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وهي مساجدها، تعمر بطاعاته ما نرى منها وما لم نر؛ ففيها ملائكة كرام مكلفون بها، وهم على أبوابها يكتبون الناس الأول فالأول.
وهذا التشريف لهذه البقاع ليس راجعاً لبنائها؛ فهذا التشريف سابق على البنيان، كما قال العلامة محمد مولود ولد أحمد فال رحمة الله عليهما:
ومسجد البدو وإن تخولف هل كسواه حرماً وشرفا
لم ينف ذلك كونه بيت العلي أعد للصلاة والتبتل
وذا هو الوجه الذي منه اكتسب الآخر ما اكتسب لا من الخشب
وإذا أدركنا ذلك عرفنا أن هذا الاختيار الرباني الذي لا معقب له هو مثل الاختيار الزماني أيضاً؛ فقد اختار الله من الأزمنة مواسم الخير، ومنها شهر رمضان المعظم؛ فقد اختاره الله قبل خلق الزمان، وخصه بخاصية إنزال القرآن فيه، وبما خصه به من الخصائص الأخرى بأن جعل فيه الليلتين العظيمتين: ليلة العتق، وليلة القدر، وبأن جعل فيه العشر الأواخر منه، وبأن خص هذه الأمة بالشرف الكريم الكبير فيه، الذي تتمناه الأمم الأخرى؛ فالأمم الأخرى كانت أطول منا أعماراً وأقوى أبداناً، ولكن الله شرفنا بهذه الليلة التي يدرك بها الإنسان أربعة وثمانين سنة، يزداد بها عمره في ليلة واحدة، ينجو من مشاكلها وتعبها ونصبها وأمراضها وأسقامها وأعراضها، وينال خيرها وفضلها؛ لأن فائدة العمر ما رجح كفة الحسنات، ولا فائدة فيما سوى ذلك؛ فاتباع الشهوات تحسنه البهائم والأنعام، ولم يخلق الإنسان له إنما خلق لعبادة الله؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإذا نجح في ذلك الامتحان فلا عبرة بما فاته مما سواه.
ولما كان هذا الشرف الذي يجمع بين الزمان والمكان اختياراً ربانياً كانت الوظيفة تابعة لذلك؛ فالله اختار هذا المكان وشرفه ثم يختار له أهله، وأهله الذين يختارهم الله له ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: القائمين عليه، وهم عمار المساجد، وهؤلاء أيضاً ينقسمون إلى قسمين:
إلى بناتها، وإلى أئمتها ومؤذنيها والقائمين على شئونها.
القسم الثاني: هم الذين يصلون فيها، ويعمرونها بأداء الصلوات فيها.
فأولئك يختارون اختياراً وتنزل لوائحهم من عند الله سبحانه وتعالى؛ فالإمام إنما توظف بتعيين من الله جل جلاله واختيار؛ ولذلك ائتمنه الله على هذا الوحي وعلى هذه الوظيفة العظيمة، وأنتم تعرفون أن أي وزارة أو شركة باعتبار أهل الدنيا يعتبر المسئول الأول عنها ذا وظيفة عظيمة ومكانة كبيرة، والمسجد أعظم من كل الشركات ومن كل الوزارات ومن غير ذلك؛ لأنه أحب البقاع إلى الله، فإذا اختار الله له موظفاً مسئولاً عنه فهذا يدل على عظم مكانته وعلو شأنه، وبالأخص أن الإمام ضامن؛ فتكتب له صلاة المأمومين جميعاً حتى لو صلى وراءه آلاف البشر فإنه تكتب له صلاتهم جميعاً، وكذلك المؤذن فإنه لا يبلغ مدى صوته أي شيء إلا شهد له يوم القيامة؛ كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنك امرؤ تحب الغنم والبادية؛ فإذا كنت في باديتك وغنمك فأذن؛ فإنه لا يبلغ مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا ملك إلا شهد له ).
وكذلك عمار المساجد لهم نصيبهم من ذلك؛ فالمصلون فيها يشهد لهم بالإيمان؛ كما أخرج الترمذي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله تعالى يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ [التوبة:18] ).
وهؤلاء الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لعمارة بيوته واستغلالها والاستفادة منها لا بد أن يدركوا مسئوليتهم وأن يتحملوها، وهي مسئولية جسيمة نبيلة؛ فالإمام ضمانه مطلق غير مقيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإمام ضامن )، ولم يقل: ضامن للصلاة، أو لصلاة من وراءه، بل أطلق، فقال: ( الإمام ضامن )، وهذا يقتضي أنه مفوض، مسئول مسئولية كاملة؛ ولذلك ليست مسئوليته في المسجد مقتصرة على أداء الصلوات والإمامة فيها والحفاظ على أوقاتها، بل مسئوليته تتعدى ذلك؛ ففي الصلاة هو المسئول حتى عن تسوية الصفوف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسويها بنفسه، فيتقدم أمام الصف، فإذا رأى صدراً بادياً أو بادناً أرجعه إلى الصف، وكان يظن أنهم قد انقادوا لذلك؛ ( فخرج يوماً للصلاة فرأى رجلاً بادي الصدر، أي: قد تقدم على الصف، فقال: عباد الله! لتسون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم )، ( ورأى فرجة في الصف؛ فقال: ما لي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر )، وكل ذلك يقتضي مسئولية الإمام حتى عن الصفوف الأواخر، وحتى في ترتيبها، وفي اختيار من يليه منها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يختار في تنظيم الصف الذين يلونه كما في صحيح مسلم أنه قال: ( ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، وهذا يقتضي أن الإمام مسئول حتى في ترتيب منازل الناس في الصف.
إذاً: إذا عرفنا أن توظيف الإمام إنما هو اختيار رباني من عند الله سبحانه وتعالى، وأن مسئوليته شاملة كاملة، فذلك يدل على أن عليه أن يهتم بشأن الناس، وأن يهتم بشأن الصلاة والصيام معاً، وبغير ذلك من الشعائر؛ فكما أن عليه مسئولية تجاه الوقت وتحديده هل دخل الوقت وقت الصلاة أم لا؟ فكذلك عليه البحث أيضاً في وقت الصيام هل دخل أم لا؟ وفي وقت الحج، هل دخل أم لا؟ لأن الله تعالى يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]؛ فلا بد أن يعرف الإمام هذه المواقيت وأن يهتم بها، ولذلك لابد أن يعتني الأئمة جميعاً برؤية الهلال؛ فتعاهد الأهلة من فروض الكفايات، والأئمة هم القائمون بفروض الكفايات، وهم الذين يقلدون في الصلاة والصيام كما قال العلامة محمد مولود رحمة الله عليه:
وجاز في الصيام والصلاة تقليد عدل عارف الأوقات
فهم العدول العارفون بالأوقات.
لابد أن يتعاهد أئمة المساجد مسئولياتهم وأن يهتموا بوقت الصلاة والصيام، وكذلك لابد أن يهتموا بالمصلين وأن يعتنوا بهم، وذلك يشمل عدداً من الأعمال، منها:
أولاً: التعرف على الأتقياء الأخفياء الذين يصلون في المساجد؛ فهم قوتهم الكبرى؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم )، فإذا كان الإمام يعرف من يصلي في مسجده من الأتقياء الأخفياء الذين لا يعرفهم الناس، وهم الذين ترجى دعواتهم، وينتفع بحضورهم، ويستنصر بهم ويستنزل بهم المطر؛ فإنه قد أتقن معرفة قوة عظيمة لديه وأتقن استغلالها، وإذا لم يتعرف الإمام على هؤلاء وكان لا يعرف إلا أهل الدنيا فإنه لم يقم بوظيفته، فإذا تعرف على كبار المسئولين الذين يصلون في مسجده ونسي الذين يستنصر بهم وتستنزل بهم الأمطار؛ فإنه لم يقم بوظيفته؛ فلذلك لابد أن يتعرف على الأخفياء الأتقياء، وتعرفه ذلك لا بد أن يكون على ثبت؛ فقد يظن الإنسان ظناً ويكون الأمر على خلافه، لكن ما كان على بينة فهو المعتبر؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
ولهذا فإن الإمام إذا راقب أداء الناس في مسجده كما يراقب مدير الشركة أو وزير الوزارة أداء الموظفين؛ فرأى من حسن صلاته، ورأى من هو خاشع، ورأى من يكثر التردد على المسجد، ورأى من ينتظر الصلاة بعد الصلاة، ورأى من يقرأ القرآن قراءة صحيحة، ورأى من ينتظم في الصف، ورأى من يلين في أيدي إخوانه، ورأى من يحسن الخلق في المسجد ويتأدب بأدبه، ورأى من يغض الصوت فيه ويغض الطرف، ويأتي بالسكينة والوقار اللذين أمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينةُ والوقارُ )، وفي رواية: ( وعليكم السكينةَ والوقارَ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )؛ فالسكينة تكون بعدم ما لا يعني من الأفعال، والتأني بالحركات والمشي، والوقار هو غض الصوت وغض البصر، فإذا جمع الإنسان بين السكينة والوقار فعلاً كان متخلقاً بأخلاق المسجد وآدابه، والعلامة محمد بن فال المتالي رحمة الله عليهما يقول:
أما السكينة فبالتأني وعدم الفعل الذي لا يعني
وخفض صوت ثم غض البصر هو الوقار عندهم في الأشهر
فإذا جمع بين السكينة والوقار فقد تأدب بالأدب الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا رأى الإمام من يخالف هذه الأخلاق أو يخالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من سبره وزجره عن ذلك، وأهل الحديث يذكرون أنه من أدب المحدث أن يزجر من يرفع صوته على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس التحديث، فكذلك من يخالف أمره في المسجد لا بد أن ينبه إلى ذلك وأن ينهى عنه؛ لأنه قد دخل سلطان الله سبحانه وتعالى وجاء إلى بيته المخصص للعبادة؛ فلا بد أن يتأدب بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يأخذ ما آتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ثم بعد ذلك إذا تعرف الإمام على سلوك الناس في المسجد فإنه لابد أن يعطي دور النصيحة، فهو ناصح مشروط عليه ذلك في إيمانه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( الدين النصيحة، قالوا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )، و جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه في صحيح البخاري روي عنه أنه يوم مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه خرج في جنازته، فلما اجتمع الناس صعد المنبر فقال: ( أيها الناس! عليكم باتقاء الله وبالسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن ثم قال: واستعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو ثم قال: أما بعد: فإني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبايعه على الإسلام فشرط علي: والنصح لكل مسلم، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح ) ثم استغفر ونزل.
فلا بد أن يكون الإمام ناصحاً ولا بد أن تظهر نصيحته في قوله وفعله وعنايته بالجميع ونظره إليهم، فالإمام بمثابة القاضي، والقاضي لابد أن يعدل في نظره إلى الخصوم، فإذا آثر أحد الخصمين بالنظر أو آثره بالإدناء من مجلسه فإنه جائر في حكمه؛ ولذلك فإن علياً رضي الله عنه في خلافته خاصمه يهودي في درع لـعلي أخذها اليهودي؛ فشكاه إلى القاضي -وهو شريح - فلما جاء علي رضي الله عنه في خصامه مع اليهودي قال له شريح : اجلس أمير المؤمنين، فجلس علي فقال له: ادن أمير المؤمنين، فقال: ما زلت جائراً منذ اليوم، قلت لي: اجلس أمير المؤمنين، ولم تقل: اجلس يا علي ، وسميت الرجل باسمه ثم قلت: ادن يا أمير المؤمنين، وإنما أنا الآن بين يديك خصم، فقال: لكني لا أساوي بين من لم يساو الله بينه؛ فإن الله تعالى يقول: أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
فلذلك لابد أن يكون القاضي عدلاً في نظره إلى الخصوم وفي مجالسهم وفي مساواته بينهم.
ومثل ذلك الأستاذ في تعليمه للناس لابد أن يعدل في تقسيم النظرات بينهم؛ فهي مفهمة وشاغلة للإنسان عن التشاغل عن الدرس؛ ولذلك يقول الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه:
حلل عناصر هذا الدرس يا هذا واجعل عناصره إذ ذاك أفذاذا
وعم فيه ذويه فعل مجتهد وانظر إليهم جماعات وأفذاذا
تراك إن لم تكن يا شيخ ممتثلاً هذا تقوم بحق الدرس أم ماذا
فلابد أن ينظر إليهم نظرة فاحصة.
وأن يجدوا منه اللطف والرحمة، فكثير من الذين يأتون إلى المساجد قد عانوا في هذه الحياة الدنيا كثيراً من المشكلات، وهم يريدون من يخفف عنهم ما يجدونه من العناء؛ فيأوون إلى ركن شديد، يأتون إلى بيت الله جل جلاله؛ فمنهم التائبون المنكسرون الذين أوقعهم الشيطان في الخطايا، وهربوا من الشيطان وفروا إلى الله؛ فَفِرُّوا إِلَى اللهِ [الذاريات:50]، وجاءوا تائبين منكسرين، فلابد أن يستقبلوا بالحنان، ولابد أن يستقبلوا بالتوسعة عليهم، وبتعليمهم ما عليهم أن يفعلوه، ومنهم المتكبرون الذين صحبوا كبرياءهم من الشارع ومن المكتب، وجاءوا به إلى المسجد يظنون أن لهم مكانة فيه أكبر من مكانة غيرهم، وهؤلاء أيضاً لابد أن يؤلفوا وأن ينظر إليهم على مستوى مرضهم؛ فالطبيب يبدأ بمن هو أشد مرضاً ويقدمه على غيره، ومنهم كذلك أواسط الناس الذين تعودوا على الذهاب إلى المساجد إذا سمعوا: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، دون أن يستحضروا النية وتضيع عليهم الخطا؛ فلابد من تنبيههم إلى الإخلاص بذلك؛ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].
ومنهم كذلك من يريد علماً ولا يريد أن يضيع وقته؛ فيذهب ويقطع الخطا الطويلة ويرجع بخفي حنين؛ فلابد أن ينال حظاً وغنيمة باردة؛ فقد أخرج مالك في الموطأ: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حزم قال: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً) فلا بد أن يحصل الإنسان القاصد للمسجد لهذه الغنيمة، وينبه عليها حتى إذا رجع إلى أهل بيته بشرهم وقال: أتيتكم بخيري الدنيا والآخرة، أتيتكم بدعوة صالحة من إمام المسجد أو بنصيحة منه، أو بإرشاد وبتدبر آية أو بفهم حديث أو بحكم شرعي، فيأتي بغنيمة وهو يغتبط ويغبطه أهله حين جاء بها، وينبه الناس على ذلك؛ فالناس عادة يأتون المساجد للصلاة ويخرجون مسرعين، عندما يسلم الإمام ينجبلون كما ينجبل النعام، وتراهم لا يكملون أذكارهم في أدبار الصلوات كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأله أصحابه: ( لماذا ينصرف الناس عن هذه الأذكار؟ فقال: إن الشيطان يأتي ابن آدم فيقول: اذكر كذا.. اذكر كذا.. اذكر كذا؛ فيظل يتردد بين ذلك؛ فإذا سلم الإمام انطلق لحاجته ).
فهذه الأذكار إذا أداها الإنسان في مكانه الذي صلى فيه ختم على صلاته بالقبول، ولذلك لابد أن ينبه لهذا، وأن ينبه إلى فضلها وأنهم يدركون الأغنياء بل ويسبقونهم؛ ( فقد شكا الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال إخوانهم من الأغنياء، فقالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؟.. )، وبين لهم أن هذا الذكر في أدبار الصلوات يدركون به من سبقهم، ولا يكون أحد خيراً منهم.
فلذلك لابد أن ينبه الناس إلى أهمية معقبات الصلاة وأذكارها، وأن يحرص الإمام على تعليم ذلك وألا يمل منه؛ فالذين يسمعون الآن ليسوا هم الذين يسمعون بعد صلاة الظهر ولا بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة المغرب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمل من هذا التعليم؛ فقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أوقات الصلاة؛ فقال: إذا صليت الفجر فأمسك، فإذا طلعت الشمس فارتفعت قيد رمح وزادت عنها الحمرة فصل، فإذا قام قائم الظهيرة فأمسك، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء فصل، فإذا صليت العصر فأمسك، فإذا غربت الشمس فصل )، وذكر عمرو بن عبسة هذا الحديث فسألوه عنه؛ فقال: ( لو لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً ما حدثتكم به )، فذكر أنه سمعه أكثر من سبع مرات من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يدل على أن الإمام ينبغي له تكرار العلم ولو كان شيئاً يسيراً يفرح به الناس ويرجع به العوام إلى ذويهم ويعلمونه من وراءهم.
ثم بعد ذلك لا بد أيضاً أن يحرص الإمام على التطلع إلى حاجات هؤلاء الذين أووا إلى الله فهم ضيوف الرحمن، فلابد أن يجدوا من بشاشة الإمام ورحابة صدره وتسليمه عليهم أجمعين ودعائه لهم ما يشعرون به أنهم فعلاً أووا إلى ركن شديد؛ ولذلك لابد أن يجدوا تعزية عما يصيبهم في المجتمع وفي الشارع وفي المدارس وفي المكاتب إذا جاءوا إلى المساجد فيجدون فيها تسلية وتعزية، يجدون فيها من يهتم بهم، ويجدون فيها من يسلم عليهم، من يبتسم في وجوههم، من يصافحهم ويدعو لهم، من يسألهم عن مشكلاتهم وذويهم.
وإخبار الإمام بعد الصلاة للمصلين بما دعا به لهم مما يطمئن القلوب؛ فالإمام أصلاً يجب عليه أن يشركهم في دعائه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى بقوم فخص نفسه بدعوة دونهم فقد خانهم )؛ فلذلك يجب أن يشركهم في دعائه جميعاً، وإذا كان الإمام منتبهاً لسجدات الصلاة ووزعها كما ذكرت لكم سابقاً؛ فجعل سجدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدي فيها حق الجماعة للمصلين وراءه على الأقل، يشعر أن هؤلاء الصفوف في أعناقهم حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد لا يكونوا أدوه هذا اليوم فأنوب عنهم بأدائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول: اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك، النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم جاز عنا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل وأجزل وأكمل ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عمن أرسل إليه، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، اللهم اخلفه في أمته بخير، اللهم أقر عينه في ذريته وفي أمته، فيجعل ذلك دعاءً في سجدة يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو جعل له جميع صلاته كان ذلك خيراً له؛ كما في حديث أبي بن كعب .
ثم بعد ذلك يدعو لجميع المصلين وراءه ولآبائهم وأمهاتهم إلى منتهى الإسلام، ولمن ولدوا ولمن ولدهم، ولمن أحسن إليهم، ويخصهم بسجدة في ذلك؛ فحينئذ سيتعدى النفع الذين حضروا إلى آبائهم وأمهاتهم إلى منتهى الإسلام، وإلى ذرياتهم إلى نهايتهم، وإلى من أحسن إليهم من المسلمين عموماً؛ فيؤدي عنهم بعض الحقوق التي قد لا يؤدونها؛ فكثير منكم الآن له كثير من الأجداد والآباء والأمهات الذين لا يعرف أسماءهم ولا يعرف مدافنهم ولا أوقات موتهم، وقد لا يكون دعا لهم في حياته، فالإمام يتولى هذا الحق فيدعو لهم فتصل إليهم هذه الدعوة وهم في قبورهم، فنحن قطعاً لا نعرف كثيراً من آبائنا وأمهاتنا الذين سبقونا بالإيمان ولا نعرف أسماءهم، وقد لا ندعو لهم؛ كما قال الله تعالى: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، فالإمام لابد فيه من سيادة يتولى بها أداء هذا الحق عن المأمومين.
ثم بعد ذلك لابد أن يدعو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخص من نفعه أعم للأمة؛ فمن كان أنفع للأمة يدعى له.
وأذكر مرة أنني صليت صلاة العصر في أحد المساجد، وكان عهدي بهذا المسجد أن فراشه قديم وطلاءه قديم؛ فوجدت محسناً من المحسنين لا أعرف من هو قد طلاه وفرشه فراشاً جديداً؛ فخصصت سجدة للدعاء لهذا الشخص أن ينور الله له في قبره وأن يحسن خاتمته، وأنا والله لا أعرف من هو، لكني رأيت أنه قام بحق عنا جميعاً، وقام بمسئولية عظيمة، ونصر الله سبحانه وتعالى حين شرف بيته وعزز مسجده، فله حق علينا أن ندعو له، فلابد أن يستحضر الإمام هذه المعاني في دعائه.
ولابد للإمام من اختيار ما يقرؤه من القرآن في الصلاة، فأنتم تعلمون أن كثيراً من الكتب الفقهية وبالأخص المذهب المالكي تعتمد على كتاب عمر رضي الله عنه الذي أرسله إلى عماله وفيه: أن يصلوا الصبح بركعتين طويلتين من المفصل، وأن يصلوا الظهر كذلك بركعتين طويلتين من المفصل، وفيه تفاوت الصلوات بما دون ذلك، لكن هذا اجتهاد من عمر قصد به مصلحة المصلين؛ فقد كانوا في زمان قليل قراؤه، كثير علماؤه، قليل من يسأل، كثير من يجيب؛ كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، أما اليوم جئنا إلى الزمان الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو زمان كثير قراؤه، قليل علماؤه، كثير من يسأل، قليل من يجيب؛ كما وعد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يستشعر الإمام هذه المسئولية، وأن يعلم أن التدبر محتاج إليه؛ فلذلك يختار المناسب؛ فإذا كان الناس في وقت الصيام فإنه يقرأ لهم آيات الصيام ويحاول تدبرها والتعليق عليها.
والتدبر يكتشف به الإنسان كثيراً من المعاني العجيبة؛ فقد كنا في درس مع الأئمة فتدبرنا قليلاً في آيات الصيام من سورة البقرة؛ فوجدنا فيها معنىً عجيباً وهو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وهذا في بداية فرض الصيام؛ لئلا يشق على النفوس قال: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184]، وفي آخر هذه الآيات قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وشهر رمضان هو نفس الأيام المعدودات، ولكنه هنا في بداية التشريع يدعو النفوس للامتثال والاستجابة؛ فيخفف العدد يقول: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، وبعد أن عرفوه وطلبوا فضله قال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]؛ فالإمام لابد أن ينبه الأفراد وينبه من يصلون معه إلى التدبر في مثل هذه الآيات.
ولو تدبر الإنسان بعض آيات سورة آل عمران لوجد أن فيها أمراً عجيباً فيما يتعلق بالتدبر؛ ففي قصة زكريا عليه السلام عندما سأل الله سبحانه وتعالى الذرية الصالحة ووعده الله بذلك قال: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ [آل عمران:40]، قال: (أنى يكون لي غلام)! فاستغرب أن يكون له غلام ولم يستغرب أن يكون له ولد، أما في آيات مريم بعد هذه الآيات: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران:47]، فـمريم تستغرب الولد مطلقاً، ذكراً كان أو أنثى؛ لأنها لم يمسسها بشر، وزكريا يستغرب الغلام بالخصوص؛ لأنه قد تقدم به العمر، لكنه رجل وله أهل، فالفرق بين ذلك شاسع واضح، ثم كان الجواب أيضاً على حسب ذلك؛ فجواب زكريا: كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]؛ فجعل ذلك من الفعل، أما جواب مريم : كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:47]؛ فهذا خلق جديد لا يحتاج فيه إلى الوسائل ولا إلى المعين، والأول فعل على الطريقة المعتادة في البشر، التي هي موافقة للفطرة فيما بينهم؛ فإذا تدبر الإنسان القرآن يجد فيه من المعاني والعبر ما لم يسبق إليه، وما تدبره أحد إلا كتب له فيه رزق مثل هذا؛ لأنه مائدة الله في الأرض، لا تنقضي عجائبه؛ ولذلك يقول العلامة محمد بن فال المتالي رحمة الله عليهما:
وقسمة الحظوظ فيها يدخل فهم المسائل التي تنعقل
فيحرم الذكي من فهم الجلي إن لم يكن من حظه في الأزل
وابن مالك رحمه الله في مقدمة التسهيل يقول: (وإذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصية؛ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدين) فإذا حان وقت الحج الذي تدخل شهوره بنهاية رمضان مباشرة، فيقرأ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]؛ ويركز الإمام في صلاته وتدبره ودروسه على آيات الحج، وهكذا في كل المواسم التي تمر في العام.
وإذا رأى أن جماعة المسجد يفوتها التجويد؛ فليحسن لها التجويد في قراءته، وإذا رأى أنها تقتصر على المفصل ولا تقرأ ما سواه من القرآن فإنه يقرأ لها من القرآن حتى لا يكون شيء منه مهجوراً؛ لأن الله تعالى يقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، وعدم الصلاة به هجران له، وليس شيء من كتاب الله مهجوراً؛ فلابد أن يحرص الإمام على أن يعدل أيضاً في قراءته بين سور القرآن.
ثم بعد هذا فإن من المهم أن يعدل الإمام بين المأمومين فيما يتعلق بالعلاقات؛ فالإمام إذا عرف أنه بمنزلة رئيس مؤسسة، وقد اطلع على أحوال أهلها وعرف أن هذا محتاج وأن هذا غني، عرف أن هذا ذو جاه وأن هذا مظلوم؛ فإنه يأخذ من هذا لهذا، ولابد أن يكون ذلك بلباقة وأسلوب حكيم مؤثر؛ فالناس اليوم مفطورون على سوء الظن، والأئمة مبتلون بسوء الظن؛ وذلك أنهم يخلفون الأنبياء، وكل من خلف نبياً في وظيفة من الوظائف فلابد أن يبتلى ببعض ما ابتلي به الأنبياء؛ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]، وأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أحد المتنطعين المتشددين: ( يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله؛ فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ).
فلذلك لابد أن يعرف الأئمة أنهم سيتهمون، ومن هنا لابد أن يزيلوا الريبة؛ فإذا طلبوا لشخص معين ذكروا حاله، وقالوا: فلان الفلاني الذي يصلي معنا هنا عنده ضائقة في المجال الفلاني أو له مرض، أو حصلت عليه كارثة، ويخفون هذا لئلا ينكسر قلب الذي يسأل له؛ فلا يعلن هذا للناس بالميكرفون؛ كما يفعله بعض الناس، وقد سمعت في ليلة من الليالي من يتكلم في مسجد من المساجد بما هو صريح جداً من المسألة، والمساجد منزهة عن هذا؛ فليست هي لأمر الدنيا، وإنما هي لأمر الآخرة؛ فلذلك لابد أن يكون ذلك بلباقة ولطافة؛ فيجمع أشخاصاً من ذوي الثقة والذين يتوقع منهم الخير فيعرض عليهم قضية أخيهم ويقول: إن شئتم اخترتم فلاناً هذا؛ ليجمع له؛ حتى ينجو الإمام من هذه المسألة ويكون قد كتب له الأجر كاملاً دون أن تلتصق به التهمة، ويجعل الجمع إلى غيره.
وكذلك ما يتعلق بالجاه، والأمر فيه أيسر من المال؛ لأن التهمة في المال عظيمة، أما الجاه فالتهمة فيه أقل، فإنه بالإمكان مباشرة أن يقول: إن أخاك فلان مظلوم في قضية معينة، وبالإمكان أن تتصدق عليه من جاهك فتذهب معه حتى تقضي حاجته؛ فيكون الله في حاجتك، ويذهب به مباشرة؛ فيكون هو دالاً على الخير، و( الدال على الخير كفاعله ).
ومثل ذلك أيضاً شئون المسجد؛ فمن المهم أن يعرضها على جماعة قليلة من أهل الثقة، وألا يعرضها على الناس عموماً، فإذا أراد توسعة للمسجد؛ فتكلم على المنبر أو بحضرة الناس جميعاً اتهموه بأنه يسأل لقصد نفسه، لكن إذا اختار جماعة من أهل الثقة من أهل المسجد وحملهم هذه المسئولية وناقشها معهم واعتنى معهم بشأن المسجد؛ فهم يتولون هذه المسئولية، وهم الذين يعرضونها على الناس، ويكون الإمام بمنأىً عن هذه التهمة.
ومثل ذلك أيضاً ما يتعلق بتنظيف المسجد والبذل فيه؛ فعلى الإمام أن يكون مشاركاً أولاً وأن يبذل ولو من إقتار؛ فالبذل من الإقتار تنال به حلاوة الإيمان؛ فإذا كان الإمام لا يملك إلا فطوره اليوم؛ فقدم نصفه لمصلحة المسجد فإنه قطعاً سيعوضه الله خيراً مما بذل؛ فالله سبحانه وتعالى يعطي منفقاً خلفاً، قطعاً، وهو موقن بذلك وهو أولى الناس بأن يثق بوعد الله جل جلاله، ويكون قدوة حسنة وصالحة لمن وراءه؛ فالناس سيبذلون إذا رأوا الإمام أول باذل، سيبذلون ويقتدون به.
أما فيما يتعلق بالدروس؛ فإذا كان الإمام يحب أن يستمع الناس إلى درسه وأن ينتفعوا به فليستمع هو إلى كل مذكر في المسجد، أما إذا أراد الإمام أن يحتكر الميكرفون وأن يحتكر المنبر على الناس؛ فمعناه أنه لن يستمع إليه ولن يجلس إليه إلا عدد يسير من الناس وهم الذين بينه وبينهم معرفة خاصة، أما إذا كان هو كالمستمعين وهو يحب أن ينفع ويحب أن ينتفع، يحب أن يسمع؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث ابن مسعود في الصحيحين أنه قال له: ( اقرأ علي القرآن؛ قلت: يا رسول الله! أقرؤه عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )، فمن المهم جداً أن يسمع الإمام القرآن من غيره، وأن يسمع الموعظة من غيره، وأن يسمع الذكرى من غيره؛ فإذا أتاه الله ضيفاً وتطوع بأن يتكلم بالخير؛ فالإمام مراقب يستمع؛ فإذا كان فعلاً أهلاً للذكرى وقدم ذكرى وموعظة؛ فالإمام أول من ينتفع بها وأول من تصل هذه الذكرى إلى قلبه، وإذا كان بما يخالف ذلك مما ليس من آداب المسجد أو بما يثير فتنة أو نحو ذلك نبهه الإمام بسهولة ويسر، وأتى ببديل، وقال له: تكلم في موضوعات أخرى، أو تكلم فيما يعنينا؛ نحن الآن في شهر الصيام، تكلم لنا عن الإيمان، تكلم لنا عن الآخرة، تكلم لنا عما نحن بحاجة إليه، وينبهه بلطافة حتى لا يكون مستبداً وحتى لا يصنف على أنه من المستبدين المحتكرين.
ولابد أن ينتبه الإمام إلى مسئوليته في الصيام، وبالخصوص فيما يتعلق بزكاة الفطر؛ فزكاة الفطر شعيرة من شعائر الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر جمعها فيبسط البسط في مؤخرة المسجد في الليالي الثلاث الأخيرة من رمضان ويكلف فمن يحرسها؛ فيأتي الناس بزكاة فطرهم ويضعونها على تلك البسط، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم العيد جلس إليها حتى تقسم بين المستحقين، ثم يذهب إلى صلاة العيد.
فهذه سنة ينبغي أن يحييها الأئمة من جديد، فإذا كان كل أهل بيت يخرجون زكاة فطرهم في بيتهم فقد عطل شيء من دور المسجد ومهمته، فلابد أن يحملوها إلى المسجد حتى يشعر الناس أن المسجد له مكانة، وحتى يأتيه ذووا الحاجات، وحتى يجتمع الناس فيه ويظهروا شعائر دينهم، وحتى يهتم به وبحراسته؛ فكل ذلك نافع، وهذه الحراسة قد لا تكلف مالاً؛ فمن الناس من علقت قلوبهم بالمساجد وهم يعمرونها آناء الليل وأطراف النهار، وهؤلاء توكل إليهم الحراسة، كما كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله واجعل بيت المال قبلته فلن يزال بالمسجد مصل انظر إلى المسجد الذي بالتمارين، وهو سوق بالكوفة يجتمع فيها باعة التمر، انظر إلى المسجد الذي بالتمارين فانقله أي: أخره عن مكانه، ووسعه إلى الوراء، واجعل بيت المال قبلته، فالمسجد الأول اجعله بيت المال، (فلن يزال بالمسجد مصل) معناه: يكفيك الحراسة؛ لأن المصلين لا يمكن أن يتجاسر أحد على سرقة بيت المال أو نقده وهم في المسجد يحرسون ويقومون بالحق.
ولابد أن يعتني الإمام بأوقات السحور؛ لأنها من التعاون على البر والتقوى؛ فيوقظ الناس ويدعوهم إلى ذلك، وبالإمكان أن يخرج المؤذن في الطرق ليوقظ النائمين ويعينهم على القيام بهذه السنة من سنن الصيام في وقتها المناسب، وبالإمكان أيضاً أن ينبه بعض الجيران إلى أن يأتوا بسحورهم إلى المسجد لإطعام من لا يجد سحوراً، أو يأتوا بعشائهم إلى المسجد ليأتيهم من لا يجد عشاءً، أو بالفطور أيضاً حتى يفطر المسلمون في المسجد ولا يتأخرون عن صلاة المغرب، وكل ذلك من الخير، وبالأخص ما كان منه بعد صلاة الفجر يوم العيد؛ فقد كان الأنصار يأتون بالتمر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد فيوزعونه على الصفوف حتى يفطر الناس قبل صلاة العيد يوم عيد الفطر؛ وذلك إظهار للإخاء الإسلامي والتكافل والتضامن بين المسلمين، وكل من استطاع أن يحمل نفقته إلى المسجد وأن يشرك فيها الآخرين فهو متصدق بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من فطر صائماً ولو على مذقة لبن كتب له أجره دون أن ينقص ذلك من أجر الصائم شيئاً )، ومذقة اللبن هي التي نسميها نحن: إزريقة، فهذه يكتب للإنسان بها صيام يوم كامل، لم ينقصه رياء ولا سمعة؛ لأنه ليس من عمله هو، ولا ينقص ذلك من أجر الصائم شيئاً.
ومن عناية الإمام بشأن المسجد أن يهتم في شهر رمضان والعيد بتكوين لجنة إصلاح بين الناس، فما من قوم يجلسون في مكان أو يتجاورون فيه إلا نزغ الشيطان بينهم، والشيطان محب لتفريق القلوب، فإذا كان في كل مسجد جماعة تسمى "الصربة" أو جماعة الإصلاح، يختارها الإمام من جماعة المسجد، تمشي بالإصلاح بين الناس وتسعى لرأب الصدع وللإصلاح بين الأسر المختلفة، ولحل النزاع دون أن يحتاج إلى رفعه إلى القضاء أو إلى السلطات؛ فيكون هذا خيراً كثيراً، والإصلاح بين الناس من أعظم أعمال البر التي ينبغي أن يتنافس فيها الناس، والله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].
ومن المهمات التي ينبغي أن يقوم بها الإمام في فترة الصيام ما يتعلق بتذكير الناس بقضايا الأمة؛ ففي هذا الشهر يئوب الناس إلى الله، قد صفدت عنهم مردة الشياطين وأغلقت عنهم أبواب جهنم وفتحت لهم أبواب السماء لاستجابة الدعاء؛ فيذكرهم الإمام بقضايا المسلمين، يذكرهم بالمستضعفين في فلسطين والمحاصرين في غزة، والمستضعفين في العراق وفي كشمير وفي أفغانستان وفي السودان وفي الصومال، يذكرهم بقضايا الأمة حتى تكون قلوبهم حية، وحتى يكونوا مع المؤمنين؛ ( فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ).
وبالأخص ما يتعلق بالدعاء؛ فهذه الأيام أبواب السماء فيها مفتحة، يرتفع فيها الدعاء مباشرة إلى الله جل جلاله، وبالأخص في وقت الإفطار؛ فـ( للصائم دعوة لا ترد )، وذلك عند فطره، فينبههم إلى استغلال هذه الدعوات فيما هو نافع للأمة؛ فكل ما تعدى نفعه فهو أفضل مما قصر نفعه على صاحبه.
ومن المهمات في وقت إقبال الناس على الله، وإقبال باغي الخير وإدبار باغي الشر تنبيههم إلى ما يهجرونه من السنن، سواءً كان ذلك في جانب العلم أو في جانب العمل، فالناس في أيام السنة الذين يطلبون العلم منهم قد يدرسون بعض المتون، وهذا مهم ونافع، والناس يحتاجون إليه، لكن ينبغي أيضاً أن يكون لنا وقت لمدارسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، ومن المؤسف أن نصل إلى هذا المستوى من العمر ولم نقرأ الموطأ كاملاً ولا صحيح البخاري كاملاً ولا صحيح مسلم كاملاً؛ فهذا عيب وعار علينا؛ فالمسلم يعلم أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مثل القرآن في التشريع؛ لأنه قال: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )، وهي علاقتك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تريد أن يكون أحد أولى به منك، ولا تريد أن يكون أحد أقرب إليه منك؛ فلذلك لابد أن ترثه في سنته وأن تدرسها وأن تتعلمها، وقد كان بعض الأمصار في هذه البلاد يحافظون على ختم صحيح البخاري أو ختم الموطأ أو الشفاء للقاضي عياض في رمضان، وما زالت هذه السنة قائمة في بعض الأمصار، في فشيت ووادان وبعض المناطق الأخرى، وهذه مهمة جداً؛ فالآن قلوب الناس لينة؛ فردهم إلى السنة، اقرأ عليهم درساً يومياً يشتركون فيه جميعاً من موطأ الإمام مالك حتى تختمه، أو من صحيح البخاري ، وسيحبب هذا السنة إليهم ويحبب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيزيدهم ذلك إيماناً؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )، وهذه المحبة مكتسبة متفاوتة، ومما يزيدك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معرفتك به، فمن تجهله لا تحبه، فإذا عرفته وعرفت سنته وسيرته زاد ذلك محبتك له وتعلقك به وشوقك إليه، وكل ذلك يدعوك لاتباعه، وهذا المطلوب؛ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران:31].
ومن مسئوليات الإمام فيما يتعلق بالصيام: أن يكون حاضراً في أغلب الوقت في أوقات التوجيه وأوقات الصلوات في المسجد؛ فالإمام مثل غيره له حاجات وله مسئوليات أخرى، ونفقات أهله وشئونه، لكن عليه ألا يأخذ إجازته وألا يترخص في شئونه في مواسم الخير التي يقبل الناس فيها ويزداد عددهم، فما كنت ستؤديه من الأعمال في شهر رمضان من أعمالك الدنيوية فأخره إلى شوال، واحتسب عند الله سبحانه وتعالى حبسك لنفسك لمصلحة المسلمين، واعتبر نفسك محرراً لله في هذه الفترة كما قالت امرأة عمران ، اعتبر نفسك طيلة شهر رمضان مرابطاً للمسلمين لنفعهم في المسجد؛ فأنت حاضر فيه في وقت التوجيه ووقت الإرشاد ووقت الصلاة ووقت تهيئة المسجد ووقت بسط البسط ووقت تنظيفه، ولابد أن تحضر فيه هذه الأيام فهي وقت إقبال الناس عليه.
وإذا كان الإمام يغيب عن صلاة التراويح ويغيب عن الصلوات الأخرى، ويغيب عن جمع متكررة في موسم الخير؛ فصلته بالمؤمنين ستضعف، وعلاقتهم به وثقتهم به ستتقلص، لكن إذا وجدوه معهم في هذا الموسم الذي يقبلون فيه، وكان حاضراً معهم في كل أوقاتهم فإن الصلة ستقوى، والعلاقة ستثبت، وتعرفون قول الشاعر:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الحبيب
وأنه على العكس من ذلك عندما تحصل المقاطعة ويبعد العهد فستقل المحبة؛ كما قال غيلان :
وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمحي
فلذلك يحتاج الإمام الآن أن يعطي جزءاً لا بأس به من وقته للمسجد، وأن يجلس فيه حتى يكون أسوة، وبالأخص في أوقات الاعتكاف؛ فأنتم تعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف عشر ليال من رمضان في المسجد لا يخرج منه إلا لحاجته الضرورية.
فكذلك الإمام لابد أن يعكف نفسه وأن يعطي جزءاً من وقته لا بأس به في المسجد؛ فهو عنوانه، إذا جاء إنسان يسأل عنه يعرف أن مكان وجوده هو المسجد، وهذا يقتضي ارتباطاً أيضاً منه هو بالمسجد ومحبة له؛ فنحن وإن كنا أساتذة للمجتمع إلا أننا محتاجون لأن نتعلم؛ فالأستاذ لا يمل من العلم ولا يمل من التربية ولا يمل من زيادة التقوى والخلق، وكلما ازداد الإنسان خلقاً وعلماً وتقوى كان أحوج إلى الازدياد؛ لأنه أدرك قيمة ذلك وعرف قدره؛ فالإنسان الذي يعرف قيمة المرابطة في المسجد، ويعرف قيمة انتظار بعد الصلاة ينبغي أن يكون أسوة وقدوة، وأن يكون هو السابق إلى هذا الخير، فإذا دعا الآخرين إليه استجابوا؛ لأنه سبق فطبق بنفسه.
ومن المهمات من أعمال الإمام في شهر رمضان: أن يعطي جزءاً ولو يسيراً من وقته لإصلاح القرآن لمن يريد ذلك، وكان عثمان بن عفان يخصص السدس الأخير من الليل لذلك؛ فيرتفق في مؤخرة المسجد؛ فيأتيه من يريد قراءة المصحف يقرأ عليه فيصحح له، ثم يذهب ليحفظ، والذين يأتون المساجد الآن كثير منهم لا يحسنون الفاتحة، وكثير منهم لا يتعودون على قراءة المصحف ولا يعرفون مخارج الحروف ولا يستطيعون قراءة القرآن كما أنزل؛ فلابد أن يخصص الإمام ولو ربع ساعة أو نصف ساعة يجلس إلى عمود من الأعمدة ويقول: من يريد تصحيح شيء مما لم يحفظه من القرآن أو حتى مما حفظه فليأت الآن وليقرأ وأنا أستمع إليه وأصححه وأشاركه في الأجر، وإذا حصل ذلك فستعمر المساجد، وسيقع عليها إقبال غير طبيعي، وقد جربنا ذلك، فالناس يريدون الخير، ويريدون من يعطيهم من وقته ومن يجلس لهم.
ومن المهمات التي ينبغي أن يقوم بها الإمام في فترة الصيام: أن يهتم بما يتعلق بأخبار الشهر وأخبار الأهلة؛ فأنتم رأيتم أن اللجنة المكلفة بإثبات الأهلة قد مكثت وقتاً طويلاً وهي تنتظر الاتصالات ومع ذلك بعد أن ينتهي الأمر يأتي بعض الأفراد فيقول: أنا رأيت الهلال، ويأتي آخر ويقول: أنا رأيت الهلال؛ فلماذا لا يبلغ رؤيته؟ ولماذا لا ينقلها؟ هو حتى لو كان مجروحاً فينبغي أن يرفع، (وعلى عدل أو مرجو رفع رؤيته والمختار وغيرهما) (والمختار) معناه: الذي اختاره اللخمي في المذهب المالكي أن غير العدل وغير المرجو معناه: المجروح، الذي أقيم عليه حد من حدود الله، كالمجلود في حد عليه أن يرفع رؤيته؛ لأنها يستأنس بها وقد يكون من رؤية مستفيضة؛ فلذلك على الإمام أن يأخذ أخبار الأهلة ويتعاهدها ويجمعها، ثم يتصل بالجهات التي تعتني بهذا، ويؤدي هذا الحق عن المسلمين نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياماً بالمسئولية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد.
السؤال: [ما المراد بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] ... الآية؟]
الجواب: هذه الآية من سورة لقمان أنزلت في المعازف؛ كما ثبت عن ابن مسعود أنه أقسم ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو إنها نزلت في المعازف، والمعازف هي آلات الغناء، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6]، (ومن الناس) هذا عام وإن كان سبب النزول مختصاً بـالنضر بن الحارث بن كلدة ، وهو رجل من بني عبد الدار، من بني عم النبي صلى الله عليه وسلم حسد النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي، وكرهه وأبغضه؛ فكان يعاديه ويحاول تفريق الناس عنه؛ فإذا رأى قوماً يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام قال: تعالوا أسمعكم ما هو خير مما يسمعكم محمد، فأتى بجاريتين مغنيتين اشتراهما، ولهما عيدان تعزفان بهما، فيسمعهم الغناء ويسقيهم الخمر، وقد أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فلما وصل إلى الأثيل أمر علياً رضي الله عنه أن يضرب عنقه؛ فقتله صبراً، وقد أرسلت أخته أو بنته قتيلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبياتها المشهورة التي تقول فيها:
يا راكباً إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يَسمعنِّي النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ضلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
صبراً يقاد إلى المنية متعباً رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت فربما مَنّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
فدمعت لها عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( لا يقتل بعد اليوم قرشي صبراً )، لكن ورود العام على سبب خاص لا يقتضي خصوص الحكم، بل يبقى العام على عمومه، وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ [لقمان:6] جمع بين أمرين مذمومين:
أولاً: اشتراء لهو الحديث حرام، وهذا محل إجماع، حتى الذين يرون جواز سماع الغناء لا يرون جواز بيع آلاته كبيع المغنية؛ كما قال خليل رحمه الله؛ فيرون المنع مطلقاً، وإذا قصد مع ذلك الصرف عن ذكر الله والصد عن عبادته فيكون قد أتى بسيئتين، وإذا جاء الوعد على أمرين فأكثر أو جاء الوعيد على أمرين فأكثر تعلق بكل واحد منهما؛ فنحن نقرأ في خواتم سورة آل عمران قول الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195]، فهذا الوعد ترتب على خمسة أمور، لكن لا يلزم الجمع بينها، إذا حصل واحد من الأمور الخمسة فإن الوعد يترتب عليه.
(( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا )) مجرد الهجرة كـأبي سلمة بن عبد الأسد فإنه هاجر الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، ولكنه مات على فراشه في المدينة؛ فتحقق له الوعد.
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [آل عمران:195]، وهؤلاء هم الذين هاجروا كرهاً لا طوعاً؛ كالمهاجرين الأولين من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة.
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران:195]، وهذا يشمل كل من أوذي في سبيل الله إلى يوم القيامة.
وَقَاتَلُوا [آل عمران:195]، وهذا يشمل الذين جاهدوا في سبيل الله بأيديهم من المقاتلين المجاهدين.
وَقُتِلُوا [آل عمران:195]، هذا يشمل الشهداء فقط.
فهذه الأوصاف الخمسة الوعد مترتب على كل واحد منها.
كذلك هنا جاء الوعيد مرتباً على خصال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]؛ فإذاً هذه أربعة أمور؛ فأي واحد منها حصل ترتب عليه الوعيد، إذا اشترى لهو الحديث ولم يرد بذلك الإضلال، ولم يرد به الشغل عن ذكر الله؛ فإنه يترتب عليه الوعيد، وكذلك إذا أرد الإضلال عن سبيل الله بأي وجه من الوجوه وبأية وسيلة؛ فإنه يترتب عليه الوعيد.
وكذلك من تكلم في الدين بغير علم فإنه أتى فاحشة وجرماً كبيراً؛ لأن الله تعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم من أعظم الكبائر، حتى لو لم تصطحب معه هذه الأمور المحرمة الأخرى.
وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]، فالذين يتخذون آيات الله هزواً ولو لم يشتروا المعازف، ولو لم يضلوا عن سبيل الله، ولو كانوا على علم لا على جهل؛ فهم ضالون مضلون بذلك.
فإذاً هذه الأمور الأربعة كل واحد منها وحده يترتب عليه الوعيد الشديد.
السؤال: [ما رأيكم بالمؤسسات التي تسمى بصناديق القرض والادخار؟]
الجواب: بالنسبة للمؤسسات التي تسمى صناديق القرض والادخار، وأنا أقترح تغيير الاسم؛ لأن القرض لا يمكن أن يكون عملاً تجارياً في الإسلام أبداً؛ فـ ( كل قرض جر نفعاً فهو حرام )، وإدارة الصناديق الحالية منها الإدارة الخيرة، والقائمون عليها معروفون بالصلاح، الحمد لله! ويريدون إزالة ما فيها من الربا؛ فلذلك مثل هذه المؤسسة يجوز التعامل معها، لكن لابد من النظر إلى العقد هل هو ربا أم لا؟ فمجرد كون الإدارة تريد الخير لا يقتضي أن يثبت لها الفقه، وعمر بن الخطاب يقول: (من لم يكن فقيهاً أكل الربا، شاء أو أبى)، فلذلك يمكن التعامل معها، لكن انظر إلى العقد الذي ستوقعه مع هذه الصناديق، هل هو عقد ربوي أم لا؟ واستفت أهل العلم، واسأل الأئمة، فإذا كان العقد صحيحاً ليس فيه مشكلة فأقدم عليه؛ لأنها مؤسسة مرضية مزكاة ما دامت إداراتها مستقيمة.
السؤال: ما تفسير قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]..
الجواب: الله عز وجل وصف القرآن جميعاً بالإحكام، ووصف القرآن جميعاً بالتشابه، ووصف بعضه بالإحكام ووصف بعضه بالتشابه، فالقرآن كله محكم بمعنى: أنه متقن حسن، هذا معنى الإحكام في قوله: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]؛ فكله محكم بهذا المعنى، أي: متقن، وكذلك التشابه العام معناه: كله متشابه بمعنى: أن بعضه يصدق بعضاً ويفسره، وهذا المذكور في قول الله تعالى: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23]؛ فهو كله محكم وكله متشابه، فالتشابه معناه: أن بعضه يصدق بعضاً ويفسره، والإحكام معناه: الإتقان.
أما التشابه الخاص والإحكام الخاص؛ فالإحكام الخاص معناه: اتضاح المعنى، والتشابه الخاص معناه: خفاء المعنى، وهذا مختص ببعضه دون بعض؛ فلذلك قال: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7]، و (من) تبعيضية، معناه: بعضه آيات محكمات، أي: واضحات الدلالة، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، أي: هن جمهوره ومعظمه وأغلبه، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، وهذه الأخر لم يصفها كما وصف المحكمات؛ لأن التشابه يقع في بعض العصور دون بعض؛ فقد تكون الآية متشابهة في العهد النبوي ثم يزول عنها التشابه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كآية سورة النساء: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]؛ فكانت متشابهة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس للمؤمنين سبيل سوى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم زال عنها التشابه وعلم أن المقصود بسبيل المؤمنين الإجماع، والإجماع لا اعتبار له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إما أن يوافقهم وإما أن يخالفهم؛ فإن وافقهم فالعبرة بقوله لا بقولهم؛ لأنه الرسول المعصوم، وإن خالفهم فإجماعهم فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنص، فإذاً لا إجماع إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فزال التشابه عن هذه الآية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل ذلك عدد من الآيات التي زال عنها التشابه مع الوقت، فالوقت كفيل بإزالة كثير من التشابه عن القرآن؛ فلذلك قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، (أما) بفتح الهمز والتشديد للشرط والتفصيل والتأكيد؛ فهي تقتضي تقسيماً، وهذا التقسيم معناه: موقف الناس من الآيات المتشابهات وتفاوتهم، ما هو هذا الموقف؟
الموقف الأول: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]؛ وهم الذين في قلوبهم مرض، والزيغ: الميل عن الجادة وعن طريق الحق، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، معناه: لا يهتمون بمحكمه الذي هو أمه وعامته، بل يبحثون فقط عن التشابه والخفاء، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، ومعنى (يتعبون): يتتبعون ما تشابه منه ويجمعونه، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، وليس المقصود بالاتباع هنا التنفيذ؛ لأن التشابه ليس كذلك؛ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران:7]، والفتنة: الردة عن الإسلام، أي: أن يفتنوا الناس بذلك، ويحدثوا لديهم شبهات، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، أي: صرفه عن معناه الذي هو معلوم عند الله، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]؛ أي: ما يعلم تأويل المتشابه في وقت تشابهه إلا الله.
ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، الراجح في التفسير: أن ذلك استئناف وليس عطفاً على قوله: إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، بل هو القسيم الثاني؛ لأن (أما) تقتضي قسمين، فالقسم الأول عرفناه، وهو: فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ [آل عمران:7]، والقسم الثاني هم: الراسخون في العلم، وهؤلاء بين قولهم: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، أي: المحكم والمتشابه كلاهما من عند ربنا؛ فنحن نؤمن بالجميع ونقر به، ونعلم أنه الحق، ما فهمنا منه فتلك نعمة من عند الله، وما لم نفهم منه فذلك رزق يكتبه الله لمن شاء، لكننا نؤمن بالجميع، ما فهمنا منه ولما لم نفهم، فهذا هو الراجح في التفسير.
وبعض أهل العلم يقولوا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7]، الوقف ليس هنا، بل على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7]، وهذا مروي عن ابن عباس والمقصود بذلك: أن المتشابه عند زوال التشابه يعرفه الراسخون في العلم، لكن قبل زوال التشابه لا يعلمه إلا الله؛ فيكون هذا باختلاف الوقت، واختلاف الوقت يعدل إليه في تفسير القرآن عند التشابه؛ فمثلاً قول الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، وفي الآية الأخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27] الجمع بينهما باختلاف الوقت، أي أن (( وَلا يَتَسَاءَلُونَ )) إنما هي عند النفخ في الصور، وقوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27] معناه بعد دخول الجنة والنار؛ فاختلاف الوقت هو الذي يقتضي جمعاً.
السؤال: ما هو الراجح في طلاق ألبتة؟
الجواب: هذا يرجع إلى العرف، وقد قال العلامة محمود بابا رحمة الله عليه:
فخذ أيها المفتي لشخص بعرفه فبالعرف ألفاظ الطلاق ترام
فخليت قد كانت ثلاثاً وقد غدت لواحدة لا خلف ثم يرام
ولفظ حرام صار في العرف بتة وذكر أقاويل الحرام حرام
وكثير من الفقهاء يرى أن ألبتة والبت من صريح الطلاق الذي لا ينوى فيه، وبعضهم يرى أنها من كنايات الطلاق التي ينوى فيها؛ فيسأل من صدر ذلك منه عن نيته؛ فإذا نوى طلقة واحدة اعتبر ذلك طلقة واحدة، وإذا نوى أكثر اعتبرت له نيته؛ لأنه ليس من الصريح، والعلماء في هذا لهم مسلكان: مسلك التضييق ومسلك التوسيع، فمسلك التضييق هم الذين يرون أن صريح الطلاق محصور في لفظ "طلقت" ومشتقاتها، وأن ما سوى ذلك يعتبر كنايات جميعاً؛ لأنه ليس أصلاً في التعبير عن هذا المعنى.
وعموماً لابد أن يكون هذا في فتوى خاصة؛ لأن ما نذكره الآن في مثل هذه المسائل ليس فتوى وإنما هو تدريس، أما إذا وقعت نازلة فليأت صاحبها وليستفت من شاءه من المفتين عنها.
السؤال: كيفية التعامل مع حديث كريب : ( لكل قوم رؤيتهم )؟
الجواب: الحديث يقول فيه ابن عباس : ( لأهل الشام رؤيتهم ولنا رؤيتنا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وليس فيه لكل قوم رؤيتهم والعلماء في هذا الباب لهم أربعة أقوال:
القول الأول: عموم الرؤية مطلقاً، وهذا هو المشهور في كثير من المذاهب، وهو المشهور في المذهب المالكي، وفيه قول خليل : (وعم إن نقل بهما عنهما).
والقول الثاني: خصوص الرؤية مطلقاً، لكل بلد رؤيتهم. وهذا لبعض الشافعية، وهو الذي بوب عليه النووي لهذا الحديث فقال: (باب: لأهل كل بلد رؤيتهم).
والقول الثالث: أنه إذا تباعدت الأمصار جداً؛ فإنه تختلف الرؤية ولا يقع العموم، وإذا تقاربت فإنه يقع العموم، وهذا القول أصحابه مضطربون؛ فمنهم من يقول: كأفريقية من الأندلس، ومنهم من يقول: كخراسان من الأندلس، وبينهما بون شاسع.
والقول الرابع: أنه إذا كان عدد من البلاد تحت إمرة أمير واحد؛ فإن رؤيتهم واحدة تعم، وإذا كان بلدان تحت إمرة أميرين فلا تعم رؤية أحدهما الآخر، وهذا لبعض الشافعية وذكره النووي في شرح صحيح مسلم .
لكن الذي نختاره اليوم: أن عموم الرؤية إنما يكون عند اتفاق التوقيت؛ فنحن الآن على توقيت جرنتش؛ فأي بلد على توقيت جرنتش فإنه يثبت لنا ونثبت له، وأي بلد يختلف معنا فيزيد علينا ساعة أو ينقص عنا ساعة، فلابد من عدم اعتبار ذلك؛ لأن الهلال يغرب في الليلة الأولى على ستة أسباع الساعة، فيغرب قبل تمام الساعة، فذلك يقتضي عدم رؤيته إذا كان قد غرب قبل غروب الشمس، فإنه لا تمكن رؤيته.
فإذاً: هذا القول الذي نختاره؛ أنه عند اختلاف التوقيت لا يقع عموم الرؤية؛ فنحن الآن لا يمكن أن نفطر إذا أفطر أهل مكة؛ لأنهم قد غربت عنهم الشمس وهم ينظرون، ونحن لا زلنا نراها، ولا يمكن أن نمسك عندما يطلع الفجر على أهل مكة؛ لأنه لم يطلع علينا نحن، بل لا زلنا في وسط الليل، فكذلك إذا ظهر الهلال عندهم هناك فلا يمكن أن نصوم نحن هنا أو أن نفطر؛ لأنه مثل طلوع الشمس وغروبها وغروب الشفق.
السؤال: بعض الأحاديث مختلف في تصنيفها هل هي من قبيل المرفوع أم لا؟ فإذا قال الصحابي: (أمرنا) أو (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحو ذلك؛ فهل نعتبره مرفوعاً أم موقوفاً؟
الجواب: مثل هذا قول ابن عباس في اختلاف المطالع: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ...) فيمكن أن يكون ابن عباس يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً فيه الأمر لهم بأن تكون رؤية أهل المدينة غير رؤية أهل الشام، أو أن يكون لأهل الشام رؤيتهم ولأهل المدينة رؤيتهم، لكن ثم احتمال آخر: أن يكون المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته )، ففهم ابن عباس من ذلك أن رؤية أهل المدينة غير رؤية أهل الشام، ويكون حينئذ غير مرفوع.
السؤال: بعض الناس يتحرج من الصلاة في المسجد الذي على منارته الهلال والنجم، فهل هذا التحرج في محله؟
الجواب: ليس هذا التحرج في محله؛ فالزينة ما كان منها غير مشغل عن ذكر الله وغير شاغل عن الصلاة فلا حرج فيها في المسجد، بل يقول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، والزينة: اللباس والسواك والطهارة، فيأخذها الإنسان عند كل مسجد، وبالأخص زينة المسجد نفسه، فالأصباغ والفراش، وكذلك وضع الهلال أو النجم أو نحو ذلك على المنارة فهذا من الزينة ولا حرج فيه، وهو من تعظيم شعائر الله؛ فلا ضرر فيه.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر