إسلام ويب

الأمر بالمعروفللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • امتحن الله عز وجل عباده بالمعاصي، وأمر المؤمنين بالنهي عنها والأمر بالمعروف، وبترك هذه الفريضة يقع البلاء وعدم استجابة الدعاء، وتكثر الفتن وينتشر الوباء، ولكثير من الناس شبهات حائلة بينهم وبين هذه الفريضة يجب إزالتها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب، يجب على القائم بها أن يتحلى بها ويمارسها.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فإن العليم الخبير ديان السموات والأرض قد شاء بحكمته وإرادته أن يقع في هذه الأرض طاعة وعصيان، وأن يكون فيها حزبان: حزب هو حزب الله الغالبين، وحزب هو حزب الشيطان الذين هم الخاسرون، ولا بد أن يستمر الصراع بين هذين الحزبين، ولا يمكن أن يتنازل أحد الحزبين عن عمله أو أن يتراجع عن خطته، فلا بد أن يستمر حزب الشيطان موجوداً في الأرض، يعيث فيها فساداً، ولا بد أن يستمر حزب الله في الأرض، يدافع عن أهلها؛ لئلا يغرقوا في الفساد، وهذا هو دفع الله الناس بعضهم ببعض، الذي ذكر الله أنه من حكمة صلاح أهل الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251].

    فلذلك من ضرورات هذه الأرض أن يبقى هذا الصراع موجوداً مستمراً، ولا يمكن أن يستمر هذا الصراع في غلبة أحد الطرفين؛ بل لا بد أن ينتفش الباطل تارة ويرتفع، ولكن مصيره الاضمحلال والزوال: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81].

    ولا يمكن أن يستمر الحق في منزلته الطبيعية، ووضعه المعتاد؛ لأن ذلك فساد في اختلال الميزان المذكور، ومن أجل هذا فإن الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسله عليهم الصلاة والسلام لإصلاح البشرية، فجاءوا بالتي هي أقوم، وأظهر الله على أيديهم الحجة وبين المحجة، فأوضحوا الطريق للناس ولم يقع ذلك إلا بعد صراع وحرب، وانتصر فيها الحق وانهزم الباطل، ورجع حزب الشيطان يجر وباله وخسائره، وارتفعت راية الحق، لكن شاء الله ألا يستمر هذا؛ لأن هذا امتحان للناس، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، فلو لم يقع في الأرض فساد أصلاً لكان هذا الامتحان يسيراً جداً، ولو وقع فيها من الفساد أدنى وأقل مما كان يقع في الأمم السابقة، أو في بداية هذه الأمة لكن هذا حيفاً وجوراً في الامتحان، والله هو الحكم العدل، الذي لا يظلم العباد شيئاً.

    ومن أجل هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بعث بهذا الدين الحق لم يكن على وجه الأرض موحد، وقد نظر الله إلى أهل الأرض إذ ذاك بعين سخطه ومقته، وهذا ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، غير بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، لكنه لم تمضِ سنوات قليلة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى دانت جزيرة العرب كلها لدين الله، وصلح أهلها واستقامت أمورهم، ولم تمضِ مدة يسيرة بعد ذلك حتى دانت الحضارات الكبرى كلها لدين الإسلام، ودخلت الأمم العظمى في دين الإسلام واستقامت، وأنفقت خزائن كسرى وقيصر في سبيل الله، وزال الاستبداد واستقام أمر الناس.

    تلقى الأمان على حياض محمدٍ ثولاء مخرفة وذئب أطلس

    لا ذي تخاف ولا هذا صولة تهدى الرعية واستقام الريس

    ولكن من حكمة الله تعالى وعدله ألا نستمر ودولة الإسلام مرفوعة العماد وارفة الظلال، يتفيأ الناس ظلالها وينعمون بخيراتها؛ لأنه لو كان كذلك لكان الامتحان شاقاً على أمثال سعد بن أبي وقاص و مصعب بن عمير وأضرابهم من الذين عانوا العناء المبين في سبيل إقامة هذه الدولة، وكان سهلاً رخيصاً في حق الذين ينعمون بظلالها وقد عاشوا فيها، فمن أجل هذا لم تدم هذه الدولة على هيئتها التي تركهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثين سنة، وهي متوسط أعمار هذه الأمة تقريباً، فالجيل الذي حضر إقامة هذه الدولة وجاهد فيها هو أفضل الأجيال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، والجيل اللاحق الذي نشأ في ظلال هذه الدولة لم يطل عمره حتى شاهد الفتن والمشكلات، وحتى دخلت الأزمات العظيمة التي أنسته ما نعم به في ظلال الدولة، حتى إن أنس بن مالك وكان من هذا الجيل الصغير، كان عمره يوم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عشر سنين، قال: لقد عشت حتى لا أعرف مما أدركت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا هذه الصلاة، فقد تغيرت الأمور، واختلف واقع الناس، وبدأ التدهور من ذلك الوقت إلى زماننا هذا يرتفع الحق تارة، وينهزم الباطل أمامه، ثم تأتي دورة أخرى من دورات الباطل.

    مدافعة أهل الحق للباطل ومنطلقهم في الدفاع عنه

    ولكنه في كل دورة للباطل يلقى حزب الله مستعداً للدفاع عن دين الله، يبقى أهل الحق قد تزودوا بزاد الإيمان، وعلموا أن النعم لا تدوم.

    ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب

    فهم مستعدون متهيئون دائماً، كحال ذلك الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها )، وكحال الآخر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الناس منزلاً، رجل أشعث أغبر رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة، وإن كان في الميسرة كان في الميسرة، وإذا استأذن لم يؤذن له، وإذا شفع لم يشفع ).

    هم مستعدون دائماً للدفاع عن هذا الدين الذي بايعوا الله تعالى على الدفاع عنه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]. ومنطلقهم في دفاعهم عن الحق أمران:

    الأمر الأول: قول الله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]، يعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مدبر السموات والأرض، وهو الذي أرسل الرسول بهذا الدين، وليس الدين دين الناس، بل هو دين الله، والله لا يمكن أن يضعه بدار هوان، ولا بد أن ينصره: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وبهذا يعلمون أن المصير للحق دائماً، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليدع الناس على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، فهنا استوعبوا هذا الأمر وانطلقوا منه في الدفاع عن دينهم.

    الأمر الثاني: أنهم أيقنوا أنهم لا شك صائرون إلى الله؛ لأن مصير كل شيءٍ إليه، عرفوا أن الجبن لا يمنع الموت.

    ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

    والموتة واحدة محتمة وكل الناس لاقيها: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، فعلموا أنهم موتى لا محالة، وأن أرواحهم بيد الله لم يكونوا ليتعجلوا عن وقت موتهم، ولم يكونوا ليتأخروا فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    عرفوا أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ومن هنا لم يخشوا في الله لومة لائم، ولم يخافوا من دونه أي ند، بل تحقق لديهم أن الله سبحانه وتعالى مصير كل شيءٍ إليه، وهو سائلهم عما مكنهم فيه، فاستعدوا للقائه وتمثلوا قول موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، فالمهم تحصيل رضوان الله؛ لأن الموت آتٍ لا محالة:

    من لم يمت عبطةً يمت هرماً للموت كأس والمرء ذائقها

    فلا بد أن يموت، فاختاروا أن تكون موتتهم لله، من هنا كانت شجاعتهم وتقدمهم لعلمهم أن هذه الموتة لا تتأخر ولا تتعجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3088791619

    عدد مرات الحفظ

    779069374