إسلام ويب

القواعد الفقهية [3]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من المسائل التي تتعلق بقاعدة الأمور بمقاصدها التعارض بين الأمرين الشرعي والجماعي والذي بعث الله بهما الرسل عليهم الصلاة والسلام لإقامتهما، كما دلت على ذلك النصوص من الأمر بتقوى الله وطاعة الرسل. وقد حصلت حوادث لمثل هذا التعارض في عهد النبوة، ومن ذلك ما حصل للصحابة في يوم بني قريظة واختلافهم في فهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر في ديار بني قريظة. ومنها ما حصل لعبد الله بن أنيس في صلاته للعصر بالإيماء؛ لقصد قتل الطاغية خالد بن سفيان الهذلي الذي كان يعد العدة للقضاء على بيضة الإسلام في المدينة.

    من المسائل المهمة التي تتعلق بقاعدة الأمور بمقاصدها ما يحصل من التعارض بين الأمر الشرعي والأمر الجماعي، فنحن نعلم أن نصرة الدين لا يمكن أن تتم إلا بعمل جماعي، فإذا جاءك أمر جماعي على خلاف أمر شرعي، أو تعارضا لديك، فلا تبدأ بالشرعي بإطلاق، ولا تبدأ بالجماعي بإطلاق، بل تنظر إلى المقصد الشرعي، أيهما يحقق المقصد الذي أرسل الرسول من أجله، فمثلًا: كيف يكون التعارض؟ أصل الأمرين الأمر الشرعي والأمر الجماعي: التزامان لم يأت نبي إلا بهما، فأنتم تقرءون في نذارات كل الأنبياء: (فاتقوا الله وأطيعون)، (فاتقوا الله): هذا الأمر الديني، (وأطيعون): هذا الأمر الجماعي؛ لأن المقصود بطاعته ليس طاعته نبيًّا من الأنبياء، فتلك داخلة في قوله: (فاتقوا الله)، إنما المقصود: طاعته كأمير قائد.

    والتعارض مثاله: ما حصل للمسلمين يوم الأحزاب عندما نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يصلين العصر إلا في ديار بني قريظة)، فهنا تعارض الأمر بالصلاة في قول الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء:103] وهو أمر شرعي، والأمر الجماعي هو قوله: (لا يصلين العصر إلا في ديار بني قريظة)، فاجتهد الصحابة، منهم من أخر صلاة العصر فلم يصلها إلا بعد صلاة العشاء في ديار بني قريظة، ومنهم من صلاها في وقتها بسرعة ولحق ببني قريظة، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الطائفتين كما في الصحيح، ولم ينكر على واحدة منهما، لا على المعجلة ولا على المؤخرة.

    ونظير ذلك: ما حصل لـعبد الله بن أنيس، لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن سفيان الهذلي وهو ببطن عرنة، كان يجمع الجموع يريد أن يغزو المدينة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله، (قال: كيف أعرفه؟ قال: إذا رأيته كأنما رأيت شيطانًا)، شكله كأنه شيطان، فذهب إليه، قال: فأتيته، فقال: ممن الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمعت أنك تجمع لهذا الرجل، فأتيت لأشهد معك، فإن غنمت أرضخت لي، قال: هو على ما سمعت، فأخذ بيدي، فجعل يطوف بي بين الجموع، حتى كادت الشمس تغرب وما صليت العصر، فصليتها إلى غير القبلة أومئ إيماءً وأنا أمشي معه، حتى إذا اشتمل الظلام ضربت رأسه بالسيف، وقلت له:

    أقول له والسيف يعجم رأسه أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد

    إذا حارب المختار أي منافق سبقت إليه باللسان وباليد

    فـعبد الله بن أنيس تعارض عليه أمران: أحدهما: الصلاة في وقتها، هذه صلاة العصر، الصلاة الوسطى، وقد أخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي تفوته صلاة العصر، كأنما وتر أهله وماله)، تعارض معها قتل هذا الجبار الذي يريد غزو المدينة واجتثاث بيضة الإسلام، فنظر أي الأمرين أبلغ تحقيقًا للمقصد الشرعي ولأمر الله، وأرسل الرسل أصلًا لعبادة الله، ما أرسل الرسل إلا لتحقيق عبادة الله في الأرض، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36].

    إذًا: حكمة إرسال الرسل: هي تحقيق العبودية لله في الأرض، وهذه الحكمة يدخل فيها كل تفاصيل العبادة؛ فقتل العدو إنما هو تمكين لدين الله في الأرض وتحقيق عبادته، والصلاة إنما هي لتحقيق عبادة الله في الأرض، وهكذا، فقارن بين الأمرين، لو صلى هو ركعتين صلاة العصر فقتله الكفار واكتشفوه، هل يكون ذلك أبلغ في تحقيق العبادة لله في الأرض أو قتل هذا الكافر، لا شك أن قتل الكافر أبلغ؛ فلذلك قتله، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، وأعطاه جائزة، وهي العصا، فقال فيها: (ما هذه يا رسول الله؟ قال: عصًا تتوكأ عليها يوم القيامة، والمتوكئون قليل )، وبين أنها هي العلامة بينه وبينه، فكانت عنده كلما انتبه بحث عنها، وعندما مرض كانت معه على الفراش، فأوصى أن تجعل معه في كفنه، فجعلت معه في كفنه.

    ونظير هذا اليوم إذا كان الإنسان لم يبق بين يديه لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه إلا ارتكاب محرم، أو ما ظاهره التحريم، مثل العمليات الاستشهادية، قد أوجب الله الجهاد على المسلمين وقتال العدو، وحماية بيضة الدين، والذود عن مقدسات المسلمين، وعن أرواحهم، وأموالهم، وأعراضهم، هذا واجب لا يستطيع أحد إنكار وجوبه، ولكن ليس لدى المسلمين اليوم جيوش قادرة على مقارعة العدو؛ لأن الجيوش أصبحت مثل أملاك الدول، والدول الآن بأيدي قوم لا يعبرون عن ضمير الأمة، ولا يتبنون قضاياها، فأصبح الجهاد مثل غيره من الأمور يخصخص.

    والخصخصة في الاقتصاد، أيضًا أصبحت حتى في الواجبات، فواجبات الأمة أصبحت خصوصية على الشعب ليست على الدول، فأصبح الشعب هو الذي يقوم بهذه الواجبات، ومنها الجهاد في سبيل الله، الشعب لا يستطيع الوقوف في وجه العدو الإسرائيلي مثلًا: ما يستطيع المواجهة، فلم يعد بالإمكان أن يجاهدوا إلا بمثل هذه العمليات، مثل العملية التي سمعتها في هذا الأسبوع، نحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى حرم على الإنسان أن يقتل نفسه، ولكن نعلم أن ذلك الحكم معلل، وأن علته نصية؛ فقد قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[النساء:29-30]، (عدوانًا وظلمًا) ما إعرابهما مفعول لأجله.

    والمفعول لأجله هو العلة،

    ينصب مفعولًا له المصدر إن أبان تعليلًا كجد شكرًا ودن

    فهذا تعليل، هذه هي العلة، العلة هي: (عدوانًا وظلمًا)، ومفهوم ذلك: أن من فعله إيمانًا واحتسابًا فهو عكس الحكم المرتب على هذه تمامًا، الحكم المرتب إنما هو على من فعله عدوانًا وظلمًا، أما من فعله إيمانًا واحتسابًا، فمقتضى الآية أنه على عكس ذلك، فإذًا تعينت هذه وسيلة ولم يوجد سواها، فتعين ارتكابها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088784283

    عدد مرات الحفظ

    779018629