بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم حجاج بيت الله الحرام!
السلام عليكم يا وفد الله -سبحانه وتعالى- وضيوفه من خلقه، السلام عليكم يا من قضيتم مناسككم، وأنتم تستعدون للأوبة المقبولة إن شاء الله تعالى، وتسألون الله الرجوع القادم إلى هذا المكان بشغف.
السلام عليكم وأنتم في وادي منى المبارك الذي كان فيه أبوكم إبراهيم ، وكان فيه بعد ذلك نبيكم المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم، وىىرَّ فيه سبعون نبياً من أنبياء الله.
السلام عليكم في هذا الشهر المبارك، وفي هذا العيد الميمون، الذي هو عيد خامسة الدعائم.
لقد وفق الله سبحانه وتعالى من وفق لأداء شعائر الحج، وأداء هذه المناسك العظيمة، وقد رأيتم مناسككم، وكان أنبياء الله يسألون الله أن يريهم مناسكهم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:127-128].
قد وفق الله سبحانه وتعالى من وفق منكم، فبذل مالاً نفيساً ووقتاً ثميناً، وجزءاً لا بأس به من قوة جسمه ومن راحته، وبذل كذلك الغربة وتحمل أعباء السفر حتى أجاب دعوة الله سبحانه وتعالى، وهي لا شك مناسك محمودة، لكن ماذا بعدها؟
ماذا بعد الحج؟
هذا السؤال ينبغي أن يكون ماثلاً أمامنا جميعاً.
على كل إنسان منا أن يتذكر أنه سائر في طريقه إلى الله، وقد سار في هذه الرحلة المذكرة بالموت والانتقال إلى الدار الآخرة، وشاهد آثار الأنبياء، ورأى البيت العتيق الذي كان يصلي إليه وهو في مغارب الأرض، ورأى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبره، ورأى هذه الأماكن المشرفة التي يقرأ التنويه بها في كتاب الله، فلقد كنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96-97]؛ فوصلتم إلى البيت العتيق ورأيتموه، وكنتم تقرءون في القرآن قول الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3]، فإذا هو أمامكم ترونه عياناً بياناً، وكنتم تقرءون في القرآن كذلك التنويه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فرأيتم الدار والإيمان بأعينكم، كنتم تتمنون الوصول إلى هذه الأماكن فوصلتم إليها وهي لا شك نعمة عظيمة؛ لكنها ليست نهاية المشوار ولا نهاية الطريق؛ فأمامكم درب طويل، لا بد أن تفكروا فيه.
إن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال: ما انتفعت بشيء ما انتفعت بكلمة سمعتها من شيخ كبير أتاني وأنا ...، فقال لي: يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ... فكروا في هذه الكلمة: يا بني إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر ...، وقد قال تعالى: فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد:11-12]، عقبات كبيرة في طريقنا إلى الله سبحانه وتعالى.
فطريق الجنة محفوف بالمكاره، قليل من الناس من حصلت لديه إرادة للتوبة، قليل من الناس من تاب وأناب، قليل من الناس التائبين من صدق في توبته، قليل من التائبين الصادقين من استطاع الاستقامة والاستمرار، قليل من الذين استقاموا من برز ووصل إلى الدرجات العلى، وأنتم جميعاً من ذوي الهمم العالية حيث قطعتم المسافات الشاسعة، وما رضيتم إلا بأقدس بقعة على وجه الكرة الأرضية التي تسكنونها، وما رضيتم إلا باتباع أفضل خلق الله، وأفضل من مشى على هذه الأرض؛ فلذلك أصبحتم من ذوي الهمم العالية، فلا بد ألا ترضوا باليسير.
لا بد من الآن أن نحدث توبة نصوحة تجب ما قبلها، وهذه التوبة أمرنا الله بها جميعاً رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً؛ فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، أي تبقوا في الفلاح، شرط فيها الله سبحانه وتعالى أن تكون نصوحاً، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]، فما معنى التوبة النصوح؟
إن التوبة معناها: الندم على ما فرط فيه الإنسان في جنب الله، والسعي للخروج مما تلبس به فيما لا يرضي الله، والعزيمة المؤكدة ألا يعود إلى ذلك الذي عصى الله به مدة حياته، هذا أمر كبير وشاق، ولكنه سهل على من يسره الله عليه؛ فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحة صادقة، تعالوا بنا في هذه الليلة العظيمة التي هي آخر ليالي الحج، ويمكن أن تكون آخر ليالي العمر، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الذين عاشوا إلى البارحة قد ماتوا في هذا اليوم، وأصبحوا من أهل الآخرة: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، وقدموا إلى ما قدموا، وفي كل يوم يذهب أضعافهم بعثاً إلى الله جل جلاله، فتعالوا بنا نحدث توبة نصوحاً، ولا بد أن يتذكر كل إنسان منا أنه فرط كثيراً في جنب الله، فرط في تعلم ما أمر الله بتعلمه، فرط في العمل بما تعلمه؛ وهناك أوقات كثيرة أنعم الله بها علينا ذهبت سدىً في غير طائل، وستعاد وترد: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]؛ فسنجدها جميعاً بين أيدينا، تعالوا بنا نمحو تلك الآثار السيئة التي علقت بالقلوب، وتلك الأدران الخبيثة التي لبست على البصائر، وتلك العيوب الشنيعة التي أحدثت ظلمة في الوجوه وقسوة في القلوب وجموداً في الدموع؛ فكل ذلك من آثار المعصية، لا أحد منا إلا وهو يتذكر أنه مقصر مفرط، ولا أحد منا إلا وهو يعلم أن عليه أن ينافس العابدين الزاهدين الذين يشغلون أوقاتهم بطاعة الله وعبادته.
إنكم جميعاً ترغبون بالقرب من الله سبحانه وتعالى، وترغبون بجوار محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا ترضون أن يكون أحد أدنى منكم باباً من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة يوم القيامة؛ لكن ذلك لا ينال إلا بالعمل والتضحية، والأمر ميسور والمجال مفتوح أمام المتسابقين الآن؛ فقد ناداكم ربكم جل جلاله إلى هذا السباق الذي لا تغني فيه الوساطة ولا الرشوة، ولا النسب ولا الحسب ولا الشهادة، لا يغني فيه إلا التقوى، قال الله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136]، وناداكم جل جلاله بقوله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وبقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وبقوله: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21].
فالآن وقت السباق، وتذكروا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تشد فيه الأحزمة، وهو الوقت الذي تتأهب فيه النفوس لمرضاة الله، فمن غفر له في حجته فقد فتح صفحةً جديدةً في التعامل مع الله جل جلاله؛ فلتبدأها يا عبد الله بخير، حاول أن تكون صفحة جديدة خيراً من الصفحة الماضية، حاول أن يكون عمرك الجديد الذي بدأته بعد رجعة عمراً مفيداً منجياً لك من عذاب الله، تذكروا قول الله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]، تذكروا أن الذين ينجون يؤتون كتبهم بأيمانهم تلقاء وجوههم، ويفوزون فوزاً عظيماً يفرحون به فرحاً شديداً؛ فقد قال الله تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:103-105].
استعدوا للتوبة النصوح؛ وليتذكر كل إنسان منا أنه أودع هذه الجوارح، وأودع هذه النفس، وأودع هذا العقل السليم، وأودع هذا البدن الصحيح المستقيم؛ فكلها نعم من عند الله وقد أنفقها في غير ما خلقت من أجله، تذكروا أن الأرض تضج إلى الله من معصية أهلها فوقها، وأنها هينة على الله بكل ما حوت إذا عصاه أهلها، ما أهون الأرض وأهلها جميعاً على الله إذا عصوه، تذكروا ما أخرج مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله قيوم لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار )، وفي رواية: ( قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور، وحجاب نار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه.
إن الله جل جلاله أهل لأن يهاب، وأهل لأن يرجى له الوقار، وقد قال نوح لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً [نوح:13]، فالله أهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يرجى، وأهل لأن يتذكر الإنسان عرضه عليه ووقوفه بين يديه.
إن علينا يا إخواني أن نعقد العزم ونحن هنا في هذا المكان المقدس الطاهر بالنية الصادقة ألا نعود إلى معصية الله ما عشنا.
وعلينا أن نحاول أن نتلمس آثار النفاق وصفاته فينا، وأن نتخلص منها ما استطعنا؛ فالنفاق باقٍ في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهو أخفى من دبيب النمل في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالنفاق ينقسم إلى قسمين:
إلى نفاق عقدي، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفر، وإلى نفاق عملي: وهو أن يخلف الإنسان الله تعالى ما عاهده عليه، فقد عاهدكم الله عهداً مؤكداً، أكده في التوراة والإنجيل والقرآن، وأنتم تقرءونه جميعاً؛ لكن يا رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، ويا رب قارئ له وهو لا يظن أنه معني به، ويا رب قارئ له وهو لا يرفع به رأساً ولا يهتم به، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، والناس في هذه البيعة ينقسمون إلى قسمين: إلى صادقين ومنافقين؛ فالصادقون: هم الذين وفوا لله بما عاهدوه عليه، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، والمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
إن كثيراً منا تمر به الأوقات التي يتعظ فيها، ويلين قلبه ويريد الخروج من معصيته، ولكن هناك الكثير ممن لا يتوب إلى الله، بل يجد نفسه ضعيفاً أمام الشهوة أو ضعيفاً أمام الشبهة، أو يأتي من الأوقات ما ينسى به عزائمه وعهوده، فيتراجع عما عقده على نفسه من العهود وقد أكدها تأكيداً بليغاً.
إن كثيراً من الشباب من ينتظر اللحظة التي يكون فيها من الصالحين الكبار، ومن أولياء الله المخلصين الصادقين، وكثير هم أولئك الذين كانوا يقولون: إذا بلغت عشرين سنة فسأكون من أولياء الله الكبار، ثم يأتي التسويف وطول الأمل فيقول: إذا بلغت خمساً وعشرين، ثم يأتي التسويف والأمل فيقول: إذا بلغت ثلاثين، ثم يأتي الموت فيقطع ذلك، وقد قال الحكيم:
ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا
يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكة وسحق مهوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
إنه حق لا محالة، وإننا نعلم أننا سائرون في ذلك الطريق، ورحم الله امرأً تذكر في نهاية رحلته نهايتها الحقيقية، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحج قبل موته بمدة يسيرة؛ فلما خرج من مكة وقف على جبل في شمالها يسمى ضجنان، فقال: لا إله إلا الله وحده، كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، وكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه، ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان؛ إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تجد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بدّ من ورده يوماً كما وردوا
فالذي أتى عمر بن الخطاب وأخذه أليس جديراً بنا أن نخافه؟ فقد قال زياد الأعجم في مرثيته للمغيرة بن المهلب بن أبي صفرة :
لله در منية فاتت به فلقد نراه يرد غرب الجامح
فنحن جميعاً ينتظرنا هذا الموت، ونحن على موعد مجهول معه، لكننا نعلم أنه آتٍ لا محالة، فعلينا أن نصدق في توبتنا، وأن نستغل فرصتنا بالرجوع من حجتنا.
وعلينا أن نكون من الصالحين، وقد يتساءل بعض الناس فيقول: كيف نكون من الصالحين؟ لا بد أن يرسم كل واحد منا خطة لنفسه يصل بها إلى رضوان الله عز وجل، ولا بد أن نجعل رضوان الله نصب أعيننا، ولا بد أن نجعله أعظم اهتماماتنا، وأن نحرص عليه؛ فإذا رضي الله عنكم فوالله لا يضركم ما فاتكم من شأن هذه الدنيا، وإذا لم يرضَ الله عنكم فوالله لا ينفعكم ما أحرزتم منها وحصلتم عليه.
فرضوان الله لا يعوضه شيء، ولا يمكن أن يسد شيء مسده، وإذا فقد فتعويضه مستحيل؛ فلذلك لا بد يا إخواني من أن نحرص على تحقيق رضوان الله، والله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، ومن صدق معه وأتاه مطمئناً راجياً راغباً، فإن الله سيرضى عنه؛ ولذلك قال فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ).
سبحان ربنا! ما أكرمه وأحلمه! إنه يناديكم جميعاً نداءً كريماً؛ فيقول جل جلاله وهو الغني عنكم وعما كسبتم: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، فقولوا جميعاً: لبيك ربنا وسعديك، لأنه نادانا هذا النداء الكريم، وهو أهل لأن يجاب نداؤه، ثم دعانا إليه فقال: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:54-56]، فهذا الموقف عجيب جداً، وعظنا الله به، إذا حشر الناس وعرضوا على الله جل جلاله فسيندم جميعهم، فالمحسن يندم على ألا يكون زاد، والمسيء يندم على هضم إساءته: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ [الزمر:56].
أنتم الآن تعرفون كبرياء الله وعظمة الله وجلاله، لكن لا يدرك الإنسان كنه ذلك وحقيقته إلا عند العرض على الله جل جلاله، عندما ( يقبض الجبار السموات السبع والأرضين السبع بيمينه فيهزهن ويقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ) هذا الموقف يدرك به الناس جميعاً عظمة الباري وجلاله جل جلاله، فإذا حصل ذلك تنبه الإنسان إلى ما فرط في جنب الله؛ فيقول: ما كان ينبغي أن أعصي من هذا سلطانه، ومن هذا جبروته وكبرياؤه، ما كان ينبغي أن أفرط في العلاقة به، ما كان ينبغي أن أقصر في طاعته، عندما يرى الملائكة الضخام الجسام، وهم سجد لله جل جلاله وركّع، يخافونه خوفاً شديداً، إذا تكلم الجبار جل جلاله ملئت قلوبهم بالرعب؛ فإذا فزع عن قلوبهم: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] جل جلاله.
إذا رأى الإنسان يوم القيامة جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح؛ ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقد وصفه الله بهذه الأوصاف المعتبرة في كتابه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5-6] (ذو مرة) أي: ذو قوة، و(شديد القوى) أي: ذو قوى مع ذلك، قال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؛ فكل هذا إذا رآه الإنسان أدرك عظمة الباري جل جلاله وكبرياءه؛ فإذا كان جبريل هو عبد واحد من عباده، وهو يطيع كل أوامره وما عصى له أمراً قط، ولا خافه في أي مخالفة، ولا خطر على قلبه أي معصية، ولا حصلت منه نظرة ولا سماع ولا تفكير بأن يخالف أمر الله؛ بل كما قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وهم كذلك يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]؛ فكيف بنا نحن وأجسامنا وأجسادنا ضعيفة، لا نقوى على عقاب الله جل جلاله، إذا عرفنا أن ملائكة الله الكرام يعيشون الطاعة في كل الليالي والأيام لا يفترون، كما ورد في الحديث: ( أطت السماء وحق لها أن تئط، فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، إذا أدركنا هذا، وعرفنا أن السموات السبع وكل سماء سمكها خمسمائة عام للحجر الجلد الضخم الهاوي، هذا عرض السماء الواحدة فقط خمسمائة عام للحجر الهاوي، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، والسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي كدراهم نثرتها في ترس، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والله جل جلاله هو الكبير سبحانه وتعالى، الله أكبر! لا إله إلا الله حقاً حقاً تعبداً ورقاً.
إذا عرفنا جلال الله جل جلاله فلا بد أن نتعظ كيف يعصيه العاصي، وكيف يتجاسر على مخالفة أمره، جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! إن نفسي لا تطاوعني على ترك المعاصي، فعظني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج إليه من كل نعمة أنعم بها عليك وردها عليه ثم اعصه، فقال: كيف أخرج من نعمته وأنا من نعمته، خلقي من نعمته؟ قال: إنك للئيم إذا أخذت نعمته ورزقه فاستعنت به على معصيته، فأنت ما عرفت له نعمته عليك. قال: زدني يرحمك الله قال: إذا أردت أن تعصي الله، فاخرج من أرضه وسمائه ثم ودعه، فإذا خرجت فاعصه، قال: إلى أين أخرج يرحمك الله؟! كيف أخرج من أرضه وسمائه، قال: إنك لجريء إذا بارزته بالمعصية وأنت ضيف عنده في بيته وتحت سلطانه، قال: زدني يرحمك الله، قال: إذا أردت أن تعصي الله فابحث عن مكان لا يراك فيه فاعصه، فقال: كيف أجده ولا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما فيه وعره، ولا بحر ما في قعره.. يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، كيف أختفي من علمه؟! قال: كيف إذاً تبارزه بالمعصية وهو يراك ولا يشغله عنك شاغل؟ قال تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31]، فنظره إليك كنظره إلى أي فرد من أفراد عباده، ونظره إلى الآخرين كنظره إلى الأولين جل جلاله، يعلم ما في قلوب الجميع من عباده، لا تختلط عليه لغاتهم ولا تفكيرهم، ولا ما يدور في بطونهم من أرزاقهم، دبر شئون هذا العالم كلها، ولم يأخذ ذلك شيئاً من علمه ولا من قدرته، ولا من إرادته، لم يشغله عن أي شيء جل جلاله، إنها العظمة والجلال والكمال الذي لا حصر له ولا نهاية، إن الجبار جل جلاله أهل لأن يطاع، وأهل لأن يخاف منه، وأهل لأن يلتمس رضاه.
حاول يا أخي أن تملأ قلبك بمحبته وخشيته، وإذا حصل لك ذلك فذلك مقتضٍ منك للعمل بما تعلمت، فنحن نعلم أن كثيراً من عباد الله بما فيهم عوام المسلمين يعرفون أكثر المحرمات وأكثر الواجبات؛ فلو سألت أي إنسان في الشارع، عن حكم أكل الربا سيقول: حرام، وإذا سألته عن حكم أكل الغيبة يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم النظر إلى الأجنبية، يقول: حرام، وإذا سألته عن حكم الكذب؟ يقول: حرام، ولكن يمارس الناس ذلك، وإذا سألت أي امرأة عن حكم الاختلاط بالأجانب، ومماستهم، تقول: حرام، لكنها تفعل ذلك؛ لأن هذه المعلومات حبست في العقول ولن تصل إلى العاطفة، ونحن نحتاج الآن في رجوعنا من رحلتنا الميمونة المباركة أن نقوم بعملية نسخ، أنتم تعرفون أن الهاتف الجوال، له ذاكرتان، ذاكرة للشريحة وذاكرة للجهاز، ولديه قابلة لنسخ المعلومات المسجلة على إحدى الذاكرتين يمكن أن تنسخ إلى الأخرى، كذلك الإنسان له ذاكرتان: ذاكرة العقل التي تختزن معلوماته، وذاكرة العاطفة التي هي محل المحبة والكراهة؛ فعلى الإنسان إذا كان صادقاً أن يحول قناعاته إلى عاطفته؛ فما كان مأموراً به أحبه حباً شديداً، وتعلق به تعلقاً بالغاً، وما كان منهياً عنه كرهه كراهة شديدة، فيفر منه كما يفر من الأسد، إذا حصل ذلك فسيكون فعلاً من الطائعين، وسيكون من عباد الله المتقين، لن ينجو من مكايد الشيطان، ولم ينج من مكايد النفس الأمارة بالسوء؛ لكن يبقى كل ذلك بمثابة الطيف الذي يرى في المنام، أو الطائف الذي يأتي من الهواء؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وفي القراءة السبعية الأخرى: (إذا مسهم طيْف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، فالطيف: ما يُرى في المنام، والطائف: ما يأتي من نسيم الهواء، وهو الشيء الخفيف اليسير، ثم يتوب المسلم ويبادر ويندم؛ بل ربما كان ما يقع فيه من الزلل داعياً له إلى الازدياد من الخير، فكثير من عباد الله ...
... على الله.
وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، ورفع في الدارين منزلتها، عندما خرجت إلى غزوة الجمل، ندمت ندماً شديداً، فحدثت لديها توبة ذاقت طعمها، فأعتقت عشرات الأرقاء من أجل تكفير هذا الفعل وحجت عدداً من المرات، واعتمرت مرات كثيرة من أجل تكفير ذلك، فأهل الإيمان والصدق وإحسان المعاملة مع الله، إذا فرط أحدهم -ولو كان التفريط يسيراً- دعاه ذلك إلى الإكثار من الطاعة؛ لأنه لا يعلم هل تقبل له طاعة أم لا؟ وكان عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك يقول: لو علمت أن الله قد قبل مني سجدة واحدة لكان ذلك أحب إلي من الدنيا وما فيها، سجدة واحدة، وهذا ما لا يخافه كثير منا؛ فالغافلون عن الله يستشعرون كثيراً مما قدموه من الطاعات والعبادات فيستعظمونه ويعجبون به وهذا غرور، تذكروا قول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39].
وقد ( سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، قالت: أهو الذي يسرق ويزني وهو يخاف الله؟ قال: لا؛ بل هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف ألا يتقبل الله منه )، قال تعالى عنهم: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:61].
إن الصدق في التعامل مع الله تعالى يقتضي من الإنسان دائماً اتهام نفسه وهواه، والحرص على الازدياد من الخير ومصاحبة أهل الخير دائماً؛ فهذه الصحبة عون للإنسان على الامتثال والاستقامة.
فالصالحون الذين يدلون على الله ويهدون إلى طريقه صحبتهم ولو للحظة واحدة يمكن أن تثبت الإنسان وتحول بينه وبين هاوية من المعاصي كان مقبلاً عليها، والداعون إلى الله المخلصون الصادقون، تسمع من أحدهم كلمة فتظن أنه يستشعر ما في قلبك وهو لا يعلمه ولا علم بالغيب، تظن أنه يستشعر ما تفكر فيه وأنه ينظر بنور الله، وهكذا..
فلذلك علينا أن نحرص على صحبة أولئك النفر وأن نشد الأيدي عليهم إذا وجدناهم، وأنتم هنا قد امتن الله عليكم بالصحبة في هذه الحجة، فعرفتم كثيراً ممن لم تكونوا تعرفونهم من إخوانكم ومن أبناء جلدتكم، فاحرصوا على الحفاظ على هذه الصحبة الصالحة، وتذكروا قول الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
إن الصحبة الصالحة جعلت كلب أصحاب الكهف يذكر معهم في القرآن، مع أنه كلب، وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال: أنت مع من أحببت )، وقد ( جاء رجل فيمن قبلنا إلى راهب كان أعلم أهل وقته، فقال: هل لمن قتل تسعاً وتسعين نفساً من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به المائة، فسأل عن أعلم أهل الأرض بعده فدل على راهب آخر، فأتاه فقال: هل لمن قتل مائة نفس من توبة؟ قال: وما يحول بينك وبين أن تتوب إلى الله فيتوب عليك، قال: دلني، فقال: اذهب إلى قرية كذا فإن فيها قوماً يعبدون الله فكن معهم، فذهب إلى تلك القرية خارجاً من ذنبه تائباً إلى ربه، فلما كان في الطريق في وسطها أتاه ملك الموت فقبض روحه، فنأى بصدره إلى تلك القرية محبة لها، ولم يعمل عملاً صالحاً سوى ذلك، فجاء ملائكة اليمين وملائكة الشمال، ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فاختلفوا لمن هو، من يأخذه منهم؟ ) وأنتم تعلمون أن الملائكة هم الذين يستلمون روح الإنسان عند موته، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (
وإن كانت نفسه خبيثة جلس عند رأسه فناداه، فقال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق في بدنه فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، -تتقطع فلا تمكث في كفه طرفة عين- حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم: بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:93-94]، فينتزعونها فيجعلونها في كفن من أكفان النار، ويجعلون عليها من قطران النار، يرتفعون بها إلى سماء الدنيا، فيستأذنون فلا يؤذن لهم، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة: لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41] ).
فأولئك الملائكة إما أن يكونوا ملائكة رحمة، وإما أن يكونوا ملائكة عذاب، بحسب النفس، فالنفس الخبيثة يأخذها ملائكة العذاب، والنفس الطيبة يأخذها ملائكة الرحمة، فهذا الرجل لما مات ( اختصم فيه الملائكة؛ فأرسل الله ملكاً يحكم بينهم، فقال: اذرعوا ما بين قرية المعصية وقرية التوبة، فإلى أيهما كان أقرب فليأخذه أصحابها، فذرعوا ما بين القريتين فإذا هو أقرب إلى قرية التوبة، بقدر ذراع، وهو القدر الذي باعد فيه بصدره، فأخذته ملائكة الرحمة ).
وهذه من علامات الخير أن يتوب الإنسان في آخر عمره توبة صادقة فيخرج من ذنبه، حتى من المكان الذي عصى الله به، ويبحث عن الصحبة الصالحة لينالها.
وتذكروا أن سلمان الفارسي رضي الله عنه بحث عن الحجة الصالحة منذ شبابه وصباه حتى بلغ مائة وعشرين سنة وهو يبحث عن الصحبة الصالحة حتى هداه الله وقيضه لأن يكون من أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصته، صحب الرهبان وصحب اليهود والنصارى وأنواع الديانات، ورأى فيهم الغاش والصادق، ولكن لم تزل أقدار الله تسوقه وتقوده حتى أوصلته إلى المدينة، وأوصلته عبداً مملوكاً ليهود، ثم بعد هذا اختاره الله صاحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإماماً من أئمة هذه الأمة إلى يوم الدين.
إن الصحبة الصالحة ذات مزية عظيمة على الإنسان؛ فكثير من أولئك الذين يصحبون الإنسان في هذه الحياة الدنيا هم أعداؤه يوم القيامة: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
تذكروا كذلك بعد رجوعكم مسئولياتكم عن أهليكم وذويكم، إنهم أمانة الله لديكم، كل إنسان منكم له زوج أو ولد أو بنت ... أمانة إلى الله، فهو مسئول عنها، تذكروا أنهم أول من يخاصمكم بين يدي الله يوم القيامة، يقولون: يا رب! وليت علينا عبدك هذا فرآنا نقصر في الطاعة فلم يأمرنا، ورآنا نفعل المعصية فلم ينهنا.
تذكروا قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لو أن أسرة من الأسر ذات شرف ومكانة اعتقل منها ولد أو بنت بسبب دين عليه، أليست ستفديه وتدفع الدين عنه لتخرجه من معتقله؟ أليست القبيلة الوافرة إذا اعتقل منها فرد بسبب دين ستدفع عنه دينه وتخرجه من سجنه؟ إن الدين الكبير هو دين الله جل جلاله، وإن السجن الحقيقي هو معصية الله؛ فتعالوا بنا ننقذ من جعله الله تحت أيدينا من أهلينا، ننقذهم من عذاب الله، لا يرضى أحد منا لولده ولا ابنته ولا زوجه أن يبيت تحت السياط يضرب ويعذب بعذاب الدنيا المنقطع الزائل، فكيف يرضى له بعذاب الآخرة الدائم الباقي الخالد؟
إن كل إنسان منا يشفق على ابن عمه أو أخيه أو جاره أو ابن خاله أو ابنة عمته أو ابنة خالته إذا أصيبت بأي مرض، أو شاكتها شوكة؛ يشفق عليها شفقة عظيمة، ويبذل الغالي والنفيس من أجل علاجها إذا مرضت، ومن أجل عافيتها إذا أصيبت، فكيف يرضى لها بعذاب الله يوم القيامة؟ كيف يرضى لها بالخزي والعار، وهو لا يرضى لها بأية فضيحة في الحياة الدنيا؟ إن الخزي والعار والشنار هو سخط الله جل جلاله وغضبه.
تذكروا كذلك في رجعتكم مسئوليتكم عن هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدتم أنه الحق، ورضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وامتن الله عليكم بإكمال الشعائر، فأكملتم أركان الإسلام.
بقي أن تتحملوا أعباءه ومسئولياته، وهي أمانة جسيمة عظيمة، تسألون عنها بين يدي الله: لا تزول قدما عبد منكم حتى يجيب عن سؤال، لا يستطيع أحد منكم أن يقول: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فقد شهدتم له بالرسالة ورضيتم به رسولاً وأتيتم إلى قبره محبة له، وأتيتم إلى البيت العتيق اتباعاً لأثره، وهو أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم وأهليكم؛ ولذلك هجرتم أوطانكم من أجله، إذا كان الحال كذلك، فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أهلٌ لأن تنصروه، وأن تؤيدوه، أهل لأن تتحملوا أعباء دعوته ورسالته، أهل لأن تبذلوا أنفسكم فيما بذل فيه نفسه، إذا وقفت في المواجهة تقرءون على الأعمدة أبياتاً مكتوبة هي:
يا خير من دُفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكمُ
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ
قطعاً نفسي الفداء له صلى الله عليه وسلم، ونفوسكم جميعاً له فداء، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركاً براً حنيفاً أمين الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
فتعالوا بنا نفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسنا، فإن الحرب القائمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست حرباً على جسمه وشخصه؛ لأنه أكمل الناس صورة، قال: ( أوتي يوسف شطر الحسن، وأوتيت الحسن كله )، وليست على أساس نسب ولا حسب، فقد بعثه الله من خير أسرة على وجه الأرض، ومن خير قبيلة، ومن خير عشيرة، وليست على أساس الخلق، فهو أكمل الثقلين خلقاً، وقد قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقال هو بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم للأعرابي يوم أوطاس لما ألجئوه إلى سمرة فتعلق بها رداؤه: ( إليكم عني فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لم تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً ).
ما قاتله قريش ولا غيرهم على أساس أنه منعهم شيئاً، فما سئل شيئاً قط فقال: لا، إن كان عنده أعطى وإلا رد بميسور من القول، ما قاتلوه على أساس أنه لم يفِ لهم بوعد، فقد كانوا يلقبونه المأمون، وكان ذلك معروفاً في جزيرة العرب كلها، حتى كان كعب بن زهير وهو من بني مزينة، ليس من قريش ولا من جيرانه؛ بل هو من مزينة من بني قيس ... يقول لأخيه بجير :
سقاك بها المأمون كأساً روية فأنهلك المأمون منها وعلكا
فكانوا يلقبونه بالمأمون.
فإذا كان الحال كذلك فالحرب قائمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذُ بعث، وكل يوم من أيام الدنيا هو يوم بدر ويوم أحد، أو يوم حنين أو يوم الأحزاب أو يوم خيبر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين )، كل يوم من أيام الدنيا هو يوم معركة من معارك الإسلام، وهو يوم من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن تختلف الأيام باختلاف رجالها، يوم بدر ضحى فيه أولئك النفر الأبطال الكرام، ولا زلتم تذكرون عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف رضي الله عنه، وهو بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يجود بنفسه وقد بترت ساقه، وهو يقول: يا رسول الله! وددت لو أن أبا طالب حي حتى يعلم أنا أحق منه بقوله:
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه وساعٍ ليرقى في حراء ونازل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
وحيث ينيخ الأشعرون رحالهم بمفضى السيول من إساف ونائل
كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
ولا زلتم تتذكرون في يوم أحد أنس بن النضر رضي الله عنه، وهو يقول لـسعد بن معاذ : يا أبا عمرو ! والله الذي لا إله غيره إني لأشم ريح الجنة دون هذا الجبل، وهو يقول للناس لما هزموا عندما صاح المنادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، صاح فيهم أنس بن النضر قائلاً: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، فدافعوا عن دينكم.
ولا زلتم تتذكرون كذلك يوم الأحزاب سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الرحمن، وقد أصيب بسهم في أكحله، وهو يرفع يديه إلى الله ويسأل الله ألا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة، وهم أحلافه الذين نقضوا العهد، ولا زلتم تتذكرون في كل الغزوات مشاهد عظيمة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما زلتم تتذكرون في بئر معونة قول سليم بن ملحان رضي الله عنه: فزت ورب الكعبة، وما زلتم تتذكرون ما فعل عامر بن فهيرة ببئر معونة، عندما نضح الدم على وجهه.
وما زلتم تتذكرون كذلك ما فعل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح يوم بعث الرجيع، وما زلتم تتذكرون ما فعلته نسيبة رضي الله عنها يوم أحد وهي تقاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بسيفين، وما زال النساء يتذكرن أم سليم بنت ملحان يوم حنين وبيدها خنجر، وهي حامل مقرب يمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: ( يا رميصاء ! ما تفعلين بالخنجر؟ فتقول: إذا اقترب إلي مشرك بعجته به )، وما زلتم تتذكرون صفية بنت عبد المطلب أم الزبير بن العوام عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقتل اليهودي بعمودها يوم الأحزاب، وقد جاء يتجسس على المسلمين، وما زلتم تتذكرون المشاهد بعد ذلك، فبعد أن توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ونقله إلى الرفيق الأعلى هل تراجع أصحابه عن هذا الدين؛ كلا؛ بل قام أبو بكر الصديق فجرد سيفه من غمده، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي!
قولوها صادقين: وقولوا بما قال به الصديق ، لم تمضِ سنتان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تهاوت عروش كسرى وقيصر، وعاد العرب الذين ارتدوا جميعاً إلى دين الله، وخرجت فئام المجاهدين في كل أنحاء الأرض، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال كما أخرج البخاري في الصحيحين: ( يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم ).
واصلوا المسيرة عباد الله وتحملوا الأعباء، وتذكروا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه يوم أحد والمسلمون في نكبتهم وهو يخاطب بني عبد الدار:
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغور النجوم
من حبيب أصاب قلبك منه سقم فهو داخل مكتوم
لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم
رب حلم أضاعه عدم المال وجهل غطى عليه النعيم
لا تسبني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم
ولي البأس منكم إذ رحلتم عصبة من بني قصي صميم
تسعة تحمل اللواء وطارت في رعاع من القنا مخزوم
لم تطق حمله العواتق منكم إنما يحمل اللواء النجوم
وتذكروا كذلك قول ضرار بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:
يا نبي الهدى إليك لجا حي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الـــ أرض وعاداهم إله السماء
فالتقت حلقة البطان على القوم ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغيظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت عنه هند بالسوأة السوءآء
إذ ينادى بالذل حي قريش وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخزرج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأسد لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأمر سكوتاً كالحية الصماء
تذكروا أن آباءكم من المهاجرين والأنصار كانوا يستبقون للتضحية في سبيل الله، ويتنافسون على ذلك.
تذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة أحد وهو جريح بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم استقبله أهل المدينة، فكان أصحابه يحولون بينه وبين النساء والأطفال؛ لئلا يزعجوه بكثرة الكلام والسلام، فجاءت امرأة فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم ألا يحول بينه وبينها فقد قتل بين يديه في ذلك اليوم ثمانية من رجالها، وهم زوجها وولداها، وأبوها وأخواها، وعمها وعم أبيها، وهي فاطمة بنت يزيد بن السكن بن وقش الأنصاري ، ( جاءت فلما نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت في وجهه فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! كل مصيبة بعد رؤيتك جلل )؛ فكل المصائب بعد رؤيته صلى الله عليه وسلم لا تساوي شيئاً.
إن تضحية آبائكم من المهاجرين والأنصار في سبيل نصرة هذا الرسول الكريم، وفي سبيل هذا الدين كانت جسيمة عظيمة، بذلوا الغالي والنفيس، ورحم الله الشيخ غالي البصادي إذ يقول في وصف المدينة وما فيها من الغزوات في قصيدته التي مطلعها:
بطيبة أطلال عفين دوارس تلايلها بيض وسود حنادس
يقول فيها في ذكر غزوة أحد:
وقامت بنصر الله أنصار دينه وبيعت من الله النفوس النفائس
تذكروا التضحيات التي بذلوها في سبيل العلم جمعاً وتعليماً ونشراً وتأليفاً، وهي التي أوصلتكم إلى مكانكم الذي أنتم فيه، آباؤكم جمهورهم الأغلب هم من المهاجرين أو من الأنصار، من الفاتحين الذين أتوا إلى تلك البلاد وليسوا من أهلها، إنما جاءوا يحملون هذا الدين، قائدهم عقبة بن نافع الفهري رضي الله عنه، جاء حتى وصل إلى ضفاف المحيط الأطلسي بحر الظلمات، فغرز فيه رمحه، فعاهد الله لو كان يعلم أن وراء هذا البحر ذو نفس منفوسة لخاض البحر إليه حتى يبلغه هذه الدعوة أو يهلك دونه.
تذكروا من آبائكم: طارق بن زياد الذي قطع البحر إلى أوروبا، في عدد يسير من الفاتحين معه؛ فلما قطعوا أحرق السفن، وقال: إن العدو أمامكم والبحر وراءكم فاختاروا إحدى الميتتين.
ومن آبائكم يوسف بن تاشفين اللبتولي الذي قاد معركة الزلاقة في يوم الجمعة، وقد ثارت الخيل في وجهه وهو يخطب فحمل عليها بالسيف وما زال يقاتل حتى قتل مائة وعشرين ألفاً من الإفرنج، وتأخر احتلال الأندلس وسقوطها خمسمائة عام بسبب تلك المعركة.
إن التضحيات الجسيمة التي ذيلها أسلافكم في سبيل نصرة هذا الدين، وما قدموه من الغالي والنفيس في سبيل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي حوافز تدعوكم لاتباعهم والاقتداء بهم؛ فما فائدة انتسابكم إليهم إذا كنتم تخالفون هديهم وسلوكهم.
تذكروا قول الشيخ ... رحمة الله عليه:
بلاد العامري لنا اصطفاها فبارك ربه فيها وفينا
نزور بها مقابر دارسات على قدم العهود مخلدينا
لهم همم علت فوق الثريا بها شادوا لنا حرماً أمينا
وعابونا بها فمتى نزلنا سوى زحل عددنا عابثينا
هي الشرف الرفيع لنا لو انا على الآثار منهم مقتدونا
نعم إن تضحياتهم هي الشرف الرفيع لنا لو أنا على الآثار منهم مقتدون، لكن المشكلة أنهم عابونا بها، فصارت عيباً إذا لم نلحق بهم.
وعابونا بها فمتى نزلنا سوى زحل عبدنا عابثينا
إن أسلافكم وآباءكم قد حملوا هذا الدين حتى أوصلوه إليكم نقياً طاهراً، وبذلوا في سبيله الغالي والنفيس، وأوصلوه إليكم حتى سعدتم به وأكملت اليوم أركانه، فعليكم أن تحملوه بقوة، وأن تضحوا من أجله.
إن رجلاً مضى من عمره كثير من الأوقات في الصفق بالأسواق أو بجمع المال أو بالاستماع إلى ما ينتهي إليه من أخبار الناس، أو بالتمتع بالملذات والشهوات، ثم سافر برحلته هذه المقدسة، فتاب وأناب فرجع؛ جدير به أن يكون له مواقف مشرفة في نصرة الله ورسوله، جدير به أن يقول الحق وألا يخاف في الله لومة لائم، جديرٌ به أن يتمعر وجهه يوماً واحداً في ذات الله جل جلاله، إن أي واحدٍ منكم لو اعتدي على أرضه أو بيته أو ماله ستثور ثائرته، وسينتصر لنفسه، أليس هذا الدين أولى بالانتصار من بيت الإنسان وماله.
إن كياننا الحقيقي هو هذا الدين الذي ننتسب إليه، ولا فائدة فينا بعده، فإن الدين إذا رفع، ( تبقى في الأرض حفالة أو حثالة كحثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله )، كما في صحيح البخاري .
فلذلك علينا أن نعلم أن بقية الدين الباقية هي أهل لأن يضحى في سبيلها.
إن كثيراً منا تعودوا على المجاملات، فهم يرون المنكر لكنهم يستحيون من صاحبه ولا يغيرونه، يرون كثيراً من الأمور التي يعلمون أنها لا ترضي الله ومع ذلك لا يغيرونها مجاملة لأصحابها، وكثير منا يعرفون الحق فلا يقومون لله به، والبيعة في أعناقنا جميعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، علينا أن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
فنحن جميعاً قد كتب الله علينا موتة واحدة لا بد أن نموتها، كما قال الشاعر:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
وكما قال آخر:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
.. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، فما الذي تخافه يا أخي، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فقل الحق ولو على نفسك، واجتهد في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أدى ذلك إلى أذاك، فإن طريق الأنبياء لم تنج من المكاره، ولا تنجو منها، قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم يأتِ أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ).
فلذلك كل النكبات التي تصيبكم، وكل العقبات التي تخشونها على طريق الحق إنما هي نكبات مباركة، أصابت من هو خير منكم، قد رمي إبراهيم خليل الله في النار، ( فعرض له جبريل دونها فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم )، وأوذي موسى كل أنواع الأذى حتى قال لقومه: يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ [الصف:5]، وأوذي عيسى بن مريم حتى هم اليهود بقتله وصلبه، فرفعه الله إليه، وأوذي محمد صلى الله عليه وسلم بأنواع الأذى، فقد جاء عقبة بن أبي معيط ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لربه عند الركن اليماني فوضع قدمه على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووطئه، وجاء أبو جهل عمرو بن هشام بسلا ناقة فوضعه بين كتفيه وهو ساجد لربه، وجاءت أم جميل بنت حرب بأنواع القذر والشوك فكانت تضعه على بابه، فإذا فتح الباب وأراد الخروج في الظلام إذا الشوك والقذر على بابه، وآذاه الناس بعد ذلك بأنواع الأذى، ( جاءه رجل وهو يقسم قسمة فقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فابتسم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم )، ابتسامة الواثق الصادق، وهو يعلم إنها لقسمة أريد بها وجه الله، ونحن جميعاً نؤمن بذلك، فقال له: ( رحم الله أخي موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، فاصبروا على ما تلقونه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم فرطكم على الحوض، وأنتم وافدون إليه، فلذلك لا عليكم أن تلقوا أذىً في طريقه ونكبات، فهي نكبات مباركة، وأنا جازم لو أن بباب هذه الخيمة مسماراً تجزمون جميعاً أنه قد دخل في قدم نوح ، وفي قدم إبراهيم ، وفي قدم موسى ، وفي قدم عيسى ، وفي قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فستذهبون تستبقون إليه، كل إنسان منكم يريد أن يجرح به نفسه، وأن يدخله في جسمه، لبركته، أليس كذلك؟!
فإذاً هذه النكبات نكبات مباركة، أصابت نوحاً و إبراهيم و موسى و عيسى و محمداً صلى الله عليه وسلم، فليس فيها شر.
وكذلك أعلم أن كثيراً من الناس يظنون أن هذا الأمر لا يعنيهم، وأن نصرة الدين تختص بأقوام معينين، وأن الدعوة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وظيفة أقوام معينين، لكن هذا التصور خاطئ 100% وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] يقول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، فمن لم يسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي لا يدعو بدعوته، أما من يدعو بدعوته فهو الذي يسلك طريقه؛ لأنه قال: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقد قال شيخي محمد علي بن عبد الودود رحمة الله عليهما:
من ادعى محبة الله ولم يسر على سنة سيد الأمم
فذاك كذاب أخو ملاه كذب دعواه كتاب الله
فالله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران:31]، فقد كذب هذه الدعوة كتاب الله تعالى.
فلذلك عليكم أن تعلموا أن المسئولية عن الدين مسئوليتكم جميعاً، وأن عليكم أن تبذلوا في سبيله مالاً ووقتاً وتفكيراً، وجهداً، وقولاً وعملاً، وهو يستحق ذلك عليكم.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن من المشكلات الكبيرة التي تواجهكم في سيركم إلى الله سبحانه وتعالى: مشكلة التسويف وطول الأمل، فكثير من الناس يسوف وينتظر غداً، وينتظر بعد غد، يريد نصرة الدين، ويريد البذل والتضحية في سبيل الله، ويريد أن يكون من الصالحين، ومن الأولياء المقربين، ولكن يقول إلى غد، ثم إذا جاء الغد انتظر الغد الذي بعده، وهذا التسويف وطول الأمل داء يشب في الإنسان إذا شاب، وهو خطر عظيم داهٍ يواجهنا جميعاً.
علينا يا إخواني! أن نقصر الأمل، وأن نتذكر قول الله تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف:185]، فنحن نعلم أنه في ليلة القدر يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:4-5]، وتكتب فيها آجال العباد، ومع كل جميل منا كتب أجله وعمله، وشقي أو سعيد، وهو في بطن أمه.
فنحن قد مررنا بتسعة أطوار في الخلق، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، فهذا الطور الأول، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13]، وهذا الطور الثاني، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:14-16]، وهذه أطوار سبعة، وقد قطعنا هذه الأطوار السبعة، وبقي لنا طوران، الأول: إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15]. الثاني: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16].
والإنسان إذا كان عاقلاً وهو يسير في طريق ويعلم أن هذا الطريق فيه تسع وقفات، ومر بسبعٍ منها، ويعلم أن نهاية الطريق قريبة، أليس كذلك؟ قطعنا الآن سبع مراحل من المراحل التسعة، وبقي أمامنا مرحلتان، لا ندري متى تأتيان؟
ونحن نعلم أن الموت هو القيامة الصغرى، و( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، والقبر أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، ينسي الإنسان كلما مر به من قبل، وأول ما يجده فيه الضجعة العظيمة التي يتجلى للإنسان فيها ما لم يكن يخطر له على بال، كثير منا الآن يرى الأموات، يرى المحتضرين عند انتزاع الروح منهم، ويرى القبور، بل ربما رأى العظام رميماً، ويشهد كل ذلك لكن يظن الأمر بسيطاً، يرى أن هذا إنسان كانت فيه روح، وخرجت منه وانتهى الأمر، لكن هذا التصور باطل، وهيهات هيهات، فإنها أمور كبار وشأن عظيم جداً، لا يمكن أن نتصوره بهذه الحياة، إنما يتصوره الناس في تلك الحياة الأخرى، ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضع الميت في قبره أشار بيده أن كفوا، ثم نظر إليه ساعة، وقال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة )، هذه الضجعة حتمية فلنعد لها.
ثم بعد ذلك ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، والحمائل: ما يخرج من الخصرين، أي: لما يشبع الإنسان يخرج خصراه، فما يخرج منهما هو الذي يسمى حمالة.
نحن ضربنا خالداً في هامته حتى غدا يعجر في حمالته
ضمة القبر تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، وهي تهيئة لسؤال الملكين منكر ونكير، ( يأتيانه فيقعدانه فيقولان: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد، هو محمد، هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاهٍ هاه، لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما، لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها -قد رأيتم كثرة أهل منىً في الرمي- فيصيح صيحةً يسمعها من يليه، إلا الإنس والجن، ثم بعد ذلك يأتيه عمله، إن كان محسناً جاءه في أحسن صورة، وأحسن رائحة، فيقول: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ ) الميت غريب هنالك، قد مرت عليه الليلة الأولى بين الأموات، ولم يبت معهم قبلها، صار غريباً بعيداً عن أهله ووطنه، انتقل عن كل ما هو مألوف.. ولا يمكن أن يمثل ذلك إلا تمثيل قليل للفهم فقط، عندما يصبح الإنسان في مدينة لم يرها، ولم يسمع كلمةً من لغات أهلها، تصوروا لو أن أحدكم نزل من طائرة في مطار بكين مثلاً، لا يعرف كلمةً واحدة من اللغة الصينية، ولا يعرف وجه إنسان واحد، وكل شيء يراه غريباً لديه، هذا الحال هو حال كل ميت في انتقاله إلى ما هنالك، غريب تماماً.
فإذا كان بهذا الحال من الغرابة فإنه يسر سروراً عظيماً إذا رأى وجهاً جميلاً ذا رائحةٍ حسنة، وهو يقول له: ( أبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً جاءه في أقبح صورة وأنتن رائحة، فيقول له: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ، وأنا صاحبك في غربتك )، الرفيق قبل الطريق، إن هذا العمل هو رفيقنا في هذه الرحلة التي نحن لا شك سائرون فيها، وقد قال العلامة محمد مولود بن أحمد فال رحمة الله عليهما: إلى الطريق اختر رفيقاً جديداً.
نحتاج يا إخواني! في هذه الرحلة إلى كل العمل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم صحبه ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يصحبه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله )، علينا أن نختار رفيقاً صالحاً، ونحن نجزم بأننا ميتون لا محالة، وسائرون في طريق من سبقنا، وقد رأينا من هو أقوى منا، كل واحد منكم رأى من الموتى من هو أقوى منه جسماً، وأفرغ منه بالاً، وأنعم منه حالاً ممن هو أسن منه، وممن هو أصغر، وممن هو معاصر له، كلهم قد تلاحقوا وتداركوا لما هنالك، والموت يجمع الأولين والآخرين، كأنهم أهل منزلة واحدة، فالميت الذي لم يعرفوه، وقد مات في أيام نوح عليه السلام، فإنهم يتداركون جميعاً، يلحق آخرهم بأولهم، فيتداركون جميعاً هنالك، وبذلك فالقبر الواحد يجتمع فيه من هو في غاية النعيم، ومن هو في غاية العذاب، فتختلط عظامهما وذراتهما، ولا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بشيء من عذاب هذا، وهم بهذا القدر من المواقف والمخاوف.
إن أمر القيامة أمر عظيم، خرج رجل في أيام معاوية رضي الله عنه إلى الشام يريد الخليفة معاوية ، فلما أتى إلى دمشق إذا جنازة تحمل إلى بير مران -وهي مقبرة بدمشق بها دفن عمر بن عبد العزيز وعدد كثير من الصالحين- فصحب الجنازة، فلما دفن الميت، تذكر غربته ووحشته، وهو يصب عليه التراب في ذلك المكان الموحش المظلم، وهو عرضة للدود، والتغير، فأخذته رقة لهذا الإنسان الغريب، الذي انتقل من داره وأهله، وهم يوارونه بالتراب، وهو قد بدأ مشواراً جديداً، وأتى لأمر لا قبل له به، ولا عهد له به، فبكى وتذكر أبياتاً كان حفظها من قبل، فأنشدها، وهي قول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور فاذكر فهل ينفع عنك اليوم تذكير
فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي عليه غريب ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور
فبكى، فقال له أصحاب الجنازة: أتعرف لمن هذه الأبيات، فقال: لا، فقالوا: هي لهذا الميت الذي دفنته، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهذا ابن عمه، وهو وراثه -كان بينهما من العداوة ما لا يعلمه إلا الله- وهو مسرور بموته.
وهذه المواعظ لا نزال نشهدها، ونشهد منها الكثير الكثير، فلذلك علينا يا إخواني! أن ننتفع من رحلتنا، وأن نعتبر ونتذكر، وأن نعزم على الصلاح، وأن نعلم أن السائرين في طريق الحق قليل، وأن الصادقين منهم قليل، ولنتذكر قول ابن الجوزي رحمه الله: (إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ قاموا ما وقفوا، فهم في صعودٍ وترقٍ، كلما قطعوا شوطاً نظروا، فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا ).
إننا بعد رجوعنا إن شاء الله تعالى إلى بلادنا لا بد أن يكون لنا مشاريع، كل إنسان منا له مشاريع يبدأ بها حياته الجديدة، وعهده الجديد مع الله، فما هي مشاريعنا؟ فكروا من الآن، كل إنسان منكم يفكر، إذا حطت به الطائرة في الوقت الميمون المبارك إن شاء الله في مطار بلده، ووصل إلى أهله وأهل بيته، فرده الله سالماً غانماً بما نال من أجر وغنيمة، ماذا ستكون أولوياته؟ وماذا استفاد من رحلته؟ وماذا زال عنه من التصورات، كثير منا كان لديه كثير من التصورات والشبهات، تمنعه من كثير من الأعمال، وتحول بينه وبين عمارة المساجد، تحول بينه وبين سماع الدعوة والموعظة، تحول بينه وبين البذل في سبيل الله، لكن زالت هذه الأوهام، وذهبت بحجته، فماذا سيعمل؟
لا بد أن نتخذ من الآن مشاريع واضحة لنا، أي واحدٍ منا عليه أن يحاسب نفسه، فما كان مقصراً فيه أو كان يجنيه من المعاصي يقلع عنه، وقد تاب الآن وأناب، واستقال عثرته، وليتذكر دمعته، وهو يبكي لله خاشعاً بعرفة، وليتذكر مبيته بمزدلفة، وليتذكر وقوفه وراء الجمرات خاشعاً لله سائلاً أن يقيل عثرته، ويغفر زلته، ليتذكر طوافه بالبيت العتيق، ومعاهدته لله على الطاعة، ليتذكر وقوفه على الصفا والمروة -وهما من شعائر الله- وسعيه بينهما، ليتذكر وقوفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذه الأمور تقتضي منا الإقبال من جديد على الطاعة، وتقتضي منا تغيير ما بأنفسنا، وتقتضي منا حياة تختلف عن حياتنا التي عشناها من قبل، فأينا سينتفع؟ نرجو أن نكون جميعاً كذلك، لكننا نعلم أن المنتفعين قليل، وأن المجال مجال المنافسة، وسنعلم في صبيحة يوم القيامة من استفاد ونجح في الامتحان، عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ [يس:59]، عندما يحال بين الناس: بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ [الحديد:13-15].
خمسة أمور حالت بين المنافقين وبين أن يحشروا مع المؤمنين، ما هي هذه الأمور الخمسة؟
السبب الأول: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، فكثير منا يفتنون أنفسهم، يعرضونها للفتنة، في التعلق بالدنيا وجمعها والتأول لها، وأخذها من حلها وحرامها، إذاً هذا هو السبب الأول، فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14].
والسبب الثاني: التسويف وطول الأمل: وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14].
والسبب الثالث: الشكوك والأوهام: وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14].
والسبب الرابع: الغرور: وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ [الحديد:14]، يغتر الإنسان بعمله، وبأسرته، وبمكانته، وهذا لا يغني عنه من الله شيئا.
السبب الخامس: اتباع خطوات الشيطان، وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [الحديد:14]، خمسة أسباب حالت بين المنافقين وبين المؤمنين حتى ضرب: بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
علينا أن نجنب أنفسنا هذه الأسباب، وأن نحرص كل الحرص على نجاتنا من عذاب الله.
وأختم بالسؤال الذي بدأت به، وهو ماذا بعد الحج؟
سؤال أريد أن أهمس به في آذانكم، وأن يبقى حاضراً لدينا جميعاً.
نحمد الله تعالى إذ جمع لنا في هذه الليلة شرف الزمان، وشرف المكان، فأنتم الليلة في ليلة من الليالي العشر، التي أقسم الله بها في كتابه في قوله: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، فالراجح في التفسير: أنها عشر ذي الحجة، وفي أيامها التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس : ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني العشر ذي الحجة، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء )، فشرف المكان أنكم في هذه الليلة في هذه المدينة المباركة الطيبة، التي اختارها الله سبحانه وتعالى مهاجراً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلها عاصمة لهذا الدين الحنيف، وبداية لانطلاقته، فمنها فتحت الأمصار، وقد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت بقرية أكالة للقرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة )، فهي أكالة للقرى، منها فتحت أرجاء العالم، وانتصر هذا النور المحمدي في أطراف الأرض، من هذه الربوع الطاهرة الطيبة.
إن وجودكم هنا، مذكر لكم بمسئولياتكم، فأنتم من هذه الأمة المشرفة التي شرفها الله من بين الأمم، وقال فيها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران:110]، لكن الانتساب إلى هذه الأمة مسئولية جسيمة عظيمة؛ لأنها تقتضي من الإنسان أن يتحمل جزءاً من أعباء هذه الأمة، وبالأخص إذا ابتلي بأن كان في وقت تراجع فيه مدها للإنفاق، وأصبح فيه غريباً، كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج مسلم في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبي للغرباء، قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: قوم صالحون في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )، وفي رواية: ( الذي يصلحون إذا فسد الناس )، وفي رواية: ( الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي ).
إن هذه المسئولية تتأكد وتزداد في حق الذين هم من معدن شريف، من الذين اختارهم الله تعالى من أسر العلم، والعمل والتقوى، كالذين ينتسبون إلى الآباء الذين حملوا أعباء هذا الدين ونشروه، فإن ميراثهم أيضاً مسئولية كبيرة، وتحمل سد مسدهم لهذه الأمة أمر عظيم، فلا بد أن تقوموا بالحق الذي عليكم، وأن تخلفوا آباءكم، وأن تخلفوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح بما يشرفكم في هذه المرحلة التاريخية العصيبة التي أنتم فيها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بثلاثة أمور:
الأمر الأول: الإخلاص والصدق لله سبحانه وتعالى، وحسن التعامل معه، وقصد وجهه الكريم، فكل عمل لم يقصد به وجه الله حتى لو كان مثل الجبال فهو مردود على صاحبه، وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
الأمر الثاني: علو الهمة، فالإنسان لا يرتفع قدره إلا اذا كانت همته عالية، وإذا علت همته طمح للمراتب العلية فنالها، فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: إن لي نفساً تواقة، تاقت إلى الإمارة فنالتها، ثم تاقت إلى الخلافة فنالتها، ثم تاقت إلى الجنة، فالإنسان الذي يرتفع بنفسه عن سفاسف الحياة الدنيا، ويهتم بما عند الله، ويريد الآخرة، ويريد أن يكون من أهل الفردوس الأعلى من الجنة، يصعب عليه المنام في ليله أو نهاره، ولذلك جاء في الأثر: ما رأيت كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها.
يحتاج الإنسان إلى رفع همته، وبالأخص في الوقت الذي اشتغل فيه كثير من الناس بالسفاسف والأمور الدنية، وقد قال الإمام السيوطي رحمه الله في الكوكب الساطع:
فمن تكون نفسه أبية يطمح للمراتب العلية
رجا فخاف فأصاخ فأحب مأموره وما نهى عنه اجتنب
فحبه الله فكان سمعه وعقله ويده ورجله
واعتده من أولياه إن دعا بحجابه أو استعاذه أعا
أما الذي همته دنية فلا مبالة له سنية
أفوق جهل الجاهلين يجهل وتحت سبل المارقين يدخل
فقل صلاحاً بعد أو فسادا وشقوةً ترضيك أو إسعادا
وقرباً أو بعداً وسخطاً أو رضا وجنة الفردوس أو ناراً لظى
يحتاج الإنسان إلى أن يبحث عن نماذج علية، ذات همة رفيعة، ليتبعها ويقتفي آثارها، وأنتم تعرفون أن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما كان من ذوي الهمم العالية، فعلت به همته حتى أصبح ترجمان القرآن في هذه الأمة، يقول فيه أحد الصحابة:
بلغت بعشر مضت من سنيك كما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور وهم لداتك أن يلعبوا
ويقول فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كل محمدةٍ فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل لمنتظمات لا ترى بينها فصلا
شفى وشفى ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جداً ولا هزلا
فإن علو الهمة يقتضي من الإنسان تحمل التكاليف والمشاق، ولذلك قالت الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية رضي الله عنها في مرثية أخيها صخر بن عمرو بن الشريد :
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الحميد النبيل ألا تبكيان الفتى السيدا
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم إلى المجد مد إليه اليد
فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم غدا مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم وإن كان أصغرهم مولدا
وإن ذكر المجد ألفيته تأزر بالمجد ثم ارتدى
وقال زياد بن حمل في الجاهلية:
حتى ينال أموراً دونها قحم
فلا يمكن أن ينال الإنسان المعالي إلا إذا تعب في سبيل الوصول إليها، وكان الشيخ سدية رحمة الله عليه كثيراً ما ينشد:
ما ابيض وجه باكتساب كريمةٍ حتى يسوده شحوب المطلب
وأهل المدينة من الشناقطة قد ضربوا في ماضي التاريخ مثلاً عليا مشرفةً بأمتهم كلها، فقد كان في هذا البلد عدد كبير من الأئمة الأعلام، سواءً منهم من استقر هنا ومات هنا، أو من عاش فترةً من الزمن ثم رجع إلى البلاد، فكان لوجودهم هنا تشريف عظيم جداً لهذه الأمة التي ينتسبون إليها، وتقرءون أخبارهم، كما قال الشيخ محمد المامي رحمة الله عليه:
يحدثنا الأفاعي بما جهلنا من الخير الذي هم فاعلون
وتقرءون عن الشيخ عبد الله بن سيدي محمود رحمة الله عليه ومقامه في المدينة هنا، وبعد ذلك عن الشيخ محمد يحيى الولاتي . وعن غيرهم من الذين زاروا ثم ذهبوا، ثم بعد ذلك عن الذين استقروا مدة طويلة من الزمن هنا، الشيخ محمد المآفى مكث مدةً طويلة من الزمن هنا في المدينة، كذلك أخوه محمد حبيب الله الذي مكث مدةً طويلة في مكة، حتى ارتبط اسمه باسم البيت الحرام، يقول فيه الشيخ سدية رحمة الله عليهم أجمعين:
حيا الإله حبيب الله من لزما بيت الإله وحيا البيت والحرما
إن الزمان إذا يأبى وجود فتىً من مثل هذا لم يعدد من اللؤما
وكذلك بعد هؤلاء شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه، وهذه النماذج التي هي قدوة وأسوة صالحة قد بنت مجداً شريفاً، ولكن مع ذلك تركت مسئوليات عظيمة على الذين أتوا من بعد، فالشيخ محمد المامي رحمة الله عليه يقول في القصيدة السابقة:
لهم همم علت فوق الثريا بها شادوا لنا حرماً أمينا
وعابونا بها فمتى نزلنا سوى زحل عددنا عابثين
هي الحسب الرفيع لنا لوانا على الآثار منهم مقتدونا
الأمر الثالث الذي يحتاج إليه الإنسان: عدم إضاعة الوقت، فهذا الوقت هو عمر الإنسان، وأنتم في زمان يضيع الناس فيه كثيراً من الأوقات، والوقت إذا لم يستغل فيما ينجي الإنسان بين يدي الله كان خسراً على صاحبه، كما قال الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سليمان رحمة الله عليهما:
خسر لذي عقل لبيب مؤمن وقت يمر ولم يزد حسناته
فالعمر مدته كمثل دراهمٍ بيد الفتى يقضي بها حاجاته
لذلك لا بد من استغلال الوقت ومسابقة الزمن، ليستطيع الإنسان النجاة من عذاب الله، وليترك أثراً في هذه الحياة الدنيا، وليتحمل مسئولية في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ رسالات الله سبحانه وتعالى، وكثيراً ما أنشدتكم قول الشيخ رحمة الله عليه:
أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب
ولي نظر عالٍ ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب
وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب
ولي أمة منكوبة الحظ لم تجد سبيلاً إلى العيش الذي تتطلب
على أمرها أنفقت دهري تحسراً فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب
ولا راق لي نوم وإن نمت ساعةً فإني على جمر الغضا أتقلب
لا بد من رفع همات الشباب، ولا بد من شغل أوقاتهم بما يفيد، ولا بد أن ينظموا أوقاتهم، فيجعلوا منها وقتاً لطلب العلم النافع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، ويجعلوا منها أوقاتاً أخرى للعبادة والنسك، ويجعلوا منها أوقاتاً أخرى لدرهم المعاش، فالناس محتاجون إلى ذلك، فإذا وزع الزمن توزيعاً عادلاً في هذه المسئوليات فذلك ما يحقق للإنسان مراده، وبذلك يحدث الشيخ: باه بن محمد الأمين رحمة الله عليه، عن الشيخ: بن أحمد يحيى رحمة الله عليه أنه يقول: إنه يحتسب في عشاء العجول، مثلما يحتسبه في قيام الليل، فالمسئوليات مهمة، حتى لو كانت دنيوية، فهذا الشيخ المشغول بالتدريس والتأليف والعلم لا يشغله ذلك عن اكتساب أمور الدنيا بالعمل فيها.
فلذلك لا بد أن يكون الشباب جادين في تحصيل حسنة المعاد، ودرهم المعاش، وأن يستغلوا أوقاتهم في هذا.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
السؤال: بعد ما رميت الجمرة الكبرى يوم العيد، طرأ علي شك في عدم تمكن اثنتين من الحصيات، ولما عدت يوم أمس، قضيتهما مع رميتي، فهل على في ذلك شيء؟
الجواب: لا، الإنسان إذا شك في الرمي، فإنه يعيده، وإذا أعاده فإنه لا يلزمه شيء؛ لأن الدم إنما يلزم من ترك الواجب.
السؤال: لي والدة نوبتني على رمي جمرة العقبة في الصباح فرميتها عنها، لكنها في المساء خرجت إليها هي فرمتها، وما زالت ترمي حتى اليوم، فماذا عليها؟
الجواب: ليس عليها شيء، وقد أحسنت حين فعلت ما أمرت به، فباشرت الرمي بنفسها، فالعاجز هو الذي ينيب، والشخص القادر على المشي لا يجزئه الإنابة، بل لا بد أن يذهب بنفسه حتى يرمي، وهذا جهاد، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة ).
السؤال: هذا امرأة عندها صبية صغيرة، وتركتها وديعة وذهبت إلى الحج، والطفلة لا تطلب سوى دمية، فهل يجوز لها أن تأتيها بدمية؟
الجواب: الدمى ما كان منها صورة كاملة لها ظل لا يجوز اقتناؤه، وما كان منها ممسوح الوجه مطموساً يجوز اقتناؤه، ويجوز لها أن تشتريه لابنتها.
السؤال: لي ابنة من زوجة من دولة غير إسلامية، وأوصيت بإجراء النفقة عليها، هل يكفي ذلك في حقها؟ وهل لي أخذها من أمها بحيلة؟
الجواب: عليه أن يعلم أن تلك البنت أمانة لديه، وأنه مسئول عن دينها وخلقها، فعليه أن يحاول أخذها بإرضاء أمها، أو شرائها منها، أو بأي وسيلة يأخذ بها ابنته، حتى يربيها تربية صحيحة، ولا يكفي مجرد النفقة عليها.
السؤال: امرأة حامل أو مرضع، متى تقضي رمضان؟
الجواب: الحمل والإرضاع ليسا موجبين للإفطار، فالإفطار إنما أحله الله تعالى للمرض أو للسفر، ولم يحله لما سوى ذلك، والحمل والإرضاع ليس مرضاً، ولا سفراً، فإذا كانت المرأة مريضة، أو خافت مرضاً رأت علاماته، أو خافت على جنينها أو ولدها مرضاً رأت علاماته، فيحل لها الإفطار وتقضي متى ما قدرت.
السؤال: ما حكم الشك في تساقط بعض الشعر من المحرم؟
الجواب: هذا إذا كان مجرد شك لا يؤثر، فالشك من مانع لا أثر له، وإذا كان الإنسان موقن بأنه تساقط منه الشعر، فإن كان ذلك بغير فعله، أو كان من فعله في حال الوضوء، أو غسل موضع النجاسة، فهذا لا يلزم به شيء، وإن كان بفعله في غير وضوء ولا غسل محل النجاسة، فإن كان الشعر قليلاً لزم به حفنة صدقة، وإن كان كثيراً لزمته الفدية، والفدية ثلاث خصال مخيرة: هي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام ولا يلزم ترتيبها، أو شاة نسيكة يذبحها الإنسان ويوزعها على فقراء المكان الذي هو فيه، ولا يشترط كونها في الحرم.
السؤال: نساء ضعاف، ومن يقوم عليهن طافوا طواف الإفاضة وأخذوا سيارة عند الساعة العاشرة إلى الحرم، ولم توصلهم إلى منىً إلا في حدود الساعة الخامسة صباحاً؛ نتيجة للزحمة فما عليهم؟
الجواب: من خرج إلى طواف الإفاضة، وأحصر بسبب الزحام، سواءً كان الزحام في المسجد، أو في الطريق في الرجوع، أو في الطريق في الذهاب، فهذا لا شيء عليه، ولا يلزمه شيء، لكن ينبغي للإنسان ألا يذهب إلى الطواف في وجه الليل، ينبغي أن يذهب في وجه النهار واستقباله، ولا ينبغي أن يذهب في وجه الليل.
السؤال: رجل كان في منىً، وبعد الرمي غادر إلى المسجد الحرام، وفاتته صلاة العصر مع الجماعة وصلاها أربع ركعات.
الجواب: إذا كان من أهل مكة فإنه إن حان عليه وقت الصلاة بمكة صلى بها أربعاً، وإن لم يكن من أهل مكة كالحجاج الأفاقيون، فإنه يصلي ركعتين فقط؛ لأنه ما زال على سفره، ومع ذلك فالمسافر إذا أتم أربعاً فصلاته صحيحة.
السؤال: ما يلزم من تأخر عن منتصف الليل أول ليالي منىً، لوجود بعض الضعفة معه؟
الجواب: إذا كان في طريق عودته من طواف الإفاضة مثلاً، أو نحو ذلك فلا حرج.
السؤال: هنالك كثير من الناس ما وصلوا مزدلفة إلا في آخر الليل أو عند الفجر، أو حتى مروا بها بالنهار فماذا يلزمهم؟
الجواب: هؤلاء لا يلزمهم شيء بذلك، وهذه المسألة نص عليها ابن القاسم في المدونة: أن من نزل بمكان يظنه مزدلفة، فتبين أنه ليس منها، أو حصره الزحام عن مزدلفة فلم يصل إليها فلا يلزمه شيء.
السؤال: هل التحلل الأصغر يبيح الطيب، أو لا يبيحه؟
الجواب: هذا محل خلاف بين أهل العلم، وفي حديث عائشة : ( أنها طيّبت النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يفيض ).
السؤال: هل الدراسة في بلادنا أفضل من الناحية العملية، والدراسة في الجامعات؟
الجواب: لو خيرتِ لاخترتِ، وليست الدراسة في الجامعات سهلة حتى يكون الإنسان بالخيار فيها، ومن أراد العلم الشرعي فعليه أن يلزم الطريقة المعروفة بملازمة العلماء ودروسهم، وحفظ المتون، وهذه الأمور تندر في الجامعات، أو تكاد لا توجد.
السؤال: وصلنا مكة الساعة الواحدة ظهراً بعد رمي جمرة العقبة، ولكن أخرنا طواف الإفاضة إلى ما بعد صلاة العشاء، وبعده توجهنا إلى منى؛ وبسبب الزحمة لم نصل إلا قبيل الفجر؟
الجواب: من تأخر بسبب الزحام، لا يلزمه شيء في تأخره عن المبيت.
السؤال: ما الدليل على جواز تكرار العمرة؟
الجواب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير صدأ الحديد ).
السؤال: هل من دليل لتقبيل أيدي ورءوس أهل العلم والصلاح؟
الجواب: إن تقبيل أيديهم ورءوسهم إذا قصد به إكرامهم فالإكرام مطلوب لكل من كانوا أهل شيبةٍ من أهل الإسلام، أو من كان له مكانة في الدين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم )، وبين كذلك فيما أخرج الترمذي في السنن، و ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكرم شيخاً أكرمه الله عند سنه )، وفي رواية: ( قيض الله له عند سنه من يكرمه )، إذا كان هذا من باب الإكرام، وقد قبل أبو بكر رضي الله عنه جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجىً بثوب بعد موته صلى الله عليه وسلم، وروي عن عدد من الصحابة تقبيل أيدي بعضهم، وقد كان هذا معروفاً في تاريخ الأمة، يقصد به التكريم فقط، لا أكثر من ذلك، حتى وإن اختلفا، والأمراء من بني العباس وبني أمية وحتى من بعدهم، فمثلاً المعتمد بن عباد يقول له شاعره الدالي :
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
صرفت في آلة الصياغ أنملة لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يداً عهدتك للتقبيل تبسطها لتستقل الثريا أن تكون فما
السؤال: ما دليل كون الرامي لجمرة العقبة يجعل الكعبة عن يساره؟
الجواب: ثبت في حديث جابر بن عبد الله في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز جمرة العقبة، فجعل منىً عن يمينه، ومكة عن يساره ).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر