إسلام ويب

عقيدة السلف [2]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، وهم عباد مكرمون خلقهم الله لعبادته، ومحضهم لطاعته، كلفهم بتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات. والإيمان بكتب الله المنزلة، وهي كلام الله سبحانه وتعالى بألفاظها ومعانيها، تكلم الله بها، وأنزلها على عباده، وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه مما ينظم علاقاتهم بربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، والإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين أرسلهم الله إلى عباده وكلفهم بالبلاغ والنذارة، والبشارة. والإيمان باليوم الآخر ويشمل: القيامة الصغرى والقيامة الكبرى، والإيمان بالقدر، خيره وشره. ويشمل: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.

    1.   

    الإيمان بالملائكة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    ثم الركن الثاني من هذه الأركان هو الإيمان بملائكة الله عز وجل، وهم عباد مكرمون؛ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، خلقهم الله لعبادته، ومحضهم لطاعته، كلفهم بتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعلهم أنواعا وأقساماً؛ فمنهم حملة العرش الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً عجيباً؛ فذكر: ( أن ما بين شحمة أذن أحدهم وظلفه مسيرة خمسمائة عام للحجر الصلد الهاوي ).

    ومنهم كذلك المقربون منهم إسرافيل الذي ينفخ في الصور وسينفخ فيه، وقد أمسكه الآن والتقمه بفيه وأصغى ليتاً ينتظر الأمر له بالنفخ، فإذا نفخ فيه نفخة الفزع صعق الناس لها جميعاً، ثم يمكثون أربعين سنة فينفخ فيه النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون.

    ومنهم جبريل وهو أمين الوحي عليه السلام وله ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما ما بين المشرق والمغرب، ومنهم ميكائيل هو المكلف بتقسيم أرزاق العباد عليهم، يكتب جميع الأرزاق ويوزعها؛ فكل قطرة من المطر في يد ملك حتى يوصلها إلى مكانها، وكل بذرة في الأرض كذلك في يد ملك حتى تنبت وتخرج، وكذلك فإن منهم الذين يعبدون الله تعالى عبادة خاصة كالركوع والسجود، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أطت السماء وحق له أن تئط؛ فما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك لله فيه ساجد أو راكع )، ومنهم الذين لهم عبادات أخرى كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج أنه قال: ( فأتيت البيت المعمور فإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون إليه )، كل يوم منذ خلق البيت المعمور يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

    هؤلاء الملائكة الكرام جنس من الخلائق مشرف بتشريف الله سبحانه وتعالى، هم محل رضوان الله، ومحل عنايته وتقريبه سبحانه وتعالى؛ ولذلك محضهم للطاعة، فلم يخلقهم للمعصية أصلاً، فجعل منهم خازن الجنة، وجعل منهم خازن النار وهو مالك ، وجعل منهم ملك الموت، وهم جميعاً مشتغلون للطاعة التي من أجلها خلقوا، لا يفترون عنها طرفة عين، لا يشتغلون بالمآكل ولا بالمشارب ولا بغير ذلك، شغلهم وحياتهم هي عبادتهم التي من أجلها خلقوا.

    وهم ذووا عدد كثير، وذووا قوة عجيبة، وقد وصف الله تعالى جبريل في كتابة بالقوة، فقال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى[النجم:1-6]، أي: ذو قوة فاستوى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى[النجم:7-9]، وقال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ[التكوير:19-22].

    علاقة الملائكة بالبشر

    إن الملائكة الكرام منهم أيضاً مكلفون بالبشر، وهم أنواع منوعة؛ فمنهم صاحب اليمين الذي يكتب الحسنات، وصاحب الشمال الذي يكتب السيئات، وكلاهما رقيب عتيد، كلاهما رقيب عتيد للإنسان، وكلاهما قعيد له وكلاهما ملازم له، لا يفارقه إلا في حالين: حال غشيانه أهله، وحال دخوله الخلاء، وهما يكتبان جميع أعمال العباد؛ ولذلك قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12].

    ومن هؤلاء أيضاً المعقبات من بين يدي الإنسان ومن خلفه؛ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ[الرعد:11]، ومنهم ملائكة الجوارح؛ كل جارحة من الإنسان عليها ملك يحفظها، ومنهم كذلك القرين؛ فكل إنسان له قرين من الملائكة، يسدده ويرشده إلى الخير، وكذلك منهم الملائكة للذين يتعاقبون في الناس؛ يأتون المساجد في الصباح والمساء؛ يشهدون صلاة العصر، وصلاة الفجر في الجماعة، (فيرتفعون إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، وهم يقدمون التقارير إلى الله تعالى بأعمال عباده جميعاً، وهو أعلم، لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.

    وكذلك منهم: ( الملائكة السيارون في الأرض، بغيتهم حلق الذكر.. )، نسأل الله أن يكونوا معنا الآن، ( بغيتهم حلق الذكر إذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيرتفعون عند خروجهم إلى ربهم فيسألهم: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك؛ لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً، وعليها أشد حرصاً، فيقول: ومن ماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: فعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم، إنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط.. )، أو: ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ).

    الملائكة المثبتون لأهل الإيمان والمستغفرون لهم

    ومنهم كذلك ملائكة يتنزلون على أهل الإيمان بالثبات والتوفيق، وهؤلاء هم أوليا المؤمنين؛ ينصرونهم ويذكرونهم بالله، ويذكرونهم بما أعد الله لهم، ويثبتونهم في الأزمات والمشكلات؛ فهم يدخلون مع المسجونين في السجون، ويحضرون جنازات المستشهدين من المسلمين، ويسددونهم في كل أمورهم، وقد وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ[فصلت:30-33].

    ومنهم الملائكة المستغفرون للمؤمنين وعبادتهم لله ووظيفتهم عنده هي الاستغفار للمؤمنين، فشغلهم الدعاء للمؤمنين؛ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:7-9].

    لإيمان بأولئك الملائكة مفيد لنا جداً؛ لأنه يقتضي منا الإحساس بهم والاتصال بهم، ومنافستهم بالعبادة والتقرب إلى الله تعالى؛ فإنهم لما علموا بخلق آدم قالوا لله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[البقرة:30]، وهذا يقتضي منا نحن أن نكون من المسبحين المقدسين، حتى ننافس الملائكة في ذلك؛ ولذلك شرع لنا الصوم تشبهاً بالملائكة، وشرع لنا كذلك أن نصف في الصف، كما تصف الملائكة عند ربها، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها )، فإحسان الصف واستوائه من الإقتداء بالملائكة ومنافستهم في الخير.

    1.   

    الإيمان بالكتب

    ثم بعد هذا الركن الثالث من أركان الإيمان هو الإيمان بكتب الله المنزلة، وهي كلام الله سبحانه وتعالى بألفاظها ومعانيها، تكلم الله بها، وأنزلها على عباده، وشرع لهم فيها ما يحتاجون إليه مما ينظم علاقاتهم بربهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، وبين لهم فيها كل ما يحتاجون إليه من أخبار الدنيا والآخرة، وهذه الكتب المنزلة أوحاها الله إلى أنبيائه ونزل بها جبريل عليه السلام عليهم، فمنها ما نزل صحفاً منزلة، قد كتب الله فيها الوحي؛ كصحف إبراهيم و موسى ، ومنها ما كتب في الألواح كالتوراة التي كتبها الله لـموسى بيمينه، ومنها ما أنزل على قلوب الأنبياء فحفظوه كالقرآن الذي أنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فحفظه وحفظه الله له في صدره كما قال الله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[القيامة:16-19]، وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، وقال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[القمر:17].

    ومن هذه الكتب المنزلة القرآن، وهو خاتمها والمهيمن عليها، والناسخ لجميعها، وهو مصدق لما بين يديه من الحق وشاهد عليه، وهو هذا الوحي الذي تقرءونه وتحفظونه في صدوكم ومصاحفكم، هو أحدث الكتب بالله عهداً، وهو حبل الله المتين وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره، فيه ذكر لكم ولهذه الأمة وفيه كذلك بيان لكل ما نحتاج إليه من أمر الدنيا والآخرة، وفيه ما نحتاج إليه من العقائد والأحكام والأخلاق والمعاملات، حتى ما نحتاج إليه من أمور الدنيا وعلومها، قد تضمن إشارات إليه معجزة، وهو حجة قائمة على الخلائق جميعاً، تحدى الله به الثقلين - الإنس والجن - أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك جميعاً.

    ومن هذه الكتب كذلك الإنجيل المنزل على عيسى بن مريم عليه السلام، ومنها كذلك التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، ومنها كذلك الزبور المنزل على داود عليه السلام، ويجب الإيمان بكل الكتب المنزلة، ويجب الإيمان بأن القرآن ناسخ لها جميعاً ومهيمن عليها، وأنه مصدق لما بين يديه من الحق، وإنما أسماء هذه الكتب الأربعة التي جاء ذكرها في القرآن: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وما سواها من الكتب نؤمن به إجمالاً ونعرف منه صحف إبراهيم وصحف موسى ، ولكننا نعلم أن كل نبي من الأنبياء أوحى الله إليه شرعاً، وقد قال الله تعالى في كتابه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة:48]، وذلك الوحي المنزل إلى الأنبياء كله من كلام الله عز وجل؛ فيجب الإيمان بأن الله تكلم به كلاماً يليق به، وبجلاله وكماله، وهذا الكلام هو صفة الله سبحانه وتعالى، وهي تدل على كماله سبحانه وتعالى، يتكلم بما شاء، كيف شاء، إذا شاء.

    الكلمات الكونية والتشريعية

    ومن الإيمان بكلام الله تعالى الإيمان كذلك بأن كلام الله ينقسم إلى قسمين: إلى كلمات كونية، وكلمات تشريعية، فالكلمات الكونية هي أمره للخلائق، وهي الكلمات التكوينية التي يكون بها خلقه؛ وقد قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[آل عمران:59]، وقال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82]، فهذه الكلمات الكونية القدرية نافذة لا يتعداها بر ولا فاجر، ولا انحصار لها، لا يمكن أن تنتهي أبداً، وقد قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[الكهف:109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ[لقمان:27]، وهذه الكلمات هي التي لا مبدل لها؛ فقد قال الله تعالى: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ[الأنعام:34].

    أما النوع الثاني من الكلام فهو الكلمات التشريعية وهي: الوحي الذي أنزله على عباده، وقد ختم الوحي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يمكن أن ينزل بعده وحي، فقد ختم الله الرسالة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده؛ ومن هنا فقد انتهت الكلمات التشريعية، وانحصرت فيما أنزل من قبل، ولا يمكن أن تزداد بحرف واحد، أما الكلمات الكونية فلا حصر لها، ولا يمكن أن تنتهي أبداً.

    1.   

    الإيمان بالرسل عليهم السلام

    كذلك الركن الرابع من أركان الإيمان هو الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين أرسلهم الله إلى عباده وكلفهم بالبلاغ والنذارة، والبشارة؛ اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ[الحج:75]، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، وقد اختارهم الله تعالى اختياراً وانتقاهم انتقاءً، واصطفاهم اصطفاءً، فكمل خلقهم وخلقهم، وجعلهم أشرف الخلائق وأكمل الخلائق، وأكثرها إيماناً وأرجحها عقولاً، وأقواها في الله سبحانه وتعالى وأكملها فطرة، وقواهم الله تعالى على تحمل الوحي، والأمانة العظيمة.

    وأول الرسل إلى أهل الأرض نوح عليه السلام؛ فقد كان آدم رسولاً إلى ذريته، ثم نوح أرسل إلى أهل الأرض كافة، ثم بعد ذلك تتابع الرسل تترى؛ فما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولا؛ كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ[فاطر:24]، وكما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[النحل:36]، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[النساء:165]، فجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءوا بهذه العقيدة وهذا الإيمان.

    ولذلك فإن ملتهم واحدة؛ فشريعتهم بالتفاصيل تختلف، لكن عقيدتهم وهي ملة واحدة؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، أبناء علات )، (أبناء علات)، أي: كالأولاد الذين أبوهم واحد، وأمهاتهم عدد؛ فكذلك الرسل عقيدتهم واحدة، وشرائعهم والأحكام التي تنزل عليه مختلفة، ولهذا قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].

    ويجب الإيمان بهم جميعاً، وأنهم كذلك رسل من عند الله تعالى بلغوا عنه ما أمروا بتبليغه، ويجب الشهادة لهم بالتبليغ، وأن الله تعالى عصمهم عن الكذب عليه، وعصمهم كذلك من الإقرار على معصيته، وأن الله سبحانه وتعالى صدقهم بالمعجزات الظاهرة الباهرة، وأنه سبحانه وتعالى قوى عقولهم؛ فمنع أي تأثير عليها، فلا يمكن أن يصل أي ضرر إلى عقولهم، فعقولهم أكمل العقول وأتمها، ويجب الإيمان بخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أفضلهم، وإمامهم، ومنهم أولو العزم من الرسل وهم أفضلهم، وهو الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[الأحزاب:7]، فأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم إبراهيم ، عليهم السلام أجمعين.

    وهؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام تجب موالاتهم جميعاً ومحبتهم جميعاً، والإيمان بهم جميعاً وبصدقهم، وبما جاءوا به من عند الله تعالى، ومن كذب واحداً منهم فقد كذبهم جميعاً؛ كما قال الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ[الشعراء:105]، وإنما كذبوا نوحاً وحده، فتكذيب واحد تكذيب لهم جميعاً، وكذلك من بعده: كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ[الشعراء:123]، كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ[الشعراء:141]، كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ[الشعراء:160]، كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ[الشعراء:176]، فجميعهم كذبوا المرسلين جميعاً بتكذيب نبي واحد من الأنبياء؛ ومن هنا فعقيدة المسلمين تقتضي أن كل من كذب نبياً من الأنبياء فهو كافر مطلقاً، وكل من كذب نبياً من الأنبياء في أي شيء أخبر به فهو كافر.

    ولا نعلم حصر عددهم، فقد قال الله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا[النساء:164]، وقد بين الله سبحانه وتعالى لنا أسماء بعضهم في كتابه؛ فجاء منهم خمسة وعشرون سموا في القرآن، وقد تضمنت آيات سورة الأنعام ثمانية عشر منهم؛ كما قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ[الأنعام:83-86]، وكذلك فإن آية سورة النساء أيضاً تضمنت عدداً منهم وهي قول الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[النساء:163-165]؛ فأولئك رسل الله عليهم الصلاة والسلام هم أشرف الخلائق وأكملها.

    فائدة الإيمان بالرسل

    ومن فائدة الإيمان بهم أن تتعلق النفوس بهم وأن تحبهم، وأن تقتدي بهم في محبتهم لله وعبادتهم له، وأن تتسلى عما يصيبها في الله تعالى بما أصاب الأنبياء، فهم خير منا، ولو كانت هذه الدنيا دار قرار؛ لعجل الله فيها الخيرات للأنبياء، فلذلك تعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أشرف الأنبياء، وأشرف الخلائق جميعاً وأكملهم، وأتقاهم وأخشاهم لله وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، ومع ذلك يقاتل ويبذل الأسباب في هذه الحياة، وتكسر رباعيته وتدخل الحلقة في جبينه من المغفر، وتشج ركبته، ويجوع حتى يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ويغزو كذلك في العدد اليسير من الناس، ويسكن في بيت إذا وقف الرجل فيه وصلت يده إلى سقفه، وينام على الحصير، فيؤثر في جنبه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا عرفنا ذلك هانت علينا الدنيا، ونظرنا إليها بنظرة دونية جداً، ولو كانت هذه الدنيا محلاً للخير ومحلاً لرضى الله، ومحلاً لنظره لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بها من الذين يتطاولون فيها الآن من الملوك.

    أنتم تعرفون أن ملكة بريطانيا ذكر أنها مكثت أربعين سنة لم تدخل مستشفىً قط، وهي تعيش في أنواع زخارف هذه الحياة الدنيا، وهي الآن ملكة لبريطانيا وكندا وأستراليا، ولو كان هذا خيراً لعجل للنبي صلى الله عليه وسلم خير منه، لكن لما عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش نبياً عبداً هانت علينا الدنيا، ولم نولها أي اعتبار، ولم تكن أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولم نجعلها محلاً لتنافسنا، وتذكرنا قول الله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132]، فالملوك الذين يستطيع أحدهم أن يمكث السنة كلها، كل يوم يدخل قصراً من قصوره، لا يدخله في بقية السنة، حالهم الدنيوي لا يمكن أن يشغلنا عن حال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فلذلك لا بد أن نتذكر: ( أن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضه، ما سقى منها كافراً شربة ماء )، وقد عجلت طيباتها لأعداء الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقال لهم يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا[الأحقاف:20].

    1.   

    الإيمان باليوم الآخر

    أما الركن الخامس من هذه الأركان فهو: الإيمان باليوم الآخر، وهو الإيمان بالقيامتين:

    القيامة الصغرى

    القيامة الصغرى والقيامة الكبرى، أما القيامة الصغرى فهي قيامة كل إنسان، وهي مقدمه على الله بالموت؛ ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، فكل إنسان قيامته الصغرى هي انتزاع الروح من بدنه عند الموت؛ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا[النازعات:1-2]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34].

    وهذا الموت هو: انتقال من دار إلى دار، وتحول واقعي عما كان الإنسان يألفه؛ فكل ما يعرفه الإنسان في هذه الحياة وكل ما يخطر على قلبه سيرى الأمور على خلافه تماماً، كل الأمور تغاير تصور الإنسان وما كان يتصوره؛ فنحن نرى الناس يموتون، فنظن أن الأمر سهل ميسور، ولكن وصف عمرو بن العاص الموت وصفاً عجيباً، فقد سأله ابنه عبد الله فقال: (يا أبت! إنك كنت تتمنى أن تجد رجلاً عاقلاً يحتضر، حتى يصف لك الموت، وأنت ذا الرجل العاقل فصف لنا الموت، فقال: أشعر كأن الشوك يجر في عظامي. (وكأن الأرض سويت فوضعت عليها، ثم وضعت السماء على صدري، وكأن نفسي تخرج من خرت إبرة). أي: من ثقب الإبرة، فالموت أمر عظيم! ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغمس يده في الماء ويمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات.. إن للموت لسكرات ).

    وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتذكر الموت فقال: ( أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت، ما ذكر في سعة إلا ضيقها، ولا في ضيق إلا وسعة )، وهادم اللذات أي: قاطع اللذات الموت، ( فما ذكر في سعة إلا ضيقها ولا في ضيق إلا وسعة )، وهذا الموت هو عبارة عن انكشاف ينكشف للإنسان، فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وتنتهي مهمته في هذه الحياة، وينتقل إلى ما قدم؛ فيجد أعماله مرصوصة أمامه جميعاً، لا يفقد منها كبيراً ولا صغيراً، وهو يتمنى حينئذ الفرار منها؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30]، ينكشف للإنسان بها كثير مما كان خفياً عنه، كما قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22].

    أول مشاهد القيامة الصغرى

    وأول مشاهد هذه القيامة الصغرى هو القبر، فهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله وأعظم منه كل ما بعده، وأول ما يلقاه الإنسان في ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك سؤال منكر و نكير : ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟

    ثم بعد ذلك عرض الأعمال على الإنسان، ومجيئها إما في أحسن صورة، وإما في أقبح صورة، ثم بعد ذلك عرض مقعده، ثم محاسبته على أعماله، ثم جزاؤه إما بنعيم القبر وإما بعذابه، والمقصود بذلك ما يعجل له من جزائه فقط، هذه هي مشاهد القيامة الصغرى، وهي هول هائل وحدث عظيم، ولذلك جاء في الخبر: ( ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة )، لكن هذه القيامة الصغرى على هولها وضخامتها، وفظاعتها وشناعتها لا تساوي شيئاً من القيامة الكبرى.

    النفخ في الصور

    والقيامة الكبرى بداية مشاهدها بإذن الله تعالى للملك بالنفخ في الصور، فينفخ فيه نفخة الفزع؛ فيصعق الناس لها جميعاً؛ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر:68]، وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ[النمل:87]، فلذلك هذا هو أول مشاهد القيامة وهو النفخ في الصور.

    ثم بعد ذلك النفخة الثانية التي تنبت منها الأجسام، ويعود منها الناس قياماً، ثم بعد هذا زلزلة الأرض؛ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[الزلزلة:1-5]، يهزها الجبار سبحانه وتعالى فتستوي جميعاً، تكون جبالها كالعهن المنفوش؛ تتفيؤها الرياح، وتكون أوديتها مستوية تماماً، ويخرج كل ما فيها من الأجداث والقبور، تنفضها نفضاً، ويخرج ما فيها من المعادن، وما فيها من الكنوز كالجراب ينفض.

    تشقق السماء

    ثم بعد ذلك تشقق السماء؛ فهي يومئذ واهية، وتطوى كطي السجل للكتب، ثم بعد هذا ينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم؛ فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وتبدل الأرض غير الأرض؛ فيحشرون جميعاً، في الساهرة، وهي أرض كالكرسفة البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، يتدارك فيها الخلائق أمة بعد أمة، حتى يأتي آخرهم، حفاة عراة مشاة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104].

    وقد قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! وا سوأتها! الرجال والنساء حفاة عراة، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة ! الأمر أهول من ذلك )، أي: لا يمكن أن ينظر أحدهم إلى أحد، يفر المرء في ذلك الوقت من أبيه وأمه وبنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، يفر من كل من عرف وجهه في الدنيا؛ لئلا يطالبه بحق عند الملك الديان؛ فالله تعالى يسأل عن صحبة ساعة، فكل من عرفته في الدنيا إذا رأيته في الموقف هربت منه، ثم بعد هذا طول الموقف طولاً عجيباً،؛ يؤتى فيه بالشمس فتدنو فوق الرءوس حتى تكون كالميل في شدة حرها وأوجها.

    مشهد حضور جهنم

    ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، أي: أربع مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يجرون جهنم جراً، حتى تحيط بالناس من كل جانب، وهم ينظرون إليها فيرون بعضها يركب بعضاً، ويرون ما فيها من الظلام والأودية الهائلة، وما فيها من البرد الشديد الزمهرير، وما فيها من الحر الفظيع الهائل، هذه الشمس التي تشعرون بحرارتها الآن، ودرجة الحرارة المتوقعة عليها تقريباً أربعة عشر مليون درجة حرارية، ومع ذلك تكون عقيرة في النار يوم القيامة، توضع في النار يوم القيامة، حرارتها لا يمكن أن تقارن بشيء، وفيها كذلك من النتن والخبث الشيء العجيب جداً؛ فلو أن قطرة واحدة من قطران النار قطرت بالأرض؛ لخبثت كل شيء فيها وبشعته، حتى لا يستطيع أحد أن يتنفس بهوائها، ولا أن يشرب من مائها، فيرونها فلا يرون مشهداً أفظع من ذلك المشهد، وهم يرون جهنم تقاد، والملائكة يجرونها جراً.

    ويطول بهم الموقف ويشتد العرق؛ فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويشتد بهم الأمر فيتداعون إلى العلماء فيقولون: كنا نرفع إليكم أمورنا في الدنيا، فيقول العلماء: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيذهبون إلى آدم فيقولون: ( يا آدم ! خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وجعلك خليفته في الأرض؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله وأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح فيأتونه فيقولون: يا نوح ! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وأنت أبو البشر بعد آدم ؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول نوح : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله مالم يأذن لي به، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم ! قد اصطفاك الله من الخلائق خليلاً؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول إبراهيم : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وهل كنت إلا خليلاً من وراء وراء، وإني كذبت ثلاث كذبات ولكن اذهبوا إلى موسى ، فيأتونه فيقولون: يا موسى ! قد اجتباك الله برسالاته وبكلامه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة، وإما إلى نار، فيقول موسى : نفسي.. نفسي، رب لا أسألك إلا نفسي! إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم يؤذن لي بها، ولكن اذهبوا إلى عيسى ، فيأتونه فيقولون: يا عيسى ! أنت كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه؛ فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى : نفسي.. نفسي! رب لا أسألك إلا نفسي ، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عبدت من دون الله، لا يجد شيئاً يأثره غير ذلك، ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الرسل وإمامهم، فاشفع لنا إلى ربنا، إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول: أنا لها؛ فيخر ساجداً تحت العرش، فيلهمه الله ثناءً عليه لا يحسنه في الدنيا، لم يثن به أحد على الله تعالى قبله، فيناديه فيقول: يا محمد! ارفع رأسك واشفع تشفع، وسل تعط )، فيشفع للناس، فيخرجون من الموقف.

    ويتجلى الباري سبحانه وتعالى، لفصل الخصام؛ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17]، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:22-30].

    العرض على الله وعرض الأعمال

    ثم بعد ذلك تتوالى مشاهد القيامة، ومنها العرض على الله تعالى؛ فكل إنسان يعرض عليه وحده؛ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[مريم:95]، جميع الخلائق ما منهم أحد إلا وهو يعرض على الله وحده، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً[مريم:95]، ثم يعرض الله تعالى أعمال العباد عليهم فيسألهم عنها، ويبسط كنفه على عبده المؤمن فيقول: ( أي عبدي! أتذكر يوم كذا، إذا فعلت كذا، وكنت قد نهيتك عنه؟ فيقول: نعم يا رب! وكنت قد نسيته، فيقول: لكنني لم أنسه ).

    ثم بعد ذلك يعطي الله الكتب للناس؛ فبعضهم يعطى كتابه بيمينه تلقاء وجهه، فيبيض الله وجهه؛ فيسير في النور مسيرة خمسمائة عام، وإذا نال كتابه بيمينه فرح فرحاً لم يفرحه قط في حياته، ولذلك ينادي بأعلى صوته: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:19-24].

    وأما الآخرون - نسأل لله السلامة والعافية - فتدخل أيديهم من بين ثديهم وتخرج من بين أكتافهم، وهي اليد الشمال تدخل بين الثديين وتخرج من بين الكتفين، فيعطى كتابه بشماله وراء ظهره، نسأل الله السلامة والعافية! فيساء مساءة لم تدخل عليه قط، فلذلك يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:25-29]، فيقول الله لملائكة الشمال: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ[الحاقة:30-37].

    ثم بعد ذلك توزن أعمال العباد في ميزان القسط، وله كفتان ولسان، فمن رجحت كفة حسناته كان فائزا، ومن رجحت كفة سيئاته كان خاسراً، ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم فتقرب، وتزلف الجنة كذلك فترفع، وينصب الصراط على متن جهنم، وهو أحد من السيف أرق من الشعر، وعليه كلاليب كشوك السعدان يتفاوت مرور الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم يزحف على مقعدته؛ فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس على وجهه في نار جهنم، ثم بعد ذلك يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيأتي أهل الجنة إلى أبوابها فيرونها مؤصدة، وقد كانوا ينظرون إليها من بعيد، فيصل إليهم من روحها وروحانها، فأول من يستأذن فيحرك الحلقة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفتح أبواب الجنة الثمانية، ويؤذن للمؤمنين في دخولها.

    ثم بعد ذلك تفتح أبواب النار السبعة - نسأل الله السلامة والعافية - ويقسم أهلها بين تلك الأبواب؛ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ[الحجر:44]، فيدخلونها على تفاوت درجاتهم ومنازلهم، وتتفاوت درجات أهل الجنة ومنازلهم فيها كذلك تفاوتاً عجيباً؛ ( إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء ).

    هذه بعض مشاهد القيامة يجب الإيمان بها جميعاً، وهي داخلة في هذا الركن الخامس من أركان الإيمان.

    1.   

    الإيمان بالقدر

    ثم الركن الأخير وهو السادس من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر، خيره وشره.

    مراتب القدر

    وهو أربع مراتب هي:

    أولاً: علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً، وتفصيلاً.

    ثانياً: كتابته لكل ما هو كائن في الصحف التي عنده فوق عرشه وهي أم الكتاب، لا محو فيها ولا تبديل؛ يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[الرعد:39].

    المرحلة الثالثة: توزيعه لما هو كائن على الزمن؛ ففي كل عام ليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم، أمراً من عند الله، وكل جنين يكتب معه وهو في بطن أمه أجله وعمله ورزقه، وشقي أو سعيد، وكل شجرة يكتب معها أجلها، وعدد ما ينبت فيها من الورق، وما يتساقط منها؛ ( إن لهذه الأشجار لآجال كآجالكم ).

    ثم المرتبة الرابعة من مراتب القدر: تنفيذ ما هو كائن على وفق علم الله السابق؛ جلستنا هذه علمها الله قبل خلق السموات والأرض، وكتبها كما هي في الصحف التي فوق عرشه، ثم قدرها في العام في هذه الليلة، في هذه الساعة، ثم نفذها الآن على وضع علمه، قبل خلق آدم وقبل خلق السماوات والأرض.

    أقسام القدر

    هذا القدر يجب الإيمان به وبمراتبه الأربعة، ثم يجب الإيمان بأقسام القدر الأربعة، وهي:

    القدر الخير الحلو، والقدر المر، والقدر الشر الحلو، والقدر الشر المر، فالقدر الخير الحلو هو ما يعجله الله لعباده المؤمنين مما يعينهم على الطاعات، كما يفسح لهم فيه من الأعمار، وما يرزقهم من العافية والتوفيق، وما يرزقهم من الأموال والأولاد التي تعينهم على الصلاح والاستقامة، هذه من القدر الخير الحلو، هو خير لهم؛ لأنه يقربهم من الله، وهو حلو؛ لأنه موفق لمبتغاهم.

    والنوع الثاني من القدر هو القدر الخير المر، وهو ما يصيب الله به عبادة المؤمنين من المصائب التي تكون تكفيراً للسيئات، ورفعاً للدرجات، وهي خير لهم؛ لأنها تكفير لسيئاتهم، وتقريبهم إلى الله، وإن كانت مرة؛ لأنها غير موافقة لأهوائهم.

    والنوع الثالث من القدر هو القدر الشر الحلو، وهو ما يعجل الله لأعدائه الكفرة الفجرة، مما يعينهم على معصيته؛ وَأُمْلِي لَهمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[الأعراف:183]، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، فيستدرج أعداءه، فيعطيهم الأموال والأولاد، ويفتح لهم بالتكنولوجيا والعلوم، حتى يتمردوا على سلطان الله؛ فيقولون ما قالت عاد: من أشد منا قوة؟! كما تسمعون أمريكا ما تقول اليوم، فهذا التمرد على الله تعالى وعلى سلطانه إنما هو بالتقوي بما أنعم الله به وبما قدره من الخيرات التي كان بالإمكان أن يحجبها، وبالإمكان أن يضاعفها أيضاً، له الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، فهذا الذي يزيدهم جرأة وجسارة على الكفر وهو من القدر الشر الحلو، فهو شر لهم؛ لأنه طغيان وكفر، لكنه حلو؛ لأنه موافق لهواهم.

    والنوع الرابع هو القدر الشر المر، وهو صناديد القدر التي يعجلها الله لأعدائه من الكوارث والأوبئة، فما يسلط الله عليهم من الكوارث؛ كأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكتحطم المراكب الفضائية، وما يسلطه عليهم كذلك من الأوبئة والأمراض، كالجمرة الخبيثة، وغيرها كل هذا من القدر الشر المر، وهو صناديد القدر، تتحطم الطائرات، تتحطم السيارات، تقع الكوارث، كل ذلك من القدر الشر المر، فهو شر لهم؛ لأنه يعجلهم إلى مصيرهم الحتمي وهو النار، وهو مر؛ لأنه مخالف لهواهم، ويكرهونه، فأنتم تعرفون أن ديانا لم تكن تريد أن تموت في حادث سير في سيارتها، لكن الله عجل لها ذلك فهو من القدر الشر المر.

    فإذاً هذه الأقسام الأربعة يجب الإيمان بها، ويجب الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك من الله سبحانه وتعالى.

    بهذا نعلم أن عقيدة السلف الصالح، موافقة للفطرة، وموافقة للوحي، ومحققة لحب الله سبحانه وتعالى، وحب رسله جميعاً، وحب ملائكته، والإيمان بقدره خيره وشره، والإيمان كذلك باليوم الآخر وتفاصيل ما فيه؛ فلذلك علينا أن لا نعدل عنها وأن نأخذ بها، وأن نعلم أن تعلمها من العمل الذي لا يمل حتى لو كررت مراراً وتكراراً على أسماعنا، فلا يزيدها التكرار إلا وضوحاً وظهوراً؛ فلذلك نحتاج إلى تكرارها كما نكرر القرآن، ألم يشرع لنا تكرار الفاتحة في كل سورة؟ وهل يحصل الملل بتكرار القرآن؟ أبداً، وقد قال الشاطبي رحمه الله:

    (وترداده يزداد فيه تجملاً). فلذلك نحتاج إلى مراجعة هذه العقيدة دائماً، ونحتاج إلى مثل هذه الجلسات الإيمانية التي ننفض فيها الغبار عن إيماننا، ونناقش فيها قضاياه، ونتوكل فيها على الله سبحانه وتعالى، ونتصل به ونسمع الوحي المنزل من عنده، ويزول الظلام عما أمامنا، فنحن الآن نسير في طريق إلى الله، وما أمامنا مظلم مستور عنا لا يتضح إلا بالوحي، فالوحي هو النبراس الذي ينير لنا الطريق أمامنا، ونعرف به ما ينتظرنا، فالناس جميعاً يعلمون مما أمامهم الموت فقط، لكن الغافلون عما بعد الموت يظنون أن الموت راحة وانقطاع، وينسون ما بعد الموت، والذين لا يؤمنون بالبعث بعد الموت كذلك يظنون أن الأمر ميسور وهو أن يموت الإنسان فتنقضي حياته، فلا يعود بعد أن يكون رفاتاً إلى هذه الحياة أبداً، وهذا كله تصور خاطئ على خلاف الأمر تماماً، فلذلك نحتاج إلى ما ينير لنا الطريق أمامنا ويدلنا على ما ينتظرنا.

    نسأل الله تعالى أن يحسن ختامنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل خير أيامنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767960749