بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
عرف التجويد تعريفًا قاصرًا فقال:
وهو إعطاء الحروف حقها من صفة لها ومستحقها
قال: إن التجويد هو في الاصطلاح إعطاء الحروف حقها، وحق الحروف هو صفاتها اللازمة وصفاتها الأصلية، وهي هذه الصفات الثماني عشرة، ومستحقها في الاصطلاح هو: الصفات العارضة، التي ذكرنا بعضها ولم نحط بها، كالغنة، وكالترقيق والتفخيم، وغير ذلك، فهذه الصفات تسمى الصفات العارضة، فهذا اصطلاح، وإلا فلا فرق في اللغة بين الحق والمستحق؛ لأن الحق مستحق يستحقه صاحبه.
والناظم رحمه الله ركز على جهة الصفة، وترك المخارج، وترك أيضًا ما يتعلق بالوقف والابتداء، وما يتعلق بالوصل والفصل، وهو تابع للوقف والابتداء.
قال رحمه الله:
ورد كل واحد لأصله واللفظ في نظيره كمثله
في هذا البيت روايتان، إحداهما برفع (اللفظ) والثانية بجرها.
فالرواية الأولى: (ورد كل واحد لأصله)؛ أي: رد كل حرف إلى مخرجه، بأن يكون الإنسان متعودًا على النطق بالحرف من مخرجه تمامًا، بحيث لو أراد النطق به في أوضاع مختلفة لم يخرجه من غير مخرجه، فكثير من الناس يحاول إخراج الحرف من مخرجه إذا كان ساكنًا أو إذا كان مفتوحًا، أما إذا جاء مضمومًا فإنه يختلف نطقه به اختلافًا ليس راجعًا إلى الشكل، الاختلاف في الشكل مؤثر لا محالة، فالضاد في (المغضوب)، والضاد في (الضالين) بينهما فرق، لكن المخرج واحد، والصفة واحدة، والفرق إنما هو في الشكل، لكن بعض الناس لا يكون نطقه بالحرف الواحد مستقيمًا، فيتنوع نطقه به، تارة يلفظه هكذا، وتارة يلفظه هكذا، وهذا غير مجود، فالتجويد يقتضي رد كل واحد لأصله؛ أي: رد كل حرف لأصله، وهو مخرجه، وهذا على ما سبق في العهد بيننا أن نتناسى النطق السابق لدينا، وأن نبدأ الآن بالتعود على إخراج كل حرف من مخرجه وحده، ثم بعد ذلك نركبها.
أما رواية الكسر (واللفظِ في نظيره كمثله) فمعناه: ورد اللفظ في نظيره، وهو الإدغام، (في نظيره)؛ أي: فيما يدغم فيه، وهو ثلاثة أقسام: المثل، والمقارب، والمجانس، ومثل بأحد الأصناف الثلاثة، وهو المثل، فقال: (كمثله)، فاللفظ يدغم في مثله، ويدغم في مقاربه، ويدغم في مجانسه، فالمثل هو الحرف نفسه، الباء في الباء، والمقارب هو: الحرفان اللذان تقارب مخرجاهما واختلفا، مخرجان متواليان، بخلاف ما فيه فرق في المخرج بمخرج كامل، مثلًا أقصى الحلق تخرج منه الهمزة والهاء، وأدنى الحلق تخرج منه الغين والخاء، فهذه وإن كانت من أحرف الحلق إلا أنها غير متقاربة، فالغين غير قريبة من الهاء مثلًا؛ لأن المخرجين حال بينهما مخرج، وهو وسط الحلق الذي تخرج منه العين والحاء، لكن العين قريبة من الهاء؛ لأن مخرجيهما متواليان، فالمخرجان المتواليان إذا كانا من موضع واحد، فخرج منهما حرفان فهما متقاربان، أما إذا كانا من موضعين، فكان الخاء مثلا من حروف الحلق، والقاف من الحروف اللسانية، فهما متواليان، لم يحل بينهما مخرج، لكن موضعيهما مختلفان، وأما المتجانسان فهما الحرفان اللذان اتفقا في المخرج، واختلفا في الصفات، فمخرجهما واحد، كالدال والطاء مثلًا، المخرج واحد لكن الصفة مختلفة.
(ورد اللفظ في نظيره)؛ أي: رد اللفظ بالحرف، المقصود باللفظ هنا الحرف الواحد، رده؛ أي: إدغامه في نظيره، فذلك داخل في التجويد، وذلك في أقسام الإدغام، وهي اثنا عشر نوعًا، ستأتينا إن شاء الله؛ لأن الإدغام إما أن يكون كبيرًا، وإما أن يكون صغيرًا، والكبير هو الذي يكون الحرفان فيه متحركين، ما تحرك فيه الحرفان هذا هو الإدغام الكبير، ويختص به من القراء السوسي وحده، فالسوسي هو الذي يسكن أول المحركين ويدغمه في الثاني.
فإذًا الإدغام إما أن يكون كبيرًا، وإما أن يكون صغيرًا؛ فالكبير هو في المتحركين، والصغير هو في الساكن، إذا كان الحرف ساكنًا، والذي بعده محركًا، فهذا الإدغام يسمى الإدغام الصغير.
ثم بعد هذا الإدغام الكبير والصغير، إما أن يكون في كلمة واحدة، أو في كلمتين، فتلك أربع صور، نضربها في هذه الثلاث التي لدينا، وهي إما أن يكونا مثلين، وإما أن يكونا متقاربين، وإما أن يكونا متجانسين، فالجميع اثنتا عشرة صورة، وهذه هي صور الإدغام دائمًا، لابد أن تتقنوها، وهي أن صور الإدغام اثنتي عشرة صورة؛ لأنه إما إدغام كبير أو إدغام صغير، وكلاهما إما أن يكون في كلمة أو في كلمتين، والصور الأربع مضروبة في ثلاث، وهي إما أن يكونا مثلين أو متقاربين أو متجانسين، وسيأتينا التمثيل لذلك إن شاء الله تعالى عند كلامنا في الإدغام، فرواية الجر تقول: واللفظِ؛ أي: وإدغام اللفظ في نظيره وهي على حذف مضاف:
وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
فعندما حذف المضاف إليه هنا، أقيم المضاف مقامه، فأصل الكلام إدغام أو إدخال أو رد اللفظ في نظيره، و(اللفظ) المقصود به الحرف، (في نظيره)، النظير كالمثل، والكاف هنا مدخلة للمقارب والمجانس؛ لأن الكاف تشبيه، فلا يقصد بها حصر النظير في المثل، بل النظير يشمل المثل والمقارب والمجانس، فكل ذلك نظير.
الرواية الثانية وهي: (واللفظُ في نظيره كمثله)، هي شرح للشطر السابق، وهي تقتضي أن يكون التلفظ بكل حرف في نظيره كالتلفظ به دائمًا، نطقك بالضاد هو نطقك بالضاد في كل موضع، وفي كل كلمة، ونطقك بالحاء هو نطقك بالحاء في كل موضع، ونطقك بالفاء هو نطقك بالفاء في كل موضع، فهذا هو تفسير رواية الرفع (واللفظُ في نظيره كمثله).
قال: (مكملًا)؛ أي: لابد من إكمال الحرف وعدم حذه، والحذ معناه: القطع في الأصل، حذ الشيء، بمعنى قطعه، والأحذ هو المقطوع، والحذ هو القطع، وحذ الحرف معناه: اقتطاع جزء منه، بحيث لا تكمله حتى تأتي بالحرف الذي بعده، فيسمع شيئاً منه، ولكن يؤتى بالحرف الذي بعده مباشرة، وذلك في الحروف التي فيها صفة قوية، كالإطباق مثلًا، أو الاستعلاء إذا نطقت بها مدغمة، فإنك إذا قلت مثلًا: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ [المرسلات:20]، القاف لم تنطق بها، لكن بقيت صفتها، وهي الاستعلاء، بقيت صفة الاستعلاء قبل الكاف وهي محل خلاف، سيأتينا الخلاف هل تنطق بها أم لا، والمخرج مخرجان، لكنهما تقاربا، فالقاف مستعلية، من أحرف الاستعلاء، والكاف ليست كذلك، فالاستعلاء الذي يحصل في القاف عند إدغامها سيبقى على هذه الرواية: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ [المرسلات:20]؛ فلذلك هذا النوع هو الذي يسمى بالحذ وهو قطع؛ لأن الحرف اقتطع منه شيء، ولم يكمل حتى جيء بالذي بعده، والأحذ: هو المقطوع العضوي، يطلق على السارق المقطوع اليد يسمى (أحذ)، ومنه قول الشاعر:
أوليت العراق ورافديه فزاريًا أحذ يد القميص
ولم يك قبلها راعي مخاض ليأمنه على وركي قلوص
(ووليت العراق ورافديه، فزاريًا أحذ يد القميص)؛ أي: مقطوع يد القميص.
ولم يك قبلها راعي مخاض ليامنه على وركي قلوص
(واللفظ في نظيره كمثله مكملًا) حال؛ أي: حال كونك في اللفظ به تكمله، من غير ما تكلف، لابد من التأكيد على عدم التكلف في النطق بالحروف كلها، فالتكلف- كما سبق- منافٍ للأمر، فالله تعالى يقول: وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، فعلى الإنسان أن يتعود النطق من غير تكلف، وإذا تعود الإنسان ذلك سهل عليه فكان يجري منه مجرى النفس، من الناس من يتكلف، فإذا نطق بالياء شددها حتى تكون كالجيم، يقول: إياك، فيسمع فيها صوت الجيم بسبب التشديد، فهذا النوع هو من التكلف المذموم شرعًا، (مكملًا من غير ما تكلف) باللطف؛ أي: لابد أن يكون نطق الإنسان به لطيفًا، أن يتلطف في النطق به، وقد سبق ما يتعلق بالجهر بالصوت، وأن عمر قال للرجل: (أما تختشي يا هذا أن تنشق بريداؤك؟!) باللطف في النطق، بلا تعسف في النطق به؛ أي: في حال النطق به، والتعسف هو والتكلف متقاربان، لكن التعسف معناه يكون في المعنويات؛ لأنه قطع للمسافات وتجاوز للطريق، والتكلف هو لزوم ما فيه كلفة، والكلفة هي المشقة، فيقال: تكلف فلان كذا؛ أي: وصل فيه إلى حد المشقة، ومنه التكليف في الشرع هو إلزام ما فيه كلفة، أو طلب ما فيه كلفة، وأما التعسف: فهو في الأصل قطع المسافة، وتجاوز الطريق، ومنه قول غيلان:
قد أعسف النازح المجهول معسفه في ظل أغضف يدعو هامه البوم
للجن بالليل في حافاته زجل كما تناوح يوم الريح عيشوم
هَنَّا وهِنَّا ومن هُنَّا لهن بها ذات الشمائل والأيمان هينوم
فهنا قال: (قد أعسف النازح المجهول معسفه)، معناه: قد أقطع الخرق، وهو القفر من الأرض، (المجهول معسفه) الذي يجهل الناس كيف يقطعونه، يجهلون مكان قطعه، بلا تعسف.
قال رحمه الله:
وليس بينه وبين تركه إلا رياضة امرئ بفكه
يقول: إن التجويد سهل جدًا، وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه أمر سهل ميسور، ليس بين فعله وتركه إلا أن يتريض الإنسان عليه بفكه؛ أي: بحنكه، فالفكان: هما الحنكان الأعلى والأسفل، والمقصود به هنا الفك الأسفل فقط؛ لأنه هو الذي يتحرك، فك الإنسان الأعلى لا يتحرك عند النطق، إنما يتحرك الفك الأسفل، ولذلك فأهل المنطق يمثلون للاستقراء التام من أمثلته: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، يقولون: هذا استقراء تام، ولكن نظرًا لأن الاستقراء لا يفيد القطع وجد عكس هذا فالكركدن وهو وحيد القرن يحرك فكه الأعلى عند المضغ، فكان الاستقراء غير حاصر، ولذلك فأهل المنطق يقولون:
ولا يفيد القطع بالدليل قياس الاستقراء والتمثيل
أنه لا يفيد القطع، لأنك أنت لم تأت على كل الحيوانات حتى يكون استقراؤك صحيحًا، نعم هو مقبول أصوليًا في تتبع الأدلة حتى يحصل به العلم؛ لأن كثيرًا من الأمور القولية لا يحصل بها العلم اليقيني، إذا قيل لك: ما الدليل على وجوب الصلاة؟ لا يمكن أن تقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]؛ لأنه يقال لك: هذا أمر محتمل لأن يحمل على الوجوب، وأن يحمل على الندب، وأن يحمل على الإباحة، وهو أيضًا شامل للفريضة والنافلة، ولا يمكن أن تقول: هو: وَالمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]؛ لأنه يقال لك: هذا وصف وثناء، وهو غير مستلزم للوجوب، فكيف تستدل على وجوب الصلاة من القرآن؟ إنما هو بجمع النصوص حتى يحصل منها استقراء، وهو قريب من التواتر المعنوي، كالجزم بشجاعة علي وجود حاتم، فهذا لم يرد فيه نص بخصوصه، لم يرد عن علي نص يتعلق بشجاعته حتى يتواتر ذلك، ولا عن حاتم بجوده، ولكن حصلت قصص كثيرة جدًّا حصل لنا العلم اليقيني من مجموعها، فكان ذلك استقراءً.
قال:
وليس بينه وبين تركه إلا رياضة امرئ بفكه
أي: ليس بين إتقان التجويد- إتقان الأداء- وبين تركه؛ أي: عدم فعله، (إلا رياضة امرئ بفكه)، (إلا رياضة امرئ)، والرياضة: التليين، والمقصود بها تعود الإنسان على ذلك، أن يعود فكه على النطق به، (إلا رياضة امرئ بفكه)، وهنا قوله: (وليس بينه وبين تركه)، أتى بـ(بين) مكررة؛ لأن (بين) الأولى مضافة للضمير، وإذا أضيفت إلى الضمير فإن ذلك يقتضي التكرار فيها، إضافتها إلى الضمير تقتضي تكرارًا، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، بخلاف إضافتها إلى الظاهر فلا تقتضي تكرارًا، فإذا أضيفت إلى الظاهر فكررت البينية اقتضى ذلك أن تكون في داخل كل واحد منهما:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
(بين الدخول فحومل)، لا يجوز التكرار في مثل هذا لو قلت: بين الدخول وبين حومل؛ لكان معناه: أنه بين الدخول وحده؛ أي: في طياته وثناياه، وبين حومل؛ أي: في طياته وثناياه، وهذا غير مقصود؛ فلذلك لا تكرر إلا مع الضمير، ومن تكريرها مع الضمير قوله:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها سوى ليلة إني إذًا لصبور
(أأترك ليلى ليس بيني وبينها)، فأتى ببين مكررة؛ لأن الأولى مضافة للضمير، (وليس بينه وبين تركه)، كان الأفضل أن يقول: وليس بين فعله وتركه، (إلا رياضة امرئ بفكه)، (إلا رياضة امرئ)، إلا تعوده على ذلك، وامرؤ هنا هو مقابل امرأة، فالمرء هو الرجل، والمرأة هي الأنثى، وامرؤ من الألفاظ القليلة التي الإعراب فيها على حرفين، فالأصل في الإعراب أنه تغيير أواخر الكلم، وهذه الكلمة الإعراب فيها فيه تغيير وسط الكلمة وآخرها، فتقول: جاء امرُؤٌ، ورأيت امرًَا، ومررت بامرِئِ، ففي الرفع تضم الراء والهمزة، وفي النصب تفتح الراء والهمزة، وفي الجر تكسر الراء والهمزة، فإعرابها على الحرفين معا، (إلا رياضة امرئ بفكه)، والفك- كما ذكرنا- هو الحنك، وهو عظم الحنك والذي يسمى فكًّا، وهما فكان في كل جانب:
كأن بين فكها والفك فارة مسك ذبحت في سك
كأن بين فكها والفك؛ أي: في داخل فمها فارة مسك ذبحت في سك.
بعد هذا بدأ في الصفات العرضية، وأراد بذلك التنبيه على التحفظ على النطق بالحروف، فقال: باب الترقيق، فالترقيق من هذه الصفات العرضية، وإن كان أصلًا في كل حرف مستفل، إلا أن مقابله، وهو التفخيم أو التغليظ يقع في ثلاثة من الحروف المستفلة، وهو أصل في الحروف المستعلية كلها، قال: (فرققن مستفلا من أحرف)؛ أي: رقق المستفل من الأحرف، وتنكير أحرف هنا غير مقصود، فالمقصود (فرققن مستفلا من الأحرف)، كان الأفضل أن يقول: م الأحرف، فمن تحذف نونها قبل ال:
كأنهما م الآن لم يتغيرا وقد حل بالدارين من بعدنا عصر
فالألف يعرض فيها التفخيم، لأن الأصل فيها الترقيق؛ لأنها حرف مستفل، لكنها يعرض فيها التفخيم، وذلك في موضعين: إذا كانت بعد لام الجلالة في حال تفخيمها، وذلك بعد الفتحة والضمة، فتقول: وَقَالَ اللهُ [المائدة:12] فهذه الألف هنا مفخمة؛ لأنها مدة للام المفخمة.
الثاني: إذا كانت بعد اللام المفتوحة المفخمة بعد الطاء والظاء والصاد في رواية ورش عن نافع، (الصلاة)، فالألف هنا مفخمة؛ لأنها بعد اللام المفخمة في رواية ورش، (الصلاة)، (بظلام)، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فالألف تفخم في هذا الموضع، (وحاذرن تفخيم لفظ الألف).
كذلك الهمزة، فهي غير مفخمة، فحاذر تفخيمها، وبالأخص عند ابتداء النطق كما تقول: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فاحذر أن تقول: (ألحمد)، (أ) فاحذر ذلك، (كهمز ألحمد)، كذلك (أعوذ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، (أعوذ) تفخيم الهمزة أيضًا محذور، لابد من تعاهدها حتى يكون النطق بها من محلها، اهْدِنَا [الفاتحة:6]، كذلك إذا افتتحت- من باب الامتحان- فقلت: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ فالهمزة هنا همزة وصل، وإذا نطقت بها فاحذر أن تفخمها، والتنبيه هنا سببه أن هذه الهمزة يجاورها حرف مستعل، فتفخم، ففي (الحمد) تجاورها الحاء، كذلك (أعوذ) تجاورها العين، (اهدنا) تجاورها الهاء، وهي من أحرف الحلق وهما حرفا حلق، فقوتهما تقتضي التفخيم إذا لم ينتبه الإنسان لذلك، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فانطق بالهمزة هكذا، وهذا محله عند الابتداء بها؛ إذا كنت تبتدئ بها، أما إذا لم تبتدئ بهمزة (اهدنا) فتسقط؛ لأنها همزة وصل تسقط في درج الكلام، فتقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5-6]؛ فتنطق بالنون مضمومة، وتسكن الهاء بعدها من غير همزة أصلًا، وهنا لابد من التنبيه على أن بعض الناس يخطئ فيها، فبعض الناس يثبتها في الوصل فيقول: (وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم)، وهذا خطأ؛ لأنه حقق الهمزة التي هي همزة وصل، فقطعها أتى بها همزة قطع، وكذلك ذكر أن بعض الناس ينطقها بالياء، يقول: (يهدنا) نعوذ بالله! أو (يُهدنا)، وكل هذا من اللحن البين، أما نطقها بالياء فهو مبطل للصلاة، ونطقها بالهمزة بالتحقيق ليس مبطلًا للصلاة؛ لأنه من لغات العرب، فالعرب قد يجعلون همزة القطع وصلًا، وقد يجعلون همزة الوصل قطعًا، فمن جعل همزة الوصل قطعًا: (ألا لا أرى إثنين)، وكذلك همزة اسم:
لقد زعم الواشون أن قد شتمتني ويا حبذا من فيك لو علموا الشتم
لقد قبل اسمي فاك حين ذكرتني فليت المسمى مثل ما زعموا الإسم
(الإسم)، همزة (اسم) همزة وصل، ومع ذلك قطعها العرب هنا، وكذلك العكس، وهو وصل همزة القطع، وذلك مثل قول الشاعر:
يا ليتني كنت صبيًّا مرضعا
تحملني الذلفاء حولًا أكتعا
إذا بكيت قبلتني أربعًا
ثم اربعًا ثم اربعًا ثم اربعا
إذًا ظللت الدهر أبكي أجمعا
فهنا قال: (ثم اربعًا ثم اربعًا ثم اربعا)، كلها همزة قطع في الأصل، ووصلها جعلها بمثابة همزة الوصل.
وورد في الحديث: ( وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )، فهمز (ايم) في القسم همز وصل من الهمزات العشر التي سنذكرها إن شاء الله، ومع ذلك جاء قطعها في رواية من روايات هذا الحديث، كهمز (ألحمد) (أعوذ) (إهدنا)، (ألله) (الله لا إله إلا هو)، فالهمزة هنا لابد من الحذر من تفخيمها؛ لأن بعدها اللام المفخمة، والألف التي بعد اللام مفخمة كذلك.
(ثم لام لله لنا)، كذلك لابد من الحذر من تفخيم لام (لله) الحمد لله ولا تقل: الحمد لله، كما يفعل بعض الناس، فلابد من التحفظ على النطق باللام المكسورة هنا، ولام الجر إذا كانت مع الضمير فتحت، وإذا كانت مع الاسم الظاهر كسرت، ومثل بهما معًا، ففي قوله: لله، هذه لام الجر مع الاسم الظاهر، وهي مكسورة، وفي قوله: لنا، لام الجر مع الضمير، وهي مفتوحة، فلابد من التحفظ في النطق بها.
كذلك لابد من التحفظ من تفخيم اللام في (وليتلطف)، في سورة الكهف، وهذه الكلمة هي انتصاف كلمات المصحف، فالمصحف من ناحية عدد الكلمات نصفه عند قوله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19]، وباعتبار عدد الحروف، نصفه عند ألف: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ [الحج:36]، في سورة الحج.
كما قال المرابط محمد أحيد رحمة الله عليه:
والبدن بين لامها والألف تناصفت حروف هذا المصحف
فالمصحف تنتصف حروفه بين اللام والألف في: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ [الحج:36]، وفي الكلمات تنتصف عند (وليتلطف) وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19]، من النصف الأول، و وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [الكهف:19]، من النصف الثاني، من ناحية عدد الكلمات، (وليتلطف).
كذلك لابد من التحفظ في النطق باللام التي هي لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع، ولام الأمر الداخلة على المضارع في القرآن، إما أن تكون ساكنة دائمًا؛ أي: في جميع القراءات، مثل (وليتلطف)، أو أن تكون خلافية، مثل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]، في سورة الحج، وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت:66]، في سورة العنكبوت، فاللام في إسكانها خلاف، فبعض القراء يقرؤها بالكسر، وبعضهم يقرؤها بالإسكان، أما (وليتلطف)، فإسكانها محل اتفاق بين القراء كلهم، وَعَلَى اللهِ [آل عمران:122]، كذلك اللام في على، وَعَلَى اللهِ [آل عمران:122]، فلابد من التحفظ عليها؛ لأن قبلها العين، وبعدها كذلك اللام المفخمة، والألف التي بعدها مفخمة، فلابد من الحفاظ عليها، لابد أن يحافظ الإنسان (على الله) هذا الخطأ في النطق، لا يقول: (على الله) وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، كذلك لام (ولا الضالين)، اللام التي في (لا) لابد من التحفظ أيضًا من تفخيمها، فهي عرضة لذلك، لما بعدها من الحرف المطبق المستعلي، وهو الضاد مشددة؛ لأنها تدغم فيها اللام الشمسية فتكون مشددة بذلك، (ولا الض)، لكن هذا النوع يسمى الاكتفاء، وهو الاكتفاء ببعض الكلمة، والاكتفاء في لغة العرب إما أن يكون حسنًا وإما أن يكون قبيحًا، (ولا الض) الضاد ساكنة، فالاكتفاء الحسن هو الذي يجعل القدر المؤتى به من الكلمة له معنى مثل قول الشاعر:
فلم يقم إلا بمقدار أن قلت له أهلًا وسهلًا ومر
فأصل الكلام: (أن قلت له أهلًا وسهلًا ومرحبًا)، لكن يمكن أن يفهم (ومر)؛ أي: مر، (فلم يقم إلا بمقدار أن قلت له أهلًا وسهلًا ومر)؛ أي: ومر.
والاكتفاء القبيح هو الذي لا يدل على معنى في ذاته، وإنما يكون اجتزاءً من الكلمة، وهو مثل الترخيم؛ لأن الكلمة حذف بعضها، (والميم من مخمصة ومن مرض)، كذلك لابد من التحفظ في حال النطق بالميم من مخمصة؛ لأن الحروف التي معها مستعلية، الخاء والصاد، فهذه حروف استعلاء، والميم جاءت قبل هذه الحروف وفي وسطها، فلابد من الحفاظ على استفالها بين الحروف المستعلية، وكذلك مرض، فالميم من المرض تجاورها الضاد أيضًا المستعلية المطبقة، وبينهما الراء؛ فلذلك لابد من الحفاظ عليها حتى لا تستعلي أيضًا، لابد من الحفاظ على استفالها، فتقول: مرض، الميم، الحفاظ على الميم لئلا تستعلي، فالميم ليس فيها إلا الترقيق في لغة العرب جميعًا، لكن إذا جاورها مستعل كثيرًا ما يغلط اللسان فيفخمها، وهذا التفخيم نبهك على تركه، كذلك قال: (وباء برق)، كذلك لابد من الحفاظ على الترقيق في الباء من لفظ برق، فهي مجاورة أيضًا للقاف المستعلية، وبينهما الراء الساكنة؛ فلذلك كثيرًا ما تفخم لدى بعض الناس، والباء دائما مرققة؛ لأنها مستفلة، ومثل ذلك الباطل، فالباء في (الباطل) مجاورة للطاء، وبينهما حاجز خفيف، وهو حرف المد، فلابد من الانتباه لها حتى لا تستعلي؛ حتى لا تفخم لمجاورتها لـمستعل.
(باطل بهم بذي)، كذلك (بهم)، فالباء هنا لابد من الحفاظ عليها حتى لا تستعلي، فتفخم، فينطق بها الإنسان على هيئتها، فيقول: بهم، وكذلك (بذي القربى) لابد أيضًا من النطق بالباء مرققة على هيئتها وليحذر الإنسان من تفخيمها أو استعلائها، (فاحرص على الشدة والجهر الذي فيها)، ولابد أن يحرص الإنسان على صفات هذه الحروف، وموضع (بذي القربي) يكثر فيه استعلاء الباء في نطق عوام الناس، فهو هنا يتتبع أخطاء القراء، فينبهك عليها لئلا تقع في مثلها.
(فاحرص على الشدة والجهر الذي فيها)، لابد من الحرص على صفات الحروف، ونبه على صفتين منها، وهما: الشدة، والجهر، فليحرص الإنسان عليهما في هذه الحروف، كذلك يحرص عليهما في الجيم، قال: (وفي الجيم)، يحرص على الشدة والجهر في الجيم، وعلى الانفتاح فيها؛ لأن الإنسان إذا ترك الشدة فيها كانت شينًا أو (قريبًا منها)، وكذلك الجهر إذا تركه الإنسان انقلبت إلى أن تقترب من الدال، فعلى الإنسان أن يعلم أنه إذا نطقها فقال: (ج) (ج) بالتفشي كانت شينا، وكذلك إذا قال: (ج) بالشدة المبالغة فيها كانت دالًّا، فماذا يفعل؟ لابد أن يتوسط بينهما، فيقول: (ج)، فهي حرف صعب النطق؛ فلذلك يختلف الناس فيه كثيرًا، الخلاف فيه كثير بين الناس، وبالأخص عند تشديده، (الحج)، كثير من الناس يقول: الحج، وكثير منهم يقول: الحج، فعلى الإنسان أن يكون متوسطًا بينهما، فيقول: الحج، فيحافظ على الشدة، وعلى الانفتاح، وعلى الجهر.
وأهل الأداء يعودون الناس على النطق بالجيم في مثل هذا الموضع في غير القرآن، حتى يتعود عليها من غير القرآن، كقول امرئ القيس: (إذا هو جرجرًا)، وكذلك قول الراجز، وهو رؤبة بن العجاج:
وهو إذا جرجر بعد الغب
جرجر في حنجرة كالجب
كأن وريديه رشاءا خلب
والجيم والياء بينهما التكافؤ في الإبدال في لغة العرب، فيبدلون الياء جيمًا، كقول الشاعر:
خالي عويف وأبو علج
المطعمان التمر بالعشج
ينزع بالود وبالصيصج
وكقول الراجز الآخر:
لاهم إن كنت قبلت حجتج
فلا يزال شاحب ياتيك بج
أقمر نهات ينزي وفرتج
والعكس أيضًا لغة من لغات العرب، ومنه قول الشاعر:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا ينًا فأبعدكن الله من شيرات
(إذا لم يكن فيكن ظل ولا ينًا)؛ أي: جنًا، (فأبعدكن الله من شيرات)؛ أي: من شجرات، وهي لهجة من لهجات أهل الخليج..
والصيصيُّ في قول الشاعر هو آلة النسج، وهي باللهجة الصوصي، والصيصي عربية.
قال: (كحب) وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، لابد من الحرص على ترقيق الباء وعدم تفخيمها، فكثير من الناس يفخمها، يقول: كحب، وهذا لحن هو من اللحن الخفي، ولابد من الانتباه له، يقول الإنسان: كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ [البقرة:165]، وهذا من الشائع في لهجتنا نحن هنا، ففي اللهجة العامية يقول الناس يفخمون الباء في الحب؛ ولذلك يقول المختار بن حامد رحمة الله عليهما:
إن تمش عن كولخ أبناء حبين يمش الندى والجدا عنه قرينين
أحب حبا جميع الأسخياء ولـكني أحب بني حبين حبين
(الصبر)، كذلك لفظ الصبر، فالباء ساكنة بعد المستعلي المطبق، فلابد من الحفاظ على ترقيقها، كذلك (ربوة) وهي في موضعين من القرآن، في سورة البقرة، وفي سورة المؤمنون، في سورة البقرة: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ [البقرة:265]، وفيها القراءتان السبعيتان: برُبوة وبرَبوة، والتي في سورة المؤمنون: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، وفي القراءة السبعية الأخرى أيضًا: (إلى رُبوة ذات قرار ومعين) فلابد من الحفاظ على ترقيق الباء، كذلك (اجتثت)، فالشدة في الجيم عندما تجاورها الثاء- ولو حالت بينهما التاء- لابد من الحفاظ عليها، (اجتثت) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ [إبراهيم:26]، لابد أن تنطق بالجيم بالشدة والانفتاح، وقراءة نافع كما تعلمون فيها ضم التنوين هنا، (كشجرة خبيثة اُجتثت من فوق الأرض) قراءة الجمهور بكسر التنوين: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ [إبراهيم:26]، و(حج) كذلك عند تشديد الجيم، وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، (حج البيت) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ [البقرة:196]، لابد من الحفاظ على الشدة والانفتاح في الجيم في حالة تشديدها في لفظ الحج، كذلك (الفجر) وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، لابد من الحفاظ على الشدة والانفتاح في الجيم في مثل هذا الموضع أيضًا.
قال رحمه الله:
وبينن مقلقلًا إن سكنا وإن يكن في الوقف كان أبينا
لابد من بيان المقلقل، فحرف القلقلة لابد من إبانته وإظهاره؛ لأن النطق به يكون في مرحلتين، وذلك في حال سكونه، فالقلقلة في حال السكون ظاهرة، والسكون نوعان: سكون في الأثناء، وسكون في الانتهاء، فالسكون الذي في الأثناء أضعف من السكون الذي في الانتهاء، السكون الذي في الانتهاء عند الوقف عليه، فإذا قلت: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات:1] (ضبحًا)، الباء هنا ساكنة، ولكن سكونها في غير الوقف، فتظهرها، لكن إظهارها أقل من إظهارها في الوقف، فيما لو قلت: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8] (فارغب)، أظهرتها تمام الإظهار، القلقلة هنا ظاهرة جدًا؛ لأن المقلقل ساكن في الوقف، وإذا قلت: (صبحًا)، فالمقلقل ساكن تظهر، ولكن إظهارها في الوقف أشد؛ فلذلك قال: (وبينن مقلقلًا إن سكنا، وإن يكن في الوقف كان أبينا)، كانت القلقلة فيه أبين.
قال رحمه الله: (وحاء حصحص أحطت الحق)، كذلك لابد من التحفظ في نطق الحاء من حصحص، فقد جاورتها الصاد، والصاد مستعلية وهي مطبقة، والحاء والصاد كلتاهما مهموستان متصفتان بالهمس، وهما متواليتان هنا، وبالأخص تكررتا، تكررت الحاء، وتكررت الصاد، فيصعب النطق بها معها؛ لأن الحاء من أحرف الحلق، والصاد مستعلية منطبقة؛ فلذلك لابد من التحفظ عند النطق بالحاء، فتقول: (حصحص)، وكذلك إذا كانت معها الهاء، (سبحه) لابد من التحفظ على نطق الحاء ونطق الهاء معا، وأهل البلاغة يذكرون أن من أمثلة ما يصعب النطق به فلا يكون فصيحًا، اجتماع الحاء مع الهاء بالتكرر في قول أبي تمام:
جواد متى أمدحه أمدحه والورى معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فهنا قوله: أمدحه أمدحه تكررتا؛ فكان ذلك قبيحًا لصعوبته، (جواد متى أمدحه أمدحه)، هذا صعب، ولهذا يقول السيوطي رحمه الله في تعريف الفصاحة يقول:
فصاحة المفرد أن لا تنفرا حروفه كهعخع واستشزرا
وعدم الخلف لقانون جلي كالحمد لله العلي الأجلل
وفقده غرابة قد أرتجا كفاحما ومرسنا مسرجا
قيل وفقد كرهه في السمع نحو جرشاه وذا ذو منع
وفي الكلام فقده في الظاهر لضعف تأليف وللتنافر
في الكلمات وكذا التعقيد مع فصاحة في الكلمات تتبع
فالضعف نحو قد جفوني ولمي أجف الأخلاء وما كنت عمي
وذو تنافر أتاك النصر كليس قرب قبر حرب قبر
كذاك أمدحه الذي تكررا والثالث الخفاء في قصد عرى
لخلل في النظم أو في الانتقال إلى الذي يقصده ذوو المقال
كذلك (أحطت)، فلابد من إظهار الحاء هنا، فبعدها الطاء، وهي مطبقة مستعلية، فلابد من النطق بالحاء مفتوحة قبلها، فتقول: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22].
فلابد من الحفاظ على الحاء، كذلك الحق، فالحاء إذا جاورت القاف الشديدة المستعلية، وكانت القاف مشددة أيضًا لابد من الحفاظ على الترقيق في الحاء، وبالأخص إذا تكرر ذلك: (( قال فالحقُ والحقُ أقول ))، (( قال فالحقَ والحقَ أقول )) قراءتان سبعيتان، فتقول: (الحق والحق أقول)، (فالحقُ والحقُ أقول) فاجتمع الحق مرتين في هذه الآية، والقاف مشددة، وقبلها الحاء، فلابد من الحفاظ على النطق بها، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84]، والقراءة الأخرى: (قال فالحقَ والحقَ أقول).
قال رحمه الله: (وسين مستقيم يسطو يسقو)، كذلك لابد من الحفاظ على نطق السين في مستقيم، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:68]، سواءً كانت معرفة أو منكرة، لابد من الحفاظ على نطق السين فيها قبل التاء وهي مجاورة للقاف أيضًا، وكذلك: يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72]، وفيها اكتفاء أيضًا، في قوله: (يسطو) يقصد (يسطون) يَكَادُونَ يَسْطُونَ [الحج:72]، ومثل ذلك (يسقون) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23]، فلابد من الحفاظ على السين في (يسطون)، و(يسقون)؛ لأنها في (يسطون) معقوبة بالطاء المستعلية المطبقة، وفي (يسقون) معقوبة بالقاف الشديدة المستعلية أيضًا، فلا بد من الحفاظ عليها هي، حتى يبقى الترقيق الذي فيها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر