بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأقامه حُجة على كل من بلغ، فجاء بمنهجٍ ربانيٍ فيه حلول لكل ما ينتاب البشر، فما يحتاج الناس إليه مما ينظم علاقاتهم بربهم فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدةً وعبادة، وما يحتاج الناس إليه مما ينظم علاقاتهم فيما بينهم فصله معاملة وأخلاقاً، وقد كان هو تطبيقاً لهذا المنهج الرباني الذي جاء به من عند الله تعالى، فلذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه ذكر وبأنه قرآن، فقال تعالى في سورة الطلاق: ذِكْرًا[الطلاق:10] رَسُولًا[الطلاق:11]، فجعل الرسول بدلاً من الذكر، فهو ذكر من الله سبحانه وتعالى، أي: كأنما هو قرآن منزل، وكذلك أبدل منه القرآن فقال في سورة الإسراء: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106].
وذلك عطف على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا * وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الإسراء:104-105] هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين الله أنه أرسله للناس لهذه المهمات وختمها بقوله: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا[الإسراء:106].
وقد وصفت عائشة رضي الله عنها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، فكل ما يرضى الله من عباده عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً وأخلاقاً فقد مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهديه، ومن أراد أن يسلك الطريق المرضي عند الله سبحانه وتعالى فليتبع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طبقه وهو غير مجهول، بل هو معلوم مروي لا يختلف فيه اثنان، ولذلك فهو صراط مستقيم مثله النبي صلى الله عليه وسلم بلاحبٍ بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، وفي كل بابٍ داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين منادي الله ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
فالطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم معبد مسهل، وهو سائر بين سورين عظيمين، وهذان السوران كلاهما فيه أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، وفي كل بابٍ داعٍ يدعو المارين من هذا الصراط أن يدخلوا إليه إلى ذلك الباب لينحرفوا يميناً أو شمالاً في بنيات الطريق، وفوق السورين منادي الله وهو المذكر والمنذر ينادي: يا عبد الله! لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه، ولذلك على المسلم أن يسلك هذا الصراط وأن يصبر عليه، سواءً كان ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، وليعلم أن هذا الصراط هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم، أرق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فالذي يثبت على هذا الصراط ويجاهد نفسه وشيطانه وإخوانه وملذاته وشهواته ويجاهد دنياه ويصبر عما يخالف منهج الله حتى يلقى الله سبحانه وتعالى على هذا الطريق، وإذا وقع في زلة تاب وبادر إلى التوبة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]، فإن الله سبحانه وتعالى يوفقه ويسدده على الصراط الأخروي فيمر عليه ناجياً، ويكون بذلك من أهل الجنة.
ومن لم يصبر على هذا الصراط فكان عُرضة للسقوط يميناً أو شمالا، فيسقط في الشبهات تارةً وفي الشهوات تارة، فإنه عُرضة للسقوط عن الصراط يوم القيامة، مع ارتفاعه ومع سحق جهنم تحته، فبينه وبين جهنم مسافات شاسعة، وهو مرتفع فوقها، والذي يمر فوق الصراط يرد جهنم فيمر فوقها؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[مريم:71]، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الورود بالعبور، فبين أن هذا الورود لجهنم الذي لا ينجو منه أحد هو العبور فوق الصراط، لكن إذا حصل هذا العبور فالناس بين ناجٍ وهالك، كما قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم:71-72]، والذي يميل ذات اليمين أو ذات الشمال قد سلك بنيات الطريق ولم يرضَ بمهيع الله ومنهجه، وإنما اتبع شيطانه وهواه، ولذلك هو عُرضة لئلا يرجع أبداً، فالذي يدخل في ذلك الباب لا يستطيع الخروج منه، فأصحاب الشبهات لا يزدادون إلا غياً في شبهتهم. والشبهات قسمان:
شبهات في التعامل مع الله، وشبهات في التعامل مع الناس.
فالشبهات في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين:
إلى شبهات عقدية وشبهات تعبدية.
أما الشبهات العقدية فإن الشيطان لا يزال بالإنسان يقول له: من خلق كذا؟ فيقول: الله، حتى يقول له: من خلق الله؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يدخل عليهم الشيطان من هذا الوجه -وهو وجه الشبهة العقدية- فيشككهم في المعاد الأخروي أو في يوم القيامة أو فيما يتعلق به، أو في رؤية الله أو في بعض صفاته أو أسمائه، أو أفعاله، أو تصرفاته في الكون، أو يجعلهم يعترضون على بعض قضائه وقدره، وهو الحكم العدل لا معقب لحكمه، ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فكل ذلك من الشبهات العقدية.
أما الشبهات التعبدية -وهي القسم الثاني من الشبهات المتعلقة بالمعاملة مع الله تعالى- فمنها: الوساوس والأوهام، فإن الشيطان يسعى بالإنسان لأن يشك في طهارته وفي صلاته، وإذا لم يشك في ذلك شك في عدم قبولها وفي عدم الخشوع فيها، وأيضاً في بعض الأحيان تكون وساوسه على عكس هذا، فيعجب الإنسان بنسه وأنه خاشع وأن طهارته صحيحة وأن صلاته صحيحة، ومن هنا يبدأ الملاحظة على الآخرين والنقد، فكأنه قد نجا على الصراط، وكأن الآخرين ما زالوا في الطريق؛ فهو يقوم سلوكهم ويراجع أخطائهم، وقد جعل الله على البشر ملائكة يحصون عليهم أخطاءهم ولم يكلف بعضهم بإحصاء أخطاء بعض، فقد قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18].
فكل واحدٍ من البشر معه واحد وعشرون من الملائكة يحصون أعماله ويعدونها، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى شهادتهم، فهو الحكم العدل وعلمه محيط بجميع الكائنات إجمالاً وتفصيلا، ولكنه أقام بهم الحجة على الإنسان، فإن كل إنسان يأتي معه سائق وشهيد يوم القيامة، فالسائق من الملائكة والشهيد من الرسل، يشهد عليه بعمله وهو لا يستطيع الطعن ولا الجرح، وذلك إعذار إليه ليعلم الإنسان عدل الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الآن يوسوس له الشيطان فيقول: أنت ضعيف وأنت فقير وأنت ذميم قبيح، وترى غيرك قد خصه الله بهذه المزايا وشرفهم بهذا التشريف، فيعترض على قسمة الله سبحانه وتعالى للأرزاق والأخلاق، وهذا الاعتراض هو من الوساوس التي يلقيها الشيطان من عداوته للإنسان، والله سبحانه وتعالى إنما يتكرم بهذه الأمور على من شاء من عباده، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، ولا معقب لحكمه ولا اعتراض على تصرفه، فإنه لم يظلم أحداً شيئاً ولم يمنع أحداً شيئاً من حقه، وإنما يُعطي زيادةً على الحقوق ما شاء لمن شاء من عباده ويبتليهم بذلك: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35].
ثم من هذه الوساوس في العبادات كذلك ما يؤدي إلى أمن مكر الله، فكثير من الناس يُفرط في طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ويسوف له الشيطان بأنه سيتقدم به العمر ويكون من الصالحين، وأنه إذا ضعف عن شهوته فإنه سيرجع إلى الطاعة، ولكن الواقع أنه إذا ضعف عن مقتضيات الشهوة فإنه سيضعف أيضاً عن مقتضيات الطاعة، فكل ضعف يشمله في جانب المعصية سيشمله أيضاً في جانب الطاعة.
وأيضاً فقد لا يبلغ ذلك العمر الذي يؤمله، وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185]، فالإنسان العاقل يرى كل يومٍ بعثاً يُنقلون إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند البعث ليوم القيامة، ويرى فيهم من هو أكبر منه ومن هو أصغر ومن هو معاصر له، ومن هو أغنى منه، ومن هو أفقر، ومن هو أعلم منه، ومن هو أجهل، ويرى فيهم المشغولين وغيرهم، ويرى فيهم الكبار والصغار.
لا الموت محتقر الصغير فعادل عنه ولا كبر الكبير مهيبُ
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحدُ
هو الموت ما منه ملاذ ومهربُ إذا حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
فالنعوش جاهزة، وهي تحمل الناس أفواجاً إلى الدار الآخرة، يُحملون عليها، منهم من يموت بالحوادث، ومنهم من يموت بالأمراض، ومنهم من يموت من غير علة، والكثير من الذين يضحكون ويتصرفون الآن أكفانهم موجودة على الرفوف قد جُلبت ونسجت وبيعت واشتريت، وهي جاهزة لا يدرون متى يُدرجون فيها، والشيطان يشغل الإنسان بهذا التسويف وبطول الأمل ليقصر في جنب الله وليأمن مكره، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99].
وكذلك فإن من هذه الوساوس أن الشيطان يسعى أيضاً مع الإنسان باحتقاره لنفسه ليقنط من رحمة الله تعالى، فيحتقر الإنسان عمله، ويحتقر علمه ويحتقر طاعته وعبادته، ويذكره الشيطان بعبادة العابدين وبإعراضه هو وإدباره في أوقات ضعفه، وحينئذٍ كثيراً ما ييأس ويقنط من روح الله، وقد قال الله تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87]، وقال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر:56]، فالذين لا يعرفون الله سبحانه وتعالى هم الذين يقنطون من رحمته فهو غني عن عباده ولا يحتاج إلى عبادتهم، ولا يزيد في ملكه طاعة الطائعين ولا ينقص من ملكه عصيان العاصين، ولذلك روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح القدسي أنه قال: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحدٍ منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فإذاً لا بد أن يحذر المؤمن والمؤمنة من إساءة التعامل مع الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم أن سوء التعامل معه منتشر موجود في العباد، وأن سوء الأدب معه منتشر، فلذلك لا بد من الحذر من هذه الشبهات في المعاملة مع الله.
وأما الشبهات في التعامل مع الناس فهي قسمان:
القسم الأول منها: إلى جهة الإفراط فيهم، فكثير من الناس يُفرطون في بعض الناس فيمنحونهم بعض صفات الإلهية، ويعطونهم ما ليس لهم من الحقوق، ويمدحونهم بما ليس فيهم، ويلتمسون منهم ما لا يقدرون عليه، وقد حذر الله من ذلك وسماه شركاً في كتابه فقال: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].
والجانب الثاني من الشبهة في التعامل مع الناس: هو التفريط فيهم باحتقارهم وازدرائهم، وذلك محرم، فالإنسان لا يدري من المقبول عند الله سبحانه وتعالى ولا من الناجي، وإذا وقف على القبور، فإنه يعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرةً من حفر النار، ولا يدري هو عن ذلك، فمن لم يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة من المؤمنين فلا ندري هل هو في نعيم أو عذابٍ في قبره، نرجو له ونخاف عليه، فمن عرفنا منه الصلاح والاستقامة والطاعة ومجانبة المعصية نرجو أن يتقبل الله منه وأن يضاعف حسناته، ونخاف عليه أيضاً ألا يكون مخلصاً في العمل لله وأن يرد الله عليه عمله، فالله تعالى لا يُستعظم عليه ذلك.
فلذلك التفريط في البشر بازدرائهم واحتقارهم وعدم تقديرهم وعدم معرفة حقوقهم هو من الشبهات التي يلقيها الشيطان في التعامل مع الناس، والله تعالى حذر من السخرية بالرجال والنساء، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11]، ومعنى هذه الآية أن الذين يسخرون -أي: الرجال الذين يسخرون- من النساء أو من الرجال لا يدرون لعل المسخور منه أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخر، وكذلك النساء اللواتي يسخرن من النساء أو من الرجال لا يدرين لعل المسخور منه أفضل، وأكمل عند الله سبحانه وتعالى، فلذلك نهى الله عن السخرية مطلقا، حتى لو كان الساخر في الباطن وفي علم الله أفضل؛ فإن السخرية تنقص قدره وتوقعه فيما حرم الله عليه.
ولذلك ما من أحدٍ من الناس من المؤمنين إلا وفيه خير، ومع ذلك فهو غير معصوم فيمكن أن يقع منه الغير، فلهذا يجب بقدر حبه لله سبحانه وتعالى وطاعته له، ويُكره ما وقع فيه من المحرمات والمخالفات الشرعية، لكن لا يتشدد في ذلك بحسب حاله، فإذا كان قد تاب منها فقد خرج منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا كان مصراً عليها فلا بد من السعي لهدايته ونصيحته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، ولا يمكن أن يحقق الإنسان النصيحة إلا إذا كان حريصاً على الناس جميعاً، يحب لهم الجنة ويحب لهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، ويحب لهم النجاة على الصراط، ويحب لهم التمسك بهذا الصراط الدنيوي ويحب لهم أن يكونوا ممن يحشروا تحت لواء الحمد لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ويحب لهم الخير في الأمر كله، ويحب لهم حسن الخاتمة، ويحب لهم جميل العاقبة، ويحب لهم العافية: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ومن واقع هذه المحبة يستطيع الإنسان النصح والإرشاد، ويستطيع الآخرون السماع منه والانتفاع بنصيحته، أما إذا كان الإنسان مقصراً في حقوق الآخرين وعدم نصحهم فإنه حينئذٍ لا يُقبل منه قوله، فالنصيحة إذا قُصد بها أمر آخر كالفضيحة وإظهار المعايب، أو قُصد بها غرض للإنسان نفسه فإنها غير مقبولة ولا هي من العبادة ولا هي من الدين، فالنصيحة التي هي من الدين ما كان الدافع إليها والحامل عليها الحرص على الإنسان وعلى هدايته واستقامته ونجاته من عذاب الله، وهذا الحرص هو الذي وصف الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]، فهو حريص على هداية الناس أجمعين وحريص على نجاتهم من النار، ولذلك ثبت عنه أنه قال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الناس وحريصاً على دخولهم جميعاً الجنة وعلى تحقيقهم لرضوان الله سبحانه وتعالى، وكان رحيماً بهم، فرحمته بالمؤمنين عجيبة، يسعى لمساعدتهم بما يستطيع، ويمن عليهم بكل ما يملك، ويدعو لهم ويصلي عليهم، ويقول: ( إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي ودعائي )، ويقول: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره منكم)، وفي رواية: (ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدخره عنكم).
ويسعى بكل جهده لإنقاذهم من الضلالة ولتعليمهم الخير فيعظهم ويذكرهم. ( خرج إلى السوق ذات يوم فرأى جدياً أسك ميتاً، وفي أصل خلقته عيب وهو نقص في أذنيه، فقال: من يشتري هذا الجدي بدرهم؟ فقيل له: لو كان حياً لكان عيباً، فكيف به وهو ميت جيفة لا أحد يشتريه )، فبين لهم أن ما يتنافسون فيه من شأن الدنيا هو مثل هذا الجدي الميت الأسك المعيب.
ودخل إلى السوق يوماً فرأى رجلاً يبيع قمحاً وله منه صُبرة أي كومة، فأدخل يده فيها فأخرج منها شيئاً قد مسه البلل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسأله لماذا لا يُظهر ذلك؟ وقال: ( فمن غشنا فليس منا).
ولذلك فكل من لم ينصح الناس ولم يسعَ لهدايتهم فإنما هو غاش لهم، كأنه يراهم يردون في غير مورد، ويعلم أن المياه إلى هذه الجهة وهم يذهبون إلى هذه الجهة، فيسكت ويتركهم للضياع، وبذلك يكون مشاركاً فيما يصيبهم من العطب ومسؤولاً عنهم، وهذا سبب من أسباب الضمان كترك تخليص مستهلك من نفسٍ أو مال.
ثم بعد ذلك الشهوة: وهي أيضاً تنقسم إلى قسمين:
إلى شهوة حسية، وشهوة معنوية.
فالشهوة الحسية كشهوة البطن وشهوة الفرج، وهذه فيها خطر عظيم على الإنسان؛ لأنها تقتضي استعباده ومذلته، ويكون عبد بطنه حينئذٍ وعبد هواه، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه ولم ينهَ قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منه وغادر سبة إذا ذكرت أمثالها تملأ الفمَ
والنوع الثاني من أنواع الشهوة: الشهوة المعنوية، وهي مثل: حب الرئاسة وحب الظهور وحب الانتقام، وحب الانتصار للنفس، فهذه شهوات معنوية، وهي مثل الشهوات الحسية في ضررها على الإنسان، وأذاها به وبإيمانه، فلا بد أن يحذر الإنسان منها جميعا، وأن يعلم أن الشهوة إنما يدعو إليها الهوى، ولم يحذر الله بشيء من المعاصي مثلما حذر من الهوى، فإنه جعله إلهاً يُعبد من دون الله، قال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ[الجاثية:23]، فكأنما اتخذ هواه إلهاً له من دون الله يعبده، وهذا أبلغ تحذير يمكن أن يُحذر منه من أية معصية من المعاصي، وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من نهى النفس عن الهوى فمصيره إلى الجنة، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى[النازعات:41].
والسائر على هذا الطريق يجد أمامه كثيرا ًمن العراقيل والعقبات التي تحوجه إلى الصبر غير ما ذكر من الشهوة والشبهة، فإن الإنسان ممتحن في سيره إلى الله سبحانه وتعالى وفي حياته بالجبهات المفتوحة عليه، منها جبهة الشيطان، وهو يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يرضى إلا بإغوائه وكفره، ينسيه النعمة إذا جاءته، وينسيه أنها من عند الله حتى يكفر بها، كما قال الله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ[الأعراف:188-191].
فهذا من عمل الشيطان ومن تركيزه على ابن آدم، فإنه يريد منه الشرك بالله سبحانه وتعالى أولاً في عبادته أو في تشريعه وحكمه، أو في محبته، أو في دعائه، فإذا عجز عن كل ذلك حاول معه التشريك به في نعمته، أن ينسب النعمة إلى غيره، وهذه الجبهة -وهي جبهة الشيطان- فيها خطورة عظيمة؛ لأن الشيطان له شبكة يحاول اصطياد الإنسان بها، فأول ما يطمع فيه الشيطان إيقاع المسلم في الشرك، فيحاول إدخاله في الشرك من أي بابٍ من أبواب الشرك، وهذا أحب شيءٍ إلى الشيطان، فإذا عجز عن دخول الإنسان في الشرك حاول معه أن يقع في كبائر الإثم والفواحش، وأن يكون ذلك عادةً لديه وديدنا، فإذا عجز عن ذلك حاول معه ترك بعض الأركان والفرائض الكبرى، فإذا عجز عن ذلك حاول شغله ببعض الفرائض عن بعض، فإذا عجز عن ذلك حاول معه المبالغة في التعبد، ويكون ذلك على حساب بعض الأمور فيهملها، فإذا عجز عن ذلك حاول إيقاعه في الصغائر، فإذا عجز عن ذلك حاول حمله على ترك السنن والمندوبات، فإذا عجز عن ذلك حاول شغله ببعض السنن والمندوبات حتى تكون أعظم لديه من الفرائض، فإذا عجز عن ذلك حاول شغله بخلاف الأولى وإضاعة الوقت، فإذا عجز عن ذلك حاول إيقاعه في إعجابه بنفسه وأنه قد فاته، فإذا عجز عن ذلك حاول جره إلى احتقاره لنفسه ولعمله لعله ييأس من رحمة الله.
والشيطان لا يقنط من ابن آدم أبداً حتى يغرغر، فإن الإنسان إنما يفوت الشيطان عندما تحسن خاتمته فيتلفظ بالشهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عند الموت، حينئذٍ ييأس من الشيطان، وما قبل ذلك يحاول دائماً إيقاعه فيما ذكر، ويحاول التحريش بينه وبين غيره من إخوانه أو بينه وبين أهله، فيحاول تشكيكه فيهم، وعدم رضاه عنهم بكل وسيلة من الوسائل حتى في عبادته، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليفسو بين إليتي أحدكم وهو في صلاته، فمن وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).
وإذا نام حاول النفخ بين أذنيه ليمنعه من القيام ويقول: إن عليك ليلاً طويلاً فنم، ويعقد على قافية رأسه عقده، وهكذا في كل أموره يحاول منعه من السواك ليكون ذلك نقصاً في صلاته ونقصاً في تدبره للقرآن وفي خشوعه، ويحاول جره إلى أكله للحرام لعل ذلك يؤثر في فهمه للقرآن أو في إقباله على الله وخشوعه بين يديه، ويحاول أن يوقعه في أعراض الناس ولو بكلمة واحدة؛ لعل ذلك يؤدي إلى البغضاء والشحناء بين الناس، ولعله يبطل شيئاً من عمله هو.. وهكذا، فهو لا ييأس.
وهذه هي الجبهة الأولى والعدو الأول، وقد جمع الله فيها بين الأمر الذي حقه التطبيق، والخبر الذي حقه التصديق، فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، فقوله: (إن الشيطان لكم عدو) هذا خبر حقه التصديق، وأنتم جميعا ًتصدقونه، وقوله: ((فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)) هذا أمر حقه التطبيق، وقل من يطبقه من الناس، فالإنسان الآن يعلم أن الشيطان له عدو، ولكنه لا يتخذه عدواً، واتخاذه عدواً شاق على الناس؛ لأنه هو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فلا يستطيع الإنسان قتله، وهو يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، فلا يمكن أن تضربه أو أن تقرصه أو أن تربطه، وهو ملعون بلعنة الله التامة، فلا يضره كلامنا نحن فيه وأكل غيبته، فإذاً بماذا نعاديه؟! إنما يعاديه الإنسان بأحد أمرين:
الأمر الأول: اجتناب خطواته مطلقاً، أن توليه ظهرك وتعرض عما هو فيه، وهذا أمر شاق، لكن الله أمر به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ[النور:21]، فلا بد أن يحرص الإنسان على عدم اتباعه، وأن يوليه ظهره ويريه إعراضه عنه وعما هو فيه.
الأمر الثاني: نقص جنده، فكل ملك قاتل ملكاً فإنما يُظهر له العداوة بأسره لجنده وقتله لهم، فكلما نقص أفراد جنده فقد حقق العداوة له، فكذلك الغواة والضالون هم جند إبليس، فإذا هدى الله على يد الإنسان واحداً منهم فمنعه من غوايته فإنه قد حقق عداوته لإبليس؛ لأنه نقص جنده بإنسان واحد، وتزداد العداوة كلما ازداد التأثير، فالذي يهتدي على يديه إنسان واحد ذلك خير له من أن يملك ما على وجه الأرض من الإبل؛ لأنه لو كثر ماله لم ينجيه ذلك من الشيطان، ولم يحقق بذلك عداوة الشيطان، وإذا اهتدى على يديه إنسان واحد فإنه حقق عداوته لإبليس بذلك، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: ( فوالذي نفسي بيده لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النعم)، ومعنى حُمر النعم: ما على وجه الأرض من الإبل، فالإبل يسميها العرب الحمر؛ لأن ذلك اللون كان غالبا ًفيها ومحموداً لديهم منها، فسموها جميعاً به كتسمية الشيء باسم بعضه، كتسمية الإنسان رقبةً، وتسمية الشاة رأساً ونحو ذلك، فهذا من تسمية الشيء باسم بعضه.
والجبهة الثانية من هذه الجبهات: هي النفس، وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، جاءت إلى هذا العالم من بعيد، فليست النفس في الأصل من أهل الأرض، وإنما هي نفخة غيبية من أمر الله، وهي في وحشة هنا في هذه الأجسام، فالأرواح في وحشة في الأجسام وفي الأرض لأنها ليست من أهلها، ولكنها تركن دائماً إلى الهدوء والراحة والطمأنينة، ولا يمكن أن تدعو إلى التعب والعمل الجاد إلا إذا أطرت على ذلك أطراً، وربيت عليه تربية عنيفة.
ومن هنا فإن النفس لا ترضى من الإنسان قبل تقويمها إلا أن يكون مطففا، والمطفف هو الذي يأخذ كل حقوقه دون أن يسامح في شيءٍ منها، ولكنه يحاول ألا يؤدي هو كل الحقوق التي عليه، فينقص من الحقوق التي عليه ما استطاع، فالوالد في الأسرة يغضب إذا أهمل أي شيءٍ من حقوقه غضبا ًشديداً، ولكنه يقصر في حقوق أولاده وأهله، فلا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، ولا يوقظهم للصلاة، ولا يصطحبهم إليها، ولا يهتم بتربيتهم وإرشادهم وتعليمهم، فهو مقصر في حقوقهم ومع ذلك يغضب إذا قصروا في حقه.
وكذلك المرأة في البيت، فهي تغضب إذا نقص أي شيء من حقها أو الحق الذي تعتبره حقها، ومع ذلك تحاول النقص من حق زوجها ما استطاعت أو من حق أولادها، وكذلك الأولاد يحرصون على أخذ حقوقهم كاملة من الأبوين، وينتقدون كل نقصٍ فيها، ولكنهم لا يؤدون الحقوق إلى الأبوين كاملة، وهكذا الجيران وجميع أنواع الناس ما منهم أحد إلا وهو يحرص على أخذ حقه كاملاً، ومع ذلك هو حريص على أن ينقص الحق الذي عليه ما استطاع، كالموظف إذا جاءه في كشف راتبه نقص لم يدرِ له سبباً سيغضب غضباً شديداً، ويخرج للمجادلة والمصارعة عن حقه حتى يستكمله، لكن ينقصه العمل فلا يحضر في الوقت ولا يؤدي الخدمة كما هي، وهذا هو التطفيف، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:1-6]، وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: "يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف"، كل شيء -أياً كان- فيه وفاء وفيه تطفيف.
كان عمر رضي الله عنه يوم جمعة قائماً على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء رجل متأخراً فناداه، فقال: يا فلان! ما هذا التأخر؟ قال: ما هو إلا أن كنت في عملي فسمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال: والوضوء أيضاً؟ لقد طففت، فإنه أخذ بكل رخصة، لم يأتِ حتى سمع النداء، ومع ذلك لم يغتسل يوم الجمعة، بل توضأ فقط، فقال: (لقد طففت) أي: أخذت كل حقك، ولم تؤدِّ الحق الذي عليك كاملاً.
وهذا الحال نجده في الجيران فيما بينهم، فكثير من الجيران الآن يؤذيهم إذا سمعوا صوتاً من جيرانهم، أو شموا رائحةً أو دخاناً أو آذوهم بأي أذى، ولكنهم في المقابل لا يؤدون إليهم حقوقهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجار المسلم له حقان، والجار الكافر له حق واحد)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم خطر حق الجار، فقال: (ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وأنتم تعلمون تقصيرنا الآن في حقوق جيراننا؛ في تعليمهم، ونصيحتهم، وإرشادهم، وإيصال الخير إليهم وكل ذلك من حقهم، فأبو ذر رضي الله عنه رجل من فقراء الصحابة، كان فقيراً وهو من المهاجرين، ومع ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا طبخت لحماً أو طبيخاً، فأكثر ماءه ومرقه، ثم تعاهد جيرانك)، هذا فقير لا يملك شيئاً، ومع ذلك إذا نال لحماً، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر ماءه ومرقه ثم يتعاهد به جيرانه.
والأشعريون يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوامٍ لا يعلمون جيرانهم ولا يذكرونهم، فليعلمن قوم جيرانهم وليذكرنهم أو لأعاجلنهم العقوبة، قالوا: ومن تعني يا رسول الله؟! قال: الأشعريين)، فلا بد أن يحرص الإنسان على أداء حقوق الجيران قبل أن يخاصموه يوم القيامة، وأن يحرص على أداء حقوق الأولاد والوالدين قبل أن يخاصموه يوم القيامة، وأن يحرص على حقوق أداء الزوج قبل مخاصمته يوم القيامة.
والرحمة الحاصلة في الدنيا بسبب العلاقة تنقطع يوم القيامة؛ لأن الأنساب كلها تنقطع بمجرد النفخ في الصور: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، فلا يقول الإنسان: هذا والدي سيرحمني ويسامحني في حقي يوم القيامة، ولا تقول المرأة: هذا الزوج بيني وبينه مودة ورحمة فسيسامحني في حقي يوم القيامة، وهكذا كل من له حق على آخر فعليه أن يسعى للنجاة من هذا الحق قبل ألا يكون دينار ولا درهم، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (تعافوا الحقوق بينكم قبل ألا يكون دينار ولا درهم)، فيوم القيامة ليس فيه دينار ولا درهم ولا خُلة ولا شفاعة، والخلة أي: الصداقة والمحبة، والشفاعة بمعنى الوساطة والجاه، فتلك الأمور لا معنى لها يوم القيامة ولا وجود لها، فلا ينجي الإنسان حينئذٍ إلا عمله، ولذلك لا يمكن أن يشفع أحد لأحدٍ إلا بعد إذن الله تعالى، كما قال الله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ[الأنبياء:28]، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ[البقرة:255]، وقال: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ[المدثر:48].
ثم بعد ذلك الجبهة الثالثة: إخوان السوء، فالإنسان مبتلىً بالقرناء الذين يخالطهم في هذه الدار، فالذين يخالطهم الإنسان ثلاثة أقسام:
أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبدا، وأخ كالدواء يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وأخ كالداء لا فائدة فيه بل ضرره متمحض.
فالأخ الذي كالداء هو جبهة مفتوحة على الإنسان؛ لأنه لا ينفعه في دينٍ ولا دنيا، وإنما يضره فتصل إليه العداوة من اعتقاده وعمله وأخلاقه وكلامه وتصرفاته، وربما كان الضرر منه من وجهٍ واحد، كالإنسان الذي ليس لك فيه أي نفعٍ ولكنك ربما أكلت غيبته أو تسلطت عليه بلسانك فأكلت شيئاً من عرضه، فهذا ضرر حاصل لك أنت عندما أكلت غيبته، فهو المنتفع من ذلك يوم القيامة وأنت المتضرر.
والنوع الثاني الذي هو كالغذاء: وهو الأخ الذي يعين الإنسان على أمر الدين، فيعلمه إذا جهل ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، وينصحه ويهتم به ويذكره بالله جل جلاله، فهذا الأخ لا يستغنى عنه الإنسان أبدا، فكثير من الناس لا يفهمون هذا المعنى، فإذا جاءت أخت إلى أختها تنصحها أو تعلمها ما تجهل أو تذكرها إذا غفلت، أو تساعدها على الطاعة وعلى ضعفها وهو كثير، فكثير من الأحيان ينتاب الإنسان ضعف إما بسبب الشهوة وأمامها، وإما بغير ذلك من الأسباب كالمرض والانشغال وغير ذلك، فيقصر الإنسان في الطاعة ضعفاً له أمام هذه المغريات والصوارف، فيحتاج إلى من يساعده، فإذا جاءت الأخت تريد المساعدة في هذا الوقت بنصيحة أو تعليم أو إرشادٍ أو عونٍ أو جلبٍ إلى الخير؛ فكثيراً ما تكون أختها غير متقبلة لذلك ولا تتفهمه أبدا، بل ترى أنه تدخل في الشئون الداخلية، وأنه تدخل أكثر من اللازم، وتشكوا منها وتعتبرها مملة ثقيلة، ولكن الواقع خلاف ذلك فالأخت التي تأتيكِ وتأخذ بيدكِ إلى الخير وتنصحكِ وتدلكِ على الخير، وتذكركِ بالله وتقرأ عليكِ القرآن، وتدعوكِ إلى حضور الدرس؛ لا شك أنها بمثابة الغذاء لا تستغنين عنه أبدا.
ثم بعد ذلك الأخ الذي كالدواء: وهو الذي يعين على أمور الدنيا، فإذا احتاج الإنسان إلى أمرٍ دنيوي رفعه إليه، والأصل التزهد عنه وعدم رفع شيء إليه، فالأدوية لا يستعملها الإنسان إلا مضطراً، وقد كُتب عليها إعلان عالمي المفروض أن يُكتب على كل دواء إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك فننصحك بالابتعاد عنه، وما من دواء إلا وتُكتب عليه هذه الجملة بمختلف اللغات، وهذا يقتضي أن يزهد الإنسان عما في أيدي الناس، وألا يرفع إليهم شيئاً من حوائجه، وأن يلتمس حوائجه من الله الغني الكريم.
فالإنسان فقير وبخيل بطبعه بأصل خلقته، ولا يستطيع قضاء كل حوائجك، وتنتابه النوائب، وهو مثلك يحتاج إلى غيره، بل ربما كان له من الحوائج أكثر مما لديك، ولكن الله سترها فلا تتطلع أنت عليها، وأيضاً ربما تتوجه إليه كثير من حوائج الناس فتكون أنت كأحدهم، فإذا صرفت حاجتك إلى الله سبحانه وتعالى واستعنت به وحده، فإنك قد ذهبت إلى الباب الذي لا يرد عنه أحد، والتمست حاجتك في المكان الذي تُقضى فيه الحوائج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استنعت فاستعن بالله)، وهذا يقتضي من الإنسان حضور توكله على الله وعبادته له دائماً، والإنسان إذا تذكر ما مضى من أيام حياته وتذكر نعمة الله عليه، وأنه مر عليه كثير من الضوائق والمشكلات فأنقذه الله منها دون تدخل لأحد، ودون منة لبشر؛ فإنه سيحمد الله على ذلك، ولذلك يقول الحكيم:
أحسن الظن بمن عودك كل إحسان وقوى عودك
إن رباً كان يكفيك الذي كان بالأمس سيكفيك غدك
فهو الذي كفاك ما كنت تشكوه بالأمس، وسكيفيك غدك إذا توكلت عليه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق:3]، أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36].
ولهذا يقول المكودي رحمه الله:
إذا عرضت لي في زماني حاجة وقد أشكلت فيها عليّ المقاصدُ
وقفت بباب الله وقفة ضارعِ وقلت إلهي إنني لك قاصدُ
ولست تراني واقفاً عند باب من يقول فتاه سيدي اليوم راقدُ
ويقول الآخر:
لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ
ثم هذه الجبهة وهي إخوان السوء تظهر عداوتها فقط يوم القيامة، فالإنسان في الدنيا يضحك من جاره إذا أكل الغيبة بمحضره، ويسمع منه الطعن في أعراض الناس والكلام القبيح شرعاً والفعل القبيح شرعاً، ومع ذلك يضحك له ويستمر معه في المعاملة ولكنه عدو له يوم القيامة، كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا[الفرقان:27] يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا[الفرقان:28] لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:29]، وقال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا المُتَّقِينَ[الزخرف:67]، فهذه عداوة حقيقية يوم القيامة.
ثم بعد هذا تأتي الجبهة الرابعة المفتوحة على الإنسان: مفاتن هذه الدنيا وشهواتها، فهذه الدار ضرة الآخرة، وفيها كثير من المفاتن والشهوات، من أقبل عليها سلبت قبله فأتبعها عينه ثم بعد ذلك يتبعها قلبه ولا يستطيع التراجع عنها:
فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن النظر إليها، فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132].
فحذر من أن يمد الإنسان عينيه إلى زخارفها وشهواتها إعجاباً بها واتباعاً لها، ولذلك من أراد أن يعرف حقيقتها فليعلم أن كل محمود فيها ومرغوب مصيره إلى القمامة والأوساخ، إنك إذا وقفت على القمامة فستجد فيها بقايا السيارات الفارهة، والبيوت الشاهقة، والملابس الغالية، والفرش الرفيعة، وكل ما يتنافس الناس فيه من أمر دنياهم، وكل ما يُشترى بالأثمان الغالية ستجد بقيته وأثره مرمياً في القمامة، مما يدل على أن مصير الدنيا هكذا، وإذا أعجب الإنسان فيها بأي شيء فليصبر وليبحث عن عاقبته ونهايته، فسيجدها عاقبةً سيئة ونهايةً غير محمودة.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (كان حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)، ما من شيء من أمر الدنيا يرتفع ويسمو ويعلو ويغلو لدى الناس إلا وضعه الله سبحانه وتعالى وحط من قيمته ومستواه.
انظروا إلى الإنسان في شبابه وأيده وقوته وإقباله على أمر الدنيا فإنه محبوب ومرغوب فيه، وهو راغب في أمر الدنيا، لكن عندما يضعف ويرتعش ويصل إلى الكبر والشيبة ثم بعد ذلك يُقبل على الموت يُنكر كل شيء ويتغير كل شيء في وجهه، (فما تشتهي غير أن تشتهي) ما كان يشتهيه ويرغب فيه رغبة شديدة يشتهي الآن لو اشتهاه، النوم الهادئ لا يجده، المأكل لا يستطيعه، ما كان ينظر إليه ويراه من الألوان الزاهية لم يعد يراه كما كان يراه، ما كان يسمعه من الأصوات المؤثرة لم يعد يسمعه كما كان، كل شيء كان لديه محبوباً يتغير لديه، كما قال الشاعر:
فأجبتها عمن يعمر يدكر ما تذكرين وينبو عنه المنظرُ
ولقد رأيت نظير ما عيرتني يغدو عليّ به الزمان ويبكر
فغدوت يغضبني اليسير وملني أهلي وكنت مكرماً لا أكهر
فمن هذه المظاهر أنه يغضبه اليسير، فالشيء الذي لم يكن يغضب أحداً وهو لم يكن يغضبه لما مضى أصبح يغضبه لضعفه، (فغدوت يغضبني اليسير، وملني أهلي) الأهل الذين كانوا يحبونه حباً شديداً أصبحوا يملونه، (وكنت مكرماً لا أكهر)، وكنت فما بينهم مكرماً عزيزا ًعليهم لا أُقهر أي: لا أُذل.
فلذلك لا بد أن يشعر الإنسان بأن هذه الدار ليست دار قرار، وأن ما فيها إنما هو حطام زائل، وأن الله تعهد أن يجعل الأرض جميعاً أرضاً يبساً لا تُنبت، ولذلك قال: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا[الكهف:8]، والصعيد هو وجه الأرض والجرز الذي لا يُنبت شيئاً، ولذلك تعهد الله بالإهلاك والعذاب لكل مدينة من مدن العالم وكل قرية من قراه، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا[الإسراء:58]، فلا بد أن يحقق الله ذلك طال الزمان أو قصر.
الجبهة الخامسة من هذه الجبهات: نعمة الله علينا، فنحن نعيش في لفيف من النعم لا حصر لها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، نعمة الإيمان، ونعمة العقل، ونعمة الجوارح، ونعمة الأهل، ونعمة القرآن، ونعمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ونعمة العلم، ونعمة العبادة، ونعمة الصلاة في الجماعة، ونعمة السجود لوجه الله، في الوقت الذي منع فيه كثير من الناس عن السجود لوجهه، كثير من العباد محرومون من هذه الطاعة العظيمة، حيل بينهم وبينها إما بالكفر وإما بالمعصية وإما بالفجور، وإما بنقص العقل وإما بالغفلة، وإما بالمرض لا يستطيعون السجود، وأُذن لك بهذا السجود وشُرفت به، وبغيره من النعم التي لا تحصيها.
وهذه النعم الناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها وإنما يعرفونها بزوالها، ما دام أحدهم آمناً في سربه معافىً في جسمه لا يشكو سرطاناً في كبده ولا ضعفاً في عضلات قلبه، ولا فشلاً في كلاه، وهو يتنفس تنفساً طبيعياً عادياً لا يوضع له جهاز تنفس لا يحس بهذه النعمة، فأينا شكر لله نعمة التنفس؟ هذه نعمة عظيمة جداً، لكن لا يُدرك الإنسان عظمها إلا إذا رأى الإنسان إنساناً آخر لا يستطيع التنفس إلا بجهاز فيذكر هذه النعمة العظيمة جداً، وغيرها من النعم الكثيرة التي تستحق الشكر وهو قيدها، ومن لم يشكرها لله يوشك أن تؤخذ منه، فكثير من الناس لا يعرفون النعمة إلا بزوالها فهم لا يعرفونها بوجودها.
ثم القسم الثاني: الذين يعرفونها بوجودها، ولكنهم لا يعرفون من أين أتت؟ فيظنون أن كل ما لديهم إنما هو من عقلهم واجتهادهم وتدبيرهم وكسبهم أو ميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، كما قال قارون : إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، وكما في قصة الأعمى والأبرص والأقرع، قال: ( إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر )، وهو كاذب، فهؤلاء عرفوا النعمة فتميزوا بها وأعجبوا بها، ولكنهم لم يعرفوا من أين أتت، فظنوا أنها من عند أنفسهم، ولا يمكن أن يشكروها لله أبداً.
والقسم الثالث: هم من يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أيضاً أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم شُغلوا بالنعمة عن شكرها، فهم يهدبون النعم ويتصرفون فيما آتاهم الله آناء الليل وأطراف النهار، لا يشكرون لله ولا يتذكرون أن له حقاً فيما آتاهم، هم يعرفون أن هذا المال لهم فهم يتصرفون فيه يمينا ًوشمالاً ويحاولون زيادته وتنميته دون أن يتذكروا حق الله فيه، وانظروا إلى المعرضين عن أداء الزكاة -الركن الثالث من أركان الإسلام- كثير هم أولئك الذين آتاهم الله أموالاً طائلةً وحرموا من التوفيق للزكاة فلا يؤدونها، وقد بين الله أن الذين لا يؤدون الزكاة لا حظ لهم في رحمة الله الواسعة، قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ[الأعراف:156]، وبين أن المعرضين عن أداء الزكاة لهم الويل يوم القيامة، قال الله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ[فصلت:6-7].
فهؤلاء شُغلوا بالنعمة عن شكرها، فهم مشغولون بالنعمة نفسها عن شكرها، حالهم حال المخلفين من الأعراب سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، عدد كثير من النساء إذا دُعيت إلى درس، أو محاضرةٍ، أو تعلم قرآنٍ، أو سنةٍ، أو عملٍ خيرٍ تنجو به في قبرها، وتنجو به على الصراط، وتدخل به الجنة؛ تقول: أنا مشغولة في بيتي وأولادي وأموالي وتجارتي ووظيفتي، فلا تريد المشاركة في أي عملٍ تنجو به من عذاب الله؛ لأنها مشغولة بما أنعم الله به عليها، فكانت النعمة ابتلاءً لها، وكانت ضرراً عليها؛ لأن هذا الحال هو حال المخلفين من الأعراب، سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11]، وقد حذر الله من هذا الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].
والقسم الرابع: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولا ينشغلون بالنعمة عن شكرها، بل يصرفون ما أنعم الله به عليهم من النعم في مرضات الله، وينظرون إلى كل نعمة فيعلمون أن معها كتاباً يفصل طريقة استعمالها، فأي واحدٍ منكم ذهب إلى السوق ليشتري جهاز تسجيل أو جهاز إذاعة أو جهاز تلفون؛ فإنه سيجد معه كتاباً يفصل طريقة الاستعمال، كذلك كل نعمة أنعم الله بها علينا جاء علمٍ من عند الله تفصيل لأوجه استعمالها وما أذن فيها منها وما لم يؤذن فيها، وهو في هذا الكتاب الذي بين أيدينا وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المفسرة له، فمن أعرض عن ذلك فإنه كالذي يأخذ جهازاً وهو لا يدري هل يوضع في الكهرباء 220أو 110، فيحترق الجهاز وهو لا يدري من أين يفتح، ولا من أين يُستعمل، لكن إذا نظر عند شرائه للجهاز إلى الكتاب الذي جاء معه فعرف أن بطاقة شريحة الهاتف تُدخل من هذا المكان، وأن الشاحن يوضع في هذا المكان، وأن السماعة توضع في هذا المكان، وأن هذا المكان هو مكان خيارات وهذا مكان تخزين إلى آخره، فإنه يستطيع استغلال هذه النعمة على الوجه الصحيح، فكذلك كل نعمة أنعم الله بها عليك، نعمة البصر إذا لم تقرأ خطاب الله المتعلق بها فكيف ستستعملها؟ تستعملها لا شك استعمالاً خاطئاً.
ونعمة السمع ونعمة الحياة، وجميع النعم إذا لم تقرأ ما فصل الله فيها، وما أحل منها وما حرم فإنك لا تستطيع أداء حقها أبداً، فلذلك لا بد من استغلالها على الوجه الصحيح، بمعرفة ما شرع الله فيها، وهؤلاء هم الشاكرون الذين يصرفون نعم الله في مرضاته، وقليل ما هم، كما قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13].
جعلني الله وإياكم منهم.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر