الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، ثم أما بعد:
فقد قال المصنف [باب العام]
عقد هذا الباب للعام، وهو في اللغة: وصف عمّ الشيء يعم فهو عام إذا شمل، والعام الشامل.
واصطلاحاً: لفظ يتناول الصالح له، من غير حصر دفعة.
(لفظ)؛ لأن العموم من عوارض الألفاظ، أي: أنه يوصف به الألفاظ لا المعاني ولا الأجسام -هذا اصطلاحاً- وإن كان في الأصل يرد في المعاني وفي الأجسام.
(يتناول الصالح له)، أي: ما يدخل تحته، أي: كل معانيه.
(من غير حصر)، أي: كل ما يصدق به، من غير حصر في عدد محدد.
(دفعة)، أي: في نفس الوقت يتناولهم جميعاً لا على سبيل البدلية، كالرجال: فهذا لفظ يتناول كل ذكر من بني آدم، فتناولهم دفعة واحدة، من غير حصر لهم بعدد محدد، وذلك بخلاف المطلق فإنه يتناول الصالح له من غير حصر على سبيل البدلية كرجل، فهو وإن كان يصدق على كل ذكر آدمي، إلا أنه لا يتناولهم جميعاً في وقت واحد، ودفعة واحدة، بل يتناولهم على سبيل البدلية، كل واحد منهم وحده، وذلك هو المطلق.
قال المصنف: [وأما العام فهو ما عمّ شيئين فصاعداً]
أي: هو في اللغة: ما عم شيئين، أي: شمل شيئين فصاعداً، سواءً كان في الحسيات كعموم الظرف لمظروفه، وكعموم المطر للأرض، أو في المعنويات أو في الألفاظ، فكل هذا يسمى عموماً في اللغة.
قوله: [من قولك: عممت زيداً وعمراً بالعطاء] أو بالإحسان، فهذا من المعنويات.
[وعممت جميع الناس بالعطاء]، فهذا من المعنويات أيضاً.
قال:[وألفاظه أربعة].
ولم يعرفه اصطلاحاً، وقد عرفناه اصطلاحاً بأنه لفظ يتناول الصالح له من غير حصر دفعة.
[وألفاظه] أي: صيغ العموم [أربعة] وليس محصوراً فيما ذكر بل له صيغ أخرى.
[الاسم الواحد المعرف بالألف واللام] الاسم الواحد، أي: الاسم المفرد غير المثنى ولا المجموع، المحلى بأل الجنسية.
[واسم الجمع المعرف بأل] أي: الجمع المعرف بأل الجنسية أيضاً كالرجل والرجال.
[والأسماء المبهمة] أي: الموصولات، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، فهي الأسماء المبهمة، [كـ(من) فيمن يعقل و(ما) فيما لا يعقل، و(أََيُُّ) في الجميع، و(أين) في المكان، و(متى) في الزمان] فكلها من ألفاظ العموم.
قال: [و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره] أي: (ما) و(من) في الاستفهام، تقول من قام؟ وفي قوله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ[طه:17] ، والجزاء، أي: الشرط وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ[البقرة:197] ، فهذا يشمل الكثير والقليل فهو عام.
ثم قال: [ولا في النكرات] أي: النكرة في سياق النفي، فهي من ألفاظ العموم، سواء كان النفي بـ(لا) كما ذكر المؤلف، أو بغير (لا) كقولك: لا رجل في الدار، فهذا من ألفاظ العموم؛ لأنه نفي لوجود أيّ رجل في الدار.
قال: [والعموم من صفات النطق] أي: أن العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني ولا من عوارض الأجسام في الاصطلاح، وإلا فهو في الأصل من عوارض الأجسام: كعم الظرف مظروفه، وعم الحبل الحطب، ومن عوارض المعاني: كعممت الناس بالعطاء أو بالإحسان، وعممت زيداً وعمراً بالإحسان، ولكن المقصود به في الاصطلاح الأصولي: أنه من عوارض الألفاظ، فالألفاظ منها ما هو عام كما ذكر، وكغيره، مثل: (عامة، وكافة، وجميع)، فكلها من ألفاظ العموم، وكالمضاف إلى الضمير، فإن النكرة إذا أضيفت للضمير تكون من ألفاظ العموم.
قال: [ولا تجوز دعوى العموم في غيره] أي: في غير صيغ العموم.
[من الفعل وما يجري مجراه]، فالفعل سواء كان فعل أمر، مثل: (كلْ، اشرب)، فهذا لا يدل على العموم، بل يمتثل بأكل أيَّ شيء، وشرب أيّ شيء، ولا يمكن أن يقصد به أكل كل شيء وشرب كل شيء، وما جرى مجراه مما يشبه الفعل من الأوصاف ونحوها ومن المطلق كله، فليس شيء من ذلك من قبيل العموم.
أما المفرد المحلى بأل، فمثل قول الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر:2] أي: كل إنسان، فالإنسان هنا لفظ عام، والدليل على ذلك الاستثناء الذي بعده إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ[العصر:3] ، فالاستثناء معيار العموم، فلا يكون إلا من عموم.
والجمع المحلى بأل، كقول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[المؤمنون:1] ، فهذا شامل لكل مؤمن، وكقوله تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا[النور:59] فالأطفال هنا جمع محلى بأل؛ فيعم كل الأطفال.
كذلك قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ[النساء:34] ، فالرجال والأطفال جمع تكسير محلى بأل والمؤمنون جمع مذكر سالم محلى بأل، والنساء اسم جمع محلى بأل.
كذلك اسم الجنس إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[البقرة:70] ، وغُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ[الروم:2-3]، فالبقر والروم كلاهما اسم جنس، فبقر مفردها بقرة، والروم مفردهم رومي.
وكذلك المحلى بأل العهدية إذا كان المعهود عاماً كان أيضاً من ألفاظ العموم، مثل: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ[البقرة:30] ، فالملائكة معهودون هنا، لكن أل وإن كانت عهدية لكنها دخلت على الجمع المعهود فيه الجنس، فكان ذلك من ألفاظ العموم.
أما إذا كان المعهود مفرداً، كما قال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا[المزمل:15] ، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ[المزمل:16] ، فهو واحد فلا يقصد به العموم هنا.
أما الأسماء المبهمة فمثالها: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ[النساء:123] ، فـ(من) هنا شرطية، وكذلك (أين) (فأين تذهبون؟) أي: في أي اتجاه تذهبون؟ فهي من ألفاظ العموم.
وكذلك (متى) مَتَى نَصْرُ اللَّهِ[البقرة:214].
والنكرة في سياق النفي مثل: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة:197] ، وكل ذلك عام في كل ما يدخل تحته.
وكذلك النهي فهو مثل النفي، فالنكرة في سياق النهي عامة فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن:18] ، ومثل ذلك: الشرط وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ[التوبة:6] ، فكل ذلك من ألفاظ العموم، وقد ترك المصنف ترك لفظ (كل) ولفظ (جميع) ولفظ (عامة) و(المضاف لمعرفة) ونحو ذلك.
كذلك النكرة في سياق الامتنان وفي سياق الإثبات في صور قليلة مثل: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14] ، وعَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5] فالأصل أن النكرة في سياق الإثبات للإطلاق لا للعموم، ولكنها قد ترد للعموم نادراً كما ذكرنا.
ثم عقد هذا الباب للخاص، فقال: [الخاص].
والخاص ضد العام، وهو في اللغة: وصف خص الشيء يخص، وخص الشيء بكذا يخصه به، فالشيء خاص بمن خص به.
وهو في الاصطلاح: لفظ يتناول ما دل عليه على وجه محصور أو اللفظ الدال على محصور. هذا الذي يسمى بالخاص.
ولم يذكر المصنف أنواع العام والعام منه:
1- ما هو عام مراد به العموم، وباق على عمومه، كما ذكرنا من الأمثلة.
2- ومنه عام مراد به الخصوص، مثل قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ[آل عمران:173] والمقصود بذلك بعض الناس دون بعض، ولا يقصد أن كل الناس قالوا لهم ذلك، كذلك ليس كل الناس قد جمعوا لهم، وكذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ[البقرة:199] ، فالمقصود بعض الناس دون بعض، أي: الحجاج أو إبراهيم عليه السلام.
3- العام المخصوص، وهو العام الذي أريد به العموم في الأصل، ولكنه خصص بعد ذلك، فجيء بما يخصصه ببعض أفراده دون بعض، فذلك هو العام المخصوص.
قال: [والخاص يقابل العام] أي: يضاده.
وقوله: [والتخصيص تمييز بعض الجملة] أي: بحكم مستقل بها، أو الجملة هنا: ما يتناوله العام.
قال: [وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل فالمتصل: الاستثناء والتقييد بالشرط، والتقييد بالصفة] أي: المخصص ينقسم إلى: متصل ومنفصل، فالتخصيص بالمتصل: كالاستثناء، والشرط، والتقييد بالصفة، فكل ذلك من المتصلات.
-فالتقييد بالاستثناء مثل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ[الفرقان:68-70]، فهذا الاستثناء اتصل بالعموم السابق وهو (من يفعل ذلك)، واستثني منه (من تاب) فالاستثناء هنا تخصيص بمتصل.
- ومثل ذلك الشرط: فهو يخصص أيضاً ما قبله، ويكون متصلاً به (تقتل المرأة إن قاتلت) فالمرأة هنا جنس محلى بأل فهي من ألفاظ العموم، (إن قاتلت) خصص هذا العام بالشرط الذي بعده، ومعنى ذلك: أنها إن لم تقاتل لا تقتل.
- وكذلك التقييد بصفة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران:97] ، (لله على الناس) الناس هنا من ألفاظ العموم؛ لأنه جنس محلى بأل، (من استطاع إليه سبيلاً) خص هذا العموم بالصفة، وهي صفة الاستطاعة.
والمخصص المتصل بأنواعه الثلاثة التي ذكرها هنا يحتاج إلى تفصيل؛ فلذلك قال: [الاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام]، فإن الاستثناء الذي هو أحد المخصصات المتصلة تعريفه: هو إخراج ما لولاه -أي: لولا الاستثناء- لدخل في الكلام، كقولك: جاء القوم إلا زيداً، فلو قلت: جاء القوم، وسكت، لدلَّ ذلك على مجيء زيد، لكن إذا قلت: جاء القوم إلا زيداً، فالاستثناء أخرج زيداً من القوم.
قال المصنف: [وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء] أي: لا يصح الاستثناء بحيث لا يبقى من المستثنى منه شيء، فلو قلت: له عليَّ عشرة إلا عشرة، فهذا باطل لا يمكن أن يصح، لكن إذا قلت: له عليّ عشرة إلا ثلاثة أو إلا أربعة فذلك جائز بالاتفاق، إذا كان دون النصف، فإذا كان النصف فصاعداً فهو محل خلاف، وهذا الخلاف فقهي لا أصولي، والذي سار عليه المؤلف أنه يصح الاستثناء حتى يبقى أقل شيء من العموم، فإذا قلت: له عليّ عشرة إلا تسعة، فهذا الاستثناء صحيح؛ لأن معناه الإقرار بواحد فقط.
[ومن شرطه أن يكون متصلاً بالكلام] أي: من شرط الاستثناء: أن يكون متصلاً بالكلام، فإن انفصل عنه وطال الانفصال كأن تقول: له عليّ عشرة، ثم بعد سكوت تقول: إلا تسعة، فهذا لا يقبل منه، إنما يقبل الاستثناء إذا كان متصلاً، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما القول بأن الاستثناء يصح ولو حصل الفصل، وقد جرى في هذا خلاف بين الأصوليين، وقد كان القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي رحمه الله من أهل بغداد، وأراد الخروج منها غضباً لسوء معاملة أهلها له، فخرج فلقي بعض عوام الناس خرجوا ليجمعوا الحطب؛ ليبيعوه في بغداد، فإذا اثنان منهم يتكلمان في قضية الاستثناء، فقال أحدهما للآخر: لو لقيت ابن عباس رضي الله عنهما لقلت له: لو كان الانفصال في الاستثناء مقبولاً لقال الله تعالى لأيوب عليه السلام: استثن ولم يقل له: (خذ بيدك ضغثاً فاضرب به)! فإن أيوب عليه السلام حلف أن يضرب عدداً من الأسواط لا يتحمله المضروب، فبعد الندم على ذلك أمره الله أن يأخذ بيده ضغثاً من النخل -يجمع عدداً من العثاكيل- فيضرب به ولا يحنث، فجعل ذلك مانعاً من الحنث، ولو كان الاستثناء كافياً هنا لقال: استثن، قل: إن شاء الله، فيخرج من عهدة اليمين، فرجع القاضي إلى بغداد وترك سفره، وقال: بلد حطابه -أي: الذين يجمعون الحطب- يناقشون ابن عباس بالقرآن لا يخرج منها.
قال المصنف: [ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه] أي: يجوز أن يتقدم الاستثناء على المستثنى منه فتقول: له عليّ إلا ثلاثة عشر.
[ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره] يجوز الاستثناء من الجنس وهذا الذي يسمى في اصطلاح النحويين بالاستثناء المتصل، قام القوم إلا زيداً، ومن غير الجنس وهو الذي يسمى بالاستثناء المنقطع، كقول الله تعالى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ[البقرة:34] أي: سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس، فإبليس ليس من جنس الملائكة، فكان الاستثناء هنا منقطعاً.
قال المصنف [والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم على المشروط] بين أن الشرط -الذي هو من المخصصات المتصلة أيضاً- يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم على المشروط، فإن تأخر عنه فذلك الأصل؛ لأن من شأنه التأخر، مثل قول الله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ[النساء:12] .
(إن لم يكن لهن ولد) شرط، وهو متأخر عن المشروط وهو: (لكم نصف ما ترك أزواجكم)، فمحل ميراث الزوج لنصف مال زوجته إن لم يكن لها ولد.
ويجوز أن يتقدم عليه، مثل قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[الطلاق:6] .
(إن كن أولات حمل) هذا شرط، وهو متقدم على المشروط وهو: (فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فجاء الشرط متقدماً على المشروط.
ثم عقد هذا الباب للمطلق والمقيد فقال: [والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق]:
المطلق في اللغة: وصف للمفعول، من أطلقه يطلقه فهو مطلق، أي: أرسله.
وهو في الاصطلاح: اللفظ الذي يتناول ما صلح له على سبيل البدلية لا دفعة واحدة، فرجل -مثلاً- نكرة في سياق الإثبات، يتناول كل ذكر آدمي، لكنه لا يمكن أن يتناولهم دفعة واحدة، فلا يصدق في الرجال جميعاً في وقت واحد، بل يصدق بواحد وواحد وواحد حتى يأتي على كلهم.
والمقيد أيضاً: وصف للمفعول من قيده يقيده فهو مقيد، أي: جعل فيه قيداً، والقيد: ما يحد الحركة، والمقصود به هنا: ما يحد من الإطلاق، فيعطل اللفظ عن بعض ما يصدق عليه، كالتقييد بالوصف في قول الله تعالى فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[النساء:92] ، فالرقبة مطلقة؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وقيدت بعد ذلك بالصفة حين قال: (مؤمنة) فخرج ما سواها من الرقاب فلا يمتثل به الأمر.
قال: [والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق]:
قد يرد الأمر بلفظ مطلق في مكان، ويرد بلفظ مقيد في مكان آخر، أو قد يرد النهي بلفظ مطلق في مكان، ويرد بلفظ مقيد في مكان آخر، وقد اختلفوا في ذلك: فقيل: يحمل المطلق على المقيد، وقيل: يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على قيده، فمثال ذلك في الأمر: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) قد جاء هذا الأمر دون قيد بالإيمان في كفارة القتل، وجاء بالقيد بالإيمان في كفارة الظهار، فقيل: يحمل المطلق على المقيد، فلا تجزئ رقبة في الكفارة إلا إذا كانت مؤمنة، ومثاله في النهي: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم يرح رائحة الجنة)، وقوله: (ما أسفل من الكعبين في النار)، فهذا نهي عن الإسبال، فاللفظ الأول قيد فيه النهي بأن يكون ذلك على وجه الخيلاء، واللفظ الثاني أطلق فيه ذلك دون قيد، فهل يحمل المطلق على المقيد؟ هذا محل الخلاف.
قال: [والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع، وأطلقت في بعض المواضع، فيحمل المطلق على المقيد]، فيشترط في كل الرقاب أن تكون مؤمنة.
ثم قال: [ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة]:
رجع المصنف هنا للتخصيص المنفصل بعد ذكره التخصيص المتصل.
1- أما التخصيص المنفصل -أي: بالتخصيص المنفصل- فقد يكون التخصيص بالحس، وذلك مثل قول الله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف:25] فالمحسوس أن السماوات ما دمرت، وأن الأرضين ما دمرت، وأن الجبال ما دمرت، فالمقصود: تدمر كل شيء أذن لها في تدميره، من أبنية عاد وأشجارهم ومنافعهم.
2- وكذلك من المخصصات المنفصلة: العقل، فإنه يخصص العموم، كقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[الزمر:62] فالعقل يقتضي أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق نفسه فهو غير مخلوق، فهذا تخصيص بالعقل.
3- ثم بعده التخصيص بالنص، وهو الذي فصل فيه المؤلف فقال: [يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب]، أي: أن يأتي العموم في الكتاب، ثم يأتي بعده نص آخر من الكتاب يقتضي تخصيصاً، وذلك مخصص منفصل، فقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228] ، فهذا اللفظ جاء عاماً في كل مطلقة سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، ولكنه خصص بنص آخر، وهو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا[الأحزاب:49] فهذا اللفظ تخصيص للفظ الآخر.
- وكذلك يجوز [تخصيص الكتاب بالسنة]، فالله تعالى يقول في كتابه بعد ذكر المحرمات من النساء وهن خمس عشرة امرأة قال: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[النساء:22-24] والمحصنات هن المتزوجات. إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ))[النساء:24] بالسبي، كما إذا كن متزوجات في الكفر فسبين في الغزو، فإن السبي يهدم النكاح.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ[النساء:24] ، (أحل لكم ما وراء ذلكم) فـ(ما) هنا من ألفاظ العموم، وهي مقتضية أن كل ما عدا الخمس عشرة امرأة حلال، ولكن خصص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في السنة بقوله: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فهذا تخصيص لعموم قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ).
- كذلك يخصص الكتاب أيضاً بالإجماع، ولم يذكر ذلك هنا في النص؛ لأن الإجماع في الراجح لابد أن يكون معتمداً على مستند، وذلك المستند من النص هو المخصص الحقيقي، وإنما يدل الإجماع على التخصيص به فقط، وذلك مثل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4] ، فهذه الآية عامة في الحر والعبد، لكنها خصصت بالإجماع بأن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر، ولم يرد ذلك في النص، لكنه إنما جاء في الإماء في حد الزنا في قول الله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ[النساء:25] ، فحمل المسلمون العبد الذكر على الأمة الأنثى في تجزؤ الحد مطلقاً، وكان ذلك بالإجماع، فانعقد الإجماع على هذا.
- وكذلك قد يخصص الكتاب بالقياس، وذلك مثل قول الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور:2] فيقاس العبد الزاني على الأمة في تنصيف الحد؛ لأن الأمة ذكر فيها التنصيف فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ[النساء:25] فيقاس العبد الذكر على الأنثى.
- كذلك قال: [وتخصص السنة بالكتاب] يخصص عموم السنة بالكتاب أيضاً، وذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، فإن ذلك خصص بقول الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29] فالحديث أطلق القتال حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، والآية خصصت من ذلك من قبل دفع الجزية، فإنه تقبل منه الجزية ولا يقاتل.
- قال: [ وتخصيص السنة بالسنة] كذلك تخصص السنة بالسنة، ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر)، فهذا عام في القليل والكثير، وقد خصصته السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، فالحديث الأول عام في القليل والكثير، والحديث الثاني خصصه بأن ذلك في خمسة أوسق فما فوقها.
[وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم] أي: أن الكتاب والسنة كلاهما يخصص بالقياس.
فتخصيص الكتاب بالقياس كما سبق في قياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا.
وأما تخصيص السنة بالقياس، فمثاله قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)، فخص من الحديث العبد قياساً، فيتنصف الحد في حقه قياساً على الأمة.
وهذا معنى قوله: [ونعني بالنطق] أي: المنطوق، وهو الكتاب والسنة، أي: قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف: [المجمل والمبين]
عقد هذا الباب للمجمل والمبين، فالمجمل: هو اللفظ الخفي الدلالة خفاء راجحاً، أي: لا عموم فيه أو إطلاق.
والمبين: هو اللفظ الواضح الدلالة لتخصيص فيه أو تقييد.
والمجمل في اللغة: مفعل بصيغة اسم المفعول بالوصف من أجمله، أي: أذابه، والإجمال الإذابة: أجمل الشحم إذا أذابه، والكلام الذي لا تتضح دلالته كالشحم المذاب، وهو في الاصطلاح: ما افتقر إلى البيان، كما قال المصنف: [المجمل: ما افتقر إلى البيان]، والمقصود بافتقاره، أي: افتقارنا نحن في فهمه إلى البيان، أي: ما افتقرنا نحن في فهمه إلى البيان، وذلك لأسباب كثيرة هي أسباب الإجمال، منها:
1- عدم معرفة المراد بسبب الاشتراك في الدلالة، كقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237] ، الذي بيده عقدة النكاح يمكن أن يقصد به الزوج أو الولي، كذلك في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228] هل المقصود الحيض أو الطهر؟ فالقرء يطلق على الحيض، كقول الراجز:
يا رب ذي ضغن على قارضي له قروء كقروء الحائض
ويطلق على الطهر، ومنه قول الأعشى:
أفي كل يوم أنت عازم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فالقروء هنا بمعنى الأطهار.
2- وقد يكون الإجـمال راجعاً إلى كون المفرد نفسه خفيَّ الدلالة: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ[التكوير:17] ، فيمكن أن يكون معناه: الإقبال، ويمكن أن يكون معناه: الإدبار.
3- وقد يكون ذلك للاشتراك في دلالة الحرف، كقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ[المائدة:6] ، الباء هنا يمكن أن تكون للإلصاق، ويمكن أن تكون للتبعيض.
4- ومن أسباب الإجمال كذلك عدم معرفة الصفة، كالعام إذا لم يرد له بيان، مثل: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43] فهذا محتاج في معرفته إلى البيان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم الصلواتِ الخمس، وبين الزكاة.
قال المصنف: [والبيان: إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي].
البيان في الأصل هو: الإظهار، اسم مصدر بيَّن الشيءَ بيانًا إذا أظهره.
وفي الاصطلاح: [إخراج الشيء من حيز الإشكال] (إخراج الشيء) أي: الدليل.
[من حيز الإشكال إلى حيز التجلي] أي: إلى حيز الظهور، والتجلي: من جلاه إذا أظهره.
ثم قال المصنف: [والنص: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا] هذا ليس من المجمل ولا من المبين، بل هو من الألفاظ الأخرى المقاربة للمعنى.
من مصطلحات الأصوليين أيضاً: النص.
والنص لغة: يُطلق على الإسراع في السير، ومنه حديث: (إذا وجد فرجة نصَّ) أي: أسرع، ويُطلق على الرفع، ومنه: المنصة، وهي: المكان المرتفع الذي يرتفع عليه المتكلم، ومنه قول امرئ القيس:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش إذا هي نصته ولا بمعطل
أي: رفعته، ومنه قولهم:
ونص الحديث إلى أهله فإن السلامة في نصه
أي: في رفعه إلى قائله ونسبته إليه.
والنص في الاصطلاح: ما أفاد معنى لا يحتمل غيرَه، هذا في اصطلاح المتكلمين.
والمتكلمون يقسمون الكلام إلى: واضح الدلالة، وخفي الدلالة.
فواضح الدلالة، ينقسم إلى قسمين هما: النص والظاهر.
وخفي الدلالة، ينقسم إلى قسمين هما: المجمل والمتشابه.
- والحنفية يقسمون واضح الدلالة إلى أربعة أقسام هي: المفسَّر، والمبيَّن، والنص، والظاهر.
- ويقسمون خفي الدلالة إلى أربعة أقسام: الخفي، والمجمل، والمشكل، والمتشابه.
وكل هذا اصطلاحٌ.
قال المصنف: [وقيل: ما تأويله تنـزيله] أي: على ما جاء عليه.
- فالتأويل بمعنى: بروزه إلى العيان، بعد أن كان خفياً، وقد قال ابن رواحة رضي الله عنه:
خلوا بني الكفار عن سبيله نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
(نحن ضربناكم على تنزيله) وذلك عندما أنزل قول الله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ[الفتح:27] .
(واليوم نضربكم على تأويله) وذلك عند تحققه بعمرة القضاء، فقوله: ما تأويله تنزيله، أي: أول ما نزل نزل واضحاً لاخفاء فيه، فهذا الذي يسمى بالمبين، وأما ما كان تأويله بعد تنزيله فهو المجمل.
قال: [وهو مشتق من منصة العروس] وليس كذلك، بل كلاهما مشتق من النص الذي هو الرفع، [من منصة العروس] أي: المكان الذي تجلى عليه العروس، أي: تظهر عليه، [وهو الكرسي].
قال المصنف: [الظاهر والمؤول والظاهر: ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر]:
الظاهر: هو مقابل النص، وهو فاعل وصف من ظهر إذا اتضح، فالظاهر واضح الدلالة. وهو في الاصطلاح: ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر، فهو دون النص في الظهور.
(ما احتمل أمرين) أي: معنيين أحدهما أظهر من الآخر.
ثم قال: (ويؤول الظاهر بالدليل): يؤول، أي: يرجع إلى أصله، والتأويل: إرجاع الشيء إلى غيره، من آل إليه يؤول، أي: رجع، وإذا أول سمي بالمؤول، ويؤول الظاهر بالدليل، فلا تأويل إلا بدليل، ويسمى الظاهر حينئذ بالدليل، فدليل التأويل هو الذي يصرف به اللفظ عن ظاهره إلى غيره، فالظاهر إذن قسمان: ظاهر من جهة اللفظ -أي: لفظه ظاهر- وظاهر من جهة الدليل، أي: دل الدليل على تأويله فأصبح ظاهراً في المعنى الآخر الذي كان خفياً فيه.
وللتأويل شروط، فمن شروط التأويل: أن يكون بدليل فلا يمكن أن يؤول بغير دليل.
ومنها: أن يكون اللفظ قابلاً للتأويل، فإن كان اللفظ صريحاً لا يقبل التأويل فلا يمكن تأويله.
ومنها: أن يقع فيه موجب للتأويل.
ومنها: أن يكون اللفظ الذي أول إليه محتملاً.
أي: مقبولاً في العربية، فلا يمكن أن يحمل اللفظ على ما لا تقتضيه اللغة بوجه من الوجوه، فذلك تأويل فاسد.
والظهور له أسباب: فيمكن أن يكون الظهور بسبب الحقيقة، فالحقيقة مقدمة على المجاز، وكذلك الإثبات مقدم على الحذف، فما لا يقتضي حذفاً أولى مما فيه حذف، والعموم كذلك مقدم على الخصوص، فكون اللفظ متناولاً لكل ما يصلح له أولى من تخصيصه، هذه هي أوجه الظهور، أو أسباب الظهور.
باب الأفعال:
الأفعال: جمع فعل، والمقصود بها هنا نوع من أنواع الأدلة، وهي أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من الأدلة الإجمالية السنة، وهي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته مما يصلح دليلاً لحكم شرعي، ولما كانت أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً بدأ بتصنيفها، فقال: [فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك].
ومعنى قوله: (على وجه القربة والطاعة) أي: أن يكون تشريعاً وبياناً لما أرسله الله به.
قوله: (أو غير ذلك) معناه: أو أن يكون غير ذلك بأن يكون جبلة: كالعطاس، والنوم، والأكل، والشرب.. وغير ذلك، أو أن يكون متردداً بين الأمرين، بين الجبلة والتشريع: كالضجعة بعد ركعتي الفجر، وكجلوس الاستراحة، أو أن يكون فعلاً بوظيفة من وظائفه: كالإمامة العظمى، والقضاء، والإفتاء، وقيادة الجيش... وغير ذلك.
قال المصنف: [فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص وإن لم يدل لا يخصص به]، وذلك ثلاثة أنواع:
النوع الأول منه: ما دل الدليل على وجوبه عليه، فيسن لأمته: كالسواك، وقيام الليل، وصلاة الضحى، وقضاء دين الميت المعسر.
والنوع الثاني: أن يدل الدليل على حرمته عليه صلى الله عليه وسلم، فيكره لأمته: كأكل كل ذي رائحة كريهة، ولبس ما فيه وسخ ونحو ذلك، فما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يكره لأمته.
والنوع الثالث: ما دل الدليل على جوازه له صلى الله عليه وسلم دون غيره، فيحرم على أمته: كالتزوج بأكثر من أربع، وكالزواج بلا ولي ولا صداق، وكالخلوة بالأجنبية، والحكم للأقارب، والحكم مع غيبة الخصم، فكل ذلك دل الدليل على جوازه له هو، وهو محرم على غيره من الأمة، فلهذا قال: [فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه الطاعة أو القربة أو غير ذلك، فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص] معناه: أن الأصل عدم الاختصاص، ولهذا احتيج فيه إلى الدليل، فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص، [وإن لم يدل لم يختص به]؛ لأن الأصل أنه مبلغ عن الله تعالى، وفيه أسوة حسنة لكل المؤمنين: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[الأحزاب:21].
ثم قال: [فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا]:
ذهب بعض الشافعية إلى أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معرض البيان يدل على الوجوب.
[ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب]: وهذا مذهب جمهور الأصوليين، فإنهم يقسمون السنة إلى الأقسام الثلاثة، فيقولون: القول تؤخذ منه الأحكام الخمسة، والفعل يؤخذ منه حكمان فقط وهما: الندب والإباحة، والتقرير يؤخذ منه حكم واحد وهو الإباحة فقط، ومنهم من قال: يتوقف فيه، فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا، ويحمل على أنه من الجبلة فيكون جائزاً في حقه وفي حقنا: كالعطاس والنوم الاستيقاظ ونحو ذلك، فهذه من أفعال البشر المعتادة فيجوز في حقه وفي حقنا، ولا يشرع الاقتداء به فيها، ومثل هذا هيئات اللباس: كالعمامة والرداء والإزار وتقلد السيف ونحو ذلك، فهذا يدل على أحسن الهيئات وأقربها للفطرة، لكنه لا يطلب من أحد أن يتأسى به فيها فلا يثاب فاعل ذلك، ولا يشرع الاقتداء به في ذلك، فلهذا قال: [فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وفي حقنا، وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة]، أي: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للقائل في قوله -إذا كان ذلك تحت حكمه وبمجلسه وبعلمه- فإنه يحمل على رضاه به.
والإقرار ينقسم إلى قسمين: تقرير بالاستحسان، وتقرير بالسكوت.
فالتقرير بالاستحسان: كتقريره لقول مجزز المدلجي حين رأى أقدام زيد بن حارثة وابنه أسامة قد خرجت من كساء لبساه، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. قالت عائشة : (فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير جبهته مسروراً، فقال: أما علمت أن مجززاً المدلجي رأى أقدام زيد وأسامة قد خرجت من كساء يلبسانه، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، فأقر القيافة، وفي ذلك رد على المنافقين، فإن زيداً شديد البياض، وابنه أسامة شديد السواد، وكان المنافقون يطعنون في نسب أسامة ، فجاء هذا الأعرابي الذي يعرف الأثر والتشبيه، فشبه أقدام أسامة بأقدام زيد ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فدل هذا على تقريره للقيافة.
ومثل ذلك: إقراره بالسكوت: كإقراره لبعض ما جرى بحضرته، كقوله للأنصاري حين رآه يصلي بعد الفجر: (ألم تشهد معنا الصلاة؟ قال: بلى. قال: فماذا كنت تصلي؟ قال: ركعتا الفجر استعجلت عنها بالصلاة) فسكت، فهذا السكوت دليل على الإباحة، ومثله إقرار الفعل كما قال المصنف: [وإقراره على الفعل كفعله]، فقد ثبت أنه أكُل الضب على مائدته، وأنه أهدي إليه ضب مشوي فقال: (لم يكن في بلاد قومي فأجدني أعافه)، فاجتره خالد بن الوليد فأكله، وكل ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبإقراره، فدل هذا على جواز أكل الضب.
قال المصنف: [وما فعل في وقته في غير مجلسه، وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه].
والمقصود بذلك أيضاً: إذا كان تحت إمرته، بخلاف ما لم يكن تحت إمرته، كما كان في العهد المكي من أفعال أهل الجاهلية، ولو لم يصرح بإنكاره؛ فإن سكوته عنه ليس إقراراً له، أما ما كان بالمدينة تحت إمرته فحصل وعلم به ولم ينكره فيعتبر ذلك إقراراً منه له، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه، ويضاف على هذا: ما فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين ولو لم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم ينزل الوحي بإنكاره، وقد كان ظاهرة منتشرة بينهم، فيعتبر ذلك إقراراً من الله سبحانه وتعالى لهم، إذ لو كان منكراً لنزل الوحي بإنكاره، ودليل هذا قول جابر رضي الله عنه كنا نعزل والقرآن ينزل، وقد بين أن هذه الظاهرة كانت منتشرة في وقت نزول الوحي، فلم ينزل القرآن بإنكارها وتحريمها، فدل ذلك على جوازها، وهذا من إقرار الله سبحانه وتعالى، وهو أبلغ من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر