الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل سمى هذا الدين الذي أرسل به هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة دين الإسلام، وختم به الديانات السابقة، وجعله الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، فكل ما سواه من الأديان بعد نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم به مردود على أصحابه لا يتقبل الله منه شيئاً.
وإن الله عز وجل لم يرض للبرية إلا هذا الدين، وإنما جعل الأديان السابقة إعداداً له فقط؛ لأن البشرية خلقها الله تعالى متدرجة، فلم تصل إلى نضجها ولم تكتمل أطوار حياتها إلا في الطور الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فما زالت البشرية تتقدم في أطوار حياتها كتقدم الصبي في نماء بدنه وعقله وتطور معارفه، وهو يحتاج في كل طور إلى ملابس جديدة تتناسب مع حجمه وإلى تغذية تتناسب مع واقعه وصحته.
وكذلك هذا الدين، فإن الله كان ينزل منه في كل فترة ما يتناسب مع الطور الذي تمر به البشرية ويعلم نهاية ذلك الطور، وأن ذلك الدين لا يصلح لما بعد ذلك الطور، فإذا انتهى ذلك الطور نسخ الله تلك الشريعة وأتى بشريعة جديدة تطور سابقتها أو تنسخها وتلغي أكثر أحكامها.
ومن هنا فإن الشرائع السابقة تنقسم إلى قسمين:
الأول: شريعة مطورة. أى: مكملة لسابقتها مبيحة لبعض ما حرمته ومحرمة لبعض ما أحلته، كشريعة عيسى مع شريعة موسى.
الثاني: شريعة جديدة ناسخة لسابقتها بالكلية، كشريعة موسى مع شرائع من قبله من الرسل.
وإن رسل بني إسرائيل إنما كانت شرائعهم مجددة لشريعة موسى، ولهذا قال الله وتعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ[آل عمران:50] .
أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها ناسخة لكل ما سبق، ولهذا قال الله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ[المائدة:48] , وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19] , فما سواه من الأديان ليس ديناً كاملاً مستقراً عند الله عز وجل وإنما هو دين آني مؤقت ذو فترة محددة لا يتعداها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لنا الفترة التي بعث فيها، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبة طويلة: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم جاء على فترة من الرسل، كما جاء ذلك مرتين في سورة المائدة، وأخبر أنه بعث في الأميين -في الجاهلية- على فترة الرسل واقتراب الساعة وجهالة الناس، فجاء بهذه الحنيفية السمحه التي هي الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى، والتي لا يقبل الله من أحد وصلت إليه سواها من الدين، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).
فارتضى الله تعالى هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون إماماً للبشرية، وارتضى هذا الدين الذي جاء به للبشرية بحذافيرها فهو صالح لكل زمان ومكان، ومشروط على الناس أن يأخذوا به ويتبعوه.
وإن كثيراً من الناس يغلط في تصور هذا الدين وذلك لقصور نظره، فيرى جانباً واحداً منه فيقوِّم هذا الدين على أساسه، فمثلاً: تسمع كثيراً من الناس يقارن الإسلام بالأديولوجيات الفكرية، فيقارن الفكر الإسلامي أو الدين الإسلامي بالفكرة الرأسمالية والفكرة الشيوعية، ويقول: هو متوسط بين الفكرتين، فالفكرة الرأسمالية تراعي حقوق الفرد ولا تراعي حقوق الأمم، والفكرة الشيوعية تراعي حقوق الأمم ولا تراعي حقوق الأفراد، والإسلام يراعي حقوق الجميع. ولكن الواقع أن هذه النظرة قاصرة؛ لأنها ما نظرت إلا إلى جانب واحد من الإسلام، وهو المجال الفكري في العدالة الاجتماعية بين الناس فقط.
وكذلك تسمع آخرين يقارنونه بالقوانين الوضعية، وهذا قصور في التصور أيضاً، فما نظروا إلا إلى الجانب المنظم لعلاقات الناس فيما بينهم.
والواقع أن الإسلام أعم وأشمل من هذا، فهو نظام شامل لكل أمور الحياة، فالقانون -مثلاً- لا يهتم بأخلاق الناس، ولا يهتم بتنظيم معاملاتهم مع ربهم الذي خلقهم وسواهم، وأنت تعلم أن هذه الأمور من أهم شرائع الإسلام، وقد جاء فيها كثير من نصوصه ووضع فيها كثير من قواعده.
ومن هنا جاء البون الشاسع بين الإسلام وبين ما سواه من الشرائع والتقنينات، فهو دين الله الذي ارتضاه وليس ديناً من الأرض، فليس نابعاً عن قصور في التصور، وليس ناشئاً عن أعراف نشأت في مرحلة محصورة، وليس ناشئاً كذلك عن عقول قاصرة، وإنما هو وحي من عند الحكيم الخبير الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، وخلق البشر وعلم أمورهم كلها قبل أن يخلقهم، فشرع لهم من الدين ما يصلح أحوالهم كلها، فشرع لهم من الإسلام ما ينظم علاقاتهم بربهم، وذلك جانبان:
الجانب الأول منه: ما ينظم اعتقادهم، ويبين لهم ما تعتقده أفئدتهم فيما لا يمكن أن تصل إليه عقولهم:
وذلك أن الله علم أن العقول التي وهبها للناس إنما هي جوارح قاصرة مثل أيديهم وأسماعهم وأبصارهم، فهي عاجزة عن إدراك هذه الأمور، فبينها لهم بالوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى.
الجانب الثاني في التعامل مع الله: هو جانب العبادة التي أصلها الأدب مع الله سبحانه وتعالى وحسن الحياء منه، وأداء ما شرع من العبادات على الوجه الذي يرضيه، وقاعدتها التوقيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصله عباده بضر ولا نفع، وقد صرح بذلك فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله: (ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج:37] .
ومن هنا فلا يمكن أن يُتقرَب إليه إلا بما شرع، فلا يمكن أن يتعبد الإنسان ويقصد وجه الله تعالى بأمر لم يشرعه له ولم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت منزلاً من عند الله؛ لأن من يمكن أن تنفعه ويمكن أن تضره يمكن أن تتقرب إليه بشيء لم يأمرك به؛ لأنك تعلم أنه يوصل إليه نفعاً أو يرفع عنه ضرراً، ورب البرية جل وعلا لا يمكن أن تنفعه ولا أن تضره، فلا يمكن أن تتقرب إليه إلا بما شرع لك وبين، ومن هنا فإن هذا الجانب قاعدته التوقيف والقصر على ماجاء.
وكذلك كان في الإسلام ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وهو نوعان:
النوع الأول: ما يسمى بالأخلاق، وهذه الأخلاق هي التي تحافظ على وشائج الناس وروابطهم وتنميها، وتحفظ الأدب العام للناس، فإن حقوق الناس متفاوتة، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن أحق الناس بالصحبة الأم ثم الأب، وذكر كذلك حقوق الجار، وحقوق الأقارب، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وبين صلى الله عليه وسلم حق الكبير على الصغير وحق الصغير على الكبير، وكل ذلك داخل في مجال الأخلاق.
أما الجانب الثاني في التعامل فيما بين الناس فهو جانب المعاملات، وقد شرع فيها الإسلام تشريعاً واضحاً مبيناً للوجه الصحيح في التعامل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه البشرية أمة من نفس واحدة، وأراد لها أن تكون مجتمعاً مترابطاً، فقطع كل ما يؤدي إلى الخلاف والفرقة، وأزال كل ما يؤدي إلى الظلم والعسف وقطيعة الرحم، ومن هنا تقرأ في سورة الحجرات ثلاثة عشر سبباً من أسباب القطيعة حرمها الله تعالى ونفاها عن المجتمع الإسلامي:
أول هذه الأسباب: التعدي على الصلاحيات، وهو المذكور في قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الحجرات:1] .
السبب الثاني: عدم توقير الكبار وذوي العلم والسن وذوي الفضل، وهذا أيضاً مأخوذ من هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ[الحجرات:1-2] .
ثم بعد هذا الكذب المأخوذ من قوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ[الحجرات:6] .
ثم بعده عدم التبين والتثبت المأخوذ من قوله: فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6] , وفي القراءة السبعية الأخرى (فتثبتوا).
ثم بعده الظلم، وهو المذكور في قوله: فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ[الحجرات:9] .
ثم بعد ذلك السخرية، وهي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ[الحجرات:11] .
ثم بعد ذلك ظن السوء، والتنابز بالألقاب، والنميمة، والغيبة.
وهذه كلها هي المذكورة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] .
ثم بعد هذا وضع القاعدة التي من أجلها ترابطت البشرية واتصلت عراها، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13] .
وكذلك فإن الله وهب بعضهم ما يحتاج إليه غيره، وكان قادراً على أن يقسم الأرزاق فيما بينهم فيعطي كل شخص ما يحتاج إليه فقط، لكنه جعل تحت أيدي بعض الناس ما لا يحتاجون إليه ويحتاج إليه من سواهم، وحكمة ذلك الواضحة أن يبقى المجتمع مترابطاً يحتاج بعض أفراده إلى بعض ويقوم بعض أفراده برعاية بعض، فجعل من المجتمع أغنياء وجعل منه فقراء ليقع التكامل والترابط، ولهذا قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[النحل:71] , وقال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] .
فوزع بينهم الأرزاق توزيعاً عجيباً، وشرع لهم من الشرائع ما ينظم تداول هذه الأرزاق فيما بينهم؛ لأن الإنسان إذا رأى حاجته ولم يجد وجهاً صحيحاً لأخذها وهو محتاج إليها فإن كان قوياً لابد أن يغصبها أو يتعدى عليها بالقوة، وإن كان ضعيفاً سيحتال عليها بمختلف الحيل كالسرقة والغش ونحو ذلك.
ومن هنا فإن الناس لا يحتاجون إلى هذه الحيل الملتوية إلا عند فساد النظام، فلا يحتاجون إلى الرشوة إلا عند فساد النظام، ولا يحتاجون إلى الغش والخديعة في البيوع ونحو ذلك إلا عند فساد النظام وعدم أخذه بالإسلام، فهذا الفساد الذي تراه مستشرياً في التعامل بين الناس أصله الإعراض عما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلو رجع الناس إلى دين الله عز وجل وأخذوا به لما احتاج أحد أن يقدم رشوة ولم يحتج أحد لأخذها، ولم يحتج أحد كذلك لوساطة، ولم يحتج أحد لغش ولا خداع ولا تزوير في شهادة ولا تزوير في امتحان؛ لأن الحقوق مرعية محفوظة بنظام الله سبحانه وتعالى وبعدله.
لكن عندما يتخذ الناس هذا النظام ظهرياً ويعدلون به ما سواه فلابد أن يتردوا في أوحال الرذيلة، ولابد أن يظلم بعضهم بعضاً، وإذا شاع فيهم الظلم فسيقع الفساد المستشري الذي تحل بسببه عقوبة الله تعالى على الناس، كما قال سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41].
فشرع الله تعالى البيوع التي يقع بها التبادل بين الناس، فالضعيف إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، والقوي إذا رأى حاجته أمكنه أن يتوصل إليها بالشراء، ومن كان لديه مال يحتاج إليه ورأى ما يحتاج إليه عند غيره أمكنهما التبادل فيما بينهما بكل عدالة ونزاهه، وأن يعلموا أن ذلك إنما القصد منه الوصول إلى الرفاهية، والوصول إلى إشباع رغباتهم في هذه الحياة الدنيا، والتوصل إلى مرضاة الله في الدار الآخرة، وليس المقصود به حرمان قوم من هذا المعاش الذي جعله الله في الأرض، فما فيها من الأرزاق كاف لمن فيها من البشرية، لا يخلق الله من خلق فيضيعه.
فالرزق الذي خلقه الله في هذه الآرض كاف لأهلها، ففيها من الخيرات وأنواع المعادن وأنواع الزراعات وأنواع الثمار والأشجار ما يكفي أهلها، وفيها من المياه ما لا ينقضي إلا بموت أهلها، ومن هنا فإنها تكفي الأحياء والأموات كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً[المرسلات:25-26] , فالأموات تكفتهم في بطنها، والأحياء تحملهم على ظهرها، وقد دحاها الله لذلك ووزع فيها أنواع الخيرات.
ومن هنا لو استغلت هذه الخيرات استغلالاً صحيحاً لكفت البشرية وقامت بحقوقها كلها، وقد أمرنا الله تعالى باستعمالها واستغلالها والمشي في مناكبها وأن نبتغي من فضل الله تعالى في ذلك، ولو اتبعت هذه الخطا التي حددها الشارع سبحانه وتعالى لحصل العدل وارتفع العسف والظلم بين الناس، ونال كل أحد منهم حقوقه وما يستحقه في هذه الأرض.
ومن هنا شرعت العقود التي تقضي على أنواع هذه الخدائع وأنواع الظلم والعسف مطلقاً، فجعل البيع بديلاً للربا، وجعل النكاح بديلاً للسفاح، وجعل الدَّيْنُ كذلك بالتي هي أحسن بديلاً للاسترقاق والظلم، ومن هنا جُعِل لكل وجه من أوجه الفساد بديل يناسب حال المجتمع ويلائمه ويسد عوزه، وهذا من حكمة الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
ثم إن من هذا الدين ما يردع أهل الفساد إذا استشرى وحصل، وهو ما يسمى بالحدود والتعزيرات، فإنها تزجر الواقعين في هذه المعاصي وهذه القاذورات عما وقعوا فيه، وتكفر عمن تاب وأحسن فيما بعدها، وهذه الفواحش التي رتب الله تعالى عليها هذه الحدود مضرة بأهل الأرض إضراراً شاملاً كاملاً لا يختص بالمتعاطين لها أو بالقائمين عليها فقط، ومن أجل هذا جعلت حدودها رادعة فمنها ما حده القتل، ومنها ما حده الرجم بالحجارة إلى الموت، ومنها ما حده قطع اليد، ومنها ماحده الجلد، فهذه الحدود لا يقصد بها التشفي من شخص واحد، وإنما يقصد بها علاج مجتمع بكامله، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً), وقوله: (من أن يمطروا سبتاً) معناه: من أن ينزل عليهم المطر أسبوعاً كاملاً. فهذه الحدود تردع الفساد وترده وتقوم أخلاق الناس، وترد جماح الجامح منهم وتعالج مرض المريض منهم، فهي علاج رادع لشيطان الإنسان الذي يستزله في هذه المحرمات ويوقعه في هذه الفواحش.
وكذلك التعزيرات التي وكلها الله تعالى إلى اجتهاد الحكام المؤمنين القائمين بالعدل هي كذلك رادعة عن تلك الذنوب التي هي دون الأولى، فلا تصل إلى حد الحدود وإنما هي دونها وأقل منها.
وكذلك الكفارات التي تكفر المعاصي التي يقع فيها الإنسان وتعالج ما يجده الإنسان من الانكسار في نفسه، فإن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، ومن فرط في جنب الله تعالى فأقام الله عليه الحجة وتذكر ماضيه وما فرط فيه في جنب الله، وأنه قد أسرف كثيراً فيما مضى من زمانه، وهو مقدم على الله ولا يدري حاله ولا يدري كيف يجيب إذا عرض على الباري سبحانه وتعالى: يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[المرسلات:35-36] سينكسر قلبه ويتأثر نفسياً تأثراً شديداً بالذنوب التي أسرف فيها على نفسه فيما مضى من عمره، لكن الله شرع له الكفارات التي تكفر هذه الذنوب وتطمس أثرها، وأهم هذه الكفارات إتباع الحسنة السيئة، وأن يعمل الإنسان من الحسنات أكثر مما عمل من السيئات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
ومن هذه الكفارات: اجتناب الكبائر؛ وما وقع فيه الإنسان بعد ذلك من الصغائر يكفره اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً[النساء:31] .
وكذلك من هذه المكفرات الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والشهادة في سبيله، وكذلك التضحية في سبيله بما يستطيعه الإنسان.
ومنها الكفارات المخصوصة بأمور محددة ككفارة القتل، وكفارة الظهار، وكفارة الإفطار في نهار رمضان، وكفارة اليمين، وغير ذلك من الكفارات المبينة شرعاً، فهي جوابر وزواجر تزجر الإنسان عن العود إلى ما فرط فيه في جنب الله، وتجبر له ما وقع فيه من الخطأ والتقصير، والإنسان محتاج إلى ذلك أشد الحاجة.
ثم من هذه الجوانب التي شرعها الله تعالى في الإسلام وبينها للناس الجانب القضائي الذي يفصل المشكلات عند حصولها ويعالجها علاجاً وقائياً قبل حصولها بالصلح والتراضي وإصلاح ذات البين:
وهذا الجانب أيضاً من جوانب الإسلام المهمة التي لا يستغني عنها الناس، وعندما تركوها وقصروا فيها وتركوا التحاكم إلى دين الله سبحانه وتعالى اشتهر فيهم ما ترى من الظلم والانحراف والبغي في القضاء، وقد حكم الله تعالى في كتابه بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله، وأقسم على نفي الإيمان عنه في كتابه فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[النساء:65] .
إن جوانب الإسلام ومجالات تشريعه كثيرة جداً لا يمكن أن نتعرض لها في مثل هذه العجالة، ولكننا سنصل إلى مستويين من هذه الجوانب:
المستوى الأول: هو المستوى الإيجابي.
والمستوى الثاني: هو المستوى السلبي.
أما المستوى الإيجابي فمعناه الفرائض التي هي الدعائم والأركان التي عليها بني دين الإسلام.
والمستوى السلبي هو كبائر الإثم والفواحش التي حرمها الإسلام، فإذا تصور الإنسان ما أوجبه الإسلام من الدعائم الأصول وما حرمه من الكبائر والفواحش تصور هذا الدين بكامله، وعرف أنه منتم لهذا الدين أو غير منتم له، ولا يمكن أن يحقق الإنسان انتماءه لهذا الدين واعتزازه به إلا إذا أتى بأركانه الإيجابية، واجتنب نواهيه الكبرى السلبية، ومن لم يفعل ذلك لم يذق لهذا الدين طعماً ولم يعلم أن له حلاوة.
ومن هنا فإن كثيراً من الناس إنما ينتسبون إلى هذا الدين بسبب الدار والتربية فقط، لكنهم لا يذوقون عزة الإسلام ولا يشعرون بذلك، ولا يحسون بالحقوق التي يرتبها الإسلام عليهم.
لا شك أن الإنسان عندما تثور نفسه ويغضب غضباً شديداً إذا تذكر أنه مسلم وتذكر معنى ذلك -ومعناه: الاستسلام لله تعالى في أحكامه- ستسكن نفسه ويذهب غضبه، ويعرف أنه محكوم بإطار قوي هو دين الإسلام، وهذا الإطار عليه أن يخاف أن يخرج منه في كل اللحظات.
وكذلك إذا جمحت به شهوته وشيطانه إلى الوقوع في الشهوات وكان مسلماً حقاً ذائقاً لحلاوة الإيمان وجد ذلك الوازع الديني القوي في نفسه يحول بينه وبين معصية الله، فيجد جداراً قوياً يقف في وجهه ويقطع عليه مسيرة شهوته ويرده إلى الإسلام، فيتذكر هاذم اللذات الموت، ويتذكر العرض على الله سبحانه وتعالى، ويتذكر حاله وهو محمول على النعش فوق الرقاب إلى الدار الآخرة، ومن هنا لا شك أنه سيرجع ويعود من حيث بدأ، فيتوب إلى الله تعالى ويتلافى ما مضى، فيكون من الذين اتقوا، كما قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202] .
إن التزام الإنسان بهذه الأوامر واجتنابه لهذه النواهي يجعله صاحب عزة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه من أهل الله، يشعر بانتمائه إلى الله سبحانه وتعالى واتصاله به، وإن الإنسان إذا اتصل بديان السماوات والأرض الملك الجبار الذي يقبض السماوات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن فيقول: (أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) إن من اتصل بهذا الملك الديان لا يمكن أن يذل ويخضع لمن سواه، وإن من عرف الله تعالى حق المعرفة لا يمكن أن يركع لمن سواه ولا أن يسجد له ولا أن يخافه لحظة عين، كيف تخاف مملوكاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأنت تعرف الملك الديان ديان السماوات والأرض: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ؟!
لكن السبب فيما نراه من نقص الإيمان وترديه هو عدم الصلة به سبحانه وتعالى وعدم معرفته، إن كثيراً من الناس يبحث عن معرفة الله تعالى من غير الوجه الصحيح، إن معرفته إنما تكون بالتقرب إليه بما شرع، وإذا طلبت معرفته بغير ذلك طلبت معرفته بعقلك القاصر، أو طلبت معرفته بعاطفتك غير المربوطة بأوامر الله تعالى ونواهيه، وطلبت معرفته بالأمثلة الدنيوية، أو طلبت معرفته بالفلسفات الشرقية أو الغربية، وبذلك تكون قد ضللت عن سواء الصراط ولم تعرف الله تعالى.
إنما تعرف الله تعالى إذا امتثلت أوامره واجتنبت نواهيه ووقفت عند حدوده، وحينئذٍ لا يمكن أن تضل سواء السبيل، بل هذا هو الطريق المضمون الذي لا يضل من سلكه أبداً، وهو الحبل القويم الذي من تمسك به عصم.
ومن هنا فإن اعتزازك بانتمائك للإسلام لا ينبغي أن يكون نابعاً عن أنه من تراثك وتراث آبائك وأجدادك، وإنما تعتز به لأنه علاقتك بربك وصلتك بديان السماوات والأرض، إن الاعتزاز بهذا الدين لا يذوقه المعرضون عنه والمتهافتون على الدنيا، والذين يبيعون آخرتهم بأعراض دنيوية، إنهم لا يمكن أن يذوقوا حلاوة هذا الإيمان، ولا يمكن أن يذوقوا هذه العزة التي حكم الله بها لله ولرسوله وللمؤمنين: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] .
إن انتماءك لدين الله تعالى ينبغي أن يكون نابعاً من محبتك لهذا الدين وتضحيتك في سبيله، وإنك لن تضحي في سبيل هذا الدين إلا إذا أحببته ودخل في كيانك وجعلته مقدماً على انتماءاتك وولاءاتك المختلفة، ومن هنا فإن تصور المنافقين للدين كان تصوراً خاطئاً، فقدموا عليه انتماءاتهم وولاءاتهم واعتزازهم بأمور الدنيا فقالوا: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ[المنافقون:8] ، فرد الله عليهم بقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[المنافقون:8] .
إن كثيراً من الناس اليوم يفهم هذا الدين فهم المنافقين، فيفهم الإسلام من الزاوية التي فهمه منها المنافقون، فلا نجده منتمياً إليه تمام الانتماء، ولا نجده يشعر بمسئوليته عنه، ولا نجده ساعياً في إعزازه وإعلائه، ولا نجده باذلاً في سبيل ظهوره على الدين كله ولو كره المشركون، وسبب ذلك نقص إيمانهم وجهالتهم بهذا الدين، وأنهم أخذوه تراثاً ولم يأخذوه تطبيقاً، ولم يأخذوه علاقة بالله، ولم يأخذوه صلة به، إذا درسوا الإسلام درسوه فقهاً مجرداً عن العمل، ومجرداً عن الوازع الديني، ومجرداً عن القناعة، ومجرداً عن التقوى التي هي تقوى القلب، وهذا خطأ في التصور.
وكثير من الناس يظن أن هذا الخطأ راجع للفقهاء رحمهم الله الذين دونوا المسائل الفقهية مجردة عن الترغيب والترهيب، لكن هذا أيضاً خطأ في التصور، فالفقهاء إنما هم مؤلفون وضعوا مناهج لمدارس، وهذه المناهج لابد أن تتكامل، فلا يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً إن لم يدرس ما سوى الفقه، فالفقه علم يحتاج إلى ما سواه من العلوم، والعلوم الشرعية مترابطة، فمن لم يدرس الترغيب والترهيب لا ينفعه ما يدرسه من الأحكام الفقهية المجردة، ومن لم يدرس مشاهد القيامة وأحوالها لا يمكن أن يهتم بتفاريع الفقه ورغائبه ونوافله، ولا يمكن أن يتأثر بذلك قلبياً ولا يستفيد منه.
ومن هنا فإن من دعائم الإسلام التي سنذكرها: الصلاة، والصلاة بين الله تعالى حكمتها بقوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ[العنكبوت:45] , وإن كثيراً من الناس يدرسون الفروع الواردة في الصلاة واجبات وسنناً ومندوبات، ويحاولون تطبيقها ولكنها لا تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، والسبب في ذلك أنهم ما درسوا ترغيبها وترهيبها، وما لامست قلوبهم ولا ذاقو لها طعماً، ولا أحسوا بلذة المناجاة مع الله سبحانه وتعالى، ولا ذاقوا لذة المذلة بين يديه وتعفير الوجه لكبريائه وجلاله سبحانه وتعالى، وما ذاقوا كذلك رفع حوائجهم إليه كفاحاً دون ترجمان، وتعلق القلب به، ومسألته مباشرة دون المذلة لغيره؛ وهذه حلاوة لا تعدلها حلاوة، عندما تنقطع أسباب الشخص من الدنيا، ويقبل على ديان السماوات والأرض وحده، وينوط به جميع حوائجه وينصرف بقلبه بالكلية عمن سواه وينقطع عنه، ويكون حراً من كل الأغيار عبداً عبودية حقيقية لله سبحانه وتعالى سيذوق طعماً لا يمكن أن يذاق له نظير.
ومن هنا فإن التصور الصحيح للإسلام أن يدرس بحذافيره، وأن يؤخذ بأطرافه، وألا يتخصص في تخصص واحد من تخصصاته، فمن أخذ أيضاً بالرقائق وحدها دون التطبيقات لابد أن يضل سواء السبيل؛ لأنه لا يمكن أن يعرف فرائض الله تعالى والسنن التي شرعها رسوله صلى الله عليه وسلم والنوافل والمندوبات التي أمر بها وحض عليها من تلقاء رقائقه ومن تلقاء عاطفته الجياشة وحماسه المستمر، فإنه لا يمكن أن يعرف هذا إلا من الفقه بالأحكام والتضلع في معرفة الحلال والحرام، ومن هنا كان لابد للإنسان من الجمع بين جوانب الإسلام المختلفة، وكل هذا يشمله هذا العنوان الكبير الذي هو الإسلام.
وكثير من الناس إذا قرأ حديث ابن عمر : (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) ظن أن الإسلام محصوراً في هذه الدعائم، وهذا خطأ في تصوري، فهل تتصور أن المسجد محصور في الدعائم الأربع التي هي أركانه؟
لا يمكن أن يتصور هذا متصور، بل هذه الدعائم هي أسسه وهي أركانه وأقوى ما فيه، لكن لا يعني ذلك انحصاره فيها، بل للإسلام ذروة سنام، وله فرائض، وله أخلاق، وله تتمات وله تكميلات لا حصر لها، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـحذيفة بن اليمان عندما أوصاه في دعوته للناس: (ادعهم إلى كبير الإسلام وصغيره)، وهذا صريح في أن للإسلام أركاناً كبيرة وله تشريعات دون ذلك.
نحتاج إلى تعريف الإسلام في اللغة للانطلاق إلى أركانه الإيجابية والسلبية.
فالإسلام في اللغة معناه: الاستسلام والمذلة والخضوع والتسليم بما يؤمر به الإنسان أو ينهى عنه.
وهو في الاصطلاح يطلق إطلاقين:
يطلق إطلاقاً عاماً على كل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك عمل القلب، وعمل اللسان، وعمل الجوارح، ويكون مرادفاً للإيمان.
والإطلاق الثاني: إطلاقه على عمل الجوارح دون أن يدخل فيه الاعتقاد، وإنما يدخل فيه من عمل القلب النيات والحضور والخشوع ونحو ذلك فقط.
وهذا الإطلاق الثاني هو الذي سنسير عليه على ترتيب حديث جبريل، وقد اجتمع فيه الإيمان والإسلام، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهما بما فسره به، ففسر الإسلام بأنه: أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً. وهذه هي أركانه كما ثبت ذلك في حديث ابن عمر الذي سقناه، ولا يقتضي ذلك انحصاره فيها، بل بين سبحانه وتعالى هذه الأركان للناس، فهي الحدود التي من تعداها وتجاوزها خرج من الإسلام، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جرح وحمل على الرقاب إلى بيته فأتاه رجل يذكره بالصلاة فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة فقال: نعم. ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
وكذلك فإن هذه الدعائم هي الأسس التي ينطلق منها الإنسان فتكون حاجزاً بين الإيمان والكفر، وتكون موجبة لما يترتب عليها من الحقوق، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى).
أول هذه الدعائم: الشهادتان. وهذا يدلنا على أهمية اللسان، فأول دعائم الإسلام متعلقة بهذه الجارحة التي جعلها الله واحدة في البدن كله، فقد تعددت العينان والأذنان والمنخران واليدان والرجلان وانفرد اللسان، ومع هذا فقد جعله الله تعالى بهذه المنزلة وبهذه المثابة، فهو ذو خطر عظيم، كما بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)، وهو أصل الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، فالنطق بهاتين الشهادتين هو عنوان الإسلام، وهو الفاصل بينه وبين والكفر.
فهاتان الشهادتان لهما أربع مراتب:
المرتبة الأولى: أن يعلم الإنسان محتواهما.
أن يعلم الإنسان علم اليقين أنه لا إله إلا الله، وأن يعلم كذلك بقلبه أن محمداً رسول الله وما يستلزمه ذلك من حقوق النبوة والرسالة، فهذه المرتبة الأولى من مراتب الشهادة الأربع، وهي: العلم بالشيء، وبها فسر قول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18] , فالمقصود هنا العلم بذلك باليقين الجازم الذي لا يقبل الشك.
المرتبة الثانية من مراتب الشهادة: النطق بها.
والنطق بها عنوان عما في القلب، فإذا نطق بها الإنسان دون أن توافق مافي قلبه كان منافقاً، وهذا النطق هو الذي يتحاكم الناس على أساسه؛ لأن العلم الذي يسبقه خفي لا يطلع عليه إلا علام الغيوب، ونحن ما كلفنا أن نشق عن قلوب الناس، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأسامة: (هلا شققت عن قلبه؟ إنما نحن قوم نحكم بالظواهر)، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الوحي قد انقطع بالنبوة، ونحن قوم بحكم بالظواهر والله يتولى السرائر، فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه).
ومن هنا فإن المرتبة الأولى موكولة إلى علم الله، والمرتبة الثانية هي التي على أساسها تترتب الحقوق وتترتب التعزيرات والحدود.
المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة: الالتزام بحقوقها.
الالتزام بحقوق هذه الشهادة بعد النطق بها، فمن نطق بالشهادتين فلم يؤد الصلاة ولم يؤت الزكاة ولم يلتزم بدعائم الإسلام فإنه لم تكتمل شهادته بعد؛ لأن هذا هو المرتبة الثالثة من مراتب الشهادة، ومن لم يؤدها فلا تتم شهادته دونها.
أما المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة فهي الإلزام بمقتضاها بعد الالتزام به.
الالتزام به هو أن يلتزم به الإنسان في نفسه، والإلزام بها معناه: أن يسعى لأن يلتزم الناس بها، بأن يبذل الجهد من أجل التزام الناس بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولذلك وجب على كل مؤمن أن يحب للناس أن يدخلوا في الإسلام وأن يشهدوا بشهادة الحق وأن يلتزموا بمقتضاها، وهذه المراتب الأربع لا تتم الشهادة بدونها.
فمن علم مقتضى الشهادة بقلبه ثم لم ينطق بها لا تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها دون أن يلتزم حقوقها لم تتم شهادته، ومن علمها ونطق بها والتزم حقوقها ولم يسع للإلزام بها لا تتم شهادته، فإذاً لابد من هذه المراتب الأربع التي هي مراتب الشهادة.
ثم الركن الثاني والدعامة الثانية هي الصلاة.
وهذه الصلاة ميزتها أنها صلة العبد بربه، وهي أوثق عراه به، فهي التي ينال بها المناجاة والقرب، وأقرب أحوال العبد من ربه وهو ساجد، لحديث: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وهي التي تفتح له فيها الخزائن، وتتقبل رغباته فيها، وتقال عثراته، ويكفر عنه بها ما عداها، وهي أول ما يبدأ به من الأعمال يوم القيامة، فإن نجت للإنسان وكملت له لم يضره ما سواها، وإن ردت عليه طويت كما يطوى الثوب الخلق ثم يضرب بها وجهه وترد عليه أعماله، نسأل الله السلامة العافية.
ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
إن هذه الصلاة يجب أداؤها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى بشروطها وأركانها في أسبابها -التي هي الأوقات- على وجهها الصحيح، لكنها لا تتم بذلك، فأدنى الكمال فيها أن تأتي فيها بخشوعها، وأن تأتي فيها بسننها اللازمة، ثم بعد ذلك يأتي الكمال بما يكملها من المندوبات وهو أعلى الكمال، فإذا تم خشوعها وحضورها وسننها ومندوباتها وجاءت في وقتها وحصلت في جماعة وأداها الإنسان بكل إخلاص فيها وبكل إقبال على الله سبحانه وتعالى وتجرد له في وقتها وجعل هذا الوقت الذي خصصه للصلاة خاصاً لها لا يريد فيه أي عمل آخر فهذا هو أعلى الكمال، وهو الذي تكون الصلاة به ناهية عن الفحشاء والمنكر.
ووجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر ستة أمور:
الأمر الأول: أن الإنسان إذا سجد لله سبحانه وتعالى وهو يعلم أنه مطلع على مافي قلبه، مطلع على قرارة نفسه، ويعلم الحامل له على هذا، وأن الله يعلم وساوس نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد فإنه سيستحيي منه ويستحيي أن يناقض نفسه بأن يكون هنا في المسجد ساعياً للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى خائفاً من ذنوبه وزلاته، فإذا خرج من المسجد بدأ يجمع الذنوب التي كان يستقيلها في المسجد، فهذا التناقض الواضح يخافه الإنسان فلذلك لا يفعله المصلون.
فالمصلون حقيقة الصلاة لا يمكن أن يقعوا في هذا التناقض، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ[المعارج:19-22].
ويقال: إن أبا الحسن الشاذلي حين جاء إلى أهل الإسكندرية سألهم فقال: أتجزعون وتهلعون؟
قالوا: نعم.
قال: أنتم إذاً لا تصلون. وكان قد سألهم أولاً فقال: أتصلون؟ قالوا: نعم.
قال: أتجزعون وتهلعون؟
قالوا: نعم.
قال: إذاً أنتم لا تصلون!
قالوا: أفنتركها؟
والمقصود عنده التمام الأكمل وأعلى درجات الكمال في الصلاة، فأعلى درجات الكمال في الصلاة هو أن تكون هذه الصلاة على هذا الوجه الذي ذكرناه، فيعفر الإنسان جبهته لله وهو يستقيله عثراته ويتوب من سيئاته ويعاهده أن لا يعود إلى ما لا يرضيه، ويسعى بذلك أن يكون حابساً لجوارحه في المسجد عن المعصية.
ومن هنا فإن نيات الذهاب إلى المسجد ينبغي أن تكون حاضرة في الأذهان، فهذا المسجد الذي نقصده ونكثر الخطا إليه لابد أن تكون نياتنا في قصده واضحة لأذهاننا.
فالنية الأولى: الاستجابة لداعي الله عندما نسمعه ينادي: حي على الصلاة. حي على الفلاح. فنجيب داعي الله سبحانه وتعالى.
النية الثانية: أداء ما افترضه الله تعالى علينا على الوجه الأكمل، حتى تكون صلاتنا حائلة بيننا وبين معصية الله تعالى مقربة لنا إلى مرضاته.
النية الثالثة: ما وعدنا الله تعالى به من الأجر في الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وما جاء في الصف الأول، وغير ذلك من الأجر الكثير في قصد المساجد والمشي في ظلمات الليل إليها، كما قال رسول صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ كثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
ثم بعد هذا نية الجهاد في سبيل الله، فقد أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم : (من ذهب إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانماً).
كذلك نية تعليم من في المسجد ونية التعلم منهم، فكل ذلك مطلوب شرعاً، وإذا خرجت من المسجد ونويت أن تعلم من احتاج، فإذا رأيت مقصراً في أمر من أمور صلاته أو من أمور ديانته في المسجد خلوت به فعلمته بكل رفق وبكل لين، وسألته: هل فعل ذلك عن جهل أو عن علم؟ وسألته: لم فعلت هذا؟ فإن أجابك بعلم عرفت الوجه الذي قصده، وإن كانت المسألة خلافية لم تتعرض لها، وإن أجابك عن جهل أو استشفيت منه جهلاً بالمسألة علمته بكل لطف ورفق، فتكون بذلك من الذين يعمرون المسجد بتعليم العلم.
ثم بعد هذا أن تتعلم منهم، وهذا التعلم لا يقتصر على ما تسمعه بأذنك، بل ما تشاهده بجوارحك من الليونة في أيدي المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينوا في أيدي إخوانكم)، ومن استواء الصفوف، ومن الأخلاق الحسنة، ومن الابتسامة في وجه أخيك المسلم، وغير ذلك مما تتعلمه في المسجد.
ثم بعد هذا نية الرباط، وهي أن تربط جوارحك في هذه الساعة عن معصية الله، فهذه الجوارح إذا خرجت إلى الشارع لابد أن تشاهد بعض ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وإذا ذهبت إلى البيت فكثيراً ما تقع أيضاً في معصية من معاصي الله، أما ساعتك التي تجلسها في المسجد بقلب سليم مقبل على الله فإن جوارحك ممسوكة عن المعصية، فأنت هنا معتكف عن معصية الله تعالى قد كبحت جماح جوارحك، فسمعك مشغول بذكر الله، ولسانك مشغول به، وبصرك مشغول عن النظر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ما دمت في المسجد.
كذلك من هذه النيات نية التماس البركة من المسجد، فهذه البقعة هي أحب البقاع إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأبغض البقاع إلى الله أسواقها)، وهذا سوق الله، وأنت جئت تريد أن تكون من المشترين في سوق الله وأن تكون من العمال لهذا السوق.
كذلك من هذه النيات أن تنوي تكثير سواد المسلمين وإعزاز كلمة الدين، فإنه لا شيء أعظم في نفوس أعداء الله من هذه الصلاة التي يجتمع لها المسلمون، فيقفون فيها صفاً واحداً فيه غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم، وقويهم وضعيفهم، ومريضهم وصحيحهم، يستوون في الصف ويلين كل واحد منهم لأخيه ويقف إلى جنبه، ولا يتأذى بمسه له، ويتواضع له تمام التواضع، ويحس بشفقته عليه ورحمته له، ويقفون صفاً واحداً كما تصف الملائكة عند ربها.
إن هذا من شعائر الإسلام التي يلزم أن نبرزها، وأن نكثر سواد المصلين، وأن نكثر سواد الحاضرين في المساجد، وأن يكون ذلك شاملاً لحضور الرجال والنساء والصبيان وغير ذلك، فكل فئات المسلمين ينبغي أن تجتمع هنا وأن تزول عنها الفوارق، وأن يقع بينها تمام الرحمة والمودة والمحبة في هذا المكان الذي منه انطلقت المحبة وانطلق الإيمان.
كذلك فإن من نيات الذهاب إلى المسجد أن تنوي التماس بركته من الملائكة وصالح الإنس؛ فإن الملائكة يتعرفون على الناس على أبواب المساجد، وهم الذين تلتمس شفاعتهم، فإن الله تعالى ذكر أن حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[غافر:7-9] .
ومن هنا فإننا محتاجون إلى التعرف إلى الملائكة، ولا شك أن من عرف أن مسئولاً كبيراً أو وجيهاً من الوجهاء يجلس في هذا البيت ويتعرف إلى كل من فيه فإنه إذا كان ذا حوائج دنيوية سيقصد ذلك الوجيه ويتعرف إليه، وإن الملائكة وجهاء عند الله سبحانه وتعالى، وهم هنا في هذا المسجد، فتعرفنا عليهم يقتضي قرباً، فشفاعتهم ودعوتهم واستغفارهم وردهم للسلام وإجابتهم للدعاء بظهر الغيب كل ذلك نحن محتاجون إليه، فمن دعا لأخيه بظهر الغيب كان عند رأسه ملكان يقولان له: (آمين ولك بمثله).
كذلك فإن حظور الصلاة في الجماعة مدعاة للتغلب على شهوات النفوس، فإن الإنسان قد لا يستجاب دعاؤه في نفسه بسبب معصية ارتكبها كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يستجب دعاؤه، أو كأكل الحرام، فمن عاش من الحرام لا يستجاب دعاؤه، فإذا احتاج إلى استجابة الدعاء ذهب إلى المسجد فاشترك مع المصلين في دعائهم، يقرءون جميعاً في صلاتهم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7] ، والله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين يعطي قبل المسألة ويعطي بعدها، وأنت محتاج إلى ما عنده: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[فاطر:15] ، ومن هنا احتجت إلى أن يستجاب دعاء الناس حتى تدخل في جملة المصلين ويستجاب دعاؤك بذلك.
كذلك فإن قول المصلين: (آمين) بعد الفاتحة شعيرة من شعائر الإسلام أيضاً يحسدهم عليها اليهود، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم ما تحسدكم عليه يهود: آمين)، فهذه الكلمة عظيمة جداً في الميزان، وشهود المصلي لها عندما يقول الإمام: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] , فيحضر ذلك فيقول: (آمين)، وإذا صادفت تأمين الملائكة غفر له، وهذه الكلمة القليلة الحروف السهلة على اللسان تصادف تأمين الملائكة فيغفر للإنسان، ولهذا حسدنا اليهود عليها حسداً شديداً، وهي متاحة لنا في كل الأوقات، فبالإمكان أن تستقيل عثراتك وتغفر ذنوبك في كل ركعة بعد أن يقول الإمام: وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] , وهذا فضل عظيم وأجر كبير ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26] .
الوجه الثاني من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن هذه الصلاة فيها القرآن، وكفى بالقرآن واعظاً، هذا القرآن كلام الله فيه أوامره ونواهيه وزواجره، وفيه وعده ووعيده، وفيه إرشاده، وفيه تهديده، وفيه ترغيبه، وفيه ترهيبه، فمن سمعه فلم يؤمن به فبأي حديث بعده يؤمن؟ من لم يستفد بالقرآن وعظاً وزجراً لا يمكن أن ينتفع بأي شيء آخر، والصلاة فيها تلاوة القرآن، فأنت تسمع هذا القرآن زاجراً فيكون زاجراً لك عن الفحشاء والمنكر، وبذلك تكون الصلاة ناهية لك عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الثالث من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن المصلين يجب عليهم أن يتناهوا عن الفحشاء والمنكر، فإذا حضرت معهم فسينهونك عما تقع فيه من المنكرات، وسيرشدونك إلى ما يقربك إلى الله تعالى من أنواع المعروف، وبهذا تزول الفروق بين الناس ويؤدي بعضهم إلى بعض الحقوق، وتتأكد الصلة وتقوى المحبة فيما بينهم.
الوجه الرابع من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الإنسان بصلاته يستقيل عثراته ويخفف ذنوبه، والذنب يدعو إلى الذنب، فالسيئة تدعو إلى السيئة، والحسنة تدعو إلى الحسنة، وفي كثير من الأحيان يعجل لبعض الناس جزاء سيئاتهم بالوقوع في سيئات أعظم منها، ويعجل لهم كذلك بعض ثواب حسناتهم بالتوفيق إلى حسنات أكبر منها، ومن هنا فإن الإنسان إذا خفف سيئاته فهذا مدعاة لأن يجتنب الفحشاء والمنكر؛ لأن الفحشاء والمنكر إنما يتجرأ عليها الإنسان بسبب تراكم الذنوب في قلبه حتى يظلم وتغلق مسام القلب عن الإيمان والخوف من الله سبحانه وتعالى، فتأتي الجراءة على الله سبحانه وتعالى.
ويأتي من هذا المدخل أمن مكر الله عز وجل، فيقع الإنسان في الفحشاء والمنكر، أما إذا خفف الذنوب وأزال الصدأ عن القلب فحينئذ سيقبل الإنسان على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ويعرض عما لا يرضيه، فتكون الصلاة بذلك ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه الخامس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها بمثابه نهر على باب شخص ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات، فهل ترى يبقى من درنه شيء؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه سلم.
إن هذه الصلاة نور وضياء عظيم جداً ينور الله به قلوب عباده في الدنيا وفي الآخرة، فهي في الدنيا نور وعلامة لأهلها: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ[الفتح:29] , وهي في الآخرة علامة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فقد قيل له: بم تعرف أمتك يوم القيامة؟ فقال: (إن أمتي يردون علي الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وكل هذا داع لأن تكون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر.
الوجه السادس من أوجه نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أن الخشوع الذي فيها مقتض لأن يستحضر الإنسان عرضه على الباري سبحانه وتعالى، وأن يستحضر أن ملائكة يحضرون معه فيرفعون عنه ما كتبوه من أعماله في كل صباح ومساء، فيرتفعون إلى ربهم وهو أعلم، ومن شفقتهم ورحمتهم أنهم عندما يسألهم: كيف تركتم عبادي يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.
ومع هذا فإن كتابة الأعمال التي ترفع إلى الله سبحانه وتعالى إذا استحضرها الإنسان بصلاته لابد أن يقلع ؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن الملك يتقدم برفع عمله في الصباح فيقول: يا رب! عبدك فلان فعل الذنب الفلاني. ثم في المساء يتقدم إليه فيقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على الذنب الذي فعل في الصباح. ثم في اليوم الذي يليه يقول: يا رب! عبدك فلان مازال مصراً على هذا الذنب. وتتراكم السجلات حتى تكون مد البصر.
إن الإنسان إذا لم يستحي من هذا فليفعل ما شاء، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
فهذه الأوجه كانت الصلاة منها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ومع ذلك فهي متضمنة لذكر الله، وذكر الله أكبر كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[العنكبوت:45] .
الصلاة مشتملة على ثلاثة أنواع من أنواع التعبدات:
النوع الأول: التعبدات القلبية. وبدايتها بالنية، فالإنسان ينتفض من هذه الدنيا ويخرج منها مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وعلامة نبذه للدنيا أنه إذا كبر تكبيرة الإحرام نبذ الدنيا بيديه وراء ظهره، ورفع اليدين هنا رمز لنبذ الدنيا وراء ظهره والإقبال على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يجتهد في استقبال القبلة، ويجتهد في تسوية الصف؛ لأنه قد تخلص من الدنيا وأقبل على الباري سبحانه وتعالى، ولذلك لا يمتخط ولا يتفل أمام وجهه ولا عن يمينه، بل يجعل ذلك تحت رجله أو عن يساره.
ثم هذه النيات مقتضية كذلك لأن يسعى الإنسان لتنميتها؛ لأن هذه النية هي إكسير الأعمال، فهي التي تنميها بأضعاف مضاعفه أعني النيات التي ذكرناها في القدوم إلى المسجد، ونيات سواها، ونيات في أداء الصلاة نفسها بالتقرب إلى الله بما افترضه، وبمنافسة ملائكته، وباتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالتماس موعوده، وبالخوف من عقابه؛ كل هذه النيات مطلوبه شرعاً.
وإن ما يذكره بعض الناس من أن عبادة التجار كما يسمونها هي عبادة من يخاف العقوبة ويرجو الثواب إن ذلك التصور غير صحيح؛ لأن الله تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة السلام بقوله: كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] , وهم أكمل الناس حالاً.
وكذلك الذين رضيهم الله تعالى من عباده المؤمنين قال الله في وصفهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[السجدة:16] , إن الخوف من الله والطمع فيه ليس نقصاً في الإيمان، بل هو من معرفته سبحانه تعالى؛ لأن من عرفه حق المعرفه عرف أنه لو اجتمع الإنس الجن في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
فمن هنا لزم أن ينوي الإنسان هذه النيات كلها في صلاته، فينوي أداء ما افترضه الله عليه، وينوي زيادة القرب منه والخشوع بين يديه والانتساب إليه، وينوي كذلك الخوف منه ورجاء موعوده والخوف من عقابه، وينوي كذلك منافسة الملائكة وأهل الخير في عبادته سبحانه وتعالى، فهو المستحق لهذه العبادة.
أما النوع الثاني من أنواع العبادات في الصلاة فهو العبادات القولية.
وهذه من أعظمها التكبير، فالتكبير يقتضي من الإنسان ألا يلتفت إلى ما سوى الله، فالذي يقول: (الله أكبر) بلسانه وبقلبه يعلم أن ما سواه لا يساوي شيئاً، وأن الإقبال عليه يقتضي منه تمام الخشوع والمذلة وتمام الخوف منه ورجائه والإعراض عما سواه.
ومن هنا فإن هذه الكلمة إذا قالها العبد ملأت ما بين السماء الأرض، وهي رمز القوة في الإسلام، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جيوشه إذا ارتفعوا أن يكبروا وإذا انخفضوا في بطون الأودية أن يسبحوا، فإذا واجه الإنسان أي شيء يستعظمه ويستكبره فإن عليه أن يقول: الله أكبر. فإذا صعد جبلاً أو صعد مكاناً مرتفعاً فعظم في نفسه ينبغي أن يزيل عظمة الحادث من نفسه ويتطهر منها فيقول: الله أكبر. وإذا نظر إلى أي شيء يعجبه يقول: الله أكبر. فيتصاغر لديه ما هو فيه، وإذا كان في مكان منخفض سبح الله سبحانه وتعالى وعظمه؛ لأن هذا الانخفاض يذكره بخلاف الصفة وضدها، فالله مخالف للحوادث وهو العلي الحميد، فيذكره بذلك فيسبحه سبحانه وتعالى ويعظمه.
إن التكبير ينبغي أن يكون بقلب حاضر، وأن يدرك الإنسان معناه، وأن يستشعر عظمة من يناديه إذا كبره، وأن يستشعر أن تحريم الصلاة التكبير، وأنه الآن دخل في حريم عظيم، فإنه إذا كبر دخل في مكان في حصن مغلق لا ينبغي أن يخترقه شيء، وإذا كان كذلك تحصن من الشيطان الرجيم ومن غوائله ونفخه ونفثه ووساوسه، وكذلك تجنب وساوس النفوس وأمور الدنيا، وحاول أن يتخلص من كل ذلك وأن يقبل على الله.
ثم بعد هذا تأتي الفاتحة التي جعلها الله تعالى هي الصلاة فيما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] قال: الله حمدني عبدي. فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي فإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي -وفي رواية: فوض إلي عبدي- هذا لي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5] قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)، فجعل هذه الفاتحة هي الصلاة، قال: (قسمت الصلاة)، ولم يذكر من الصلاة إلا الفاتحة، فدل هذا على عظمة هذا القول من أقوال الصلاة.
وإن أبلغ الثناء على الله سبحانه تعالى هو ما أثنى به على نفسه في افتتاح كتابه، وهو هذه الآيات العظيمات التي يبتدئها الإنسان كأنه غائب، فيأتي بلفظ الاسم الذي هو مشعر بالغيبه فيقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] ، ولم يقل: الحمد لك يارب العالمين، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[الفاتحة:3] ، وأتى بهذين الاسمين المشتقين من هذة الصفة كذلك على وجه الغيبه، وكذلك: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:4] أتى بهذه الصفة أيضاً على وجه الغيبة، لكن إذا بلغ هذا المستوى من الثناء على الله وتنزيهه وحمده انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5] ، وهذا الانتقال هو الذي يسميه أهل البلاغة التفاتاً، وفيه يقول السيوطي رحمه الله تعالى:
فالعبد إذ يحمد من يحق له ثم يجي بالسمة المبجلة
فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل
فيوجب الإقبال والخطابا بغاية الخضوع والطلابا
للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد
فلذلك يشرع للإنسان أن يقف على رأس كل آية من آيات الفاتحة، ويستلذ بهذا الحوار العظيم التي أتيحت له فيه الفرصة ليحاضر ربه سبحانه وتعالى.
إننا جميعاً نغبط موسى عليه السلام أن الله جعله كليمه، وهذه منزلة عظيمة امتن الله عليه بها، قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي[الأعراف:144] , وأنت أيها المصلي عندما تقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] يخاطبك الله سبحانه وتعالى: (حمدني عبدي)، وإذا استحضرت هذا المكان الذي أنت فيه فإنك تنال لذة لا يعدلها شيء، تنال مقام المناجاة الحقيقية، كأن الله يخاطبك وقد وصلت إلى هذا المستوى فيجيبك ديان السماوات الأرض.
ومن هنا شرع لك أن تقف على رأس كل آية لتنال لذة المناجاة، فموسى عليه السلام عندما خاطبه ربه فقال: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى[طه:17] استرسل معه في الجواب ولم يقتصر على طبق السؤال للذة المناجاة، فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه:18] , وطبق السؤال أن يقول: (هي عصاً) فقط وينتهي الكلام، لكنه قال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه:18] , ليتلذذ بمناجاة الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا فإن على الإنسان إذا أقبل على الصلاة أن يطيل النفس في الصلاة، وأن يعلم أن هذا الوقت الذي يقتطعه من وقته هو الوقت الذي أذن له الله بالمناجاة فيه، فلا تطول عليه ولا تثقل عليه فإنها لا تثقل على الخاشعين، لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الركوع والسجود، ويطيل الركعتين الأوليين ويخفف الركعتين الأخريين، ويجعل ركوعه قريباً من قيامه، وسجوده قريباً من ركوعه، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه عندما صلى وراء عمر بن عبد العزيز : (
فقيل له: ماذا كان يصنع؟
فقال: كان يطيل الركوع والسجود ويخفف القيام والجلوس).
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما شكاه أهل الكوفة إلى عمر أنه لا يحسن الصلاة: (
قال عمر : ذلك الظن بك يا سعد ، فماذا كنت تصنع؟
قال: كنت أركد في الأوليين وأخف في الأخريين) (أركد) معناها: أطيل.
إن كثيراً من الناس تطول عليه هذه الصلاة، وتشق عليه مشقة عظيمة، ولا يشق عليه الوقوف في الشارع وانتظار سيارات الأجرة لحاجته، فيمكث نصف ساعة أو أكثر على الشارع ينتظر السيارات، ويقضي كثيراً من أوقاته في متابعة البرامج الإذاعية أو التلفازية، ويجلس للمناقشة والكلام العادي فتمر عليه الساعات دون أن يشعر بطولها، وهو الآن يناجي ربه سبحانه وتعالى، يناجي ديان السماوات والأرض، فلماذا تطول عليه هذه المدة طولاً شديداً؟ ولماذا يضن على نفسه بهذه اللحظات التي يتطهر بها ويقبل بها على الله سبحانه وتعالى؟
إن هذا من عمل الشيطان لا محالة، وإن كثيراً من الناس لا تأتيه أشغاله وانشغالاته ولا يضيق وقته إلا إذا دخل المسجد وجاء إلى الصلاة، وإن العجيب في هذا الأمر ما شاهدناه من بعض الناس، فنحن نعلم علم اليقين أننا يجب علينا أن نؤمن بالغيب، وأن نعلم أن الشيطان يوسوس للإنسان في الصلاة، ولكن كثيراً ما يخرج هذا عن عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فنرى الإنسان العاقل اللبيب إذا دخل الصلاة فعل أفعالاً لم يكن يفعلها في غير الصلاة كأنه يتخبط من مس الشيطان، ألا تشاهد هذا؟
تراه يعبث بأظافره، ويمس بأصابعه ريقه ويمسح به بعض الأماكن من بدنه، ويتصرف تصرفات غير مضبوطه، ويكثر الحركة، بل كثيراً ما يلتفت في الصلاة، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، وقال: (لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه).
إن ما نشاهده من حركات بعض الناس وتصرفاتهم في الصلاة يخرج وسوسة الشيطان من أن تكون من عالم الغيب إلى أن تكون من عالم الشهادة، فنحن نراها ونعلم أنه لو كان في خارج الصلاة لم يتصرف هذه التصرفات أبدا.
وتشاهد أيضاً أن كثيراً من الناس يأتيه الشيطان بالوسوسة في الطهارة ولا يأتيه بالوسوسة في غيرها، فترى هذا حتى يكون من عالم الشهادة لا من عالم الغيب، تراه إذا عد النقود لا يوسوس في عدها، إذا عد ثلاثة آلاف لا يمكن أن يحسبها أربعة أو خمسة، لكن إذا عد ثلاث غسلات توهمها ثلاثاً أو خمساً وهكذا، فيأتي الوسواس في أمور العبادة وفي أمور الصلاة، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الشيطان الموسوس في الصلاة شيطان اسمه (خنزب)، وأن من وجده فإنه عليه أن يستعيذ بالله منه، وأن ينفث عن يساره ثلاثاً، كما أخرج ذلك مسلم في الصحيح من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.
وكذلك شيطان الطهارة فهو شيطان اسمه (الولهان)، وهو يوسوس للإنسان في طهارته.
النوع الثالث من أنواع العبادات في الصلاة هو الأفعال.
فذكرنا النيات وهي عمل القلب، والأقوال وهي عمل اللسان، والنوع الثالث من التعبدات في الصلاة هو عمل الجوارح، وهذا أهم شيء فيه القيام والسجود، فهما طرف الصلاة، القيام طرفها الأعلى؛ لأن الإنسان ينتصب فيه، والسجود طرفها الأدنى؛ لأن الإنسان يخفض فيه أعاليه ويرفع فيه أسافله، وبذلك فهما الطرفان, وبينهما واسطتان وهما الركوع والجلوس، فهذه هي أفعال الصلاة، وهذان الطرفان اختلف فيهما أيهما أفضل: طول القيام أو كثرة السجود؟
قالت طائفة من أهل العلم: كثرة السجود أفضل؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ولأن السجود شرع دون قيام كسجود التلاوة، وسجود الزلزلة، وسجود الشكر وغير ذلك.
وقالت طائفة أخرى: بل القيام أفضل؛ لأن الإنسان فيه يتلذذ بقراءة القرآن وبحقيقة المناجاة، وهو الذي يبتدئ به صلاته ويفتتحها به.
إلا أننا نقول: إن الله سبحانه تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً[الفرقان:64] ، فبدأ بالسجود قبل القيام، ولا شك أن دلالات القرآن معجزة، فهذا مشعر بتفضيل السجود على القيام.
ومع ذلك فإن القيام عبادة فعلية فاضلة جداً، فالإنسان ينتصب لرب العالمين ويتذكر الوقوف بين يديه عندما يأتي يوم القيامة حافياً عارياً غير مختون، ينظر أيمن منه فلا يرى إلا عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا عمله، يأتي متجرداً لله سبحانه وتعالى، فينتصب ويقف بين يديه كما يقف الناس لرب العالمين يوم القيامة.
وبهذا ينبغي أن يستحضر الإنسان إذا وقف في الصلاة هذا الوقوف، وبذلك ينصرف عن الانشغالات الأخرى، ولا يكثر الحركة ولا يكثر التصرفات المختلفة، فهو واقف بين يدي ديان السماوات والأرض يناجيه ويخاطبه.
ثم الركوع الذي هو المرحلة التي تلي القيام، وهو أيضاً إشعار بالمذلة لديان السماوات والأرض لكبريائه وجلاله، وأدب معه.
ثم بعد ذلك الجلوس، وهو استراحة الإنسان في الصلاة ليتذكر ما يناجي به في السجود.
وكذلك وداع الصلاة، ففيه تسليمها الذي هو التحليل، فهذه هي الأركان الفعلية.
والتحسينات الفعلية الأخرى منها الرفع أولاً، وقد ذكرنا أنه نبذ للدنيا وراء ظهره.
ومنها القبض، وحكمته كذلك رباطة الجأش وإمساك القلب، ومنع اليدين من التصرف؛ لأن الأنسان إذا قبض يديه واستشعر أن يديه في عبادة لايمكن أن يكثر الحك ولا تقليب ملابسه ولا تصرفاته الأخرى، أما إذا كانت يداه في حرية كاملة فربما زلت به قدمه فأوقع به الشيطان في بعض الحركات أو الحكات أو غير ذلك.
كذلك الالتفات بالسلام، فهو من فضائل الأفعال في الصلاة، فإذا التفت الإنسان عن يمينه وسلم والتفت عن شماله وسلم فإن ذلك مقتض للخروج من جلال الصلاة وإدراك منه لعظمة ما كان فيه، وتسليم على من معه من المسلمين، وسعي متجدد لأن يجدد العبادة مرة أخرى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8] ، هذه هي الصلاة.
الركن الثالث من هذه الأركان بعد الشهادتين والصلاة هو الزكاة.
هذه الزكاة حكمتها الأصلية إبداء مسئولية الأغنياء عن الفقراء فيما استخلفهم الله تعالى فيه وجعله تحت أيديهم من المال، وأن يعلموا أن المال ليس ملكاً لهم، فلم ينالوه ميراثاً عن آبائهم ولم ينالوه بحظوظهم وكد جوارحهم وأعمالهم، بل نشاهد كثيراً من الناس أقوى منهم أبداناً وأقوى عقولاً وتفكيراً وأفرغ بالاً، ويسعون لجمع هذا المال السنوات ذوات العدد فلا يصلون منه إلى طائل.
ونجد كثيراً من الناس يعيش عمراً طويلاً ويسخر عمره كله لجمع المال ومع ذلك يموت فقيراً، فعلم هنا أن المال رزق الله، وأنه ليس ملكاً للإنسان وإنما هو أمانة عنده، وهو وكيل فيه ينتظر العزل في كل حين، وعزله إما بموته، وهذا العزل النهائي، فإذا مات لم يصحب من ماله إلا كفنه وحنوطه، إذاً هذا العزل الأخير.
وإما أن يعزل بما دون ذلك كالفقر، والجائحة التي تجتاح ماله، والديون التي تقضي على تصرفاته وتحجر عليه، أو بوجود الأولاد الذين هم مبخلة مجبنة، فالإنسان يمكن أن يعطي ويجود مالم يكن له أولاد، أما إذا كانت له ذرية صغار فإن ذلك داع للجبن والبخل، ولهذا ضرب الله لنا هذا المثل العظيم في كتابه في قوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ[البقرة:266] ، فقوله: (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ)، هذا داع لحرصه على المال وجمعه له، ومن هنا فإن من أوجه العزل أن يكون للإنسان ذرية.
وكذلك من أوجه العزل الكبر، فالهرم متعب للجسم وناقص للعقل ومانع من التصرف في كثير من الأمور، فلابد أن يصل الإنسان إلى هذا الكأس الذي يشرب منه كل الناس، وينتقل إلى هذا المكان الذي ينتقلون إليه جميعاً، ومن لم يمت في قوته وشبابه يصل إلى الهرم المفند الذي يمنعه تصرفاته وملذاته.
وبعد هذا أنواع أخرى من أنواع العزل، كالمرض المانع من التصرف، وكثير من الناس تشل جوارحه في حياته فيعزل بذلك عن التصرف في ماله، فيرى ماله يتصرف فيه الآخرون، ويمرض فترات من الزمن فيرى أن كثيراً من الناس لم يكونوا مؤتمنين على ماله قد اؤتمنوا عليه وسعوا فيه بما لا يرضيه، فهذه أنواع من أنواع العزل.
إن الذين ولاهم الله على هذا المال جعل عليهم وفي أعناقهم أمانة عظيمة، وهي حقوق الفقراء الذين خلق الله لهم هذا المال، فالله خلق المال للناس أجمعين، وجعله تحت أيدي بعضهم ليكون مسئولاً عمن سواه، وشرفه بذلك: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[الزخرف:32] .
وكذلك من حكمة الزكاة وجود الترابط وحصول الألفة بين المجتمع، فإن الأغنياء يعطون جنس مالهم إلى الفقراء، فتؤخذ من أغنيائهم زكاة ترد على فقرائهم كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من حكمة الزكاة أن يستشعر الإنسان أن هذا المال الذي تحت يده ليس مملوكاً له، وفيه حق لابد من إخراجه، ويستشعر حق الله تعالى فيه فيخرجه.
والذين يمنعون الزكاة يتعرضون لكثير من الوعيد الشديد، فهذا الوعيد قسمان:
قسم منه للأمة بكاملها، وفيه قول الرسول صلى الله عيله وسلم: (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
القسم الثاني يختص بالمانع نفسه الذي لم يزك ماله وكنزه، فهذا متوعد بالوعيد الشديد في قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ[التوبة:34-35] .
إن الفاجر والكافر ومانع الزكاة يوم القيامة ينفخه الله تعالى ويضخمه حتى يكون مقعده من النار كما بين مكة والمدينة، ويكون كل ضرس من أضراسه كجبل أحد، ويكون جنبه بهذه المثابة، فيؤخذ ماله ويؤتى به لا يفقد منه أوقية ولا خمس أواق ولا عشر أواق ولا عشرين أوقية، فيذاب ويوضع، لا يوضع منه درهم فوق درهم ولا دينار فوق دينار، حتى يكسى به جنبه ووجهه وظهره نسأل الله السلامة العافية، كلما تغير جلده أحمي مرة أخرى في نار جهنم وأعيد إليه، فلذلك يعرض جنبه ووجهه حتى يلصق به كل ماله، لا يفقد منه ديناراً ولا درهماً ولا يجعل دينار فوق دينار ولا درهم فوق درهم، نسأل الله السلامة العافية.
كذلك فإن من منع زكاة متوعد بعذاب القبر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن مانع الزكاة إذا وضع في قبره أتاه شجاع أقرع في قبره، ولا يزال يلدغه ويؤذيه), وهذا نوع من أنواع عذاب القبر، فمنع الزكاة من أسبابه.
وكذلك من العقوبات المعجلة لمانع الزكاة في الدنيا بغض الناس له، فالناس جميعاً يبغضون مانع الزكاة ويبغضون البخيل، حتى البخلاء بعضهم يبغض بعضاً، ومانعوا الزكاة بعضهم يبغض بعضاً، وهذه حكمة واضحة معروفة، فهي من العقوبات الدنيوية المعجلة.
إن هذه الزكاة لو أخذ بحقها الصحيح ووزعت بين الناس بالعدالة التي بينها الله سبحانه وتعالى حيث لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، بل تولى قسمتها في كتابه في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ[التوبة:60] , ولو وزعت هذا التوزيع الصحيح لما حصلت مجاعة في الأرض، ولما وجد فيها من الفقراء من لا يجد لقمة عيشه ويبيع دينه بسبب فقره، أو يقع في كثير من المناكر بسبب حاجته، فلو أديت هذه الزكاة على الوجه الصحيح لحالت دون كثير من الرذائل.
فكثير من الرذائل من ورائها الفقر، ولهذا جعل الرسول صلى الله عيله وسلم الفقر قريناً للكفر في قوله: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، فالفقر داع لكثير من الرذائل، فيجد الإنسان فيه مذلة وطمعاً في غير الله، وخوفاً من غير الله، وكذلك يسعى في كثير من الأحيان للحصول على المال بأوجه غير صحيحة، كالسرقة والغش والخداع وغير ذلك.
ثم بعد هذا يأتي الركن الرابع وهو صيام شهر رمضان.
وهذا الصيام حكم مشروعيته كثيرة متعددة، ومنها التشبه بالملائكة الكرام الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فليست لهم ساعة للأكل ولا ساعة للشرب، ولا ساعة للنوم ولا ساعة للراحة، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ونحن ننافسهم ونسعى للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يتقربون به إليه.
فمن هنا شرع الله لنا الصيام وأثاب عليه بالثواب الجزيل الذي يقارن عمل من مضى بل يزيد على ذلك، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مقارنة هذه الأمة والأمتين السابقتين -اليهود والنصارى- كرجل دعا من يعمل له إلى نصف النهار على قيراط واحد، فعمل اليهود إلى نصف النهار -إلى صلاة الظهر-، وهذا العمل الطويل نالوا عليه قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من الظهر إلى العصر على قيراط، فعمل النصارى مابين الظهر والعصر واستحقوا قيراطاً واحداً، ثم دعا من يعمل له من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين فجاءت هذه الأمة، فغضب اليهود النصارى لأن الأجر قد ضوعف، فأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى أن هذا فضله يختص به من يشاء.
فهذه الأمة شرفها الله تعالى بتضعيف الحسنات وبعدم تضعيف السيئات، ومن هنا فإنه: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)؛ لأن رمضان في الغالب ثلاثون يوماً، والستة أيام عليها تكون ستة وثلاثين يوماً، وإذا ضربتها في عشرة -لأن الحسنة بعشر أمثالها- تكون ثلاثمائة وستين يوماً، وهي عدد أيام السنة، وبذلك يكون الإنسان كأنما صام السنة بكاملها.
ومن حكمة الصيام كذلك أن يحس الأغنياء بمرارة الحرمان، فُيرحَم الفقراء، ولهذا يقول الشاعر:
لعمري لقد عضني الجوع عضةً فآليت أن لا أمنع الدهر جائعاً
وكذلك فإن من حكم هذا الصيام أنه مخفف لشهوات النفوس كابح لها مضيق للعروق على الشيطان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فإذا ضيق عليه العروق بالصيام انشغل عنه، وقد أعاننا الله في رمضان بتصفيد المردة وبفتح أبواب الجنة وإيصاد أبواب النار، وبتنزل الرحمات، وجعله شهر عبادة، وجعل فيه ليلة هي ليلة القدر خير من ألف شهر يزداد بها عمر الإنسان بثلاث وثمانين سنة وزيادة؛ لأن فائدة العمر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وعبادته، والذي يقوم هذه الليلة في السنة يزداد عمره على الأقل بثلاث وثمانين سنة وبضعة أشهر، فيكون كأنما عاش هذه الفترة بليلة واحدة.
وكذلك فيه العشر الأواخر التي هي أفضله، وقد شرع الله سبحانه وتعالى صيامه وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه، ورتب على ذلك مغفرة الذنوب، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وكذلك فهو شهر الجود والبذل، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه سلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).
والركن الخامس والدعيمة الخامسة من هذه الدعائم هي حج بيت الله العظيم.
وهذا البيت هو منطلق حضارة البشرية، فهو أول بيت وضع للناس، وقد شرع الله تعالى لعباده المؤمنين أن يقصدوه من مشارق الأرض ومغاربها ومن كل فج عميق، ورتب على ذلك الأجر الكثير، ورتب عليه صلاح أمورهم، فإن المسلمين علم الله أنهم سينتشرون في مشارق الأرض ومغاربها، وقد شرع لهم الأخوة فيما بينهم، ولا يمكن أن تتأكد هذه الأخوة وتوصل هذه الروابط إلا أن يجعل لهم مؤتمر سنوي يجتمعون فيه، وقد جعل الله تعالى هذا المؤتمر السنوي الموسم، فيجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في الحج، فيأتي فيه أغنياؤهم وفقراؤهم، وضعافهم وأقوياؤهم، وكبارهم وصغارهم، والناطقون منهم باللغات المختلفة، وذوو الألوان المختلفة، يقصدون مكان واحداً ويؤدون شعائر موحدةً ويلبسون زياً موحداً، وبذلك يحققون أخوتهم ويزيلون الفوارق بينهم.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بعض الحج فقال صلى الله عليه سلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين في الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)، فهذه العبادات بخصوصها معينة على إقامة ذكر الله؛ لأن الإنسان مجبول على السعي لما فيه نفع دنيوي مادي.
والحج أموره تعبدية محضة لا يعرف الإنسان عللها، فلذلك إذا فعلها عن قناعة فلا يفعلها إلا تعبداً لله؛ لأن الله شرعها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه عندما قبل الحجر: (أما إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
فهنا يتجرد الإنسان من طلب التعليل، ويتجرد من التعليلات العقلية، ويعلم أنه ما يفعل هذا الفعل إلا تعبداً لله تعالى تعبداً محضاً، فلا يمكن أن يعلل رمي الجمار بهذه الحجار، ولا أن يعلل الطواف بهذه الكعبة سبعاً، ولا السعي بين الصفا والمروة، فهذه أمور لا تقبل التعليل وإنما أقيمت لذكر الله سبحانه وتعالى، فحكمتها هي إقامة ذكر الله كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من حكم الحج الواضحة تذكر يوم القيامة، فمشاهد يوم القيامة يشاهدها الإنسان في الحج، فيرى الناس يحشرون من مشارق الأرض ومغاربها ويجتمعون في هذه البقاع الضيقة، ويراهم يزدحمون هذا الازدحام الشديد، ويعلم أن منهم من يقبل حجه ومن يرد عليه، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا كان زاده من حلال وراحلته من حلال وجاء بقلب سليم فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور وسعيك مشكور وذنبك مغفور، زادك حلال وراحلتك حلال، وإذا كان على خلاف ذلك فنادى: (لبيك اللهم لبيك) ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور وسعيك غير مشكور وذنبك غير مغفور. ويرد عليه عمل).
ومن هنا فإن الناس في منصرفهم إلى الحج ما بين اثنين:
أحدهما: من غفر له ما تقدم من ذنبه وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو من حج فلم يرفث ولم يفسق.
وثانيهما: من أتعب جسمه وأنفق ماله وأفسد وقته وعاد شراً مما كان، نسأل الله السلامة والعافية، فمن هنا يتذكر الإنسان حال الناس يوم القيامة وحشرهم.
كذلك من مشاهد القيامة التي يذكر بها الحج الحشر في عرفات، فإن الناس يجتمعون في هذا الوادي الذي هو بطن نعمان الذي أخرج الله فيه من آدم ذريته، كما في الحديث: (مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسحه ثانية فأخرج منه ذرية، فقال: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون. وحينئذ دعاهم الله سبحانه وتعالى فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا).
فيأتي المؤمنون لتجديد هذا العهد، فيجددون هذا العهد مع الله في كل سنة، هذا المكان الذي قلنا فيه: (بلى شهدنا) نعود إليه في هذا اليوم من كل سنة فنقول: بلى شهدنا. ولذلك فأفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وأفضل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما في الحديث، فيجدد الناس بذلك العهد وينتظرون الوعد.
وقد أخرج الشيخان في الصحيحين من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالهن في يوم فمات دخل الجنة، ومن قالهن في ليلة فمات دخل الجنة)، هذا الدعاء العظيم الذي هو سيد الاستغفار فيه تذكر لهذا الموقف؛ فإن الإنسان يقول فيه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك)، ويقر بذلك بالربوبية، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، وهذا إقرار بالإلهية؛ لأنه حقق أنه لا يعبد من سواه ولا يلتمس نفعاً ولا ضراً إلا منه سبحانه وتعالى، فلذلك قال: (وأنا على عهدك)، وهذا العهد هو الذي عاهدهم عليه عندما قال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى.
(ووعدك) الوعد الذي وعد على ذلك، ووعد الله لعباده هو أن حق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا آمنوا به واتبعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، فهذا هو وعده.
(وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت)، فيجدد الإنسان هذا العهد، ويتذكر من مضى ومن أتى في القرون السابقة، وأن جميع الأنبياء قد حجوا هذا البيت من لدن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما ذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مرتين، فعندما مر بفج الروحاء استقبل وادياً فسأل عن اسمه فقيل: الأبيض. فقال: (لكأني بيونس بن متى يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية)، ثم لما مر بثنية (هرشا) سأل عن اسمها فعرف بها، فقال: (لكأني بموسى بن عمران يهبط بطن هذا الوادي له عجيج بالتلبية على ناقة له حمراء خطامها من ليف).
وكذلك فإن الإنسان يستحضر أن الذين يشهدون الموقف كثير منهم لن يشهده أبداً، فلا يعود عليه هذا اليوم إلا وهو تحت التراب وبين الجنادل، وأن الذين شهدوه كذلك من الماضين قد تفاوتوا هذا التفاوت العجيب، وأن هذا المكان على مر الزمان يأتي فيه الناس لتجديد هذا العهد مع الله سبحانه وتعالى.
ويستحضر الإنسان شعائر الله سبحانه وتعالى وما جاء في تعظيمها، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج:32] , ويستحضر أن الصفا والمروة من شعائر الله، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ[البقرة:158] , ويستحضر كذلك هذا البيت العتيق الذي أعتقه الله تعالى من العبادة في الدنيا فلم يعبده المشركون الذين كانوا يعبدون الحجارة، وإذا لم يجد أحد منهم ما يعبده من الحجارة جمع ربوة من تراب فحلب عليه شاة فإذا يبس لبنها اتخذه صنماً، وكان عمر بن الخطاب في الجاهلية يتخذ صنماً من تمر، فإذا جاع أكله ثم اتخذ صنماً آخر، ومع هذا فلم يعبدوا هذه الكعبة، فقد أعتقها الله تعالى وشرفها عن ذلك، فلم يعبدوا الكعبة ولم يعبدوا الحجر الأسود ولم يعبدوا مقام إبراهيم.
ومن هنا يستحضر الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس : (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو قبله فكأنما قبل يمين الرحمن)، وكذلك ما جاء في استجابة الدعاء في الطواف وفي السعي، وما جاء في استجابة الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى، وما جاء في استجابة الدعاء بعرفات، وما جاء في الوقوف بجمع بمزدلفة، ذلك الوقوف الذي بينه الله تعالى في كتابه وأمر به: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[البقرة:198-199] .
هذه هي الدعائم الإيجابية، ولا شك أنها مرتبة هذا الترتيب، فمن لم يبدأ بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بشيء من الدعائم دونها، ومن أتى بالشهادتين لا يمكن أن ينتفع بما سوى الصلاة، بل لابد أن يبدأ بالصلاة أولاً فإذا تجاوزها ولم يفعلها لا ينفعه ما سواها، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، واختلف في ترتيب الصيام والحج بناءً على اختلاف الرواية، فقد قدم الصيام في حديث جبريل، وقدم الحج في حديث ابن عمر ، وحينئذ لا شك أن الترتيب في الدعائم الثلاث الأولى قطعي، فالشهادتان بهما البدء، ثم الصلاة، ثم الزكاة، أما الصيام والحج فالترتيب بينهما ظني لاختلاف الترتيب بين حديث جبريل وحديث ابن عمر .
ومع الأسف نشاهد أن كثيراً من الناس يهتم ببعض هذه الدعائم ويفرط في بعض، فنجد كثيراً من الناس يسعى لاستكمال الحج وأدائه ويقصر في الصلاة، فلا نراه في المساجد، ولا نراه مقيماً للصلاة مؤدياً لها على هيئاتها، ولا نراه يسأل عن فرائضها وسننها ومندوباتها، ومع ذلك نجده في الحج متلهفاً لأدائه ويسأل عن سننه وواجباته ومندوباته.
وكذلك مع الأسف فإننا نجد كثيراً من الناس يحافظ على الصيام ولكنه يقصر في الصلاة ويقصر في الزكاة، فيقفز قفزة من أركان الإسلام ويتعدى حدود الله عز وجل، والواقع أن هذه الأركان على الترتيب، فمن لم تنفعه شهادته لم يتجاوزها، ومن لم تنفعه صلاته لم بتجاوزها، ومن لم تنفعه زكاته لم يتجاوزها، ثم بعد ذلك الصيام والحج.
أما الأركان السلبية التركية فهي كبائر الإثم والفواحش، وقد قسم الله تعالى الذنوب إلى ثلاثة أقسام: كبائر، وفواحش، ولمم.
فالكبائر هي التي رتب الله تعالى عليها عقوبة دنيوية كالحدود والكفارات، أو رتب عليها لعناً، أو رتب عليها عذاباً أخروياً، هذا هو ضابط كبائر الإثم.
وأما الفواحش فهي التي تقتضي من صاحبها رقة وازعه وجراءته على الله سبحانه وتعالى، فالذي يتجرأ على الله سبحانه وتعالى بصغيرة فإن ذلك يصيرها فاحشة؛ لأنه إذا لم تسؤه سيئته فهو ناقص الإيمان، وذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه، وذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، كما قال ابن مسعود .
ومن هنا فإن هذه الكبائر والفواحش ذات خطر عظيم على العلاقة بالله سبحانه وتعالى، فإذا تجرأ الشخص على هذه الكبائر والفواحش فقد خرق هذه العلاقة وتجرأ تجرؤاً يصعب عليه سده فيما بعد، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر لنا مثالاً واضحاً وهو: (محجة على طرفيها سوران، وعلى أعلاها داع، وفي السورين أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه، والداعي الذي هو فوق المحجة يقول: يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه. فهذه المحجة هي الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والسوران المحيطان به هما حدود الله).
وحدود الله تنفسم إلى ثلاثة أقسام:
حدود لا يحل تعديها، وحدود لا يحل الاقتراب منها، وحدود هي جابرة وزاجرة عما سواها.
يقول الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا[البقرة:187] ، وهذه المقصود بها الفواحش والكبائر، فهي حدود الله التي لا تقرب.
ويقول تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا[البقرة:229] وهذه الأمور التي حددها والحقوق التي أباحها فهي حدود الله.
القسم الثالث: الحدود التي جعلها الله جابرة وزاجرة عن الوقوع فيما لا يرضيه، فهذه ثلاثة أقسام، فهذه الأبواب المفتحة في الأسوار هي بنيات الطريق وكبائر الإثم، وأبواب جهنم هي الفواحش الكبار.
في جهنم: باب للزنى يدخل منه الزناة فيعذبون فيه، نعوذ بالله!
وفيها باب للمخدرات والخمور، وفيها باب للعقوق وقطع الرحم.
وفيها باب لترك العبادات كالصلاة وغيرها، هذه هي أبواب جهنم، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الأبواب عليها دعاة يدعون إليها، كل باب من أبواب جهنم يقيض له شياطين يدعون إليه حتى من المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـحذيفة حين سأله: أبعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، هؤلاء الدعاة الذين يدعون إلى أبواب جهنم بعضهم يدعو إلى الزنى، وبعضهم يدعو إلى شرب الخمر، وبعضهم يدعو إلى عقوق الآباء والأمهات، وبعضهم يدعو إلى قتل النفس التي حرم الله بغير حق، وبعضهم يدعو إلى السرقة، وغير ذلك.
هذه هي أبواب جهنم، ومن دعا إلى إحدى هذه الكبائر كان من الدعاة على أبواب جهنم، يدعون إليها من أجابهم إليها قذفوه فيها.
والغالب أن هؤلاء معهم حيل؛ لأنهم من شياطين الإنس والجن، فمعهم حيل وشباك وشراك يستهوون بها ويستغوون الناس، ومن أجابهم إليها قذفوه فيها، نسأل الله السلامة والعافية.
وفي المقابل فإن أبواب الجنة هي كبار الطاعات.
ففي الجنة باب اسمه الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، وفيها باب الصلاة، وفيها باب البر والصلة، وفيها باب الصدقة.
هذه أبواب الجنة، وعليها دعاة أيضاً يدعون إليها، وهم الدعاة على أبواب الجنة، دعاة يدعون إلى الصلاة؛ منهم المؤذنون، ومنهم المعلمون، ومنهم الذين يرشدون إلى المساجد، ومنهم الذين يعمرونها، ومنهم الذين يبنونها، ومنهم الذين يفرشونها .. إلى آخره، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وهم الذين يرشدونا إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
هؤلاء أيضاً لهم عون من الله تعالى يعينهم به على اجتذاب قلوب عباده الذين يهديهم هذا الطريق، وفي المقابل يضع حواجز في وجوه آخرين لا يرتضي الله تعالى خدمتهم لدينه ويصدهم عنه، كما قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً[الأعراف:146] , وكما قال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[الذاريات:9] , وكما قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ[التوبة:46] , هؤلاء لا يرتضي الله خدمتهم، فإذا سمعوا داعي الله تشاغلوا عنه بأمور قد تكون مفيدةً لهم في الظاهر، وقد لا تكون مفيدةً أصلاً، وقد يشغلهم الشيطان عنه بغفلة أو كسل أو نحو ذلك، فلا يرتضي الله تعالى خدمتهم للدين ويضع في وجوههم العراقيل والعقبات، ويصدهم عن الصراط المستقيم، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن هنا فإن هذه المعاصي هي أبواب جهنم، وهي كبائر الإثم، ومن اجتنبها فإن ذلك يكون عوناً له على ترك ما سواها وتكفيراً له لصغائرها، كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء:31] , وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها السبع الموبقات فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والتولي من الزحف، والسحر)، فهذه هي السبع الموبقات.
وذكر صلى الله عليه وسلم كذلك أكبر الكبائر فقال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر -ثلاثاً-؟ الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقول الزور. وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم عدداً آخر من الكبائر في عدد من الأحاديث عنه.
سبب جعل الكبائر كبائر أن تصور الإسلام لا يتم إلا بعد تصور تحريمه لهذه الأمور.
من زعم أنه مسلم ولم يعلم أن الإسلام يحرم الخمر، أو يحرم الزنى، أو يحرم الخنزير، أو يحرم القتل، أو يحرم السرقة فهذا غير مسلم؛ لأنه لم يعرف ركناً من أركان الإسلام السلبية، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء: المعلوم من الدين بالضرورة.
فالمعلوم من الدين بالضرورة معناه: الذي لا يتميز الإسلام بدونه، فهذه الشرائع التي لا يعرف الإسلام بدونها ولا يتميز من أنكرها ممن ليس حديث عهد بكفر، أما من كان حديث عهد بكفر فيتسامح معه، أو كان لم يتعلم شيئاً من الدين بأن كان من الأعراب البداة ولم يبلغه كثير من شرائع الإسلام، فهو معذور بذلك، أما من عاش في مجتمع إسلامي فإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة يكفره، وجهله بذلك لا يعذر به، وقد عذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه منظور بن زبان حين تزوج بـمليكة، وكانت زوجة أبيه فلم يعلم أن الله حرمها، فسأله عمر : هل سمع سورة النساء؟
فقال: ما سمعتها. فاستحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، ورفع عنه الحد بذلك، وذلك أن الله يقول في سورة النساء: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً[النساء:22] .
وقد عذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الناس في حداثة إيمانهم، فعذر الأعرابي الذي بال في المسجد وقال: (دعوه لا تزرموه. ثم دعاه -بعد أن أمر بذنوب من ماء فأريق على بوله- فقال: إن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة)، ومن هنا فإن من كان حديث عهد بكفر يعذر في المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه ليس معلوماً لديه، وأما من سواه ممن عاش بين المسلمين وتعلم الإسلام فلا يعذر في جهل هذه الأمور التي هي أركان الإسلام، سواءٌ أكانت إيجابية أم سلبية، فمن لم يعرف وجوب الصلاة، أو لم يعرف وجوب الزكاة أو الحج أو الصيام، أو لم يعرف حرمة الزنى، أو لم يعرف حرمة القتل، أو لم يعرف حرمة السرقة، أو لم يعرف حرمة الخنزير فهذا ليس من المسلمين إلا إذا كان حديث عهد بكفر، ومن هنا شرع أن نعلم هذه الأركان، وأن نتدارسها، وأن نعلم ما كان معلوماً من الدين بالضرورة الذي لا يعذر به.
هذه الأركان بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها أساس بيعته، فكان يبايع الناس عليها، فقد بايع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، وبايع كذلك النساء البيعة التي أمره الله بها في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الممتحنة:12] , وهذه الآية جامعة لأركان الإسلام الإيجابية والسلبية، لكنها جاءت السلبية فيها تفصيلاً وجاءت والإيجابية إجمالاً.
فالسلبية قوله: لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ[الممتحنة:12] .
والإيجابية قوله: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ[الممتحنة:12] ، فهي شاملة للشهادتين وأداء الصلاة وأداء الزكاة وأداء الصيام وأداء الحج وغير ذلك.
ثم إن الجهاد هو ذروة سنام الإيمان، وهو معدود في أركان الإسلام لدى كثير من العلماء، وقد دل على ذلك بعض النصوص الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بالجهاد بذل الجهد لإصلاح الدين، أن يبذل الإنسان جهده لإصلاح دين الله، ويشمل ذلك إصلاح دينه هو وإصلاح دين من تحت يده وإصلاح دين عموم الناس، فليبدأ أولاً بنفسه، ثم بمن تحت يده فيجاهد فيهم، ويشمل ذلك من يسمع ويطيع له من زوجة وأولاد وجيران، وهؤلاء كلهم هو مسئول عن ديانتهم وتحصين دينهم؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6] .
ثم بعد هذا المشاركة في إدخال الناس في دين الله، وهي وظيفة الأنبياء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد وظيفته في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراًَ، حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب، فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار)، فوظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمسك بحجز الناس عن النار، وهذه الوظيفة يتجاهلها كثير من الناس، فيظن أن إسلامه هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فقط، ويتناسى أن عليه الحق في إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وإدخال الناس في دين الله، وأن مسئوليته عن هذا الوجه من الدين مثل مسئوليته عن صلاته وصيامه وزكاته وحجه؛ لأن الله خاطبنا في البداية بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن نكف أيدينا، ثم فرض علينا بعد ذلك إعلاء كلمة الله وإدخال الناس في دينه، ولهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً[النساء:77] .
ومن هنا فإن على المسلم أن يجعل من وقته ومما آتاه الله جزءاً كبيراً يخصصه لإعلاء كلمة الله ولنصرة دين الله ولإدخال الناس في دين الله، ولا يعذر أحد من المسلمين المنتمين للدين الذي يريدون أن ينالوا العزة بالدين في التقصير في هذا الوجه، لكن درجاتهم متفاوتة في خدمة الدين، فمنهم من يستطيع خدمته بيده، ومنهم من يستطيع خدمته بلسانه، ومنهم من يستطيع خدمته بماله، ومنهم من يستطيع خدمته بتفكيره، ومنهم من يستطيع خدمته فقط بتكثير سواد أهله بمجرد الكينونة معهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119] .
ولا يعذر أحد في التقصير في وجه يعلم أنه ساع به لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ومن رأى أنه بإمكانه أن يشارك في إعلاء كلمة الله بوجه فقصر في ذلك كان غير معذور يوم القيامة، وكان هذا الدين بكامله خصماً له يوم القيامة، يأتي الإسلام ويخاصمه فيقول: انتسب إلي ولم يقم بحقي.
ومن هنا فإن علينا أجمعين أن نستحضر هذا الشق العظيم من تكاليفنا، وأن نعلم أن التكاليف التي اختارها الله وظيفة للأنبياء هي أشرف مما سواها، ولذلك فإن المقاصد الشرعية مبنية على ست مصالح هي أصول التشريع، وهذه المصالح لابد من مراعاتها، وهي: أولاً: الحفاظ على الدين، ثم الحفاظ على النفس، ثم الحفاظ على العقل، ثم الحفاظ على المال، ثم الحفاظ على العرض، ثم الحفاظ على النسب.
فهذه الستة هي أصل المقاصد، وهي الضروريات بالنسبة للإنسان، وهذه أهمها مصلحة الدين، فإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال الحفاظ على النفس تقدم الشخص لينال الشهادة في سبيل الله، وإذا اقتضت مصلحة الدين إهمال مصلحة المال جاء الشخص يحمل ماله في سبيل الله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، وإذا اقتضت مصلحة الدين التجرد من العرض جاء الإنسان يقول كما قال حسان رضي الله عنه:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
وإذا اقتضت مصلحة الدين أن تهمل لها مصلحة العقل بادر الإنسان لمصلحة الدين وجعلها أعظم مما سواها، فهو يطلب الشهادة ويطلب أن تقطع أعضاؤه في سبيل الله.
فمعنى ذلك أنه قد بايع الله تعالى على كل ما عنده: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ[التوبة:111] , وأن الوفاء بحق هذه البيعة مسئول عنه، فهذا عهد الله: وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً[الأحزاب:15] , هذا عهد الله علينا أجمعين رجالاً ونساءً، عهد الله علينا هو هذه البيعة التي أخذ علينا أو أكد علينا في كتابه وفي التوراة والإنجيل، ولا يمكن أن يتجاهلها أحد، فيوم القيامة إذا جيء بكل إنسان منا يحمل طائره في عنقه ويخرج له كتاب يلقاه منشوراً، ويأتي معه سائق وشهيد، وتأتي نفسه بما كسبت رهينة فإنه سيكون مسئولاً يوم القيامة عما قدم لنصرة دين الله.
وحينئذ ينبغي أن يبلغ الشاهد الغائب، وأن نستحضر مسئوليتنا عن دين الله تعالى، وأن نعلم أن أنفسنا لو اعتدي عليها أو اعتدي على أموالنا أو بيوتنا فستثور ثائرتنا للدفاع عن أنفسنا أو عن أموالنا أو عن بيوتنا، من رأى قوماً يأتون وبأيديهم المعاول وهم يريدون هدم بيته لابد أن يبذل جهده في دفعهم عنه، أليس كذلك؟
بلى. فمن رأى دينه يهدم فلم يشارك في الدفاع عنه فإن معناه أنه قد خسر الدنيا والآخرة، خسر في صفقته، فبيته الذي هو من طين تافه سينتقل عنه اليوم أو غداً كان أهم عنده وأكبر في نفسه من دينه الذي هو قيمته وهو حظه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة.
إن هذا المثال واضح للجميع، لكن المشكلة أن كثيراً منا يتناساه فيستحضره في المسجد، ويستحضره في وقت الدروس وينساه في غير ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على رعاية ودائعه وما أودعنا من شرائعه، وأن يجعلنا من الآخذين بها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر