إسلام ويب

الجيل الرباني الأولللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتن الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، وقد قام صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه تربية تؤهلهم لخدمة الدين والقيام بأعبائه، وتحقيق مطالبه والتعاون على نصرته، ونحن اليوم نعيش غربة الإسلام آخر الزمان، فينبغي على كل مسلم منا أن ينصر الإسلام، ويؤازر الصالحين بقدر إمكانه، لعل الله يلحقنا بالجيل الرباني الأول.

    1.   

    إغاثة الله للأمة بالإسلام بعد الجاهلية

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى ختم الأمم بهذه الأمة المشرفة العظيمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأنواع التشريف، فأرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل عليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين.

    وقد جعل الله سبحانه وتعالى أهل هذه الأمة شهوداً على الناس عدولاً، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143] .

    وشرفها بأن جعلها أجيالاً متفاوتة، وأفضل هذه الأجيال وأشرفها القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

    فضيلة القرن الأول من المسلمين

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم).

    وذلك الجيل الأول الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأسوة والقدوة لمن يأتي بعدهم، فقد اختارهم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كما اختاره هو من سائر الخلائق، وشرفهم بصحبته والأخذ عنه، والتربي على يديه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نالوا من السبق والتقدم في الإسلام ما لا يمكن أن يدركه من وراءهم، فقد قال الله في كتابه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10] .

    وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

    إن تلك المنزلة العظيمة والمزية الكبيرة التي خص الله بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية منا جميعاً أن نحرص على الاقتداء بهم، وأن نحرص على أن نحاول أن نهتدي بهديهم لعلنا نلحق بهم، فهم السابقون الذين وصفهم الله بالسبق في كتابه، وأثنى عليهم به فقال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] .

    لذلك جدير بنا أن نتدارس حياتهم وآثارهم، وأن نتعلم هديهم وسلوكهم، وأن نحاول الاقتداء بهم في الشأن كله.

    إن أولئك القوم لم ينالوا هذه المنزلة ولا هذا الشرف بوراثة عن آبائهم وأسلافهم، ولم ينالوه كذلك بالأموال والجمع لحطام الدنيا، ولم ينالوه بالشهادات الراقية، وإنما نالوه بأن أسلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فصدقوا ما عاهدوه عليه، ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه وكانوا معه، فبذلك نالوا هذا الفوز العظيم الذي لا يصلي أحد منكم إلا دعا لهم به، ولا يمكن أن يفعل أي معروف إلا كان تابعاً له فيه.

    فهم السابقون السابقون، وهم المقدمون على الناس في كل شيء، فجدير بنا اليوم أن نراجع بعض ما تقدم به أولئك الرهط.

    حال العرب قبل البعثة

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بمكة في بيئة جاهلية يظهر فيها من القيم كثير مما تعرفونه، فتلك البيئة كان أهلها يعبدون الأصنام من دون الله، وكانوا يشرعون لأنفسهم، فهم الذين يحلون ما أرادوا ويحرمون ما أرادوا، وكانوا يغيرون شرع الله عمداً ويفخرون بذلك، ويقول شاعرهم:

    ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما

    وكانوا كذلك يقطعون أرحامهم ويفسدون في الأرض، فالغني يزداد غنى باستغلال الفقراء، والفقير يزداد فقراً؛ لأنه لا أحد يرحمه.

    وكانوا كذلك يتقاتلون لأتفه الأسباب وأقلها، فقد كانت حرب البسوس قبيل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودامت ثلاثين سنة، بسبب أن ناقة وطئت بيضة قبرة فكسرتها، ودامت حرب داحس والغبراء أربعين سنة بسبب أن فرساً غلبت أخرى في الجري، وكانوا أهل جاهلية جهلاء بكل مفاهيمها، ومن أعظم ذلك أن من ليس من أهل الحسب لم يكن يطوف بالبيت الحرام إلا عريانا.

    وقد وقف أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه القضية مثالاً على جهل أهل الجاهلية، وضعف عقولهم، وتردي أوضاعهم، فقد جاءت امرأة فطلبت من يعيرها ثوباً لتطوف به فلم تنله، فأرسلت شعرها على جسمها وقالت:

    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

    وطافت عريانة.

    كذلك كان حال أهل الجاهلية في تلك الجاهلية الجهلاء، وفي تلك الظروف التي كان العرب فيها تحوط بهم الحضارات الكبرى كحضارة الروم بالشام، وحضارة فارس بالعراق، وحضارة الحبشة في القرن الأفريقي.

    بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

    في تلك الظروف كانت جزيرة العرب مقسمة في الولاء تبعاً لهذه الحضارات والمماليك الكبرى، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى في وسط جزيرة العرب؛ لينذر أم القرى ومن حولها، فعندما بعث -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- هيأه الله لتحمل هذه المسئولية الجسيمة، فقد اختاره الله من أوسط نسب قومه، فهو أشرفهم نسباً، والأوسط بمعنى الأشرف والأفضل من ناحية الآباء ومن ناحية الأمهات، ولا يمكن أن يغمز أحد فيه من جهة النسب؛ لئلا يكون ذلك حائلاً بين الناس وبين اتباع دعوته، وما هذا إلا لطف من الله سبحانه وتعالى بعباده الذي يعلم ضعفهم، فعرفوا نسبه وعرفوا مكانته، وإلا فالأنساب لا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالناس جميعاً سواسية بين يديه وهم عباده جمعياً.

    لكنه اختار أن لا يمتحنهم بما يتنافى مع طباعهم، فأرسل إليهم من هو أشرفهم نسباً، وكذلك هيأه في خلقته فجعله أحسن الناس صورة، ولذلك وصفه من راءه بأن وجهه مستدير كفلقة القمر، وقال هو عن نفسه: (أوتي يوسف شطر الحسن وأوتيت الحسن كله).

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أتم الله خلقه فلم يكن يعرف أحد أحسن منه خلقاً لا فيمن تقدمه ولا فيمن تأخر عليه، وعرف في الجاهلية قبل البعثة بالصدق والأمانة والإخلاص والكرم والجود والتفاني في خدمة الناس، ولذلك حينما بعث إليه فارتاع من الملك أول ما أتاه قالت له أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

    فقد عرف بهذا صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن أحد يتهمه في مقال قاله، ولذلك عندما أذن له بالجهر بالدعوة وقف على الصفا فصاح في الناس ثلاثاً: (واصباحاه! فاجتمعوا عليه، فقال: يا بني عبد مناف! أليس إذا أخبرتكم أن وراء هذا الجبل خيلاً ستغير عليكم تصدقونني؟ قالوا: ما عرفنا عنك كذباً، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فأعلن دعوته من ذلك المكان الشريف وصدقوه فيما عرفوا فيه من الصدق والأمانة والإخلاص والنزاهة.

    1.   

    معايير دعوة النبي صلى الله عليه وسلـم

    وعندما بعث صلى الله عليه وسلم لم يتصل بعلية القوم وكبارهم، ولم يحتقر أحداً أن يبلغ إليه رسالات الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن قيم أهل الدنيا ومغاييرهم ليست هي المعايير عند الله.

    الحرص على هدايته الناس أجمعين

    فهذا عبد الله بن مسعود راع للغنم من هذيل وهو حليف في بني زهرة في قريش، حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدايته فآمن واتبع وصدق، وكان من أفضل هذه الأمة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد).

    كان رضي الله عنه نحيفاً رقيقاً لفقره، فصعد في شجرة فرآه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك بعضهم من حموشة ساقه -أي: من رقة ساقه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتضحكون من حموشة ساق ابن مسعود، فلهي عند الله أثقل من جبل أحد).

    فالمعايير التي عند الناس ليست هي المعايير عند الله، بل قد يرى الرجل الذي لا يعرفه أحد وهو عند الله يوزن بالآلاف، ويرى الرجل الضخم السمين لا يساوي عند الله جناح بعوضة.

    وقد أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يساوي عند الله جناح بعوضة)، لذلك اتصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن يثق بهم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به، وهذا يدلنا على أهمية الثقة بين الناس، فمن المهم أن تتصل القلوب وأن يقع بينها التعارف والانسجام والتفاهم، فإن ذلك معين على تقبل الحق وسماعه، فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين لا يدعو إلا من يثق به.

    وقد فعل ما فعل من سبقه من الأنبياء، فقال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ[آل عمران:52] ، فاستجاب له الذين أراد الله بهم الخير من ذلك الجيل المشرف فاجتمعوا حوله.

    إزالة المفاهيم الجاهلية الخاطئة من عقول الناس

    وأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم صياغة الرجال، فقد بدأ بتكوين أولئك القوم وتربيتهم على خلاف مفاهيم الجاهلية، فأزال من أذهانهم كل ما يتصل بالجاهلية، فتلك المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة في الجاهلية عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى محاها بالكلية، ولذلك قام فيهم خطيباً ذات يوم فقال: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء).

    فقد أذهب الله عنهم ذلك بالكلية، وأصبح الرجل منهم يعرف أن أباه عدو له، وأن أخاه عدو له إذا لم يسر معه على طريق الحق.

    ولهذا أنزل الله فيهم: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ[المجادلة:22] ، انظروا إلى الفرق الشاسع والكبير بين حالهم وحال أهل الجاهلية الذين كانت القبيلة بكاملها تقاتل من أجل نصرة فرد من أفرادها ظالم وقع في ظلم سافر، ومع ذلك تنصره القبيلة بكاملها، فإذا غضب غضب لغضبه سبعون ألفاً لا يسألون مما غضب، كما قال الأحنف بن قيس .

    فهم بعد هذا أصبحوا يقاطعون ويقاتلون آباءهم وإخوانهم وأبناءهم وعشيرتهم في ذات الله عز وجل.

    التخلص من كل مظاهر الشرك

    وتخلصوا كذلك من كل مظاهر الشرك بالكلية، فهذا عمر بن الخطاب الذي كان يصنع صنماً من التمر ويسجد له، فإذا جاع أكله، أصبح بعد إيمانه يقول للحجر الأسود الذي به شرف وشرف آباؤه: والله إني لأعلم إنك لحجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

    تغيرت المفاهيم التي كانت سائدة لديهم، فأصبحوا جميعاً يصرحون بعداء ما كان آباؤهم يعبدونه من دون الله، فهذا خالد بن الوليد الذي كان يقاتل قائداً من أجل نصرة اللات والعزى، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمانه ليقطع شجرة العزى، فلما قطعها ضرب في جذعها بالسيف فخرجت له عجوز من الجن ثائرة الرأس تدعو بالويل والثبور فأتبعها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:

    يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك

    التخلص من الأخلاق والقيم السيئة

    ثم تخلصوا كذلك من الأخلاق والقيم السيئة التي نهاهم الله عنها، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مفاهيم الجاهلية: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23] .

    فأهل الجاهلية الذين لم يؤمنوا ولم يصدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على قلوبهم، فلا يمكن أن يعرفوا معروفاً ولا أن ينكروا منكراً، وهم شر الدواب عند الله كما وصفهم الله بذلك، فلم يجعلهم من جنس البشر، بل قال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[الأنفال:22-23] ، وقال فيهم: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ[الأنفال:55] .

    1.   

    تضحية الجيل الأول في سبيل الدعوة وتفانيهم في حب المصطفى

    كذلك جعل هؤلاء القوم أنفسهم وقوداً لهذه الدعوة، فرضوا أن يقدموا أرواحهم لله عز وجل، وأن يجاهدوا في سبيله بكل ما يملكون، فعندما آمن مصعب بن عمير كان أعز فتى في قريش، وكانت أمه من أغنى النساء في مكة، فكانت كل يوم تشتري له ثوباً جديداً غير الثوب الذي كان يلبسه بالأمس، ولا يأتي نوع من أنواع الطيب إلا كان مصعب أول من يستعمله.

    فلما أسلم وهو فتى شاب من أحسن ما يكون الفتيان، وكان يشبه في خلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، حبسته أمه بين أربعة جدران، وعذبته بأنواع التعذيب، وقطعت عنه كل ما كانت تعطيه، وخلعت عنه كل ملابسه، وذلك من أجل كلمة واحدة وهي أن يكذب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فامتنع من ذلك وصمد وصبر على هذا المنهج، حتى كان أول سفير في الإسلام، وأول إنسان عهد إليه ببناء دولة الإسلام، فكان أول من هاجر إلى المدينة من المهاجرين.

    وكذلك فإن عبد الله بن أم مكتوم كان رجلاً ضريراً أعمى، ولكنه كان مستنير البصيرة، حي القلب، مقبلاً على الله محباً للخير، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جاءه فآمن وصدق، ثم لم يزل يغدو عليه كل يوم يريد أن يتعلم من الدين كل ما ينزل وكل ما يتجدد.

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعد بعض علية القوم من المشركين الذين يأتون لمجادلته ويأتون للرد عليه، فكان من ردهم عليه أن يقولوا: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ[هود:27] ، وهذه سنة سالفة لمكذبي الرسل، فقد قالها مكذبو نوح عليه السلام، ثم لم يزل مكذبو الرسل يرددونها فيظنون أن المعيار في الفضل هو بكثرة المال والولد.

    فيقولون: لم يتبعك الوليد بن المغيرة، ولم يتبعك العاص بن وائل ، ولم يتبعك أبو حكيمة زمعة بن الأسود ، ولم يتبعك عمرو بن هشام ، ولم يتبعك عتبة بن ربيعة ، وإنما اتبعك ضعفاء الناس وفقراؤهم.

    وكانوا يرون أن هؤلاء لا يمكن أن يحصل منهم خير ولا نصرة، ولذلك قال عروة بن مسعود رضي الله عنه يوم الحديبية عندما قدم سفيراً عن قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إني أرى قومك قد لبسوا جلود النمور وصحبوا العوذ المطافيل يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابه من الناس، جدير أن يفروا عنك ويتركوك!

    يظن أن أولئك القوم الذين ليسوا أكثر الناس مالاً ولا أولاداً ولا أكبرهم مكانة اجتماعية بين الناس، يمكن أن يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن ينصروه، وهذا بمفاهيم أهل الجاهلية.

    ثم إن عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مجيء الوفد من قريش لمجادلته، فلما دخل عليه استحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوده مع أولئك القوم الذين يحتجون عليه بأنه لم يصحبه إلا الضعفاء، فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد التخلص منه في ذلك الوقت حتى يمضي علية القوم.

    فعاتبه الله في كتابه في شأن ذلك الرجل الضرير فأنزل الله فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى[عبس:1-4].

    زكى الله عبد الله بن أم مكتوم وجعله من خيرة الناس، فكان ثاني من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير .

    وقد ولاّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة كما في الصحيح، يوليه على المدينة وعلى إمامة المسجد النبوي والخطابة فيه؛ لأنه عاتبه فيه ربه سبحانه وتعالى، وشهد له وزكّاه.

    ثم لما توفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم ضاقت الأرض بما رحبت بـعبد الله بن أم مكتوم ؛ لشدة محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحرص على الشهادة في سبيل الله ليلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فلما بعث أبو بكر رضي الله عنه أول جيش إلى العراق تجهز ابن أم مكتوم وخرج فيهم، ولم يزل يقاتل ويتعرض للموت حتى كان يوم القادسية فدعا الأمير سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: يا سعد إني رجل ضرير لا أرى شيئاً أرهبه فأعطني اللواء فلن أزال أتقدم حتى ألقى الله أو يفتح للمسلمين.

    فأعطاه سعد الراية فما زال يتقدم بها والفرس بين يديه وعن يمينه وعن شماله لا يبالي بهم، حتى لقي الله شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.

    إن ذلك الجيل الأول رجالاً ونساء وكباراً وصغاراً حققوا من الأمثلة مثل هذا الذي حققه عبد الله بن أم مكتوم ؟

    فما منهم أحد إلا وقد كان أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له وتصديقاً بما جاء به، وقناعة بتحقق وعد الله الذي وعده به، ولذلك لما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش! لقد زرت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه وقيصر في ملكه فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، فوالله إنهم حوله لكأن على رءوسهم الطير، وإذا امتخط لم تقع مخاطته إلا في يد رجل منهم فيدلك بها وجهه ورأسه، وإذا تكلم أصغوا لكلامه، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.

    فقد كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم التعظيم الذي أمرهم الله به في كتابه، فقد قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[الفتح:8-9].

    فهذا خبيب بن عدي بن مالك الأنصاري خرج غازياً في بعث الرجيع فقاتل بني لحيان فأمسكوه أسيراً، وجلبوه إلى مكة وباعوه لقريش، فحبسته قريش بمكة حتى خرج الشهر الحرام ثم ذهبوا به خارج الحرم ليقتلوه، فلما نصبوا الخشبة ليصلبوه عليها، تقدم إليه أبو سفيان بن حرب فقال: يا خبيب أتحب أن ابننا محمداً عندنا نقتله وأنك في قومك في عزك ومكانتك؟ فانتفض خبيب وقال: والله الذي لا إله غيره ما أحب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصاب بشوكة في مكانه الذي هو فيه، وأنجو أنا من القتل والصلب،وأعلن أبياته منشداً لها في قوله:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان لله مصرعي

    وذلك في ذات الإله فإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

    وسأل الله أن يبلغ سلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله ملكاً يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام خبيب وما لقي، وأن الله سبحانه وتعالى رضي عنه وأرضاه.

    وكذلك فقد كان كل فرد من أفرادهم حريصاً على أن يكون من الذين يمكرون في أهل الجاهلية، ومن الذين يعلون كلمة الله بكل ما يستطيعون، ولذلك عجب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوم بدر عندما ابتدره الفتية الصغار من الأنصار يقولون: يا عم إذا رأيت أبا جهل فأرناه، فيقول: وما حاجتكم إليه؟ فيقول كل فرد منهم: أريد أن أكون أنا الذي أقتله لما أعرف من عداوته لله ولرسوله، فيعجب عبد الرحمن بن عوف من هؤلاء الفتية الصغار الشباب الذين يحرص كل واحد منهم أن يكون هو الذي يقطع رأس الكفر، ويزيله بالكلية.

    1.   

    نساء الجيل الأول وعبيده وغرباؤه

    وكذلك نساؤهم فقد كن عند هذا المستوى من تحمل الأمانة والسعي لإعلاء كلمة الله بكل ما يطلب منهن، وبكل ما يستطعن تقديمه في سبيل الله وإعلاء كلمته.

    فتخرج المرأة مهاجرة من مكة إلى المدينة أربعمائة وستة عشر كيلو في شدة الحر على رجليها، لا تحمل نفقة ولا زاداً حتى تصل، وقد خرج وفد من النساء مهاجرات ساخطات لشأن أهل الجاهلية، حتى قدمن المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهن في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ[الممتحنة:10] .

    فشرفهن الله عز وجل جل بهذا التشريف العظيم الذي ما زال المسلمون يقرءونه في صلاتهم ويتعبدون الله بتلاوته.

    وكذلك عبيدهم الذين كانوا يعانون من الظلم والمسكنة والمهانة في الجاهلية، فقد كان منهم من أعلى كلمة الله ونصره، وبذل في سبيله ما لا يستطيع أحد أن يبذله اليوم، وكانوا بتلك المنزلة العالية، حتى إن أبا ذر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: (يا محمد! ومن تابعك على هذا الأمر؟ قال: رجل وامرأة وعبد وصبي).

    كل شريحة من شرائح المجتمع خرج منها سابق هو أفضلها، فكان من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينذاك الرجل أبو بكر ، والمرأة خديجة بنت خويلد ، والعبد بلال ، والصبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

    وكذلك الحال بالنسبة للغرباء الذين أتوا من ديار بعيدة، فهذا صهيب الرومي كان بمكة وكان تاجراً ثرياً، وكان كبير السن قد بلغ أكثر من المائة، وكان رامياً معروفاً لا يخطئ في رمايته، فلما أراد أن يهاجر إلى الله ورسوله أرادت قريش منعه من ذلك، فجمع ماله فنثره بين أيديهم، فقال: يا معشر قريش! ماذا تبغون مني؟ فأنتم تعلمون أني شيخ قد بلغت أشدي، وتجاوزت المائة، وليس بيني وبينكم رحم، وإن كنتم تطلبون المال فهذا مالي في وجوهكم، وإن كنتم تريدون ردي عن ديني فوالذي يحلف به صهيب لا يصل إلي أحد منكم حتى يخرج سهم من كبده.

    ونثر كنانته وفيها السهام وهم يعرفونه بالرماية، فتركوه وخرج مهاجراً إلى الله ورسوله.

    وكذلك عدد من الذين أتوا من أماكن نائية من أطراف جزيرة العرب عندما سمعوا بهذا النبأ العظيم وببعثة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جاءوا يلتمسون ما جاء به من عند الله، وقد أخبرنا أحد هؤلاء بأمر عجب، ألا وهو عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: (كنت في قومي وأنا صبي صغير فسمعنا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكنت أتلقى الركبان وأتحسس الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يأتي وافد من قبل المدينة إلا سألته عما أنزل من القرآن، فكنت أحفظ كل ما بلغني عنه.

    فلما أسلم قومي وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يجعلوا إمامهم أقرأهم لكتاب الله، فكنت أقرأهم، وكنت إذا ذاك صبياً صغيراً، فكنت أصلي لهم -أي: أؤمهم في الصلاة- فقالت: امرأة من نسائنا: غطوا عنا سوءة إمامكم، فاشتروا لي ثوباً ألبسه، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب).

    هذا الطفل الصغير كان ذا همة عالية، فكان لا يرى راكباً من جهة المدينة إلا أتاه وسأله عما نزل من القرآن، فحاول حفظه حتى كان أحفظ قومه لكتاب الله، وكان إمامهم مع أنه كان لا يجد ما يستر عورته من الملابس، لكنها علو الهمة وعلو القدر وعلو المنزلة عند الله عز وجل.

    1.   

    الإيثار من أبرز صفات الجيل الأول

    إن ذلك الجيل قد رباهم الله وهيأ لهم الظروف؛ ليخلعوا أمر الجاهلية بالكلية، فأنتم تعلمون حرص أهل الجاهلية وبخلهم، وأن كل إنسان منهم لا يمكن أن ينذر أحداً بخير، لكن ذلك الجيل الفاضل عندما حاصرهم أهل الجاهلية وحاربوهم وحبسوهم في الشعب لا يبيعون إليهم ولا يشترون منهم، ولا ينكحون منهم ولا ينكحون إليهم ثلاث سنين، جعل الله لهم هذه البيئة الصالحة لمقاطعتهم الجاهلية، حتى تتحقق فيهم قيم الإسلام، فلولا حصار الشعب لم يستطع أولئك القوم أن يحققوا قيم الإسلام تماماً كما هي؛ فمثل الإيثار الذي تحقق بينهم إذ ذاك إذا سمعه أحد الآن عجب له.

    تصور أن عدداً كبيراً من الفقراء الذين لا يملك أحد منهم ثوباً ولا لقمة عيش، وهم في حرب يحاصرهم الأقربون والأبعدون، ولا يستطيع أحد منهم أن يخرج لحاجة، يجد أحدهم كساء أو جبة مدفوناً في الأرض فينفضه فيأتي به أصحابه، ولا يستأثر به دونهم، ويجد أحدهم جلداً يريد أكله وهو في غاية الجوع فيغسله ويأتي به أصحابه؛ ليشتووه ويأكلوه جميعاً.

    إنه الإيثار الذي أثنى الله به على الأنصار فيما بعد!

    يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد رأيتنا في الشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتد بنا الجوع فخرجت لبعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جلد فأخذته فأتيت به أصحابي، فغسلناه وشويناه وأكلناه.

    ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (لقد رأيتنا بالشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء بعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جبة فنفضتها فأتيت بها أصحابي، فاقتسمتها أنا و سعد بن مالك اتزرت بنصفها واتزر بنصفها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار).

    بعد هذا الأذى وهذا الحصار المطلق فتح الله لهم أبواب الفتح، واستجابت لهم الأمم؛ لصدقهم مع الله سبحانه وتعالى، فنصرهم بالرعب وهيأ لهم الأسباب.

    فأولئك القوم الذين هم بهذا القدر من القلة، كما وصفهم الله تعالى في قوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ[الأنفال:26] ، آواهم الله ومكن لهم في الأرض، وأزاح عروش الملوك أمامهم، وجعل سيوفهم علامة على الرعب في وجوه الأمم كلها، ففتحت الأرض أمامهم، ولم يستطع ملك من الملوك ولا قائد من القادة أن يقف في وجه أضعف أولئك القوم.

    إنهم نصروا الله سبحانه وتعالى وصدقوا معه، فنصرهم الله كما تعهد بذلك، فقد قال في كتابه: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40] ,

    وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106].

    وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7] .

    وقال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21] .

    فكتب الله لهم الغلبة والعزة والتمكين.

    1.   

    مقارنة بين أحوالنا وأحوال الجيل الأول رضوان الله عليهم

    تعال بنا لحظة لنقارن وضعنا نحن مع وضع أولئك القوم.

    إن أحفاد هؤلاء القوم بعد أن فتحت عليهم الدنيا أبوابها انشغلوا عما شرف به أولئك القوم، فأصبح الرجل من أحفاد الصحابة يعيش هنا في هذه المدينة أو غيرها من مدائن الإسلام لا يفكر إلا فيما يجمعه من الأموال، ولا يفكر بغزو في سبيل الله، ولا إعلاء لكلمة الله، ولا جهاد في سبيله، ولا أن يرعب عدواً من أعداء الله، ولا أن يذل عدواً من أعداء الله، ولا أن يقول كلمة الحق مدوية صارخة، ولا أن ينصر الله في أي موقف، يريد أن يعيش مائة سنة معافى في جسمه آمناً في سربه، لا يتعرض لأذى بمقال أو حال، ولا يتكلم أحد فيه، ولا يتلقى أي تهديد ولا أي أذى، فهل هكذا عاش أولئك القوم؟

    إن أولئك القوم الذين تحبون الاقتداء بهم، وتريدون مجاورتهم في الفردوس الأعلى من الجنة، ما نالوا ذلك إلا بما بذلوه، فكيف تتمنون الأماني بدون أن تسلكوا الطريق؟!

    إن هذا الطريق كل من سلكه قد تعهد الله له بأن يوصله إلى هذا المقام، فقد انتدب الله لمن خرج في سيبله لا يخرجه إلا إيمان به وتصديق برسوله، أن يرجعه إلى المكان الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، أو أن يدخله الجنة.

    لذلك إذا قارنا أوضاعنا مع أوضاع البعثة سنجد انتشاراً للشرك في هذه الأرض حتى بين المسلمين، قد يفعل بعضهم من الشرك ما لا يظنه شركاً، ونرى انتشاراً للفواحش والظلم، ونرى استبداداً على الناس، ونرى قطيعة للرحم، ونرى أن الغني يزداد غنى من غير حل، وأن الفقير يزداد فقراً كذلك؛ لاستغلال الأغنياء للفقراء أبشع استغلال.

    ونرى الفقراء يزدادون فقراً، فلا يمكن أن يحقق أحد منهم ما هو مضطر إليه وما هو محتاج له إلا بالعناء المبين، والمشقة الكبيرة، بل قد فرض على الناس من أنواع الظلم ما يجعل الذي يريد أن يعيش من حلال لا يستطيع ذلك إلا بالربا والمحرمات.

    ونرى كذلك إدباراً عن منهج الله وإعراضاً عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من البيئات، ونرى حرصاً بالغاً على جمع هذه الدنيا وحطامها كما كان أهل الجاهلية يفعلون، ونرى تناصراً بين الناس على أساس النسب القبلي كما كان في الجاهلية من غير قناعة بذلك من الناحية الدينية.

    لذلك كان لزاماً علينا أن نراجع مسيرتنا حتى نعود إلى ما كان عليه ذلك الجيل، وحتى يحقق لنا الله ما وعدنا من النصر والتمكين في هذه الأرض.

    إن علينا عباد الله أن نراجع هذه المسيرة بالبدء بمدارسة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستسلام المطلق له، والأخذ به، وأن نعلم أن ما يصيبنا في سبيل ذلك ليس شراً لنا، فالمفاهيم التي ترسخت في أذهاننا لابد أن نزيلها، فإن الذين قتلوا يوم أحد شهداء في سبيل الله، وقطعت آذانهم وأنوفهم، وبقرت بطونهم، وقد حكم الله بأنهم لم يمسسهم سوء، فكل ما أصابهم ليس بسوء عند الله عز وجل.

    إذ قد حقق الله لهم أعلى الدرجات، وخصص لهم مقامهم في الفردوس الأعلى من الجنة، وشهد لهم بأنهم شهداء في سبيله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران:169-171].

    إن حال أولئك كان حال الصدق مع الله سبحانه وتعالى، ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قبل موته بثمانية أيام، فقال: (إني شهيد على هؤلاء بأنهم صدقوا الله ما عاهدوه عليه)، فترحم على أصحاب أحد وصلى عليهم.

    إن هذا المكان الذي ناله أصحاب أحد في الإسلام بالإمكان أن يناله الحاضرون اليوم والسامعون، فما هو إلا بالتضحية في سبيل الله، والبذل لإعلاء كلمة الله، وإيثار الآخرة على الدنيا، والأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، والتمكين له مهما كلف ذلك.

    1.   

    سبل اللحاق بالجيل الرباني الأول

    ضرورة التخلص من مظاهر الجاهلية

    إن علينا -عباد الله- بعد مدارستنا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نزيل ما بقي عالقاً بأذهاننا من أمور الجاهلية، فما نراه اليوم من حرص على الدنيا، وأخذها من غير حلها، وما نراه من فشو الكذب والغش، وما نراه من فشو قطيعة الرحم، وما نراه كذلك من المذلة لأعداء الله، وما نراه من الهوان أمام أمم الشر؛ كله من مظاهر الجاهلية الجهلاء.

    إن رجلاً من أبناء المسلمين وقف في ملأ عظيم من الناس في الأسبوع الماضي، فذكر زعيماً من الزعماء وقال: إن الناس لم يتفقوا على محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل دولة كذا قد اتفقوا على هذا الزعيم الفلاني.

    تباً له كيف يقارن أحداً برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو كان من الصالحين! فكيف يقارن زعيماً من زعماء الدنيا وظالماً من ظلمتها برسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

    إن ذلك الملأ الذي قالت فيه هذه الكلمة ودوت فيه في الأبواق، لم يستنكر أحد منهم، ولا وقف أحد منهم للرد عليه، بل قد أعجبوا بكلامه؛ لأنهم جميعاً يتسابقون في ميدان واحد هو ميدان النفاق.

    المسابقة إلى الخيرات

    إن علينا معاشر المسلمين أن نتسابق في ميدان الإيمان، وأن يحرص كل واحد منا على زيادة قربه من الله سبحانه وتعالى قبل أن يسخط عليه، وأن نحاول إذا سمعنا من هذا الدين وهذا الهدي شيئاً أن نكون من الآخذين به، فقد كان أولئك الجيل الصالح إذا سمع أحدهم كلمة واحدة مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسك بها، ولم يتركها بعد أبداً.

    أخرج مسلم في الصحيح عن عنبسة بن أبي سفيان بن حرب عن أخته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى لله اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة في اليوم والليلة بنى الله له قصراً في الجنة).

    قالت أم حبيبة : فما تركت ذلك منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال عنبسة : وأنا ما تركته منذ سمعته من أم حبيبة .

    فهكذا كان الحرص، بحيث إذا سمع الإنسان حكماً واحداً أخذ به ولم يتركه، وكان صادقاً عندما يقول: ما تركته منذ سمعته، ولذلك حين قطعت رجل أحدهم في سبيل الله أخذها فقبلها وقال: هذه الرجل لم تحملني إلى حرام منذ خمسين سنة.

    التعاون على إقامة السنة ونصرة الحق

    علينا عباد الله أن نحرص على أن نتمسك بما نسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاءنا من الهدي المبين الذي نؤمن به ونصدق، وأن نعلم أن سلوك هذا الطريق يحتاج منا إلى مجاهدة، وهذه المجاهدة تحتاج إلى تعاون فيما بيننا، فلا يمكن أن يسلك الناس هذا الطريق من غير أن يجاهدوا أنفسهم في سلوكه؛ لكثرة المغريات والفتن المضلة، ولا يمكن كذلك إذا جاهدوا أنفسهم على سلوكه أن يستمروا عليه إلا بالتعاون على البر والتقوى.

    فكل إنسان منا عرضة للنسيان، وعرضة للفتن، وعرضة للضعف أمام الشهوة، وعرضة للضعف أمام الضغوط، لكنه إذا وجد من يتعاون معه فيذكره بما نسي، ويعظه إذا فتر، ويرغبه حين الترغيب، ويرهبه حين الترهيب، ويعينه إذا احتاج إلى العون، فإننا سننطلق جميعاً إن شاء الله تعالى في طريق الحق.

    مؤازرة الصالحين قدر الاستطاعة

    علينا عباد الله أن نحرص على الصحبة الصالحة المعينة على هذا الطريق كما حرص عليها أولئك النفر، فقد جاء أعرابي فرأى ما هم فيه، فأحبه وهو يعلم أنه لا يستطيعه، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).

    انظروا إلى هذا الإعرابي الذي جاء من غنمه وباديته وهو يحب أن يفعل ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكنه يعلم في نفسه العجز عن ذلك، فقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟! قال: أنت مع من أحببت).

    فإذا حرص الإنسان على أن يحقق أمر الله في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119] ، حرص على أن يكون مع الصادقين، فإن الله يرفع مقامه ومنزلته بذلك الحرص ويكون هو من المؤازرين إن لم يكن من الذين يحملون الثمر، فقد ضرب الله هذا المثل لهذه الأمة في الإنجيل فقال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ[الفتح:29] ، فالزرع يخرج شطأه في البداية فتخرج السنبلة التي تحمل الحب وهي ضعيفة ملتوية، لكنها يحيط بها السنابل من كل جانب، وتلك السنابل لا تحمل الحب لكنها تتحمل الضربات عن السنبلة التي تحمل الحب، فتحول بين الطفيليات وبين الوصول إلى الحب، وتؤازرها في وجه الرياح، وبذلك تكون مشاركة، فمن كان عاجزاً عن أداء عمل لكنه يستطيع أن يناصر أهله بما يستطيع، فإن ذلك كاف في تحقيق مأموله والوصول إلى مراده، حتى يكون: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ[الفتح:29] .

    إن علينا عباد الله أن نعلم أن هذا الزمان الذي نحن فيه زمان الفتن المضلة التي لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخلته.

    فعلينا أن نستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نحاول النجاة منها، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتمسكنا بالهدي الأول، وأن لا نتجاوزه، وأن نحرص عليه جميعاً، فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام بين يدي الساعة المتمسك فيها بدينه كالقابض على الجمر.

    إن ما ترونه اليوم هو الغربة الثانية التي أخبركم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).

    (طوبى للغرباء) إما أن تكون خبراً وإما أن تكون دعاءً، فقد تحمل على الخبر، فمعناه أنهم قد طابوا، وأن الله اختار لهم طوبى، وهو إما مقام في الجنة أو منزلة عظيمة عند الله.

    أو أن يكون ذلك دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاؤه مستجاب، فقد دعا لهم بأن يطيب ما هم فيه من أمور الدنيا، وأن ينالوا تلك المنزلة العالية في الجنة يوم القيامة.

    إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن خير كثير يكون في آخر هذه الأمة، وخرج إلى المقبرة يوماً فأخذ عوداً فنكت به في الأرض، فقال: (وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعوانا).

    إننا لم ندرك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل وأسمى وأكمل، فعلينا أن نحرص على إدراك أخوته حتى نكون من إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يروه، فهم الذين يتحقق فيهم الخير الآخر الذي يكون في هذه الأمة.

    فهذه الأمة لن تعدم خيراً، وسيكون في آخرها خلافة على منهج النبوة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى يقوم اثنا عشر خليفة، وقال كلمة فأسر بها، قال جابر بن سمرة فسألت أبي، فقال: كلهم من قريش) .

    وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك الخلافة على منهاج النبوة كما في حديث حذيفة بن اليمان في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).

    1.   

    جمع الناس على نصرة الدين والدعوة ليس فيه مخالفة للسلف

    إننا -عباد الله- بأخذنا بذلك الهدي لا يمكن أن نلام بأننا قد نقدنا، فما يفعله أقوام من المناورة والمجادلة عندما يقولون: إن الذين سبقونا من أهل القرون الماضية قد كانوا على خير وهم خير منا، ولم يكونوا يفعلون هذا الذي تفعلونه.

    إن هذه الحجة واهية؛ لأننا وأهل القرن الماضي، وأهل القرن الذي قبله جميعاً عيال على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع لهم.

    ولا يمكن أن يأتي أحد بأفضل مما جاء به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان مقتدياً فليقتد بالأفضل، وليس ذلك طعناً في الذين قبلنا ولا نقداً عليهم، فقد أفضوا إلى ما قدموا، ونحن مهمتنا أن نستغفر لهم، وأن ندعو الله لهم، كما أثنى الله على اللاحقين من هذه الأمة بذلك.

    فالله سبحانه وتعالى قد بشر بأجيال آتية في هذه الأمة في عدد من آي كتابه، فقد قال في سورة الحشر بعد ذكره للمهاجرين والأنصار، قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10] .

    فهذا حالنا مع كل السابقين من آبائنا وأجدادنا والقرون السابقة نقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10] .

    ومن بشارات الله بهذه الأجيال اللاحقة قوله تعالى في سورة الجمعة: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الجمعة:3] ، فهذه بشارة بالجيل الذي سيأتي.

    (وآخرين منهم) أي: من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

    (لما يلحقوا بهم) أي: أنهم سيلحقون، فـ(لما) هي للماضي المنقطع، معناه: أن ذلك سينقطع فسيلحقون بهم.

    فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى بأجيال لاحقة في هذه الأمة فيها الخير العظيم، ويكفي من تشريفها أن الله سبحانه وتعالى وعدها باللحاق بالأجيال الأولى.

    ( لما يلحقوا بهم ) هذا إخبار بأنهم سيلحقون بهم، وهذا كاف من رفع القدر والمنزلة أن يوصفوا بأنهم سيلحقون بالأجيال السابقة من هذه الأمة، وبالسابقين من المهاجرين والأنصار.

    إننا عباد الله في هذا البلد في غرب هذه الأمة الإسلامية، وقد ورد في ذكر فضل غرب هذه الأمة كثير من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وهم أهل الحق.

    فعلينا أن نحرص على أن نكون من أولئك الطائفة الظاهرين على الحق الذين هم من أهل الغرب، حتى نلقى الله سبحانه وتعالى، وقد بذلنا ما عاهدنا الله عليه، وصدقنا فيما وعدناه سبحانه وتعالى.

    وعلينا أن نعلم أن الله غني عنا، وأنه سيعز دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وأننا إذا تراجعنا عن نصرة هذا الدين فسيخرج الله من الأجيال من ينصره، ولا يخاف في الله لومة لائم، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة:54] .

    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى.

    أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولا تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم.

    نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السماوات والأرض؛ أن تهدي قلوبنا، وأن تسترنا عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا!

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا!

    ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا!

    اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه!

    اللهم اجعلنا قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هنيَّة لا نظمأ بعدها أبداً، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون!

    اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم وسدد سهامهم، واجمع على الحق قلوبهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم!

    اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم!

    اللهم أنزل رجزك وبأسك وسخطك وعذابك على كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك، ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك؛ اللهم لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية!

    اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين!

    اللهم طهر المسجد الأقصى من رجس اليهود، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين!

    اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، واجعل المال في أيدي أسخيائنا!

    اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك!

    اللهم لا تدع في عشيتنا هذه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.

    اللهم لا تخرج أحداً منا من هذا المسجد إلا وقد غفرت له!

    اللهم إنك أعلم بنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، واجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767944039