إسلام ويب

الجيل الرباني الأولللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتن الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فأخرجها به من الظلمات إلى النور، وقد قام صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه تربية تؤهلهم لخدمة الدين والقيام بأعبائه، وتحقيق مطالبه والتعاون على نصرته، ونحن اليوم نعيش غربة الإسلام آخر الزمان، فينبغي على كل مسلم منا أن ينصر الإسلام، ويؤازر الصالحين بقدر إمكانه، لعل الله يلحقنا بالجيل الرباني الأول.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى ختم الأمم بهذه الأمة المشرفة العظيمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، وشرفها بأنواع التشريف، فأرسل إليها أفضل الرسل، وأنزل عليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين.

    وقد جعل الله سبحانه وتعالى أهل هذه الأمة شهوداً على الناس عدولاً، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143] .

    وشرفها بأن جعلها أجيالاً متفاوتة، وأفضل هذه الأجيال وأشرفها القرن الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

    فضيلة القرن الأول من المسلمين

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً فيقولون: نعم، فيفتح لهم).

    وذلك الجيل الأول الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأسوة والقدوة لمن يأتي بعدهم، فقد اختارهم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم كما اختاره هو من سائر الخلائق، وشرفهم بصحبته والأخذ عنه، والتربي على يديه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نالوا من السبق والتقدم في الإسلام ما لا يمكن أن يدركه من وراءهم، فقد قال الله في كتابه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[الحديد:10] .

    وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

    إن تلك المنزلة العظيمة والمزية الكبيرة التي خص الله بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية منا جميعاً أن نحرص على الاقتداء بهم، وأن نحرص على أن نحاول أن نهتدي بهديهم لعلنا نلحق بهم، فهم السابقون الذين وصفهم الله بالسبق في كتابه، وأثنى عليهم به فقال سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ[التوبة:100] .

    لذلك جدير بنا أن نتدارس حياتهم وآثارهم، وأن نتعلم هديهم وسلوكهم، وأن نحاول الاقتداء بهم في الشأن كله.

    إن أولئك القوم لم ينالوا هذه المنزلة ولا هذا الشرف بوراثة عن آبائهم وأسلافهم، ولم ينالوه كذلك بالأموال والجمع لحطام الدنيا، ولم ينالوه بالشهادات الراقية، وإنما نالوه بأن أسلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فصدقوا ما عاهدوه عليه، ونصروا رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبعوه وكانوا معه، فبذلك نالوا هذا الفوز العظيم الذي لا يصلي أحد منكم إلا دعا لهم به، ولا يمكن أن يفعل أي معروف إلا كان تابعاً له فيه.

    فهم السابقون السابقون، وهم المقدمون على الناس في كل شيء، فجدير بنا اليوم أن نراجع بعض ما تقدم به أولئك الرهط.

    حال العرب قبل البعثة

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بمكة في بيئة جاهلية يظهر فيها من القيم كثير مما تعرفونه، فتلك البيئة كان أهلها يعبدون الأصنام من دون الله، وكانوا يشرعون لأنفسهم، فهم الذين يحلون ما أرادوا ويحرمون ما أرادوا، وكانوا يغيرون شرع الله عمداً ويفخرون بذلك، ويقول شاعرهم:

    ونحن الناسئون على معد شهور الحل نجعلها حراما

    وكانوا كذلك يقطعون أرحامهم ويفسدون في الأرض، فالغني يزداد غنى باستغلال الفقراء، والفقير يزداد فقراً؛ لأنه لا أحد يرحمه.

    وكانوا كذلك يتقاتلون لأتفه الأسباب وأقلها، فقد كانت حرب البسوس قبيل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودامت ثلاثين سنة، بسبب أن ناقة وطئت بيضة قبرة فكسرتها، ودامت حرب داحس والغبراء أربعين سنة بسبب أن فرساً غلبت أخرى في الجري، وكانوا أهل جاهلية جهلاء بكل مفاهيمها، ومن أعظم ذلك أن من ليس من أهل الحسب لم يكن يطوف بالبيت الحرام إلا عريانا.

    وقد وقف أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه القضية مثالاً على جهل أهل الجاهلية، وضعف عقولهم، وتردي أوضاعهم، فقد جاءت امرأة فطلبت من يعيرها ثوباً لتطوف به فلم تنله، فأرسلت شعرها على جسمها وقالت:

    اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

    وطافت عريانة.

    كذلك كان حال أهل الجاهلية في تلك الجاهلية الجهلاء، وفي تلك الظروف التي كان العرب فيها تحوط بهم الحضارات الكبرى كحضارة الروم بالشام، وحضارة فارس بالعراق، وحضارة الحبشة في القرن الأفريقي.

    بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

    في تلك الظروف كانت جزيرة العرب مقسمة في الولاء تبعاً لهذه الحضارات والمماليك الكبرى، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالبينات والهدى في وسط جزيرة العرب؛ لينذر أم القرى ومن حولها، فعندما بعث -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- هيأه الله لتحمل هذه المسئولية الجسيمة، فقد اختاره الله من أوسط نسب قومه، فهو أشرفهم نسباً، والأوسط بمعنى الأشرف والأفضل من ناحية الآباء ومن ناحية الأمهات، ولا يمكن أن يغمز أحد فيه من جهة النسب؛ لئلا يكون ذلك حائلاً بين الناس وبين اتباع دعوته، وما هذا إلا لطف من الله سبحانه وتعالى بعباده الذي يعلم ضعفهم، فعرفوا نسبه وعرفوا مكانته، وإلا فالأنساب لا تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالناس جميعاً سواسية بين يديه وهم عباده جمعياً.

    لكنه اختار أن لا يمتحنهم بما يتنافى مع طباعهم، فأرسل إليهم من هو أشرفهم نسباً، وكذلك هيأه في خلقته فجعله أحسن الناس صورة، ولذلك وصفه من راءه بأن وجهه مستدير كفلقة القمر، وقال هو عن نفسه: (أوتي يوسف شطر الحسن وأوتيت الحسن كله).

    وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أتم الله خلقه فلم يكن يعرف أحد أحسن منه خلقاً لا فيمن تقدمه ولا فيمن تأخر عليه، وعرف في الجاهلية قبل البعثة بالصدق والأمانة والإخلاص والكرم والجود والتفاني في خدمة الناس، ولذلك حينما بعث إليه فارتاع من الملك أول ما أتاه قالت له أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: (كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).

    فقد عرف بهذا صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن أحد يتهمه في مقال قاله، ولذلك عندما أذن له بالجهر بالدعوة وقف على الصفا فصاح في الناس ثلاثاً: (واصباحاه! فاجتمعوا عليه، فقال: يا بني عبد مناف! أليس إذا أخبرتكم أن وراء هذا الجبل خيلاً ستغير عليكم تصدقونني؟ قالوا: ما عرفنا عنك كذباً، فقال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فأعلن دعوته من ذلك المكان الشريف وصدقوه فيما عرفوا فيه من الصدق والأمانة والإخلاص والنزاهة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088463027

    عدد مرات الحفظ

    776872951