إسلام ويب

معرفة اللهللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اهتم العلماء بالعلم حتى ألفوا فيه منظومات يسهل حفظها وفهم مضمونها، والشيخ هنا يشرح بعض أبيات من منظومة في العقائد، بين فيها معرفة الله من جهة وجوبها وطريقة تحصيلها.

    1.   

    الغاية والهدف من دراسة علم العقائد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد من الله علينا بإكمال شرح نظم الشيخ المتعلق بالعقائد، وقد ترك الشيخ حفظه الله تعالى التفصيل في بعض المسائل اعتماداً على تفصيل ذكره في نظمه لجامع خليل ، فإن أصل الكتاب كان نظماً لمختصر خليل في الفقه المالكي، وكذلك نظم في آخره الجامع لـخليل نفسه.

    هذا الجامع كتاب يجمع العقائد والآداب والأخلاق الشرعية، وكثيراً من الأحكام المتعلقة بالسلوك عموماً، قد نظمه الشيخ في حوالي خمسمائة بيت، والمبحث العقدي منه بين أيدينا اليوم، وهو أبيات قليلة تضيف بعض التفصيلات لما سبق، ومع هذا فقد تقيد الشيخ في أغلبها بترتيب خليل، فليست العهدة الكاملة فيما يذكر هنا على الشيخ بل العهدة مشتركة، فمنها ما هو على خليل بن إسحاق المالكي مؤلف المختصر للتوضيح وغيرهما.

    يقول الشيخ حفظه الله:

    فيلزم القاصد نهج الجنه لكي تسير النفس مطمئنه

    أن يمعن النظر في الدلائل ويستدل لوجود الفاعل

    بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدّله

    بين في هذه الأبيات فائدة دراسة هذا العلم، فكل عمل لا يعرف الإنسان هدفه لا يمكن أن يقومه.

    ومن هنا فدراستنا لأي علم من العلوم لابد أن نحدد لها هدفاً حتى نستطيع تقييمها ومدى استفادتنا منها، وهل وصلنا إلى النتيجة المرضية المطلوبة أو لم نستفد ولم نصل إلى تلك النتيجة؟

    فهدف دراسة علم العقائد هو معرفة الله سبحانه وتعالى وحصول اليقين في قلب المؤمن، أي: زيادة إيمانه وثباته واستقراره، وهذا اليقين الذي يحتاج إليه الإنسان في كل أموره تطلب زيادته في المجال العقدي أكثر من زيادته في غيره، ومنطلقه من البحث على الدلائل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111] ، هذا مبدأ اليقين كله.

    فمبدأ اليقين أن يبحث الإنسان عن الدليل في كل أمر حتى لا ينطلق من مجرد الخلط والجهل وحتى يكون على بصيرة من أمره في كل ما يعتقد أو يقول.

    ومن هنا قال: (فيلزم القاصد نهج الجنه)، أي: يجب على السالك طريق الجنة، أي: المؤمن الذي يريد رضوان الله سبحانه وتعالى وجنته.

    (لكي تسير النفس مطمئنه) معناه: لكي يختم له بحسنى فتكون نفسه وقت الممات من النفوس التي تخاطب فيقال لها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي[الفجر:27-29].

    (لكي تسير النفس) معناه: تخرج من هذه الدنيا -وهي سائرة لا محالة، (مطمئنة) أي: لتكون كذلك، والنفوس ثلاثة أقسام:

    الأول: النفس المطمئنة، وهي التي حصل لها اليقين واستقر فيها الإيمان وثبت.

    الثاني: النفس اللوامة، وهي التي آمنت ولكنها لم يكتمل فيها اليقين بعد.

    الثالث: النفس الأمارة بالسوء، وهي التي تنتاب صاحبها الشكوك والأوهام، وكل هذه النفوس للمؤمن، وللكافر تقسيمات أخرى.

    1.   

    الحث على طلب المراتب السامية

    ويجب على الإنسان أن يطلب أعلى المراتب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة) ، ونهى أن يسأل بوجه الله الكريم إلا الفردوس الأعلى من الجنة، فلا ينبغي للمسلم أن يرضى بالدون، بل معرفة الله تعالى تقتضي من الإنسان أن يكون ذا همة عالية تسمو به إلى المراتب العلية فيتعلق بما عند الله سبحانه وتعالى، ويتدرج في درجات الإيمان، ويحاول زيادة الاطمئنان كلما تقدم به العمر إلى أن يكون خير عمره آخره، فحينئذٍ يبلغ المستوى المطلوب، ويقدم على الله سبحانه وتعالى وهو عنه راضٍ، وهذا هو الهدف المطلوب من التعرف عليه.

    فنحن محتاجون إلى أن نعرف ربنا لنحبه ونتعلق به ونطلب ما عنده، ونثبت إيماننا وطمأنينتنا ويقيننا، ولهذا فإن إبراهيم عليه السلام الذي وصل إلى مقام الخلد، قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260] ، وهذا امتحان امتحنه الله به، ( أولم تؤمن )، فهو قد طلب وقد حدد هدفه في مطلبه، لكن الله امتحنه فقال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ[البقرة:260] ، وهو يعلم أنه قد آمن، فنجح إبراهيم في هذا الامتحان كغيره من الامتحانات، ولذلك قال الله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ[البقرة:124] ، ولهذا استحق الإمامة، قال: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا[البقرة:124] ، ولذلك يقول العلماء: إذا جمع المرء بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، لقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24] .

    1.   

    مواطن الحاجة إلى اليقين

    والمرء أحوج ما يكون إلى اليقين في حالين:

    الموطن الأول: حالة الفتنة

    الحال الأول: حال الفتنة والشبهة، فعندما يأتي ليل الفتن وسيلها الجارف يحتاج المؤمن إلى ما يثبته، وهو هذا اليقين الذي يجعله لا ينجرف وراء الفتن ولا يذهب وراء كل ناعق، ويمسك بالمحجة البيضاء لا يميل عنها يميناً ولا شمالاً ولا يسلك بنيات الطريق ولا أبواباً مفتحة.

    وهذا الحال يذكرنا بحالنا اليوم، فالفتن تزداد في آخر الزمان، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفتن فقال: (يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا) ، فكم شاهدنا من الناس من نرى بحسب الظاهر -والسرائر علمها إلى الله- أنه يبيع دينه بعرض من الدنيا.

    هذا من هذه الفتن التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلذلك يجب على المسلم أن يستمسك باليقين، فإذا عرض عليه بيع دينه بأي ثمن تذكر أن هذا الدين هو هو، وأن بيعه له خسارة في الدنيا والآخرة، وأنه إن لم يسلك طريق إبراهيم فقد سفه نفسه كما شهد الله وهو عليم بذلك: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة:130] .

    ومن هنا فعليه أن يثبت وأن يعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن ما كتب له لابد أن يناله، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وليتذكر هذا عند كل الصدمات والأزمات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.

    فإذا جاءت أية نازلة وأية فتنة فإن أهل الإيمان يثبتون ويراجعون أنفسهم ويتذكرون أول ما يتذكرون اللجوء إلى الله والعلاقة به، ومن هنا لا يستفزون بهذه الفتنة فينجون منها: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27] .

    الموطن الثاني: وقت الموت

    الحال الثاني الذي يحتاج فيه إلى اليقين: هو وقت الإدبار عن هذه الدنيا والإقبال على الآخرة، عندما تخور الجوارح وتضعف، فذلك مدعاة لضعف العقل والتصور، والإنسان في ذلك الوقت محتاج إلى ما يثبته وهو أحوج أحواله إلى اللطف، ولذلك قال خليل رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه هذا: (ونسألك اللطف والإعانة في جميع الأحوال وحال حلول الإنسان في رمسه.

    فحال الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة يحتاج فيه الإنسان إلى اليقين والثبات، ولذلك قال أحد سلفنا الصالح:

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    هذا وقت الثبات.

    فما يدل لنا منهاج جهم بمنهاج ابن آمنة الأمين

    فالثبات على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تبديله وتحريفه بأي شيء يحتاج إليه الإنسان في وقت ضعفه وكبره وعجزه وانقطاعه عن الدنيا وإقباله على الآخرة.

    أأرجع بعدما رجفت عظامي وكان الموت أقرب ما يليني

    1.   

    أمور يتحصل بها اليقين

    فلذلك قال: (لكي تسير النفس مطمئنه)

    ماذا يلزمه؟

    أن يمعن النظر في الدلائل، وإنما يحصل اليقين بأمرين:

    الأمر الأول: نظري.

    والأمر الثاني: عملي.

    فالأمر النظري: هو استعمال الدلائل؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى[البقرة:260] .

    والأمر العملي هو زيادة التقرب إلى الله تعالى لتأتي مواهبه التي وعد بها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا[الأنفال:29] .

    فالإنسان محتاج إلى هذين الأمرين، ولذلك فالعلم كله ينقسم إلى علمين:

    - علم مكتسب، وهو: العلم الصادر عن طريق الدلائل.

    - وعلم لدني، أي: موهوب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا نتيجة العمل، فيوازي الإنسان بين هذين الجانبين، ويزيد علمه بالعمل فيتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، ويكثر من النوافل فيفتح الله له فتوحاً نافعة.

    وكذلك يزيد علمه بالاستطلاع والدلائل ويهتم بهذا الجانب النظري أيضاً فلا يتكل على أحد الجانبين وحده بل يسير في خطين متوازيين لابد من اجتماعهما؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول يشمل الاعتقاد، وعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فلابد من إمعان النظر في الدلائل.

    والدلائل جمع دليل، والدليل في اللغة يطلق على المرشد، ومنه قول الشاعر:

    إذا حل دين اليحصبي فقل له تزود بزاد واستعن بدليل

    سيصبح فقيع أكتم الريش واقعاً بقال قلا أو من وراء دبيل

    فقوله: (واستعن بدليل)، أي: بمرشد في المتاهات والمسافات الشاسعة.

    ويطلق كذلك على الأمارة، ومنه قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا[الفرقان:45-46]، أي: جعلنا الشمس عليه علامة، فإذا وجدت الشمس وجد الظل وإذا غربت عدم الظل.

    وهو في الاصطلاح: ما يثبت الشيء، وللأصوليين والمناطقة اصطلاحات في تعريف الدليل، فالأصوليون يقولون: الدليل هو ما يحصل بصحيح النظر فيه العلم بمطلوب الخبر، وبعضهم يقول: ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والفرق بين التعريفين: أن التعريف الأول يقتضي أن الدليل هو ما أدى إلى القطع فقط، وغيرها لا تسمى دلائل وإنما تسمى أمارات، وهذا اصطلاح لبعض المتكلمين، فتقيد به بعض الأصوليين.

    والقول الثاني أرجح وهو: أن الدليل هو ما يؤدي صحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري سواء كان ذلك باليقين أو بالظن.

    وقولنا: (ما يؤدي)، أي: بعد الأخذ به، فالدليل سابق على المدلول، فإذا كنت تريد معرفة حكم شرعي، فاعلم أن الآية قد نزلت، وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر بهذا، فأمر الله المنزل من عنده هو الدليل، وهو سابق على المدلول وهو معرفتك أنت بالحكم الذي طلب منك.

    فمثلاً: وجوب الوضوء مطلوب خبري، والمطلوب معناه: ما يتعلق به الطلب، وهو الذي يكون قبل الاستدلال دعوى ووقت الاستدلال مطلوباً وبعد الاستدلال نتيجة؛ لأنه نتيجة الدليل، فله ثلاثة أحوال:

    قبل الاستدلال.

    ووقت الاستدلال.

    وبعد الاستدلال.

    فهذا هو الذي يسمى مطلوباً، وهو إما أن يكون إنشائياً وإما أن يكون خبرياً، فالإنشائي تنطلق فيه من نفسك ولا تحتاج فيه إلى غيرك؛ لأنه إيقاع توقعه مثل: بعت واشتريت وأعتقت.

    والخبري المنسوب إلى الخبر، والخبر هو ما يقبل الصدق والكذب لذاته، أي: يمكن أن يكون صادقاً ويمكن أن يكون كاذباً لذاته بخلاف الإنشاء، فهو لا يقبل الصدق والكذب لذاته ولا يسمى خبراً، لكن إن كان الخبر لا يقبل الصدق والكذب لكن لا لذاته بل للمتكلم به ككلام الله تعالى، والخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقبل التكذيب أبداً بل هو صدق قطعاً؛ لكن عدم قبوله للكذب ليس راجعاً إلى ذات الخبر وإنما هو راجع إلى المتكلم به، وهكذا.

    1.   

    أقسام الدلائل

    والدلائل تنقسم إلى قسمين:

    - دلائل نقلية.

    - ودلائل عقلية.

    والدلائل العقلية مقدمة على الدلائل النقلية من ناحية التصور؛ لأن الإنسان قبل أن يصدق بالنقل لابد أن يعتمد على قناعة عقلية به، فمن لم يصدق بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته لا يمكن أن يقتنع بالقرآن أو بالحديث، لكن إذا اقتنع عقلياً بالمعجزة وبصدق النبي صلى الله عليه وسلم يكون الدليل النقلي حينئذٍ مجبراً له، ومن هنا فالدليل العقلي مقدم على الدليل النقلي في التصور؛ لأنه لا يمكن أن ينطلق الإنسان من مجرد النقل دون أن يعتمد على عقل في إثبات أصل النقل؛ لأن النقل مبني على العقل.

    والدلائل النقلية تشمل التفكر بالآيات المسطورة والأحاديث المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن أقوال الراسخين في العلم والمتفقهين فيه الذين كلامهم نور على نور يشرح ويبين مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    والدلائل العقلية هي: التفكر في آيات الله المنظورة كالنفس، والسماء والأرض وما بينهما، هذه آيات الله المنظورة: وَفِي أَنفُسِكُمْ[الذاريات:21] ، فأول ما يتفكر فيه الإنسان أن يتبصر في نفسه، ثم في السماوات والأرض وما بينهما: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:105-106].

    ويروى أنه قيل لأعرابي: بما عرفت ربك؟

    فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟!

    فاستفاد هذا الأعرابي من الآيات المنظورة فهداه ذلك إلى القناعة بالآيات المذكورة، ولهذا قال: (أن يمعن النظر في الدلائل).

    1.   

    إمعان النظر في الدلائل

    والنظر المقصود به: التفكر في المعقولات، فالنظر هو إعمال النفس، وإعمال النفس ينقسم إلى قسمين:

    إما أن تعمل في الحسيات التي يدركها البصر أو السمع أو الذوق أو الشم أو اللمس، وهذا يسمى تخيلاً، أو أن يتعلق بالمعنويات وهي المعقولات التي يتعلق بها العقل ولا تتعلق بها الحواس، وهذا الذي يسمى فكراً، فهذا الفرق بين التفكر والتخيل، فالتخيل يقع في المحسوسات والتفكر في المعقولات.

    أقسام النظر في الدلائل

    والنظر ينقسم إلى قسمين إلى:

    - نظر صحيح.

    - ونظر فاسد.

    فالنظر الصحيح هو ما تعلق بالشيء من جهة الاستدلال به، فإذا نظرت، وكنت تريد عملاً بخشبة، وتريد أن تعمل بها سريراً مثلاً، فمن أي وجه تنظر؟ هل تنظر في قدمها وبقائها أو في ملكها أو نحو ذلك؟

    هذا النظر فاسد؛ لأنه في غير الوجه الذي ينفع، لكن إنما تنظر في ليونتها وقسوتها، وخشونتها وملوستها، واستقامتها واعوجاجها، وصلابتها وضعفها، لأن هذه هي الجهة التي تنفعك منها.

    كذلك النظر لا يكون صحيحاً إلا إذا كان في الوجه الذي يؤدي إلى المقصود، فإن كان النظر في وجه لا يؤدي إلى المقصود كان نظراً فاسداً، وإعمال النظر يتفاوت الناس فيه بقدر ما آتاهم الله من الملكات والفهم، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، فكل إنسان مخاطب على مقتضى عقله لا على مقتضى عقول الآخرين، وما أداه إليه عقله فقد قامت الحجة به عليه، ولهذا قال: (أن يعمل النظر)، أي: نظره هو.

    و( أل) هنا نابت عن الضمير فـ(أل) تخلف الضمير كثيراً، ومن ذلك: حكايته صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع : (زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب)، معناه: مسه مس أرنب وريحه ريح زرنب، ولذلك جاز الإخبار بالمس عن الزوج، والخبر لابد أن يكون فيه رابط يربطه المبتدأ، ولو كانت (أل) هنا ليست في معنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ تماماً.

    ما علاقة المبتدأ بالخبر في قولها: ( زوجي المس مس أرنب ).

    لو لم تكن أل هنا بمعنى الضمير لكان الخبر منفصلاً عن المبتدأ.

    فكذلك هنا (أن يمعن النظر في الدلائل) معناه: أن يمعن نظره الذي آتاه الله، ولا يجب عليه إعمال نظر الآخرين ولا تتبعهم فيما يتطرقون إليه من أنواع النظر، فكل يخاطب على قدر ما آتاه الله.

    1.   

    أقسام الفاعل من ناحية التقسيم العقلي

    قوله (ويستدل لوجود الفاعل)، فأول ما يتعلق به النظر: أن يستدل لوجود الفاعل، أي: لوجود الله سبحانه وتعالى، وكنى عنه هنا بالفاعل؛ لأنه هو الفاعل بالاختيار، والفاعل، أي: الذي يحدث فعلاً.

    والفاعل من ناحية التقسيم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

    - الفاعل بالاختيار، وهو: الذي لا يتوقف فعله على وجود شرط ولا على انتفاء مانع، وهذا هو الله سبحانه وتعالى وحده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع، يحدث الشيء دون سببه، ويمكن أن ينبت النبات دون مطر، يمكن أن يخلق إنساناً من غير أب ولا أم وأن يخلقه من غير أب، وأن يخلقه من غير أم وهكذا، إذاً: فعله لا يتوقف على الشروط ولا على انتفاء الموانع.

    - النوع الثاني من أنواع الفاعل: الفاعل بالطبع، وهو الذي يتوقف فعله على الشروط وانتفاء الموانع، وذلك مثل فعل الإنسان في حركته وسكونه، ففعله يتعلق بالأسباب، فكل سبب يؤدي إلى شيء آخر وراءه كتحريك مقود السيارة الذي تمسكه بيدك وذلك يحرك شيئاً آخر، وذلك يحرك شيئاً آخر حتى تتحرك السيارة بكاملها، أو الضغط على البنزين فإنك لا تصبه مباشرة في مكان المناسب ولكنك تضغط على الذي يليك وذلك يضخ في مكان آخر وهكذا... حتى يصل الزيت إلى مكان النار.

    فأفعالك إذاً مرتبطة بحصول الشروط وانتفاء الموانع، ومثل هذا الإحراق في النار شرطه الاتصال، فمثلاً: النار ما لم يلامسها الشيء لا تحرقه، وإذا كانت النار هناك وأنت هنا لا تحرقك قطعاً؛ لأن الشرط قد انتفى، وكذلك مقيد بعدم حصول الموانع، إذا كانت المادة نفسها غير قابلة للاحتراق فوضعت على النار فإنها لا تحترق، أو عزلت بعازل حراري فلا تحترق.

    إذاً: الفاعل بالطبع مشروط بحصول الشروط وانتفاء الموانع.

    - النوع الثالث: الفاعل للعلة، وهو الذي لا يتوقف فعله على الشروط ولا على انتفاء الموانع ولا على الاختيار، وإنما يرتبط فعله بفعل آخر كحركة الخاتم لحركة الأصبع، والخاتم في الأصبع كلما تحرك الأصبع لابد أن يتحرك الخاتم عقلاً، ولا يمكن أن يتصور العقل أن الأصبع يتحرك ولا يتحرك الخاتم، لكن الخاتم ما له اختيار الحركة، ولا تتوقف حركته هنا على شرط ولا على انتفاء مانع؛ لأنها تابعة لغيرها بالكلية.

    فالاستدلال لوجود الله سبحانه وتعالى سابق على الاستدلال بغير ذلك من صفاته وعلى الاستدلال للنبوة، وعلى الاستدلال لصدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك سابق على الاستدلال على جزئيات ما جاء به من الشرع كالطهارة والصلاة والصيام وكترك المحرمات وغير ذلك، فكل هذه الأمور متدرجة.

    1.   

    طرق المعرفة

    بماذا يستدل لوجود فعال؟

    طرق المعرفة ثلاثة هي:

    - العيان وهو: المشاهدة.

    - أو المثال وهو: النظير، أي: أن تقيسه على نظيره.

    - والآثار، وهذا القسم الثالث.

    والله سبحانه وتعالى يستحيل أن تعرفه في هذه الدنيا عن طريق العيان لقوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الأنعام:103].

    ويستحيل في حقه كذلك المثال؛ لأنه يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] ، فلا يمكن أن يقاس على أي شيء، وكل ما سواه فهو مغاير له مخالف له، فلم يبق إلا معرفته بفعله وآثاره.

    يقول أحد العلماء وهو محمد الفالو المتالي رحمه الله:

    وطرق المعرفة الكبار عيان او مثال او آثار

    فأول منعه الجبار إذ قال لا تدركه الأبصار

    والثاني أيضاً منعه بالنقل لأنه ليس له من مثل

    لم يبق بعد ذا سوى آثار قدرته في العالم السيار

    ترى آثار قدرته في هذا العالم المتحرك كله، وهذا دليل على وجوده.

    قوله: (ليحصل اليقين له)، هذا هو المقصد وهو الهدف وهو أصل كل شيء، فإذا حصل اليقين بقذف قذفه الله في قلب العبد لم يحتج بعد هذا إلى النظر في الدلائل، لكن قبل أن يحصل له اليقين لابد أن يبحث في الدلائل، وهذا اليقين منحة ربانية ثمينة يهبها الله تعالى لمن يشاء، كما قال تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[الشورى:13] ، وهذه الآية تضمنت نوعين من أنواع الناس:

    النوع الأول: الذين يجتبيهم الله تعالى ويختارهم فيقذف في قلوبهم اليقين والهداية ولا يستطيعون الممانعة، وتنقاد نفوسهم لذلك طائعة مطمئنة.

    والنوع الثاني: الذين يجاهدون ويكابدون ويستمرون في العمل ثم يتقبل الله منهم ويهديهم، ولهذا قال: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ[الشورى:13] ، هؤلاء لا تتوقف هدايتهم إلا على مشيئة الله: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[الشورى:13] ، من أناب وتاب وعمل الصالحات يهديه الله تعالى، فهذان صنفان من أصناف عباده.

    وقسمة ذلك تابعة لقدره سبحانه وتعالى لا يمكن أن يتدخل فيها الناس، ولا يمكن أن يعترض عليه أحد من خلقه بأي شيء؛ لأنه فعال لما يريد: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] ، فلا يقال (لم؟) في حق الله سبحانه وتعالى، فالسؤال في مثل هذا مرفوع عنه، ولذلك فقد يخرج من البطن الواحد مسلم وكافر.

    بل قد يكون الأخوان الشقيقان أحدهما هو أول من يأخذ كتابه بيمينه والآخر هو أول من يأخذ كتابه بشماله، فـأبو سلمة بن عبد الأسد وأخوه الأسود بن عبد الأسد شقيقان، الأسود قتل يوم بدر كافراً، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بشماله، وأبو سلمة أسلم قديماً بمكة وأوذي في الله وهاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة ومات في المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي أنه أول من يأخذ كتابه بيمينه وهما أخوان شقيقان، فلله الحكمة يفعل ما يشاء ويختار.

    والمقصود من قوله: ( بفعله )، أي: بأفعاله كلها، وهذا من إضافة المفرد إلى الضمير وإضافة المفرد إلى الضمير تقتضي عمومه كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ[الأحزاب:50] ، فالمقصود هنا العموم لا خال واحد، ولا عم واحد، وكذلك قول الشاعر:

    بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب

    فلا يقصد جلداً واحداً؛ لأن الحيوانات الحسراء، أي: التي ماتت من الجوع والجهد والضنك، لا يمكن أن يكون لها جلد واحد، بل كل بهيمة لها جلد مستقل ( فأما عظامها فبيض وأما جلدها -أي: جلودها- فصليب )، الصليب هنا فعيل يوصف به المفرد والجمع والمثنى وغير ذلك، ومنه:

    خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير مرت

    وأيضاً:

    يعادين من قد بدا شيبه وهن صديق لمن لم يشب

    وكذلك قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ[التحريم:4] ، ففعيل يوصف به المفرد والمثنى والجمع.

    1.   

    أقسام أفعال الخالق سبحانه و تعالى

    وأفعال الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين:

    - أفعال مباشرة: كخلق السماوات والأرض.

    - أفعال تمر بالأسباب فيسبب تلك الأسباب التي يتوقف عليها غيرها، كخلق الإنسان، فهو يمر بالأسباب التي بينها بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ[المؤمنون:12-14]، وكالصحة والمرض، والغنى والفقر وغير ذلك، فهذه لها أسباب، وهذه الأسباب تنقسم إلى قسمين إلى:

    أسباب كونية.

    وأسباب شرعية.

    فالأسباب الكونية: كالتغذية للنماء، والعلاج للبرء، ونحو ذلك.

    والأسباب الشرعية: كالصدقة للغنى ولطول العمر، ولرفع البلاء، وكالدعاء وصلة الرحم، فهذه أسباب شرعية لا يمكن أن تقاس بالمعايير الدنيوية.

    بفعله ليحصل اليقين له أن له رباً كريماً عدله

    فالدلائل ستوصله إلى معرفة صفاته، وهذا هو القدر الممكن من التعرف إليه، وإنما تعرفه بأفعاله وصفاته وأسمائه، فإذا عرفت ربك بأفعاله وصفاته وأسمائه اقتضى منك ذلك عبادته حق عبادته وتمجيده، وإجلاله وتعظيمه والأدب معه، والعمل بما شرع لك، والرغبة فيما عنده والتوكل والاعتماد عليه في كل الأمور، وأن تستحي منه في تصرفاتك، فهذا مقتضى معرفته، وإلا لم تحصل لك محبة الله، ولا خوفه، ولا رجاءه، ولا شكره، ولا هيبته، ولا الحياء منه، ولا أية صفة من هذه الصفات.

    ومن هنا فالذين يقرءون العقائد دون أن يتدبروا أهدافها تكون في حقهم قسوة للقلوب، وطلاسم وألغازاً، أو نصوصاً تحفظ دون أن يفهم ما وراءها، ودون أن يتأثر بها باطن الإنسان، وهذا مخالف للمقصد والهدف.

    قوله: (ليحصل اليقين له أن له رباً) هذا أول ذلك، فمن صفاته: الربوبية، والربوبية هو التوصيل إلى الكمال شيئاً فشيئاً، وهي الملك والقهر والجبروت، وقد سبق ما يتعلق بذلك من توحيد.

    ثم قال: (كريماً)، وهذا شروع في عد بعض صفاته الأخرى، فمنها صفة الكرم، وهي تشمل أمرين:

    الأمر الأول: الكمال في الذات، ومعناه: أنه متصف بكل وصف الكمال، وهذا معنى الكرم.

    المعنى الثاني: التفضل والجود، وهذا أيضاً داخل في معنى الكرم ويسمى فضلاً أيضاً.

    وقوله: (عدّله)، إذا عرف الإنسان ربه عرف نفسه، وعرف أنه هو الذي لم يكن موجوداً ثم وجد، وأنه هو الضعيف المحتاج الفقير، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:6-8] ، فلا تعرف هذا إلا بإعمال الدلائل.

    وهنا قراءتان في هذه الآية:

    (عدّلك) أو (عدَلك) ومعناهما واحد. أي: سواك وركب أعضاءك وجعلها متقابلة، فطول اليدين متساوٍ وطول الرجلين متساوٍ ولو حصل نقص أو ميل في إحداهما لحصل الاختلال بالكلية.

    وكذلك (عدلَك)، أي: جعلك معتدلاً في هيئتك فاليمين مناظرة للشمال، وهكذا في بواطنك وظواهرك، وهذا كله من آيات الله العجيبة، والبراهين الدالة على إحكام صنعته، وكمال قدرته وعلمه وإرادته، لذلك قال: (أن له رباً كريماً عدله) أو عدّله، ويمكن في البيت التضعيف والتخفيف تبعاً للقراءتين في السورة الكريمة.

    1.   

    الأسئلة

    أول واجب على الإنسان

    السؤال: ما هو أول واجب على الإنسان؟

    الجواب: ذكرنا أنه يجب عليه النظر، لكن لم يتعلق كلامنا: هل هو أول ما يجب عليه أو دون ذلك؟

    وهذا محل خلاف طويل بين أهل العلم في أول واجب على المكلف، وهذا الخلاف نظراً لما طرحه السيوطي رحمه الله فقال:

    أول واجب على المكلف معرفة الله وقيل الفكر في

    دليله وقيل الأول النظر وقيل قصده إليه المعتبر

    وهذه كلها أقوال لأهل العلم لكن مفادها واحد.

    المهم أن أول الأمر هو الإيمان، وهذا الإيمان يترتب على مراحل قبله لا يحصل اليقين إلا بالدخول فيه، كذلك فإن الإيمان لا يتم إلا بعد حصول القناعة بأن الإيمان ليس شيئاً يأتي في لحظة واحدة أو طرفة عين أو بمجرد النطق، بما أنه شعب كثيرة، فهو أول واجب لكنه مع هذا متفاوت متدرج.

    ولهذا قالت طائفة: (أول واجب على المكلف معرفة الله)، وهذا لا شك أنه أعظم واجب، لكن هل هو أول ما يوجه إليك الخطاب به؟

    هذا هدف، والهدف لابد قبله من وسائل.

    (وقيل: التفكر في دليله)، أي: قالت طائفة من أهل العلم: أول واجب على المكلف هو التفكر في دليل وجود الله؛ لأنه هو الذي يقود إلى الإيمان والإيمان يقود إلى اليقين.

    (وقيل: الأول النظر)، أي: وقالت طائفة: بل الفكر مرحلة متقدمة يسبقها النظر، فهو أول واجب، هذا على القول بتجزئة التفكير، ويدل لهذا آيات سورة الطور، قال الله تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ[الطور:29-34] ، .. إلى آخر الآيات.

    قد سبق بيان مراتبها في درس ماض، وبيان أن كل دليل من هذه ينبني عليه ما بعده، بإعجاز عجيب جداً.

    (وقيل: قصده إليه معتبر)، هذا هو القول الرابع: أن مجرد نية التفكر هو أول واجب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ، فلو حصل التفكر دون نية له لم يكن واجباً.

    هذه الأقوال مردها إلى شيء واحد، ونحن لم نخض في هذه؛ لأن الشيخ ما تعرض لها هنا، وهي مسألة كلامية في الواقع لا يمكن حسمها بسهولة؛ لأن كل قول عليه أدلة، والأقوال كلها في معناها متقاربة.

    وبالنسبة لمن يقول: هذا الكلام مصطلحات ما عرفها السلف، يقال له أيضاً: حتى كلمة (مصطلح) التي ينطقها ما عرفها السلف، وحتى كلمة (السلف ما عرفوها)، كل هذه مصطلحات، والكلام لابد فيه من هذا وهو سنة الله الكونية في الكون كله.

    وبالنسبة للواجبات لاشك أن الله سبحانه وتعالى فرض فرائض وأوجب واجبات، ولاشك أن هذه متدرجة متفاوتة، ولاشك أن دخولك في الإيمان ونطقك بالشهادتين موجب عليك حقوقاً، وهذه الحقوق متدرجة مترتبة، لكننا في الصلاة نعرف أول واجب منها، على الخلاف فيه أيضاً، فما هو أول واجب منها؟

    أول واجب منها تكبيرة الإحرام، وهذا القول قال به بعض أهل العلم لكن أنكر عليه بأنه يجب القيام قبلها؛ لأن التكبيرة لابد أن تكون بعد القيام، والنية مصاحبة لها؛ لأن النية مع نفس التكبير، وقالت طائفة أخرى: الواجب غير تكبيرة الإحرام، وهو الطهارة، والطهارة ما هي الواجبة منها؟ هل هي الوضوء؟

    فأول واجب منها: غسل الوجه، وقالت طائفة: بل الاستنجاء والاستجمار واجب سابق عليه، وهكذا.

    إذاً: الأقوال مثل هذه وترتيبها مثل ترتيبنا نحن للفقه، وما عرفه السلف، ولا عرفوا أن باب الطهارة قبل باب المواقيت، وأن باب المواقيت قبل باب فرائض الصلاة، وأن باب فرائض الصلاة قبل استقبال القبلة وهكذا...

    هذه ما عرفها السلف، لكن لا نستغني نحن عن هذا، ومن أنكر هذا الترتيب فيما يتعلق بأول واجب على المكلف ينبغي أن ينكر أيضاً الترتيب بين أبواب الطهارة والصلاة والجنائز والزكاة والحج والصوم؛ لأن مجرد أن السلف ما عرفوا هذه ليس حجة، وارجع أنت إلى حياتهم وكن في عصرهم واترك عنك حتى ما توصل إليه العلم الحديث وما توصلت إليه الدنيا السائرة كلها، وارجع إلى هناك فانظر هل تحتاج إلى مثل هذا أو لا؟

    لكن الاختراع وليد الحاجة، والزمن مستمر متقدم وقطاره منطلق، وكل عصر يحتاج أهله إلى كثير من الأمور لا يحتاج إليها من سبقه.

    وبالنسبة لترتيب الواجبات وكذلك ترتيب العلوم، هو من الوسائل المتخصصة التي تبقى لأهل الاختصاص وإنما يبحثها طلاب العلم وأهله فقط، أما بالنسبة لمن يدعى إلى الإسلام فلا يقال له أولاً: لابد أن تنوي الدخول في الإسلام، ولابد أن تنوي الاغتسال، ولابد أن تنوي الصلاة، بل نجعله يصلي أولاً في البداية حتى لو كانت الصلاة باطلة في حق غيره، ولذلك يتجاوز عن الشخص الحديث عهد بالإسلام حتى في مسائل العقائد.

    ولما تزوج منظور بن زبان بن سنان بزوجة أبيه مليكة في خلافة عمر ، ورفع الأمر إلى عمر سأله: هل قرأت عليك سورة النساء؟

    فقال: لا.

    فحلفه خمسين يميناً ما سمع سورة النساء، وفيها قول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ[النساء:22] ، ثم رفع عنه الحد بذلك، ولذلك فحديث العهد بالكفر يعفى عنه في بعض الأمور فقط، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، ولذلك فإن منظور بن زبان بن سنان يقول:

    ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر

    أقسام النفس الكافرة

    السؤال: ما هي أقسام النفس الكافرة؟

    الجواب: النفس الكافرة تنقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام إلى:

    - نفس ميتة.

    - ونفس مريضة.

    - ونفس على الفطرة.

    النفس الميتة هو الكافر الذي قد طبع على قلبه ولا يمكن أن يهتدي، وسبقت له سابقة الشقاوة، نسأل الله السلامة والعافية، أي: لو رأى كل آية لا يمكن أن يؤمن.

    والنوع الثاني: النفس المريضة، وهو الكافر الذي قد رين على قلبه، فيمكن أن يكون من المؤلفة قلوبهم ويعطى على الإسلام.

    والقسم الثالث الذي هو على الفطرة، وهو من وجد آباءه يقولون شيئاً فقاله، ولكن إذا سمع الحق استجاب له إذا هداه الله لذلك.

    الكلام الذي يقبل الصدق والكذب

    السؤال: أريد أن تذكر أمثلة على الكلام الذي يقبل الصدق والكذب.

    الجواب: ذكرنا أن الكلام قد يقبل الصدق والكذب لذاته، ولكنه لأمر خارج عن ذاته لا يقبل الصدق والكذب، والسؤال هنا عن أمثلة لذلك.

    فمن أمثلته: كلام الله، فكلام الله صدق كله، لكن لو جاء ما فيه من الخبر ولم يكن الذي تكلم به هو الله لكان قابلاً للتكذيب، لكن بعد أن تكلم الله به اقتضى العقل والنقل والفطرة تصديقه وعدم تكذيبه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا[النساء:87] .

    ثانياً: كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن المعجزات اقتضت من العقول أن تؤمن بصدقه، وكذلك الوحي فالخبر بتصديقه من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه أمينه على وحيه يقتضي صدقه في كل ما أخبر به، فلو لم يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي هو خبر، لكان العقل يبيح أن يكون صدقاً وأن يكون كذباً، لكن بعد أن تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق مجالاً إلا لتصديقه عقلاً ونقلاً وفطرةً أيضاً.

    القسم الثالث: ما صدقه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، فما صدقه الله مثل قوله تعالى في تصديقه لملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً[النمل:34] ، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ[النمل:34] ، فهذا الكلام كان قابلاً للصدق والكذب قبل أن يصدقه الله، لكن بعد أن صدقه الله لم يعد قابلاً لذلك.

    أو صدقه رسوله صلى الله عليه وسلم كحديث أبي هريرة حين أتاه الشيطان فأخبره أن آية الكرسي من قرأها في ليلة لم يقربه شيطان وكان عليه من الله حافظ، فهذا الكلام قبل أن يصدقه النبي صلى الله عليه وسلم كان قابلاً للصدق والكذب، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، فوجب صدقه.

    القسم الرابع: ما تواتر نقله، فالمتواتر يحصل اليقين بصدقه؛ لأن العدد الكبير الذين لا يجمعهم هدف ولا مكان ولا سن إذا أخبروا عن مشاهد محسوس قد رأوه أو سمعوا من مثلهم يستحيل تواطؤهم على الكذب في العادة، فيحصل اليقين بصدق ذلك، لكن هذا التواتر خارج عن الخبر، فأنت حصل لديك اليقين بوجود البيت الأبيض الأمريكي وإن كنت لم تشاهده، لكن لا تستطيع إنكاره اليوم، فأنت موقن بوجوده، وحصل لك اليقين بوجوده وهو خبر لا لأن الله تكلم به، ولا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، ولا لأنه جاء تصديق ذلك بالوحي، لكن بالتواتر، فقد تواتر عندك فلا تستطيع تكذيب ذلك، لكن الخبر قبل أن يتواتر كان قابلاً للصدق والكذب.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952087