يقول الشيخ حفظه الله:
[ويتكلم متى شاء بما شاء .....................]
التكلم صفة كمال لله عز وجل، وكلامه تعالى شرعي وكوني.
والكلمات الشرعية لها ميزات:
الميزة الأولى: هي الاختيار لها، فإن الله سبحانه وتعالى يصطفي لهذه الكلمات من شاء من خلقه، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124] ، في القراءة الأخرى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته) وهنا بحث دقيق وهو في تفسير قوله: (رسالته) و(رسالاته) ما الفرق بينهما؟
والجواب: أن قوله (رسالته) هي الشريعة بكاملها، وقوله (رسالاته) هي الأحكام على كثرتها، فكل حكم رسالة بخصوصها، مثلما تكتب رسالة إلى شخص في أمر تريده ثم ترسل إليه رسالة أخرى، فكل ذلك يسمى رسالة وتجمع على رسائل، فكذلك نزول الملك بسورة أو بآيات يسمى رسالة، والشريعة بكاملها تسمى رسالة، فلهذا جمعت تارة وأفردت أخرى، وبهما قرئ في هذه الآية.
وكذلك قوله تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالتِي وَبِكَلامِي) وفي القراءة الأخرى: بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي[الأعراف:144] ، فهذا باعتبار الأحكام المنزلة عليه.
والاصطفاء المذكور أيضاً في قوله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ[الحج:75] ، فهو اجتباء مخصوص، ولا يمكن أن يكون هذا لكل البشر، بل قال تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ[الشورى:51] .
كذلك من مميزات هذا النوع من الكلمات -أي: الكلمات الشرعية- أنه محصور في الكتب المنزلة، وقد ختمت بالقرآن، فلا يمكن أن ينزل منه شيء بعد القرآن، وختم التشريع أيضاً ببعض القرآن وهو قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً[المائدة:3] ، فعلى هذا قد اكتملت الكلمات التشريعية، وما رضيه الله لخلقه من الشرائع قد أكمله عندما أنزل هذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة في حجة الوداع.
الميزة الثالثة: التفاوت في التشريع، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في الكلام على النسخ فتتنزل شريعة تصلح لمدة محددة ثم تنسخ بشريعة أخرى، ويبقى ذلك الكتاب غير صالح للتطبيق فيما بعد، ولكن يجب الإيمان به بأنه كتاب منزل من عند رب العالمين، والكتب التي تأتي بعده تأتي مصدقة لما فيه من الأخبار ملزمة للإيمان به، كما قال تعالى: مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ[البقرة:97] .
الميزة الرابعة: أن هذه الكلمات محصورة العدد، فالقرآن -مثلاً- محصور العدد، حتى حروفه محصورة وكلماته محصورة وسوره محصورة وآياته محصورة، فسوره مائة وأربع عشرة سورة، وكلماته معروفة عددها، وحروفه معروف عددها، وذلك بخلاف ما سنذكره في الكلمات الكونية، وهذه الكلمات الشرعية يقع فيها التبديل والنسخ، فليست مقصودة بقوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ[الأنعام:34] ، بل هذه الكلمات يقع فيها التبديل كما قال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[النحل:101] ، ومن هنا ترد دعوى النصارى التي يروجون لها اليوم في الكتب الخضراء التي طبعوها في أمريكا لترويج المسيحية والتي يقولون فيها: إن الإنجيل ثبت في القرآن أنه كلام الله، وثبت في القرآن أيضاً: أنه لا مبدل لكلمات الله، فلا يمكن أن يبدل ولا أن يغير، فكيف تزعمون أننا غيرنا فيه أو بدلنا؟
فيجاب: بالقول بعدم توارد الآيتين على محل واحد، فالإنجيل كلام الله من الكلمات التشريعية، والكلمات الكونية هي التي لا تبديل فيها؛ لقوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ[الأنعام:34].
فالكلمات التشريعية تبدل حتى في القرآن؛ لقوله: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ[النحل:101].
أما الكلمات الكونية فهي كلمات الفعل التي يخلق الله بها خلقه ويدبر بها أمره، وهذه تمتاز بأنها يخاطب بها كل شيء من خلق الله، ولا يجتبى لها ولا يختار، بل يخاطب بها المؤمن والكافر والشجر والحجر وغير ذلك فيقال للشيء (كن فيكون).
وهذه الكلمات تمتاز أيضاً بأنها لا حصر لها ولا يمكن أن تعد، كما دلت على ذلك الآيات: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي[الكهف:109] معناه: الكلمات الكونية: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي[الكهف:109]، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ[لقمان:27] ، ولا يقصد به هذا القرآن، فأنت تستطيع أن تكتبه بيدك ولا تنفذ أقلامك ولا مدادك، لكن المقصود الكلمات الكونية التي لا تنحصر.
وهناك ميزة أخرى للكلام الكوني: وهو أنه مستمر لا انقطاع فيه، فهو الذي به تدبير الأمر كله في الدنيا والآخرة، وهذا الكلام نسب إلى الكوني بلفظة (كن)؛ لأنه جاء فيه لفظ: (كن)، في قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40] ، ولقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82] ، فهي تكوينية، وليس معناها أنها منسوبة إلى الكون، بل هي منسوبة إلى (كن) التي هي فعل أمر التكوين، فبها يكون الله ما شاء من خلقه؛ ولهذا يخاطب بها العاقل وغير العاقل، ويخاطب بها الكافر والمؤمن.
فالكلمات التشريعية يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، فالبر إذا جاءه أمر الله الصريح في القرآن: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ[الطلاق:7] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ[المائدة:6] امتثل ذلك، والفاجر إذا جاءه هذا لم يمتثل.
فإذاً: ليس فيها إجبار ولا إكراه، بل فيها تخيير فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف:29] ومعناه: أن الكلمات الشرعية هي تشريعات هذا التشريع، أما الكلمات الكونية فإنها تسيير لا محيد عنه، ولا يستطيع أي شيء أن يخالفه؛ فلذلك هي التي لا يتعداها بر ولا فاجر، فالبر إذا قيل له: مت، لا يستطيع أن يمتنع، والفاجر إذا قيل له: مت، لا يستطيع أن يمتنع، فالنفوس جميعاً بيد الله، وإذا قال: (كن) لا يستطيع شيء أن يتخلف ولا أن يتأخر ساعة ولا أن يتقدم: لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34] .
(والتكلم): صفة كمال، ولهذا يعد كلام الله تعالى من صفات كماله، فهو مقتضٍ للكمال بنوعيه: الكلام الكوني والكلام التشريعي، فالكلام الكوني متضمن للكمال من جهة أنه لا يحتاج إلى معالجة ولا إلى أسباب، فهو الغني الحميد لا يحتاج إلى أي شيء من خلقه، أما المخلوق فإنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بمعالجة وتعب ونصب، والله سبحانه وتعالى يخلق الأشياء بقوله: (كن) فيكون، فلا يحتاج إلى أي معالجة؛ ولهذا كان الكلام هنا صفة كمال.
كذلك الكلمات التشريعية صفة كمال؛ لأن بها الاختيار التفضيلي، وبها الامتحان للناس، وبها البيان وبها الإعجار والتحدي: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ[البقرة:23] ، فهذا كله يقتضي وصف الله سبحانه وتعالى بالتكلم.
وهذا التكلم لا يحل البحث في كيفيته، ولكن يجب الإيمان بعظمته وجلاله؛ ولهذا لم يرد شيء في وصف التكلم إنما جاء في وصف الكلام، إلا آية واحدة من كتاب الله جاء بها ما يشعر بهيئة التكلم، وهي قوله سبحانه وتعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] فبين هنا أن الملائكة عليهم السلام إذا تكلم الله عز وجل بشيء من أوامره تغشى قلوبهم ذلك؛ لجلال الله وعظمته وجلال كلامه، ففزعوا هذا الفزع الشديد، ثم يفزع عن قلوبهم أي: يزول عنها ما بها من الفزع.
والتفزيع معناه إزالة الفزع، والمقصود به إعادة الطمأنينة ورجوع التفكير، ففي وقت الكلام لا يمكن أن يتدبروا ولا أن يتفهموا إجلالاً لله ولكلامه، فإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23] وهذا يشعر بعظمة تكلم الله سبحانه وتعالى في الملائكة الذين وصفهم الله بالقوة والشدة: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ[التكوير:20] ومع ذلك إذا تكلم الله سبحانه وتعالى وصلوا لهذا الحال، بحيث لا يفهمون ولا يستوعبون وإنما يقولون: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)؟ وإنما يستوعب منهم من خصصه الله لذلك وهيأه له وهم المصطفون منهم في قوله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً[الحج:75] ، ولذلك يسألهم بقية الملائكة عما وجه إليهم: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ[سبأ:23].
وكذلك كتابة هذا الكلام الكوني أو التشريعي من صفات الكمال، فقد كتب الله الكلمات الكونية قبل خلق الخلق كلهم، فأمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فجرى بذلك: رفعت الأقلام وجفت الصحف، وجعل ذلك في صحف عنده فوق العرش.
والكلمات التشريعية كذلك يكتبها، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وأنزل على إبراهيم صحفاً وعلى موسى صحفاً، وكذلك القرآن فإنه مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه وتعالى في وصف القرآن: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ[البروج:21-22].
وقد اختلفت القراءة في هذه الآية فجاء في بعض القراءات السبعية: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (فِي لَوْحٍ محفوظٌ) أي: قرآن مجيد محفوظ في لوح، وفي بعضها: (في لوح محفوظٍ) أي: أن اللوح نفسه هو المحفوظ، فاللوح حافظ ومحفوظ، محفوظ بأمر الله بحيث لا يمكن أن يطلع عليه إلا من اختاره الله لذلك، وحافظ لأنه يحفظ ما كتب فيه من القرآن المجيد، وقد اشتهر على الألسنة اللوح المحفوظ، مع أنه يمكن أن يوصف أيضاً بأنه حافظ، والعرب يقولون: كتاب حافظ، بمعنى: كتاب جامع، ويقولون: بنو فلان لا يحيط بهم كتاب حافظ، معناه: كتاب يجمع أسماءهم.
والله سبحانه وتعالى يتكلم، وقد أثبت ذلك كما قال: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً[الشورى:51] ، وكلامه صفة من صفاته الاختيارية، وهذا معنى قوله: (متى شاء بما شاء كما شاء)، فهو صفة اختيارية.
ومعنى الصفة الاختيارية: الصفة المتكررة التي تتعلق بالمشيئة والإرادة، فكل صفة تعلقت بالمشيئة والإرادة وكانت متكررة فهي من الصفات الاختيارية، أما الصفات التي لم يرد تعليقها بالإرادة كالاستواء ونحوه فلا تعد من الصفات الاختيارية، بل هي من صفات الأفعال فقط، والصفات المعلقة بالإرادة هي مثل: الإحياء والإماتة والخلق والرزق وإنزال المطر وغير ذلك، فهذه كلها معلقة بالمشيئة.
قال: (ويتكلم متى شاء):
معناه: في أي ساعة شاء، وفي أي وقت شاء، فالكلمات التشريعية قد تكلم بها في الوقت الذي شاء وأكمل تشريعه، والكلمات الكونية لا يزال يتكلم بما شاء منها (يتكلم متى شاء بما شاء).
[ كما شاء ].
معناه: أن كلامه التشريعي يأتي بلغات مختلفة على ما شاءه الله سبحانه وتعالى، فتارة ينزله بالعبرية وتارة بالعربية.. وغير ذلك، فيتكلم بأية لغة شاء، وينزل بها كلامه، وهذا معنى قوله: (كما شاء).
وأيضاً: فإن ذلك الكلام تارة يكون محكماً وتارة يكون متشابهاً، وكلٌ من عند الله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[النساء:78] ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[آل عمران:7] ، فكل من عند ربنا، بمعنى أنه هو الذي شاء لهذا أن يكون مجملاً، وشاء لهذا أن يكون متشابهاً، لذلك قال: (كما شاء).
ثم تكلم على الكلام الكوني بعد الكلام التشريعي فقال:
[...................... .............. لو أن الكلم
مداده البحر بسبعة أمد وشجر الأرض قلام ما نفد]
(لو ان) هذا بنقل الهمزة وهي قراءة ورش عن نافع في كل القرآن. (لو ان الكلم)، معناه: لو أن الكلم وهو اسم جنس وواحدته: كلمة، والمقصود به: كلام الله الكوني.
(مداده البحر بسبعة أمد) البحر المقصود به: ما يعرفه الناس من المحيطات والبحار والأنهار، فكلها يطلق عليها البحر؛ لأن (أل) التي فيها جنسية.
(بسبعة أمد) معناه: بسبعة أبحر غير المعروفة، فهذه الأرض ما فيها كله بحر واحد، فهو المقصود هنا، واليبس من الأرض حوالي الربع فقط وكل البقية بحار، ومع ذلك فهذا البحر المعروف لدنيا، وهو ما في الدنيا من الماء كله، سواء كانت بحاراً أم محيطات أو أنهاراً أو بحيرات أو بحيرات جوفية؛ كل ذلك داخل في قوله: بحر، (لو أمد) هذا البحر بسبعة أبحر من مثله ما نفدت كلمات الله، وعدد السبعة كما ذكرناها من قبل له سر الله أعلم به، ولكن المقصود هنا المبالغة، أي: أنه لا يمكن أن يحتوي مخلوق أياً كان هذه الكلمات الكونية.
(وشجر الأرض قلام): كذلك لو أن شجر الأرض كله كان قلاماً، وقلام: جمع قلم، وأقلام أيضاً جمع قلم.
(ما نفد): أي: هذا الكلام، وهذا مأخوذ من الآيتين المذكورتين: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ[لقمان:27] وفي قوله: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً[الكهف:109] .
[ ورحمة سكت عن أشياء من غير نسيان على ما جاء ]
صنيع الشيخ هنا أن الصفات المتقابلة من صفات الله سبحانه وتعالى يذكرها في حيز واحد؛ ليكون ذلك أسهل لفهمها واستيعابها، فعندما ذكر صفة الكلام ذكر الصفة التي تقابلها وهي صفة السكوت، وهي أيضاً صفة كمال؛ لأن السكوت يقتضي المعرفة بما يسكت عنه؛ ولذلك يقول عبد الله بن الزبعرى رضي الله عنه:
فإن أحلف ببيت اللـ ـه لا أحلف على إثم
ما من إخوة بين قصور الشام والردم
كأمثال بني ريطـ ـة من عرب ومن عجم
هشام وأبو عبد مناف مدره الخصم
وذو الرمحين أشباك من القوة والحزم
يكن القول في المجلس أو ينطق عن حكم
فالسكوت إذا كان عن علم فهو صفة كمال، وهذه الصفة لم ترد في القرآن، ولكنها وردت في حديثين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وهذا الحديث وإن كان في إسناده شيء، لكن معناه يشهد له قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا[المائدة:101] ، وكذلك يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
والحديث الثاني: هو قوله صلى الله عليه وسلم: (وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) فهذا أيضاً شاهد للسابق في إثبات صفة السكوت، وكلا الحديثين يصل إلى درجة الحسن فيكون بذلك صحيحاً لغيره.
وإثبات صفة السكوت أشار له الشيخ بقوله:
(ورحمة سكت عن أشياء) فبين أن السكوت التشريعي إنما يكون على أساس علم ورحمة بعباده، فسكت عن أشياء لم يبين للناس الحكم فيها، وإنما أرجعهم فيها إلى تدبرهم وعقولهم واستنباطهم، وهذا من رحمته.
ولذلك حصل الخلاف فيها، ومن هنا قال بعض أهل العلم: الخلاف في مسائل الاجتهاد فسحة، والمقصود بكونه فسحة ورحمة من عند الله سبحانه وتعالى: أن المسائل الاجتهادية لو كانت كلها منصوصة نصاً؛ لوقع الناس في حرج، ومن هنا قال الشعراني في كتابه الميزان: إن الاختلافات الفقهية كلها خلافات صورية لا خلافات حقيقية؛ وذلك أن للشريعة حدين، أحدهما: حد العزيمة، والثاني: حد الرخص، وما بينهما متسع، فإذا وجدت مسألة اختلف فيها العلماء فقال بعضهم بإباحتها وقال طائفة أخرى بتحريمها، فاعلم أن الذي قال بالإباحة نزع إلى جهة الرخصة وأن الذي قال بالتحريم نزع إلى جهة العزيمة، وبهذا تكون الشريعة أصلاً واحدة، لكن مشارب الناس فيها وأفهامهم مختلفة.
ومن هنا فإن من اضطر للأخذ بقول من مسائل الخلاف فمن فقهه أن يأخذ بالأيسر، فإذا وقع الإنسان في ضائقة ومشكلة ووجد خلافاً بين أهل العلم في مسألة معينة -ولم يكن ذلك اتباعاً للهوى- فاختلافهم هنا رحمة بالنسبة إليه ليأخذ بالألطف والأرفق، وهذه المسألة بحثها الأصوليون كثيراً ولم تزل محتاجة إلى زيادة بحث.
كما يحتاج الناس إلى البحث فيها حتى في معادلة الأقوال، فإن الأصوليين يبحثون فيها في العمل بالضعيف فقط، يقول سيدي عبد الله بن الحافظ إبراهيم في مراقي السعود:
وذكر ما ضعف ليس للعمل إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل
بل للترقي في مدارج السنا ويعرف المدرك من به اعتنى
وكونه يلجي إليه الضرر إن لم يكن يشتد فيه الخور
وثبت العزو وقد تحقق ضر من الضر به تعلق
وهنا يقول: إن العلماء ذكروا الأقوال الضعيفة في كتبهم، وذكروا الأحاديث الضعيفة في كتبهم، وذلك ليس للعمل، فلم يذكروها ليعمل بها أساساً، (إذ ذاك عن وفاقهم قد انعزل) بل قد اتفقوا على أن العمل بالراجح واجب لا راجح، (بل للترقي في مدارج السنا) أي: بل ذكروها للترقي، ومعناه زيادة رفع الدرجات، (في مدارج السنا) في حصر العلم وجمعه، والسناء: الرفعة، أي: لتعلم كل ما قيل في الأمر، فيتقوى لديك الحق وتعرف أدلته وما نوقش فيه
(ويعرف المدرك من به اعتنى) أي: وأيضاً ليعرف مدارك الناس فمن كان صاحب عناية بذلك فإنه يعرف واضح الدلالة من خفيها، وقطعي الدلالة من ظنيها.
(وكونه يلجي إليه الضرر) أي: وأيضاً لكون الضعيف قد تلجئ الضرورة للعمل به، لكن بشروط وهي:
الشرط الأول: (إن لم يكن يشتد فيه الخور) أي: إن لم يكن يشتد فيه الضعف، فإذا كان الحديث موضوعاً أو ضعيفاً جداً لا ينجبر، فهذا لا يعمل به، وكذلك القول إذا كان قولاً ضعيفاً جداً فإنه لا يعمل به؛ ولذلك قال: (إن لم يكن يشد فيه الخور).
والشرط الثاني: (وثبت العزو)، أي: لابد أن يثبت عزوه أيضاً لمن قال به من أهل العلم إذا كان قولاً مثلاً.
والشرط الثالث: (وقد تحقق ضر من الضر به تعلق) أي: أن يتحقق أن الضرورة قد نزلت، (ومثل الضرورة الحاجة الكلية) والحاجة الكلية تنزل منزلة الضرورة، وهذه قاعدة من القواعد الفقهية: أن الحاجة الكلية أي: العامة تنزل منزلة الضرورة فيستباح بها بعض المحظورات، والضرورات تبيح المحظورات؛ لقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ[الأنعام:119] وإن الله سبحانه وتعالى يذكر دائماً بعد آيات التحريم الضرورة، فمثلاً في الأطعمة في سورة المائدة، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[المائدة:3] ، وهكذا بعد كل استقطاع وعد للمحرمات يأتي ذكر الضرورة كقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الأنعام:145] .
(ورحمة سكت عن أشياء) هذا اللفظ هو الذي جاء في الحديث، فالمقصود بـ(أشياء) هنا: ما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والورود، فيصبح محلاً للاجتهاد قابلاً للاختلاف فيه، والاختلاف أصله مذموم، ولكنه في مثل هذا الموطن محمود، فأصل الاختلاف عموماً مذموم؛ ولذلك جعله الله تعالى نوعاً من أنواع العذاب وجعله منافياً للرحمة، فجعله نوعاً من أنواع العذاب في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ[الأنعام:65] ، وجعله منافياً للرحمة في قوله: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[هود:118-119]، وفسر به الشرك في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الروم:30-32].
وتوعد الله عليه في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام:159] ، وفي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45-46]، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاختلاف كثيراً، وبالغ في التحذير منه حتى سمى القتال فيه كفراً، والمقصود بذلك أنه: كفر دون كفر كما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فالمقصود بهذا: كفر دون كفر.
والتحذير من الاختلاف عموماً ورد في النصوص بكثرة؛ لكن الخلاف في المسائل الاجتهادية فسحة ورحمة، والله سكت عنها رحمة، وكان قادراً على أن يجزم بها بالتشريع بالنص، ولكنه سكت عنها رحمة بعباده وتوسعة عليهم.
(من غير نسيان)، فالسكوت لابد معه من التنزيه، فإنه لا يسكت عن جهل كما يحصل لنا نحن، فنحن نسكت إذا جهلنا، فالله سبحانه وتعالى متصف بالعلم الكامل الذي لا يعروه قصور؛ فلذلك لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم ولا يمكن أن ينسى: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى[طه:52] فلذلك قال:
(من غير نسيان)، فالنسيان مستحيل عليه: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه صفة جاءت عرضاً في تقرير الصفة المثبتة فحين أثبت صفة السكوت جاء في تقريرها عرضاً الصفة المنفية التي هي النسيان، فالنسيان صفة منفية عن الله سبحانه وتعالى.
(على ما جاء) يشير بهذا إلى أن الحديثين الواردين في صفة السكوت فيهما كلام من ناحية الصناعة الحديثية، لكنه ثبت معناهما فلا ضرر في ذلك الكلام حينئذٍ، لهذا قال: (على ما جاء) أي: على ما ورد، وهذا يشير فيه إلى الكلام فيهما، فليست هذه الكلمة تسليماً كما يمكن أن يتفهمه من كان من أهل الاستعجال، بل قصد بها التنبيه على ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر