الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان خمسة أعمار:
أولها: عمره في عالم الذر عندما: (مسح الله ظهر آدم ببطن نعمان، فأخرج منه ذريته، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا).
وفي ذلك الوقت دخل البشر جميعاً إلى حيز الوجود، فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب الكريم، وأخذ عليهم العهد بعبادته، وأن لا يعبدوا الشيطان من دونه، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61] .
العمر الثاني: عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا:
وهو عمر التكليف، ومدته يسيرة لا يمكن أن تقارن بالعمر السابق، فأنت قد دخلت الوجود في حياة آدم عليه السلام، ومن ذلك الوقت وأنت موجود في عالم الذر حتى برزت للوجود فوق الأرض، فوجودك الحالي مدته يسيرة محصورة، قد تعيش أربعين سنة، وقد تعيش خمسين، وقد تعيش ستين، ومصير الأمر ومنتهاه إلى الموت.
فهذا العمر هو العمر الثاني، لكنه العمر المركزي من أعمال الإنسان، إذ فيه التكليف والابتلاء والامتحان؛ ولذلك يحتاج الإنسان فيه إلى عدة، وسنذكر بعض ما يعترضه من العوارض والآفات في هذا العمر القصير.
العمر الثالث: عمر الإنسان تحت الأرض في البرزخ بعد الموت:
وذلك العمر يبدأ من ضجعته في قبره، وأول ما يجد فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك سؤال الملكين منكر ونكير، ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا هو محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثا، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا واتبعنا.
وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فأما المؤمن فيقول له الملكان: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، ويملآن عليه قبره خضراً ونوراً.
وأما المنافق أو المرتاب فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمشاقص أو بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منى ما أقلوها، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن.
وذلك العمر يكون الإنسان فيه إما منعم أو معذب، فالقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، لكن مدته كذلك محصورة يسيرة؛ لانتهائها إلى البعث.
العمر الرابع: عمر الإنسان فوق الساهرة عندما يبعث إلى ربه، فينادى الناس في قبورهم: هلموا إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون.
في ذلك الوقت تبدل الأرض غير الأرض، وتطوى السماء: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ[الحاقة:16] ، وفي ذلك الوقت يحشر الناس جميعاً إلى الساهرة، وهي أرض المحشر البيضاء، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، تجمع الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم، يأتونها جميعاً حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، وتدنو الشمس من رءوسهم حتى تكون كالميل، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك، فمجموع ذلك: أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يجرون جهنم جراً وهم صفوف، حتى تحيط بالناس من كل جانب.
ولا يستظل الإنسان يومئذ إلا بظل صدقته فمن مستقل أو مستكثر، وذلك الوقت لاشك عمر طويل، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47] ، ولهذا فإنه ينسى ما سبقه من الأعمار، فإن الله سبحانه وتعالى يسألهم كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116].
العمر الخامس: عمر الإنسان الأبدي السرمدي إما في جنة أو في نار:
وهو الذي لا انقطاع له ولا انتهاء، أما في الجنة فيجد الإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكلما ازداد فيها خلوداً وبقاء كلما ازداد تنعيماً، كل يوم هو في مسرة جديدة، فلا تنقطع ملذاتها، اللذة الأولى التي يجدها هي عندما يصل إليه شيء من روحها وريحانها تبقى معه طيلة بقائه في الجنة، ويأتي بعدها مليارات اللذات كل لذة تأتي على سابقتها دون انقطاع، فنعيم الجنة لا يزول، وكذلك لا يمل شيء مما فيها، كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا[البقرة:25] .
وأبلغ ما فيها من أنواع النعيم: النظر إلى وجه الله الكريم، فبينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فيرفعون أبصارهم فإذا الرب جل وعلا يناديهم من فوقهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ[يس:58] ، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجهه الكريم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[القيامة:22-23]، (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته).
وإما في نار فيها غاية المذلة والهوان، وأنواع الخزي والعار؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى وصف حالها عند أول دخولهم لها، قال: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا[الفرقان:12-14].
ووصف استقرارهم فيها فقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ[النساء:56] .
وأبلغ ما فيها من الهوان أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، يمكثون فيها وهم ينادون: يا مالك نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود, فيمكثون أربعين حولاً وهم يكررون ذلك، فيجيبهم فيقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108] . وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77] ، فذلك العمر الطويل الذي لا انقطاع له، مرتب على هذا العمر القصير المنقطع المنتهي وهو عمر الإنسان في هذه الحياة.
وعمر الإنسان في هذه الحياة بدايته من خروجه إلى الوجود، ومن لطف الله ورحمته أنه لم يكلفه بالتكاليف في وقت ضعفه ونشأته، فلم يكلفه إلا بعد البلوغ، عندما يبلغ يبدأ صاحب اليمين وصاحب الشمال يكتبان أعماله فلا يفوت شيء منها، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12] ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18] .
فتبدأ الكتابة من لدن التكليف، وتستمر إلى أن يدخل الإنسان في غيبوبة الموت، وهذا العمر الدنيوي، الذي يجد الإنسان يوم القيامة كل شيء عمله فيه يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30] .
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8].
فلذلك لابد أن يدرك الإنسان حقيقة هذا العمر وعدته فيه، والمخاطر التي تهدده وتحيط به:
وقد صح في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعا، ثم خط خطاً بداخله، وخط خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً معترضة في جانبيه، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على الخط المعترض وقال: وهذا أجله، ثم أشار إلى الخطوط الأخرى فقال: وهذه هي أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا).
فأمل الإنسان طويل، يكون الإنسان لم تغرب عليه شمس هذا اليوم إلا وقد قدم إلى ما قدم، وانتقل عن هذه الدار إلى الدار الآخرة، ومع ذلك هو الآن بعد العصر يفكر فيما سينجزه غداً وبعد غد، وفي الشهر القادم، ويفكر في مشاريعه المستقبلية.
فالأمل مستمر لا يقطعه إلا الموت، وذلك من لطف الله سبحانه وتعالى بالخلائق.
وقد ورد في حديث ضعيف: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم أراه ذريته فقال: يا ربي! كيف تتسع الأرزاق لهؤلاء؟ وكيف تسعهم الأرض؟ فقال: إني خالق موتاً، فقال: إذاً لا يسعدون، فقال: إني خالق أملا).
فالموت به تسع الأرض الخلائق، فالأرض جعلها الله (كفاتاً أحياءً وأمواتاً)؛ فلذلك يعيش الأحياء على ظهرها، ويدفن الأموات في بطنها فتتسع لهم بالموت، والأرزاق كذلك إنما تعم الخلائق بالموت.
فلله حكمة في كل أمر، فما يأتي من الأوبئة والحروب والزلازل والبراكين.. وغير ذلك كله من أجل توسيع الرزق على أهل الأرض، فلو عاش الناس بأمان دون أمراض ودون حوادث ودون مشكلات لما اتسعت لهم الأرض، ولما وسعتهم الأرزاق، وجميع ما في الأرض من الأرزاق خلقه الله سبحانه وتعالى في اليوم الرابع من أيام خلق هذا الكون، ولذلك قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ[فصلت:9-10].
كل ما في هذه الأرض من الأقوات قدر في ذلك اليوم الرابع، لكنه ينتقل من إنسان إلى آخر، فيأتي هذا الإنسان فيجمع من أنواع المال ما استطاع جمعه، ويموت فيفرقه أهله بعده يرثون ما كان عنده فيتفرق فيهم- وكل إنسان منهم يفرق أيضاً في ورثته ما ترك، فيتفرق المال بعد جمعه، ثم يجتمع لدى آخر يكلف بجمعه، وهكذا حتى تنتهي الدنيا.
فالأرزاق هي هي لا تزاد، والخلائق ينتقصون بالموت؛ ليوسعوا على من سواهم؛ ولهذا فإن الناس لا يسكنون إلا في ديار السابقين، ولا يعيشون إلا على آثارهم:
رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسا من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار وأنارا لمدلج في سواد
ثم بعد هذا عندما خاف آدم أن لا يسعدون إذا عرفوا الموت قال الله: (إني خالق أملا)، فالأمل به يسعدون؛ لأن كل إنسان منهم يؤمل العيش:
والمرء قد يرجو الحيا ة مؤملاً والموت دونه
تنفك تسمع ما حييـ ـت بهالك حتى تكونه
والأعراض التي تحيط بالإنسان من كل جانب:
منها ما ينفعه في دنياه ويضره في آخرته، أي: يخيل إليه أنه انتفع به في الدنيا لكنه مضرة عليه في الآخرة.
ومنها ما يضره في الدنيا، لكنه ينفعه في الآخرة، أي: يخيل إليه ضرره في الدنيا وهو نفع؛ لأنه ينفعه في الآخرة.
ومنها ما يكون نفعاً فيهما معاً، فيكون نفعاً للإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
ومنها ما يكون ضرراً فيهما معاً.
وهذه هي أنواع القدر الأربع، فالقدر يجب الإيمان بخيره وشره، حلوه ومره، فهو أربعة أقسام:
النوع الأول: القدر الخير الحلو: وهو ما يعجله الله لعباده المؤمنين مما يعينهم على طاعته ويزيدهم سعادة وإقبالاً على الله، فالنعم التي ينعم الله بها على المؤمنين، ويوفقهم إلى استغلالها في طاعته، ويعينهم على شكرها له سبحانه وتعالى، هذه النعم هي من القدر الخير الحلو فهي خير لهم؛ لأنه أعانتهم على طاعة ربهم، وهي حلوة؛ لموافقتها لهواهم وما يحبونه.
والنوع الثاني: القدر الخير المر: وهو ما يصيب الله به عبده المؤمن من المصائب التي تكون تكفيراً لذنبه وتطهيراً له ورفعاً لدرجته، فهي خير له؛ لأنها زادته تقريباً من الله سبحانه وتعالى، ولكنها مرة عنده؛ لأنه لا توافق مراده ومناه، وهذان القسمان يختصان بأهل الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
القسم الثالث: القدر الشر الحلو: وهو ما يصيب أعداء الله سبحانه وتعالى من الاستدراج والابتلاء بأنواع المسرات في هذه الحياة، وما يفتح الله لهم من التكنولوجيا والتقدم، مما يزيدهم طغياناً وبغياً وتجبراً وتكبراً على أهل الأرض، فهذا يزيدهم بعداً عن الله سبحانه وتعالى فهو شر لهم، ولكنه حلو؛ لأنه يوافق هواهم.
والنوع الرابع: القدر الشر المر: وهو صناديد القدر، وهو ما يسلطه الله على أعدائه من عاجل أخذه الوبيل من تحطم الطائرات والمركبات الفضائية والحروب والفتن وغير ذلك، فهذا النوع صناديد -وشر لهم في الآخرة، فهي من القدر الشر المر فهي شر لهم لأنها تعجلهم إلى النار، وهي مرة لأنها لا توافق هواهم ولا يحبونها.
فهذه الأعراض إذاً أنواع منوعة، فما يناله الإنسان من العافية والصحة إذا استغله في مرضاة الله سبحانه وتعالى كان من القدر الخير الحلو، وإذا استغله في معصيته كان من القدر الشر الحلو، وما يصيب الإنسان من المصائب إذا كان مؤمناً وصبر فهو من القدر الخير المر، وما يصيبه من المصائب إن لم يصبر أو لم يكن مؤمناً فهو من القدر الشر المر، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الأعراض كذلك منها الأمراض التي قد ينجو الإنسان من مرض ويتماثل للشفاء ليتأهب لمرض آخر، وقد ينجو من حادث ليموت في حادث آخر، وقد لا يتحقق له مراده في سفر من أسفاره، ثم يتحقق له في سفر آخر، وقد لا ينجح في محاولة من المحاولات ثم ينجح في أخرى، كل ذلك بتدبير الله وتقديره.
فترون الإنسان يشترك في امتحان مثلاً: في امتحان البكالوريوس في هذا العام فلا ينجح ويعيد الكرة في العام القادم فينجح متفوقاً، والامتحان هو الامتحان، وهو لم يبذل من الجهد إلا ما بذل، لكن القضية كلها راجعة إلى قدر الله وما كتبه، فلم يكتب هذا الإنسان من الناجحين في هذا العام، وكتب من الناجحين في العام القادم وهكذا.
والإنسان في هذه الأعراض فتحت عليه جبهات أي: أعداء يحيطون به من كل جانب، وهو محتاج لمقارعة هذه الأعداء وصد هجومها، وهذه الأعداء أعظمها خمسة:
العدو الأول: الشيطان طويل العمر الذي قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6] ، وهذه الآية جمعت بين الخبر الذي حقه التصديق وهو قوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ)، والأمر الذي حقه التطبيق وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).
فالخبر يجب علينا تصديقه، فيجب علينا جميعاً أن نعتقد أن الشيطان عدو لنا، وهذا لا أرى أحداً يخالف فيه، والأمر وهو قوله: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، يوجب علينا أن نتخذه عدواً أي: أن نريه من أنفسنا عداوة، وهذه العداوة لابد أن نعرف أنه لا يمكن أن نقتله بها فهو من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، ولا يمكن أن نضربه فهو يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم، ولا يضره شتمنا له وهجاؤنا له فقد لعنه الله.
ولا يمكن أن نتخذه عدواً إلا بأحد أمرين:
الأمر الأول: عدم اتباع خطواته، أي: الانقطاع عن خطواته بالكلية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[النور:21] ، و(خطوات الشيطان) هي الفحشاء والمنكر، فإذا انقطع الإنسان عن الفحشاء والمنكر فقد عادى الشيطان؛ لأنه لم يتبع خطواته.
والأمر الثاني: نقص جنده، فأي ملك يقاتل ملكاً قد لا يبرز واحد منهما للقتال، ولا يتضرر بالمعركة تضرراً مباشراً؛ لكن انتقاص جنده بالقتل والأسر هو تحقيق عداوته له، وجند إبليس هم شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112] ، ونقصك لهم إنما هو بالسعي لهداية من استطعت التأثير عليه منهم، فإذا اهتدى على يدك شخص واحد، فقد حققت عداوتك لإبليس، وإذا اهتدى على يدك اثنان فقد زدت في العداوة له، وهكذا كلما ازداد عدد من اهتدى على يدك ازدادت عداوتك لإبليس؛ لأنك نقصت جنده بذلك.
فهذه الجبهة هي الجبهة الأولى وهي من أخطر الجبهات؛ لأنها تأتي من كل الجهات كما قال الله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17] ، وقد أقسم بعزة الله عز وجل يميناً أكدها على إغواء أكثر البشر، قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت فيمينه ما بناها إلا على ظنه بالناس، فظنه بالناس أنهم يتبعون الشهوات؛ ومن لم يتبع الشهوات منهم تأثر بالشبهات. فلذلك ظن عليهم هذا الظن، فأقسم فحقق ظنه فيهم، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[سبأ:20] .
و(صدَّق، وصدَق) معناهما واحد، وهما قراءتان إحداهما تفسر الأخرى (صدق عليهم إبليس ظنه) أي: صدق عليهم ما في ظنه، (وصدَّق عليهم ظنه) أي: أوقعه فيهم باتباعهم للشهوات والشبهات فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين.
الجبهة الثانية: إخوان السوء:
فالإنسان لابد أن يعيش في هذه الحياة الدنيا مع البشر، ولابد أن يخالطهم، ومن يخالطهم من الناس هم ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أخ كالغذاء لا يستغني عنه أبداً، وهو محتاج إليه في كل أحيانه، وهذا هو الذي يعينه على أمور الدين، فإذا جهل علمه، وإذا ضعف أعانه، وإذا نسي ذكره، وإذا وجده مقصراً نصحه، فهذا الأخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان بحال من الأحوال.
النوع الثاني: أخ كالدواء، يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعينه على أمور الدنيا، وهذا ينبغي أن يعده الإنسان دواء فيتقلل منه ما استطاع، فأنتم تعرفون الإعلان العالمي للصحة المكتوب على الأدوية كلها، إن هذا الدواء مستحضر مضر لصحتك فننصحك بالابتعاد عنه.
فكذلك الأخ الذي يعينه على أمور الدنيا: دواء مضر بصحتك فننصحك بالابتعاد عنه، والتقلل منه ما استطاع الإنسان؛ وهذا النوع من الإخوان هم الذين يرفع إليهم الإنسان حاجته عندما لا يستطيع عليها فيعينونه، فهم كالدواء الذي ينبغي أن يقتصر الإنسان منه على محل الضرورة، ولا يستعمله من غير مرض أصلاً.
والنوع الثالث: أخ كالداء، لا يعين الإنسان لا على دين ولا على دنيا، فهو داء مستشرٍ ومرض مزمن عضال يصاب به الإنسان فيشقى به في مدة من حياته، يفسد عليه وقته الثمين الذي كان بالإمكان أن يشتري به نفسه من عذاب الله، وتصل إليه عدواه بفيروسات الشبهات والشهوات والمضار العظيمة، فقد يكون الإنسان في نفسه في بيئة صالحة، وحصن أو قلعة من قلاع الإيمان، لا يصل إلى أهل الفجور، ولا يعلم ما هم فيه، ولكنه يخالط شخصاً من هذا النوع من الناس، فينقل إليه عدوى تلك البيئة الخبيثة، فيسمعه من الكلام ما يتأثر به، ويريه من الأفعال ما يتأثر به، ويزين له الأمور ويحببها إليه.
وهذا امتحان من امتحانات هذه الدنيا، فهو عرض من أعراضها؛ ولذلك أخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا ولَّى من ملك إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه)، فإذا كان هذا في الأنبياء والملوك فكيف بمن دونهم، فما من أحد إلا وله هذا النوع من البطانات؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا النوع من الأخلاء عدواً للإنسان يوم القيامة، فقال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[الزخرف:67] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا[الفرقان:27-29].
الجبهة الثالثة: جبهة النفس التي هي أقرب الأعداء إلى الإنسان:
وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فهي عدو للإنسان؛ لأنها لا ترضى منه إلا أن يكون مطففاً، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ[المطففين:1-5]، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6] ، فالمطفف يريد أن تؤدى إليه حقوقه كلها من الآخرين ولا يريد أن يؤدي كل الحقوق التي عليه؛ فلذلك يحاول أن يأخذ حقه كاملاً وإذا لم يجد حقه غضب وأراد الانتصار لنفسه، والحقوق التي للآخرين لديه يحاول الانتقاص منها والاعتذار عنها ما استطاع.
والذي يريد أن ينظر إلى عداوة نفسه له فلينظر إلى تباطئها عن فعل الخير، وإسراعها إلى الشر، فسيجدها مسرعة في الباطل، فإذا حان وقت قيام الليل مثلاً أو حان وقت إجابة المنادي الذي نادى بالصلاة جاء الكسل والنعاس، وإذا حان وقت الذكر لم يجد نفسه مستعدة إلا لأقل القليل، وإذا جاء وقت التعلم وتدبر القرآن لم يجد نفسه مستعدة لذلك، وتذكر ما له من المشاغل الدنيوية، أما إذا أخلد إلى الراحة، وأراد الاستكثار من أمور هذه الدنيا والرغبة فيها، فالنفس طيعة لذلك منقادة إليه، فهذا دليل على عداوتها للإنسان.
الجبهة الرابعة: نعم الله سبحانه وتعالى السابغة على الإنسان:
فالإنسان يحيط به من نعم الله سبحانه وتعالى ما لا يستطيع إحصاءه وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34] ، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ[النحل:53] ، نعمة الخلق والرزق والهداية والجوارح والعافية وغير ذلك من أنواع النعم التي لا يحصيها الإنسان، وهذه النعم الناس فيها على أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين لا يعرفونها بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم لا يشكو سرطاناً في كبده أو رئته، ولا يشكو قصوراً في عضلة القلب، ولا فشلاً في الكلى، ولا زمانة تعوقه عن الحركة، ولا ألماً في عضو من أعضائه، لا يستشعر هذه النعمة، فإذا زالت هذه النعمة تذكر ما كان فيه حين لا تنفع الذكرى، وما دام يجد غناه من أمور الدنيا، لا يتذكر نعمة الله عليه ولا يشكرها لله، ولا يدخر عند الله سبحانه وتعالى منها قرضاً حسناً، فإذا زايله ذلك وفارقه تذكره حيث يندم ولا ينفع الندم.
ومثل هذا إذا كان في وظيفة من الوظائف يمكن أن يقف فيها موقفاً مشرفاً يبيض الوجه يوم القيامة، ينصر به الله ورسوله، فلا يشعر بهذه الوظيفة ويقول: لابد من الهدوء حتى تذهب العاصفة، والعاصفة ستذهب به هو، فلو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وجلوسه في كرسي الوظيفة كجلوسه على كرسي الحلاق يحلق له ثم يقوم ليترك مكانه لغيره.. ونحو ذلك، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ[النحل:83] ، حالهم حال قارون الذي قال: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ[القصص:78].
لما ذكِّر بنعمة الله عليه قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78] ، عرف النعمة بوجودها فافتخر بها وتسور على عباد الله، وعرف أنه متميز فعلاً، لكن لم يعرف من أين جاءته هذه النعمة؛ فلذلك لم يشكرها لله ولم تنفعه بين يدي الله شيئاً، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:81-83].
النوع الثاني: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون أنها من عند الله لا من تلقاء أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فينشغلون بالأموال والأولاد والصحة والعافية والتمتع بملذات هذه الحياة، مع أنهم يعلمون أنها نعمة أنعم الله بها عليهم ولا يشكرونها لله، وهؤلاء حالهم حال الأعراب الذين حكى عنهم الله في قوله: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ[الفتح:11] .
وقد حذر الله من هذا الاغترار فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].
وقد بين الله عداوة ذلك إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ[التغابن:14-15] .
والنوع الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها، ويعرفون من أين أتت وأنها من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يستغلونها في مرضات الله وشكره: وهؤلاء هم الشاكرون وهم أقل عباد الله، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13] ، وهؤلاء هم المبشرون ببشارة الله سبحانه وتعالى لهم.
فهذه النعمة إذاً جبهة مفتوحة على الإنسان من حيث لا يشعر، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35] .
الجبهة الخامسة: هذه الدنيا نفسها، فهي دار الغرور، وهي ضرة الآخرة، والإنسان مادام فيها يغر بها فيرى المباني الجديدة الجميلة، ويرى السيارات الفارهة، ويرى الطائرة العملاقة، ويرى الشوارع الزاهية، فيظن أن هذا مستمر، ولكنه لو فكر لوجد كل ذلك في القمامة، سيجد كل مبنى إنما أقيم على أنقاض آخر، كان أحسن الموجود في وقته ولكنه هدم ورمي في القمامة، وكل سيارة سيجد أنه كان قبلها من السيارات ما كان أحسن الموجود، وقد رميت بقاياه في القمامة، بل الإنسان نفسه أحسن ما في الدنيا من الخلائق صورة بكماله وحسنه، فإذا بحث عنه الإنسان سيجد بقاياه في القبر بعد أكل الأرض لأجزائه وانتقاصها لما تنتقص منه.
فلذلك هذه الدنيا نفسها عدو لهذا الجنس البشري؛ لأنها دار الغرور تغره بما فيها من الزخارف والشهوات؛ ولهذا حذر الله من النظر إلى ذلك منها فقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132].
فهذه الجبهات المفتوحة على الإنسان يحتاج فيها إلى عدة، وبالأخص حين يعلم أن جبهة الشيطان لها جيشان أحدهما: جيش الشهوات، والآخر: جيش الشبهات، والناس مقسومون بين هذين الجيشين، منهم أسارى الشهوات، ومنهم أسارى الشبهات، فالمأسورون بالشهوة ينقسمون إلى قسمين؛ لأن الشهوة نفسها تنقسم إلى قسمين: إلى شهوة حسية وشهوة معنوية، فالشهوة الحسية كشهوة البطن والفرج، والشهوة المعنوية كحب الرئاسة وحب الانتقام وحب الشهرة والظهور وغير ذلك.
والشبهة كذلك تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة في التعامل مع الله، وشبهة في التعامل مع الناس، فالشبهة في التعامل مع الله تنقسم إلى قسمين: إلى شبهة عقدية تتعلق بالتصور والعلم، يلقيها الشيطان للإنسان، ولا يزال الشيطان بابن آدم يقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول له: فمن خلق الله؟! فهذه شبهات الشيطان في المجال العقدي.
والنوع الثاني من الشبهة في التعامل مع الله: الشبهة في التعامل معه في العبادة، فما يصيب الناس من الوسواس في الطهارة وفي الصلاة، وكذلك ما يعرض لهم من شبه الأعذار عن الازدياد من الخير؛ هي من شبهات الإنسان التي تحول بينه وبين الازدياد من الطاعة قبل أن يفوت الأوان.
والنوع الثاني من أنواع الشبهات: الشبهات في التعامل مع الناس، وهي تنقسم إلى قسمين؛ لأن الإنسان فيها بين إفراط وتفريط:
فالنوع الأول من الشبه في التعامل مع الناس: شبهة الإفراط؛ فيقدس الناس ويحترم بعضهم احتراماً كبيراً، حتى يضفي عليهم صفة من صفات الإلهية أو يعتبرهم بمثابة معصومين، ويستسلم بين يديهم حتى يكون كالميت بين يدي غاسل، وهذه لاشك مبالغة، فالإنسان يقدَّر ولا يقدس، وهو عرضة للقبول والرد، يمكن أن تحسن خاتمته ويمكن أن تسوء.
والنوع الثاني من الشبه في التعامل مع الناس: هو شبهة التفريط؛ بأن يظن الإنسان بالناس ظن السوء، فهذا يتهمه بالشرك، وهذا يتهمه بالبدعة، وهذا يتهمه بالفسوق، وهذا يتهمه بالتقصير، وهو دائماً مقوم للناس، قد شغل وقته بتقويم الآخرين، وكل ما له من الاهتمام هو في مستويات الناس، وهذا النوع على خطر عظيم، ولذلك فقد أخرج مالك في الموطأ (أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
ما هي عدة الإنسان إذاً في وجه كل هذه الجبهات المفتوحة عليه، وهذه الأعراض الملمة به في مدته اليسيرة في بقائه في هذه الحياة؟
لابد أولاً أن يستحضر أن مدة بقائه في هذه الحياة هي مدة بقائه في سفر يسافره، فهو مسافر وانتفاعه بما ينتفع به مما في هذه الدار كانتفاع المسافر في ظل شجرة ينتظر الزوال لينطلق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل بشجرة).
فإذا عرف ذلك استطاع حينئذ أن يبحث عن عدة يستعين بها في مسيرته وحياته، وهذه العدة هي الصبر!
وهذا الصبر طاقة ربانية وقوة هائلة سخرها الله لعباده المؤمنين؛ ليتغلبوا بها على كل هذه العراقيل وعلى كل هذه المشكلات والجبهات المفتوحة عليه، وبدونها لا يستطيع الإنسان الانتصار على أية جبهة من الجبهات.
فلابد إذاً أن يراجع الإنسان عدته هذه وأن يهيئها، فكثير من الناس يعدم هذه العدة بالكلية، فيعيش في هذه الحياة مع ما ذكرنا من المشكلات والجبهات أعزل ليس لديه أي سلاح للدفع ولا للاستحقاق، ومنهم من يكون صبره ضئيلاً ممزقاً يصدق فيه ما قال عبد الملك بن مروان للرجل الذي رأى عليه مجنه خلقاً فقال له: لمجن ابن أبي ربيعة خير من مجنك.
ومنهم من يكون صبره أقوى من ذلك في مجال التعامل مع الله، ولكنه ضعيف في مجال التعامل مع الناس، ومنهم من يكون صبره قوياً في التعامل مع الناس، ولكنه ضعيف في التعامل مع الله، ومنهم من يقوي صبره ويستطيع أن يسد خلاته وخروقه، فكلما انخرق عليه الصبر من جانب سد ذلك الخرق وقواه، فيكون صبره قوياً يملك به نفسه، والسعيد من ملك نفسه.
اللهم ملكنا أنفسنا بخير، ولا تسلطها علينا بشر.
وهذا الصبر الذي هو عدتنا في هذه الحياة ينقسم إلى ثلاث شعب منها الصبر عن معصية الله، فشعبة الصبر الأولى أن يصبر الإنسان عن معصية الله.
وهذا الصبر له بواعث منها: الوازع الديني الذي يكون في قلب المؤمن وهو برهان الله في قلبه يحول بينه وبين المعصية، والناس فيه متفاوتون، وهم فيه أنواع:
النوع الأول: من يقوى وازعه في قلبه فيحول بينه وبين المعصية كالجبل، فلا يشم لها رائحة ولا يرى لها لوناً ولا حركة، ولا يسمع لها صوتاً، فهو محفوظ منها بالكلية، وهؤلاء هم الذين خلصهم الله لعبادته، فهم عباد الله المخلصون، وهم السابقون بالخيرات بإذن الله.
والنوع الثاني: من يكون الحاجز بينهم وبين المعصية ويكون هذا الوازع في قلوبهم كالزجاج لا يستطيعون اختراقه والنفوذ منه، لكنهم يرون ما وراءه من الحركات والألوان، فربما شغلهم وربما أخذ جزءاً من تفكيرهم، وهؤلاء لا شك دون الأولين، ولكنهم مع ذلك على خير؛ لأنهم لا يستطيعون النفوذ إلى المعصية.
والنوع الثالث: الحاجز بينهم وبين المعصية وهذا الوازع في قلوبهم كالماء، يمكن اختراقه بصعوبة، وقد يحجز بعض الأصوات وبعض الروائح، ولكنه ترى من ورائه الحركة والألوان، وينفذ منه بعض الأصوات، وتنفذ منه بعض الروائح، ويمكن اختراقه لكن بصعوبة، وهؤلاء أيضاً هم الظالمون أنفسهم الذين يمكن أن يخترقوا فيوقعهم الشيطان ويستزلهم في بعض الأحيان في بعض المعاصي، لكنهم سرعان ما يتوبون ويرجعون، وهم على خير بذلك؛ لأن الإنسان إذا كان كلما عصى بادر إلى التوبة فهو على خير، فقد قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[النساء:17-18].
والنوع الرابع: الذين يكون الحاجز بينهم ويبن المعصية كالهواء، فهم معها في لحاف واحد، يغشونها في كل الأوقات لا يحول بينهم وبينها رؤية ولا سماع ولا رائحة ولا حركة ولا لون، وهؤلاء ضعف وازعهم الإيماني فلم يبق معهم من الصبر إلا أثره فقط، وهؤلاء هم أكثر الخلائق، فأكثر الخلائق في هذه الحياة ليس لهم من الصبر عن معصية الله إلا أثره فقط.
ولذلك تجدون أن جمهور الذين يعيشون في هذه الحياة لا يميزون بين دائرتي الحلال والحرام، بل إذا عرضت على أحدهم مصلحة دنيوية لم يسأل نفسه هل هي حلال أو حرام؟ وإذا فكر في أمر لم يكن من خطوات تفكيره هل هو حلال أو حرام؟ بل ينظر ما يترتب عليه من المصالح، وماذا يجنيه منه من الأرباح، لكن لا يفكر هل هو حلال أو حرام؟ فدائرة الحلال ودائرة الحرام قد تحطم الحاجز بينهما فاختلطتا لديه فأصبحتا دائرة واحدة، وهذا حال جمهور الناس.
لكن الذين يميزون بين الحلال والحرام فيفرون من الحرام كما يفرون من الأسد ولا يحضر لهم على بال أصلا، ويقنعون بالحلال الذي أحل الله لهم ولا يتعدونه إلى ما سواه، فهؤلاء قد قوي وازع الله في نفوسهم وهم المتقون؛ ولذلك قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202].
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201] ، والطائف: نسيم الرياح الخفيف الذي يأتي بسرعة ويذهب، وفي القراءة السبعية الأخرى: قراءة عبد الله بن كثير المقرئ وأبي جعفر القارئ (إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) والطيف: ما يراه الإنسان في المنام، ومدة الرؤيا في النوم لا تتجاوز ثانية واحدة، يرى الإنسان الرؤيا الطويلة التي هي كالملحمة في مدة ثانية واحدة.
(وإخوانهم) أي: إخوان الشياطين (يمدونهم في الغي) فيزيدونهم ويساعدونهم على الاستمرار في الغي ويشجعونهم عليه، ويقولون: افعلوا كما يفعل الناس، فهذا الأمر أصبح معمولاً به وأصبح سائداً لدى الناس فلم يعد فيه حرج، بل ينصحون به ويقولون: عليك أن تفعل كما يفعل الناس، وأن تتكسب كما يتكسب الناس...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر