إسلام ويب

المقدمات الضرورية لعلم العقائدللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قبل الشروع في أي علم ينبغي أن يعرف الطالب مقدماته العشر التي بمعرفتها يسهل التعلم، وهذه المبادئ العشرة اهتم أهل العلم ببيانها وشرحها لطلاب العلم، ومن أهم ذلك مقدمات علم العقائد.

    1.   

    معرفة حد علم العقائد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    قبل الشروع في كل علم ينبغي أن يطلع الإنسان على عشر مقدمات يحتاج إليها في تصور ذلك العلم الذي يريد الإقدام على تعلمه، وهذه المقدمات العشر هي التي نظمها المقري بقوله:

    من رام فناً فليقـــدم أولاً علماً بحده وموضـوع تلا

    وواضع، ونسبة وما استمــد منه، وفضله، وحكم يعتمـد

    واسم وما أفاد والمســائل فتلك عشر للمنى وسـائل

    وبعضهم فيها على البعض اقتصر ومن يكن يدري جميعها انتصر

    تصور علم العقائد مبني على أساس عبودية المكلف

    فأولها: الحد: والمقصود به تعريف هذا العلم، وشرح ماهيته، ونحن لا نريد أن نسلك طريق المناطقة الذين يتقيدون في الحدود بتعريفات مدققة مختصرة يرد عليها كثير من الاعتراضات، ثم يجاب عن تلك الاعتراضات، فالطريقة العلمية تقتضي منا أن نتصور العلم الذي نريد البحث فيه أولاً قبل الشروع فيه، وتصوره يبدأ ببنائه التأسيسي.

    وبناء هذا العلم التأسيسي هو أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان خلقه لعبادته، فعلى أساس ذلك يقوم، فقيمة كل شيء إنما هي بحسب هدفه، والإنسان خلق من أجل العبادة، فتقويمه على أساس ما قام به من هذه العبادة في حياته، مثل هذا الجهاز الذي صنع من أجل التسجيل، فقيمته هي صفاء تسجيله وقوته وإفادته لهذا، فلو كان لا يسجل فلا فائدة فيه وليس له قيمة، وإذا كان يسجل تسجيلاً ناقصاً فقيمته ناقصة، أما إذا صفا تسجيله وصلح فقيمته كاملة، وكذلك الإنسان بحسب هذا.

    وقد جعل الله الإنسان بين عنصرين: العنصر الأول: عنصر أسمى منه وأعلى وهو العنصر الملكي، والعنصر الثاني: عنصر أدنى منه وأحط وهو الحيوان البهيمي.

    فشرف الله الملائكة بأن كلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بالشهوات، وجعل الحيوان البهيمي غير ممتحن بالتكاليف، ولكنه مبتلى بالشهوات، وجعل الإنسان بين بين، فهو مكلف بالتكاليف، وممتحن بالشهوات، فإن اتبع الشهوات ولم يؤد التكاليف التحق بالحيوان البهيمي، بل كان أدنى منه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44] ، وإن لم يتبع الشهوات، وأدى التكاليف التحق بالصنف الأسمى منه فكان كالملائكة: (لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات).

    عناصر جسم الإنسان وانبناء الدين على ما يناسبها

    ما هي العناصر التي هيأها الله تعالى في الإنسان؟

    الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي:

    العنصر الأول: البدن: الذي هو مادي مما في هذه الأرض.

    العنصر الثاني: الروح: التي هي نفخة من أمر الله مجهولة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] .

    العنصر الثالث: العقل الذي شرف الله به الإنسان على غيره من الحيوانات.

    فهذه العناصر الثلاثة على أساسها شرع الله الدين، فجعله ثلاثة عناصر:

    الإيمان لمصلحة العقل.

    والإسلام لمصلحة البدن.

    والإحسان لمصلحة الروح.

    وذلك أن كل شيء حي يحتاج إلى تغذية، وهذه العناصر الثلاثة حية، فالعقل تغذيته بالفكر والعلم، والبدن تغذيته بما يرعى صحته ويوفر له غذاءه وزيادة نموه، والروح تغذيتها بما يهذبها ويمنعها من الأخلاق الذميمة، ويطهرها من الشوائب الخسيسة، ويحليها بالأوصاف الحميدة، فلذلك جاءت عناصر الدين ملتئمة مع هذه العناصر، فمثلاً: جاء الإيمان لمصلحة العقل، فإنه يضع له حدوداً يبين له فيها ما يحتاج إلى معرفته، وينير له الطريق في أمور لا يمكن أن يصل إليها، ويحجزه عن التخبط في أمور هو محتاج إلى البحث فيها.

    التسليم بقصور العقل منطلق إلى الإيمان

    المنطلق الأول للإيمان هو التسليم بأن العقل قاصر، فلا يمكن له أن يحيط بكل شيء، والإنسان محتاج إلى الوحي في كل أموره، وذلك أن طريق المعرفة التي يحتاج إليها الإنسان يريد بها اكتشاف نجدين: نجد الضرر ونجد المنفعة، يريد أن يعرف ما ينفعه وما يضره.

    ومنفعة الإنسان نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي، فالنوع الأخروي محجوب عن العقل نهائياً لا يمكن أن يصل إليه، فلا يمكن أن يكتشف الإنسان منفعة أخروية أو مضرة أخروية؛ لأن كل أمور الآخرة محجوبة عنه لا يعرفها إلا عن طريق الوحي.

    وكذلك المنافع الدنيوية والمضار الدنيوية يصعب على الإنسان تحديدها بعقله؛ لأن الإنسان قد يتوقع شيئاً من المصلحة والمنفعة، ثم ينقلب عنه ويراه مضرة سافرة، وسمي القلب قلباً لتقلبه.

    ومما تعرف به ربك نقض العزائم، حيث تعزم اليوم على أمر وبعد سنة تجد رأيك قد تغير عنه تماماً، وتجد أمراً كنت تعزم على أدائه، وتحرص عليه فإذا بك قد زهدت فيه وتركته بالكلية.

    وكذلك قد يتوقع الإنسان في شيء مصلحة فيما يعود عليه بالضرر من حيث لا يشعر، فكثير من المآكل والمشارب التي يحبها الإنسان ويرغب فيها تعود عليه بالضرر، فمن أجل هذا عرف أن المنافع والمضار الدنيوية أيضاً لا يمكن أن يحيط بها العقل، فهي محتاجة إلى تحديدها بالوحي.

    والإنسان بحاجة إلى هذا الوحي حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، فتكون منطلقاً سليماً للعقل؛ لأن العقل جارحة من جوارح الإنسان، فللإنسان عين أقرب شيء إليها الجفن، وإذا أطبق عليها جفنه لا يرى العروق الحمراء التي فيها، ولا يرى الألوان التي فيها لقربها، وكذلك إذا وقف في مكان معتدل فإن لبصره حدوداً لا يتعداها، وذلك أنه مسبوق بالعدم وسيلحقه العدم أيضاً، فهو حلقة من الوجود في دائرة كبيرة من العدم، ومن أجل هذا لا يمكن أن يدرك إلا شيئاً محصوراً، وكذلك سمعه، وكذلك عقله، فالعقل له مبادئ منها ينطلق إلى المشاهدات والحسيات والمسلمات.

    كثير من الأمور التي تربى عليها الإنسان في صغره لا يناقش عقله فيها، مثل: العادات، لا يسأل الإنسان عقله: لماذا ألبس هذا النوع من اللباس؟ لماذا أجلس هذا النوع من الجلوس؟ لماذا أعمل هذا النوع من الأعمال؟ لأن هذه أمور فطر عليها، وتربى عليها من بداية خلقته، لكن ما تجدد لديه هو الذي يتعب العقل بكثرة مناقشته، لأنه شيء جديد عليه.

    المسلمات الأولية يسلم بها العقل، ويقتنع بها قناعة مطلقة، وهذه القناعة لا تقبل المناقشة، ويجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التسليم بها بالكلية، وكذلك ينبغي له في المجالات التي لا يصل إليها العقل، وهي كل المجالات المتمحضة للوحي؛ ينبغي أن ينطلق الإنسان فيها من التسليم المطلق، فما عجز العقل عن تصوره فهذا لنقص عقله لا لنقص الوحي، ولا لقصور فيه، فهو أمر مسلم ثابت لا يقبل النقاش، والعقل إما أن يفهمه فهذا فضل من الله وهبة منه، وإما أن لا يفهمه فالنقص في العقل لا في الوحي.

    وإذا انطلق الإنسان من التسليم بهذا فإن العقل قد استنار واستفاد، وعرف حقيقة الإيمان وأشربه، ولهذا علامات تدل عليه، فمن علامات إشراب العقل البشري للإيمان: محبته لله سبحانه وتعالى، واتصاله به، وكذلك رضاه بقضائه وقدره، وكذلك توكله عليه واعتماده عليه في كل أموره، وكذلك مسارعته للتوسل إليه بالأعمال الصالحة، وكذلك الدعاء واللجأ إلى الله عندما يدرك الإنسان ضعفه وأنه لا حول له ولا قوة إلا بلله، وكذلك خوفه من الله سبحانه وتعالى ورجاؤه لما عنده، فهذا دليل على أن الإيمان قد خالط بشاشة قلبه، وأنه انطلق من باب التسليم، حيث لم يعتمد على الأسباب الظاهرية ولم يناقش عقله في الأمور الباطنية.

    تعلق الإسلام بمصلحة البدن والإحسان بمصلحة الروح

    والبدن مصلحته في الإسلام؛ لأن الإسلام يتعلق بالجوارح الظاهرة، فهذا البدن هو الذي يمثل كيان الإنسان في هذه الدنيا، وهو محتاج إلى تغذية، ومحتاج إلى منافع مختلفة، وهذه المنافع تشملها دائرتان: دائرة الحلال، ودائرة الحرام.

    ولا يمكن أن يعرف الإنسان دائرة الحلال من دائرة الحرام إلا بالإسلام الذي هو التشريع؛ ولهذا فإن الإسلام يحدد العلاقات، فهو النظام الذي يحدد للإنسان، العلاقة بالله كيف تبدأ من ناحية العبادات، والعلاقة بالناس كيف تبدأ من ناحية الأخلاق والمعاملات، ويبين علاج ما يقع من المشكلات مثل الأقضية والحدود والتعزيرات، فهذه الأمور هي التي يتعلق بها الإسلام ويشبع رغبة الإنسان فيها، ويحقق له مصالح بدنه بهذا التشريع.

    والروح ليست من هذا العالم الذي نعيش فيه، فهي غريبة عن عناصر الأرض؛ وغربتها تقتضي وحشة ونفوراً، وتقتضي تقلباً وانزعاجاً من كثير من الأمور، فتحتاج إلى ما يثبتها، وتثبيتها هو بالإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يحسن الإنسان تعامله مع الله ويحسن تعامله مع الناس، ويعرف حالته هو ومستواه وما يرتاح له، ومن هنا يستقيم توازنه ويعتدل، فلا يغلب أي جانب من الجوانب، فمن غلب أي جانب من الجوانب فليس بمستقيم، حتى من غلب جانب العبادات فلم يراع حقوق بدنه ولا حقوق أهله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فهذا التصرف دليل على عدم الاعتدال وعدم التوازن.

    وكذلك مختلف المجالات الأخرى كاتباع الشهوات، فالذي ليس له شهوة أصلاً ولا ميل إلى أي شيء يعد مريضاً، والذي تزداد شهوته لأي شيء حتى ولو للعلم حتى تتعدى إطارها الحقيقي يعد مريضاً أيضاً؛ لأنه غير معتدل، وهذه الشهوة طبيعة في الإنسان يحتاج إلى أن يزنها بميزان، وهذا الميزان هو الإحسان، (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

    من هنا عرف أن الدين كله شرع لمصلحة ابن آدم، والله سبحانه وتعالى لا مصلحة له فيه، ولا يمكن أن يصل إليه بنو آدم جميعاً بمضرة ولا بنفع، وإنما هي أعمالهم يكتبها لهم ثم يوفيهم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

    والذي نريد البحث فيه هو مجال الإيمان بحقوقه، ومنطلق البحث في هذا المجال هو معرفة مسائله التي تدرس فيه، وقد علم أن الذي يدرس فيه هو التصور العقلي حيال الحياة والآخرة، وحيال التعامل مع الله والتعامل مع الناس، وأصل ذلك من الناحية العقلية.

    فهذه المسائل التي تجتمع في هذا العلم تسمى علم الإيمان أو علم الاعتقاد، وهذا التصور تصور فضفاض يصعب ضبطه، ولكنك إذا نظرت إلى أي شيء له مجال يتعلق بالعقل فاعلم أنه داخل في مجالات الاعتقاد.

    1.   

    أصول الاعتقاد وإحاطتها بالجوانب المتعلقة بالعقل

    الإيمان بالله

    أصول الاعتقاد هي هذه الأمور الستة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، فهي محيطة بأهم الجوانب التي يتعلق بها العقل.

    والإيمان بالله مقتض للجوانب اللاحقة كلها؛ لأن المنطلق في التعامل كله هو تعاملك مع ربك الذي خلقك فسواك، فلا أحد أمنّ عليك منه، وإذا لم تحسن العلاقة معه فلن يرضى عنك أحد، ولن يثق أحد بأنك ستحسن العلاقة به، إذا أسأت العلاقة مع ربك الذي فطرك وسواك وأنعم عليك بأنواع النعم.

    الإيمان بالملائكة

    ومن أصول الإيمان بملائكة الله، والعقل معتاد تصور كثير من الأمور التي تأتي بها الأرواح وتتصل بها، والعقل يحتاج إلى تحديد موقف منها: هل هي مجرد خرافة أو هي شيء واقعي؟

    والذي ينبغي أن يرتبط به العقل ما يفيد الإنسان منها، وهذه الجنود الربانية المجهولة بالنسبة لنا كثيرة جداً لا نحصرها بالملائكة، بل يقول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدثر:31] ، لكن الذي يعنينا في مجال الإيمان والاعتقاد مما ينفع عقولنا هو الإيمان بالملائكة؛ لأننا إذا آمنا بالملائكة فسنحاول التنافس معهم؛ لأنهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6] ، ولأنهم العنصر الذي هو أسمى منا، ونحاول الالتحاق به، فالإيمان بهم مهم جداً لنا من هذا الجانب.

    وهم قريبون منا، فهم المكلفون بحركاتنا وسكناتنا، ويكتبون علينا كل أمورنا: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12] ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18] .

    الإيمان بالكتب

    ومن أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة:

    والعقل تغذيته بالثقافة والعلم، وأهم العلم ما ينزله الله على عباده من الوحي؛ لأن العلم كله من عند الله وهو قسمان: علم وحي، وعلم إلهام.

    فعلم الوحي شرفه الله بأن لم يدع فيه مجالاً للاختلافات، وإنما أنزله منضبطاً، وحفظه حتى أوصله إلينا، وجعل حظوظنا فيه متفاوتة بحسب أفهامنا، فمنا من يفهم منه الكثير، ومنا من يفهم القليل، وأما الإلهام فإن الله سبحانه وتعالى جعله قابلاً للاختلاف؛ لأن مجالات العقل مختلفة، يفتح الله على هذا في مجال معين، ويفتح على هذا ما يكمل به ذلك، ويفتح لهذا حتى منتصف الطريق ثم يكمل من سواه، ومن هنا تتشعب الإلهامات، لكن الجميع من عند الله ما كان منه وحياً وما كان إلهاماً، العلم كله لله، والبشر ما لهم شيء من العلم: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء:85] ، وقوله: (أوتيتم): يعني أنه ليس من تلقاء أنفسكم، إنما هو هبة من عند الله يمنحها لمن يشاء.

    الإيمان بالكتب المنزلة يقتضي من الإنسان أن ينخل هذه العلوم لمعرفة ما هو مفيد منها وما ليس كذلك، وما هو غير قابل للنقاش من العلوم، وهو الثوابت التي نزلت بالوحي، وما هو راجع إلى الضوابط والخطوط العريضة التي بينت لنا في الوحي، إذاً: هذا الإيمان بالكتب المنزلة.

    الإيمان بالرسل

    ومن أصول الإيمان: الإيمان برسل الله:

    وذلك في مجال التعامل بين الناس، والناس منهم المحرومون ومنهم المنعم عليهم، وأفضل المنعم عليهم هم الرسل الذين أنعم عليهم بولايته المطلقة، فلم يجعل للشيطان عليهم أي سبيل، ولا له عليهم أي جهة يمكن أن يدخل عليهم منها، فعصمهم الله من الشيطان، هؤلاء هم أشرف البشر، وانتفاعنا بالإيمان بهم مثل انتفاعنا بالإيمان بالملائكة؛ لأننا نريد الاقتداء بهم والاتصال بهم، ومعرفة أن ما سلكوه هو طريق الحق الذي يعصم من الشيطان.

    وما سواه طرق غير مأمونة يمكن أن يكون فيها صواب ويمكن أن يكون فيها خطأ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر).

    إذاً: الإيمان بهم مهم جداً لعقولنا حتى تتشبث بشيء واضح في الطريق، ومن هنا فإن سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل ركعة من صلاتنا فيها أمر عجيب في مجال الإيمان بالرسل، حيث قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7].

    قال: (اهدنا الصراط المستقيم) ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم؛ لأنه لو قال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، لكان هذا يقتضي أن يعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يعرفون بالحق، وأن الحق لا يعرف بالرجال، فلما قال: (اهدنا الصراط المستقيم) صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المرضي عند الله، ثم عرفه بعد ذلك بسلوك الرسل له؛ لأنهم الأمارات والعلامات البارزة؛ لأنهم ليس للشيطان عليهم سبيل، وإذا سلكوا هذا الطريق عرفنا أنه طريق الحق، فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7] ، على وجه البدلية: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:7] .

    الإيمان باليوم الآخر

    ومن أصول الإيمان الإيمان باليوم الآخر:

    وما أحوج الإنسان إلى هذا في مجال عقله، فالعقل يبحث كما ذكرنا بين هذين النجدين: نجد المنفعة ونجد المضرة، فإذا اقتصر في بحثه على حياته الدنيا فقط، ولم يعمل إلا لمدة حياته، كان العقل ذا مجال ضيق، ولم يستفد أحد من أحد؛ لأن كل إنسان لا يدري متى يموت، فيفكر فقط لساعته التي هو فيها، ولا يفكر للمستقبل، ومن هنا تتعطل مصالح الناس، إذ لو كان الإنسان لا يبني إلا على قدر حاجته في لحظته، ولا يزرع إلا على قدر حاجته في لحظته تلك، ولا ينتج إلا على قدر حاجته في لحظته تلك؛ لتوقفت المصالح كلها، لكن بإيمان الإنسان بالمستقبل، وإيمانه باليوم الآخر، وبالعرض على الله سبحانه وتعالى، وبأن الناس جميعاً من مضى منهم ومن يأتي سيحشرون إلى ديان السماوات والأرض، ويوقفون على أعمالهم، وأن كل شيء مكتوب، وأن منهم شقياً وسعيداً: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ[هود:106-108] .

    وتذكر الإنسان أنه حينئذ إما أن يكون من هؤلاء وإما أن يكون من هؤلاء: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ[آل عمران:106] ، إما إلى جنة وإما إلى نار، وبأن مصلحته الحقيقية هي مصلحته الأخروية، وبأن وقايته الحقيقية هي وقايته من عذاب يوم القيامة، فأية مصيبة أصابته في الدنيا إذا كان بعدها نعيم الجنة فإنها لا أثر لها ولا ضرر، وأي نعيم وجده في هذه الدنيا إذا كان بعده عذاب الآخرة في النار فلا نفع فيه أبداً، فلا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بعده الجنة؛ إيمانه بهذا مقتضٍ منه للاستمرار في عمله حتى في الدنيا، حتى للمصالح الدنيوية، فالإيمان باليوم الآخر نافع حتى في الإنتاج الدنيوي، فضلاً عن الإنتاج الأخروي الذي هو العبادة التي هي قيمة الإنسان.

    الإيمان بالقدر

    ومن أصول الإيمان: الإيمان بقدر الله خيره وشره:

    فإن الإنسان مفطور على الجبن والبخل والخوف والخور، لكن إذا علم أن كل شيء مكتوب قبل أن يحصل: (وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)، فإنه سيتشجع، ويعرف أن موتته واحدة ومكتوبة: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78].

    ومن هنا لا يمنعه الجبن من الإقدام، ويعرف أن ما لم يكتب له لا يمكن أن يناله، وما كتب عليه لا يمكن أن يدفعه بوجه من الوجوه، ويعرف أن رزقه محدد مكتوب وهو في بطن أمه، وأنه لن يزداد شيئاً ولن ينتقص من شيء، ويعرف أن الثقلين الإنس والجن كلهم مسيرون وفق قدر مكتوب، ليس لأحد منهم أي تصرف إلا وفق هذه الخطة المرسومة، لا يستطيع أحد أن ينفع ولا أن يضر إلا وفق ما كتب له، ومن هنا يكون الاتصال بالله سبحانه وتعالى وحده، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا إليه، ولا تعلق إلا به، ولا دعاء إلا له، ولا يمكن أن يحول أي جهد بشري دون تطبيق ما أمر به، ولا أن يوقع أي خوف ولا أي طمع فيما نهى عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يملك النفع والضر والحياة والموت والنشور، ولا يملك ذلك أحد سواه. هذه فائدة الإيمان بالقدر.

    من ثمرات الإيمان ومصالحه

    واضح جداً أن الإيمان لمصلحة العقل، وأن هذه هي مجالات العقل الكبرى التي ينطلق منها، فهذه المجالات الكبرى التي ينطلق منها العقل فيها كثير من التفصيلات، وكثير من الجوانب المتعددة، فهذه الجوانب في أخذ الديانة المنزلة من عند الله تعالى لم تمحض وحدها، ومن حكمة الله وسنته ألا يفصل هذه العلوم ويجعل كل علم منها كتاباً مستقلاً أو لوحاً مستقلاً؛ لأن ذلك يقتضي عدم التكامل في العامل البشري، لو أنزل علينا هذا القرآن فيه سورة متخصصة في الإيمان، وسورة متخصصة في العبادة، وسورة متخصصة في البيوع، وسورة متخصصة في الأنكحة، ليس فيها سوى ذلك؛ لكان كثير من الناس ناقص التوازن، الذي قرأ سورة الإيمان فقط ستكون عباداته باطلة، ومعاملاته باطلة، ولن يستطيع الإنسان حينئذ الإحاطة بالجميع، وهذا هو حالنا اليوم إذ يندر جداً أن يحيط الإنسان بالقرآن بحروفه وحدوده، فلابد من إشكالات تواجهه، وتبقى كثير من الأمور لا يستوعبها.

    من هنا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تكون الآية الواحدة من القرآن جامعة لكل هذه المجالات، وألا يتمحض فيها علم من العلوم، فلا يمكن أن يقال: إن السورة الفلانية متخصصة في العلم الفلاني؛ في الفقه أو في الأصول أو في أي علم من العلوم، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في هذا القرآن الكريم، فليس هو كتاب تخصصات، وإنما هو كتاب مستوعب لمختلف التخصصات، في كل آية منه تجد كل هذه الأمور، حتى الأوامر والنواهي تكون مرتبطة بالوعد والوعيد المرتبط بالإيمان، المرتبط بمشاهد القيامة، المرتبط بخطاب العواطف، المرتبط بخطاب العقل، فيكون الإنسان مخاطباً مشدوداً لكل الجوانب في آية واحدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183] ، كم استوعبت هذه الآية من العلوم؟

    (كتب عليكم الصيام): هذا تكليف رباني، وتحديد الصيام الذي هو من العبادات.

    (كما كتب على الذين من قبلكم): إرجاع وربط بالماضي والتاريخ البشري.

    (لعلكم تتقون) هذا فيه مخاطبة الإيمان والعاطفة في الإنسان، وتنبيهه إلى أنه إذا استطاع أن يمنع نفسه مما أحل الله له فإنه يستطيع أن يمنعها مما حرم الله عليه، وبهذا يتعود على التقوى، وفيه تنبيه له على التربية وأهميتها في حياته، وأنه بالتدرج يمكن أن يصل إلى أعلى المستويات، كل هذا ارتبط في آية واحدة، واجتمع فيها كل هذه الأمور بالإضافة إلى ما سواه من العلوم التي لا حصر لها.

    لكننا في غمرة حياتنا احتجنا إلى أن نفصل هذه العلوم فصلاً لا يقتضي أن يكون كل واحد منها على حدته علماً مستقلاً متكامل الجوانب لا يحتاج إلى ما سواه، وإنما لضرورة تفاوت انشغالات الناس، وتفاوت أذهانهم، يبين لهم العلم الذي هم أحوج إليه ليشتغلوا به، ولا ينبغي أن يتمحض الإنسان في تخصص واحد من هذه التخصصات، فإذا كنا نقرأ الآن درساً في الإيمان، فليس معناه أن نعطل دروسنا الأخرى، وأن نترك الاستفادة من كل الكتب الأخرى أو المجالات المختلفة، بل لابد من التكامل، وألا نغفل عن الجميع.

    وبهذا نكون قد عرفنا حد العلم.

    1.   

    موضوع علم العقائد

    المقدمة الثانية: الموضوع، (وموضوع كل علم) معناه: ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، (ما يبحث فيه) أي: في هذا العلم.

    (عن عوارضه) أي: عوارض ذلك الشيء الذي هو الموضوع.

    (الذاتية) أي: الراجعة إلى ذاته، وذلك أن هذا العلم الذي سندرسه -إن شاء الله تعالى- يبحث فيه عما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أركان الإيمان وتفصيلات تتعلق بها، وعن تعريف الإيمان وجزئياته المختلفة.

    هذا هو موضوع هذا العلم الذي سندرسه.

    1.   

    واضع علم العقائد وذكر بعض المؤلفين ومصنفاتهم

    واضع علم الاعتقاد

    واضع هذا العلم معناه: الذي نقله وفصله، ولا يقصد به الذي أنتجه وأبدعه؛ لأننا ذكرنا أن هذه العلوم جاءت من عند الله في القرآن، فالله سبحانه وتعالى هو الذي علمنا إياها، لكن من فصله وأخرجه عن غيره من العلوم؟

    اختلف فيه، فقالت طائفة: هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي مولاهم المتوفى سنة مائة وخمسين من الهجرة، وهو إمام أدرك عدداً من الصحابة، لكنه لم يرو عنهم رواية صحيحة، فقد رأى أنس بن مالك ، ورأى عدداً آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يوصف بأنه تابعي، ويقولون: إنه ألف كتاباً سماه الفقه الأكبر، وخصصه بمباحث الإيمان ومباحث العقيدة، لكن لا تصح نسبة هذا الكتاب إليه؛ لأنه لم يثبت بالأسانيد المتصلة إليه، ولا يظن أنه من تأليف تلك الطبقة، ولا من تأليف ذلك الزمان، فالتأليف تتضح عليه لمسات العصر الذي برزت فيه، وأقدم كتاب لدى المسلمين اليوم من التأليف هو مؤلف مالك الموطأ، وقد رواه عنه تسعمائة من الذين اشتهروا بالعلم والرئاسة في زمانهم، ولم يزل مسلسلاً بالأسانيد إلى وقتنا هذا، ولا يعرف كتاب أقدم منه اليوم لدى المسلمين.

    القول الثاني في واضع علم التوحيد: أنه أبو الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل الأشعري وهو من ذرية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري من أهل اليمن، وهو رجل عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وتوفي في أواسط القرن الرابع سنة ثلاثمائة وثلاثة وعشرون تقريباً، واشتهر بأنه واضع هذا العلم؛ لأنه جمع مذاهب الفرق المختلفة في مجالات العقيدة في كتاب له سماه (مقالات الإسلاميين)، وهذا الكتاب مطبوع ومتداول ومروي عن أبي الحسن بالأسانيد، وإن كان هو لم يبدع فيه شيئاً جديداً؛ لأنه ذكر أن مذهبه هو ما كان عليه أئمة الحديث، ومذهب السلف، وبين مذهب السلف في كتابه، وفصل فيه وشرحه، ولم يخالفه في شيء، فالكتاب لا يميز له مذهباً بخصوصه.

    لكن له كتب أخرى ألفها منها: كتاب اللمعة في الاعتقاد، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: رسالة النفس، وهو كتاب مطبوع، وكذلك: كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وهو مطبوع كذلك، وله كتب كثيرة أخرى غير مطبوعة، أشار لبعضها في بعض كتبه، وسبب القول بأنه واضع هذا العلم كثرة مؤلفاته فيه، وانشغاله به، وإلا فإن الذين ألفوا في هذا العلم من معاصريه عدد لا يستهان بهم.

    والذي يبدو أن هذا القول غير صحيح أيضاً، فإن الأشعري لم يكن السابق في التأليف في هذا العلم، بل سبقه عدد من الناس، لكن الذين سبقوه من المحدثين مثلاً لا يعتنون بجوانب هذا العلم المختلفة، ولا يفصلونه عن علم الحديث.

    ذكر بعض الكتب المصنفة في الإيمان والاعتقاد

    ألف السلف بعض الكتب التي سموها بالإيمان مثل كتاب الإيمان لـأبي بكر بن أبي شيبة ، وكتاب الإيمان لـابن أبي عاصم ، وكتاب الإيمان لـأبي خيثمة زهير بن حرب ، شيخ الإمام مسلم بن الحجاج ، وكذلك كتاب السنة للحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي شيخ البخاري وتلميذ الشافعي ، وكذلك كتاب السنة لـأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، وكذلك كتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل الشيباني وهو معاصر للأشعري ، وكذلك كتاب السنة لـأبي بكر الخلال وهو من أصحاب الإمام أحمد كذلك.

    وكذلك بعض المحدثين الذين جاءوا بعد الأشعري مثل ابن مندة الذي ألف كتاب الإيمان وهو كتاب حافل، ومثل أبي بكر بن خزيمة إمام الأئمة الذي ألف كتاب التوحيد وهو كتاب مهم في بابه، فهؤلاء لم يؤلفوا هذه الكتب على طريقة التخصص، وإنما ألفوها على طريقة المحدثين، فيذكرون أسانيدهم ببعض الآثار وبعض الأقوال المنسوبة إلى الصحابة أو التابعين أو من دونهم من السلف.

    وأما الذين ألفوا كتباً متخصصة في الردود على بعض الطوائف فإن كتبهم أيضاً لم تستوعب جميع هذه الجوانب، ومن هؤلاء البخاري رحمه الله، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي ، فقد ألف كتاباً سماه: خلق أفعال العباد والرد على الجهمية، وكذلك الدارمي ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك الإمام أحمد ألف كتاب الرد على الجهمية، وكذلك يحيى بن معين فقد كتب ورقات في الرد على الجهمية، لكن هذه الردود لا يقصد بها تناول جوانب الاعتقاد المختلفة، وإنما ترد بعض الشبهات التي أثارتها بعض الطوائف الإسلامية وبالأخص طائفة المعتزلة في مختلف تشعباتها وآرائها.

    ثم بعد هؤلاء جاء من وضع أصولاً جامعة مانعة في الاعتقاد كالإمام أبي جعفر أحمد بن سلامة الأزدي المشهور بـالطحاوي الحنفي، وهو ابن أخت إبراهيم المزني تلميذ الشافعي ، وقد ألف كتاباً في الاعتقاد سماه: عقيدة الأئمة، ويقصد بالأئمة أبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني ، وأبا يوسف وهي عقيدة الطحاوي الموجودة بين أيدينا اليوم في ورقات صغيرة، لكن تلقتها الأمة بالقبول فكثرت شروحها.

    ثم جاء بعده الإمام أبو بكر البيهقي وألف كتاباً سماه: الاعتقاد، لكنه سار فيه على طريقة الأشعري في مذهبه الأوسط في كثير من أموره، ولا يمكن أن يعتبر البيهقي واضعاً لعلم العقيدة أو علم الاعتقاد؛ لأنه قد سبقه الأشعري وتبعه في كتابه هذا، وحتى في كتابه الذي ألفه على طريقة المحدثين وهو كتاب الأسماء والصفات، فإنه أول فيه بعض الأحاديث على طريقة الأشعري .

    كذلك من الذين ألفوا كتباً مستقلة في هذا الباب: الإمام الدارقطني ، وقد ألف كتاب الصفات، وهو كتاب صغير، وكتاب القدر، وهو كتاب صغير كذلك، وكتاب الرؤية، لكن هذه الكتب كلها تعالج جانباً واحداً من جوانب الاعتقاد، ولا تلم بجميع جوانبه.

    وقد سبق التأليف في القدر، فقد كتب مالك رسالة في القدر لكنها لم ترو بالأسانيد. وألف عبد الله بن وهب صاحب مالك كتاباً في القدر وهو موجود ومطبوع، لكنه يتعلق بجانب واحد، وألفه على طريقة المحدثين بذكر الأسانيد، ولا يذكر القواعد العقلية التي تميز هذا العلم وتجعله مستقلاً عن علم الحديث.

    أشهر المؤلفين في علم العقائد

    فمن هنا يصعب علينا أن نعين شخصاً واحداً بأنه واضع هذا العلم بالكلية، لكن رجالاته الذين اشتهروا فيه، وأبرزوا هذا العلم ونشروه: أبو الحسن الأشعري و الطحاوي و البيهقي و أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء، وكذلك يحيى بن مندة أبو القاسم ، وكذلك الإمام أبو بكر بن خزيمة .

    ثم جاء بعد هؤلاء أئمة توالوا على التصنيف في الاعتقاد، ومنهم أبو بكر الباقلاني وهو من أشهرهم وأكثرهم اهتماماً بهذا الجانب وأقواهم حجة في المجال العقدي، وقد نشأت مدرسة كبيرة بعد الباقلاني من تلامذته مثل أبي إسحاق الإسفرائيني ومثل أبي إسحاق الشيرازي ومثل أبي المعالي الجويني ومثل القاضي الحسين الشافعي.

    وبعد هؤلاء جاء أبو حامد الغزالي المتوفى سنة خمسمائة وخمسة، ثم بعده الرازي المتوفى سنة ستمائة وستة، ثم بعده عدد كبير من الأئمة إلى أن نصل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ومعاصريه أمثال علي بن عبد الكافي السبكي والإمام الذهبي محمد بن عثمان ، وكذا أبو بكر شمس الدين بن القيم فإنه يعد في عداد المبدعين في هذا المجال المؤلفين فيه، فهؤلاء أهم المشاهير الذين ألفوا في مجال الاعتقاد.

    ويمكن أن نعد منهم أيضاً بعض المحدثين الذين أفردوا كتباً في هذا المجال، ومن هؤلاء الآجري الذي ألف كتاب الشريعة، وكذلك ابن البناء الحنبلي الذي اختصر كتاب الشريعة في كتابه المختار، وكذلك اللالكائي الذي ألف كتاب شرح أصول الاعتقاد، وكذلك القاضي أبو يعلى الحنبلي الذي ذكر في طبقات الحنابلة تفاصيل مذهب أحمد في كثير من الأمور العقدية، وكذلك عبد العزيز الكناني الذي تصدى للجهمية وحاول الرد على كثير من شبهاتهم، وإن كان لم يتطرق لجوانب الاعتقاد الأخرى، فكتابه الحيدة ذكر فيه مناظرته مع بشر المريسي فقط.

    1.   

    نسبة علم العقائد واستمداده

    إن نسبة هذا العلم إلى سائر العلوم هي نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ لأنه يشترك مع هذه العلوم في المنبع والمأخذ، فكل العلوم الشرعية مأخذها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتطويرها باجتهادات أهل العلم الراسخين فيه، فالمأخذ، واحد فتشترك في بعض الجوانب فيما بينها، فمثلاً كثير من صفات الله سبحانه وتعالى ستبحث هنا في المجال العقدي، لكنها تبحث أيضاً في مجال الحديث؛ لأنها رويت بأسانيد سيبحث في صحة تلك الأسانيد وضعفها، فإذاً هذه مما يشترك فيه علم الحديث مع علم الاعتقاد.

    كذلك بعض الصفات يبحث فيها أيضاً في التفسير؛ لأنها جاءت في القرآن، فيشترك مع علم التفسير من هذا الوجه.

    كذلك مع العلوم اللغوية، فالعلوم اللغوية هي التي يبحث فيها في دلالات النصوص من القرآن والسنة، وهذه النصوص دلالاتها ترجع إلى أمرين: دلالات الألفاظ من حيث وضعها، أي: ما تدل عليه وضعاً، وهذا البحث فيه لغوي محض، ثم دلالاتها من حيث الاستنباط: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83] ، وهذه دلالة جانبية غير الدلالة الوضعية الأصلية، فتشترك العلوم اللغوية مع العلوم الشرعية من هذا الوجه.

    فإذاً لا يمكن أن يستقل هذا العلم عن غيره من العلوم؛ لأن نسبته إلى غيره من العلوم نسبة العموم والخصوص الوجهي، فيشتركان في شيء وينفرد كل واحد في شيء يختص به، وهذا معنى هذه النسبة.

    أما مستمد هذا العلم فهو الوحي بنوعيه القرآن والسنة، وقضايا العقول التي تنبني على ما ذكر في الوحي، هذا مستمده الذي يرجع فيه إليه، يمكن أن يضاف إلى هذا أن ترتيب حججه يرجع فيه أيضاً إلى علم الجدل وعلم المنطق للحاجة إليهما في ترتيب الحجج، فهما قالب ومعيار يوزن فيه كل شيء، فيمكن أن يستغلا في أي علم من العلوم، فإذا أردنا إثبات أي شيء عن طريق العقل فإننا لابد أن نرجع إلى القواعد المنطقية، وإذا أردنا المناقشة في أي شيء لبيان صوابه أو خطئه لابد أن نرجع إلى علم الجدل. إذاً هذا مستمده.

    1.   

    فضل العلم

    إن هذا العلم من أفضل العلوم الشرعية؛ لأن فضل كل علم إنما هو بحسب فائدته، وهذا العلم به يزداد إيمان الإنسان وتزداد محبته لله سبحانه وتعالى إذا سلك به الطريق الصحيح.

    أما إذا لم يسلك به الطريق الصحيح كما حصل في أيام الذهبي رحمه الله، مما حمله على أن يقول عن علم التوحيد: إن مدارسته تؤدي إلى القسوة وعدم الخشية؛ لأنه أصبح عبارة عن مناقشات ومطاحنات وتعصبات بين الفرق، ولم يعد يبحث فيه عن أصله الذي هو ما يدل على الاتصال بالله سبحانه وتعالى، ويلزم الإنسان خشيته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] فمن لا يعرف الله لا يخشاه، وفائدة معرفتك لصفات الله محبتك له، فأنت تعرف أنه المتصف بصفات الكمال، وأنه الذي لديه ما ينفعك ولديه ما يضرك، وهو وحده القادر عليك، ومن أجل هذا تحبه وترغب فيما عنده وتتصل به.

    فإذا لم تنظر هذا المنظار في هذا العلم فلم تستغله استغلالاً صحيحاً، وحينئذ يؤدي إلى نتائج عكسية، وذلك إذا جعل مجرد مطاحنات واختلافات وأمور عقلية بحتة، فيؤدي إلى القسوة ويؤدي إلى التصلف وسوء الخلق، أما إذا أخذ بمأخذه الأصلي وهو البحث عما يزيد حبك لله وعلاقتك به وخشيتك له، فإنه يزيد رقة ويزيد خشوعاً وخشية لله سبحانه وتعالى، وهذا المطلوب فيه، فهو من هذه الناحية من أفضل ما يشتغل به من العلوم لكننا سنذكر في ذلك تفصيلاً، فدرجاته متفاوتة من ناحية الفضل كغيره من العلوم.

    1.   

    حكم تعلم علم العقائد

    إن الحكم الشرعي لهذا العلم ينقسم إلى قسمين باعتبار المدروس فيه:

    القسم الأول: ما يجب على الأعيان: وهو ما يحقق به الإنسان إيمانه بأركان الإيمان الستة، وهذا القدر واجب على كل مسلم، فلا يدخل الإنسان الإسلام حتى يؤمن بأركان الإيمان الستة، ويجب ذلك على وجه الإجمال ولا يجب على وجه التفصيل، لا يجب أن تعرف كل مسائل القدر كالطيرة والتمائم والفأل ونحو ذلك، فهذه من تفصيلات القدر، إنما يجب عليك الإيمان بالقدر خيره وشره.

    القسم الثاني: الواجب الكفائي: والواجب الكفائي ما يجب على الأمة جميعاً تعلمه من هذا العلم، وهو بقية المسائل التفصيلية، فهذا العلم بكل دقائقه وبكل ما يحدث فيه فرض كفاية على الأمة يجب عليها تعلمه، سواء منه ما طرأ وتجدد وما كان معروفاً في عهد السلف.

    فالذي يطرأ منه ويتجدد يتوقف على ظهور الشبهات التي تحصل في اعتقاد الناس، ويجب رد هذه الشبهات ومعرفة الصواب منها من الخطأ، وكل أمر تجدد لابد أن ينطلق الناس منه من هذا المنطلق، وأن يعرفوا حكم الله فيه، ويجب على الأمة أن يكون فيها من يستطيع معرفة الصواب فيه من الخطأ، فإن لم تفعل الأمة أثمت بعمومها، وإن قام بذلك من يكفي سقط الإثم عن البقية، وهكذا فروض الكفاية كلها.

    وفرض الكفاية عند القيام به فإنه يكون نافلة من النوافل، من قام به يزداد أجره ويزداد ثوابه، ولكنه لا يكون قائماً بالفرض نفسه، لكن قال العلماء: ينبغي أن ينوي نية فرض الكفاية ليحصل له الثواب ولو كان قام به الغير، وذلك حتى يحصل له ثواب فرض الكفاية، فمثلاً نحن الآن نتعلم هذا العلم مع أنه يوجد كثير من المتخصصين فيه، ولا يجب علينا بأعياننا، لكن ينبغي أن ننوي نية فرض كفاية ليحصل لنا أجر الواجب، ولا نقتصر على نية الندب فقط.

    ومن هنا فإن قضية استحضار النية في دراسة أي علم من العلوم مقتضٍ بأن يستمر الإنسان فيه وألا ينهزم أمامه؛ لأن العلوم فيها كثير من المشقة وكثير من المسائل الصعبة جداً، وإذا دخل إليها الإنسان يريد ترويحاً عن نفسه ويريد إشباع رغبة لديه فقط، فإنه إذا صدم بأول مسألة تراجع وقال: لا أستمر في هذا الطريق، لكن إذا لم تكن نيته مجرد الاكتشاف والبحث، وإنما جاء بنية التقرب إلى الله والعبادة بحفظ هذه العلوم على الأمة، وسد مسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذه النية تقتضي منه الصمود والصبر حتى لو عانى ألف مشكلة، فيستمر على هذا الطريق صامداً عليه صابراً.

    1.   

    فائدة تعلم علم العقائد

    إن فائدة هذا العلم تحصيل محبة الله سبحانه وتعالى بمعرفة صفاته، وتحصيل محبة رسله بمعرفة ما يجب لهم وما يتصفون به، وزيادة الإيمان بتفصيل مسائل هذا العلم مثل مسائل القدر وغيرها، ورد الشبهات التي تثار في اعتقاد المسلمين، سواءً كانت من قبل المسلمين أو من قبل أعدائهم، فهذه الشبهات من إيحاء الشيطان، يلقيها فتكون وحياً يوحيه إلى أوليائه: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ[الأنعام:121] ، فيحتاج إلى من يرد هذا، إذ لو لم ترد لوجدت أنصاراً وأعواناً، وسمعت من يصيخ لها ويستقبلها، فحينئذ تشيع فلا يميز الناس بين الحق والباطل وتنتشر بنيات الطريق وينصرف الناس عن طريق الهداية.

    ومن هنا احتيج إلى معرفة هذه الشبهات والرد عليها وأن يتقوى ساعد الإنسان لكل شبهات محتملة؛ لأننا لا يمكن أن نحصر الشبهات الواردة في الاعتقاد فيما سندرسه هنا، وإنما نريد بدراستنا لهذه الأمثلة أن تتقوى سواعدنا وأذهاننا في المستقبل لأي شبهة جديدة، فإذا جاءت أية شبهة كنا لها بالمرصاد، وعرفنا كيف تزال هذه الشبهة، وكيف نتمسك بالدليل، وكيف نتمسك بالصواب الذي لا محيد عنه، وكيف نميزه ونزيل الإشكال فيه حتى لا يلتبس بغيره.

    فإذاً هذه فائدة هذا العلم.

    1.   

    تسمية علم العقائد

    إن الناس يتفاوتون في تسمية هذا العلم:

    فمنهم من سماه بالتوحيد، وهذا من تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان بالرقبة، فيقال: تحرير رقبة، ولا يقصد بها الرقبة وحدها بل الإنسان بكامله، وكذلك في الحيوان تقول: رأس من الغنم، رأس من البقر، ولا يقصد به الرأس وحده إنما يقصد به كامل البدن.

    والتوحيد هو رأس ما يدرس في هذا العلم؛ لأنه الإيمان بالله وهو الركن الأول من أركان الإيمان الستة، فتوحيد الله سبحانه وتعالى هو أحد هذه الأركان الستة وهو أهمها وأولها، فسمي هذا العلم بكامله باسم جزئه.

    التسمية الثانية: تسميته بعلم الاعتقاد، وهذه التسمية وإن كانت أشمل من سابقتها؛ لأنها تشمل ما يجب اعتقاده في حق الله وفي حق الرسل وفي حق الملائكة، وكذلك تفصيلات القدر واليوم الآخر والكتب المنزلة وغير ذلك، إلا أنها لا تتناول إلا القطعيات فقط، فإن الاعتقاد إنما يشمل ما هو قطعي، لأنه لا ينبغي أن يكون فيه شك، ويمكن أن تكون المسألة من الاعتقاد ومشكوك فيها أن الصواب كذا أو الصواب كذا، فيكون فيها خلاف، وعليه فإن مسائل هذا العلم ليست كلها قطعية، بل فيها كثير من الظنيات وفيها كثير من المسائل الخلافية التي سنتحير فيها ونتوقف، ومرجع ذلك إما إلى صحة دليل وعدم صحته أو تعارض أدلة، أو أن الأمر لم يرد فيه نص أصلاً وأحيل الاجتهاد فيه إلى العقول، وهذه المسائل تبع للمسائل القطعية الثوابت، فالمسائل القطعية هي التي حسمها الوحي، والمسائل الظنية هي التي لم يحسمها الوحي، فالمسائل القطعية هي الاعتقاد ويجب على كل المسلمين أن يتفقوا فيها وأن يعتقدوا هذا المعتقد ولا يحل المخالفة فيه.

    المسائل الأخرى التي هي ظنون وعليها أدلة لكل من الجانبين، ولا يمكن الحسم فيها؛ هذه ليست من الاعتقاد، إنما هي أمور فيها خلافات مثل مسائل الفقه.

    ففروع الأصول هي فروع علم الاعتقاد وهي كثيرة جداً، وسيتبين لنا أن كثيراً من المسائل التي ندرسها في هذا العلم ليست من الاعتقاد لأنها محل خلاف، وهذه من أمثلتها قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة فيها خلاف وليس فيها حسم قاطع، فلذلك هي من المسائل التي هي ظنية فقط، ولذلك كان الأولى ألا تدخل في الاعتقاد، ولا يقال من المسائل العقدية؛ لأنها مسألة فقهية وهكذا.

    والتوسل به صلى الله عليه وسلم يشمل التوسل به بعد موته أو في حياته، والخلاف في التوسل بشخصه وليس بدعائه، فالتوسل بشخصه في حياته وبعد موته كله محل خلاف؛ لأن التوسل به في حياته إنما هو توسل بدعائه، لكن التوسل به في حياته في غيبته مثلاً توسل بشخصه، وهو مثل التوسل به بعد موته؛ لأنه هو حي في قبره حياة برزخية، ولا يمكن أن يدعو هذا الدعاء، والمسألة سنذكر إن شاء الله بعض تفصيلاتها، وهي طويلة لأنها تدخل فيها تقريباً ست مسائل، وكل مسألة منها يمكن أن نذكر فيها خلافاً ونذكر فيها أدلة.

    إذاً تسميته بعلم الاعتقاد عليها هذا المأخذ.

    ويسميه بعض الناس أيضاً بعلم الكلام: والمقصود بذلك العلم المتعلق بكلام الله، وذلك أن مسألة كلام الله من أوليات المسائل التي حصل فيها الخلاف بين هذه الأمة، واشتهر فيها تفرق الفرق، فمن أجل ذلك كثرت الكتب المؤلفة فيها، وكثرت الفرق المختلفة على أساسها، فسمي هذا العلم باسمها، وهي تسمية للشيء باسم بعضه أيضاً، فالكلام صفة واحدة من صفات الله سبحانه وتعالى التي تدخل كلها في قسم واحد من أقسام التوحيد؛ لأن الأسماء والصفات قسم من أقسام التوحيد التي سنذكرها، وهذه صفة واحدة من الصفات، فسمي بها العلم كاملاً.

    كذلك من تسميات هذا العلم تسميته: بعلم الأصول، سواءً كانت بالإطلاق أو بالإضافة فيقال: أصول الدين ويقال: (الأصول) مطلقة، فهذه التسمية في الأصل للمعتزلة، وهم أول من فعلها؛ لأن لديهم أصولاً يمتحنون الناس على أساسها، وهي أصولهم المعروفة التي هي: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه مسائلهم التي هي أصولهم، سموها بالأصول وسموا هذا العلم باسمه، لكن تبعهم كثير من المتكلمين في هذه التسمية وسموا هذا العلم أيضاً علم أصول الدين، ويقابلون به علم أصول الفقه، جعلوا الدين منقسماً إلى أصول وفروع، فالفروع هي أعمال البدن الظاهرة، والأصول هي أعمال القلب، وذلك أن أعمال البدن مبنية على أعمال القلب؛ لأن الدافع من وراء أي عمل هو دافع عقدي، وكل عمل ليس من ورائه دافع عقدي يقتضيه فإنه مبني على غير أساس، فالصلاة إذا لم تكن عن قناعة بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا فائدة فيها؛ لأنها مبنية على غير أساس، فأساس كل الأعمال التمييز بين الحلال والحرام، فتكون العبادة والمعاملة على أساس الاعتقاد، فإذا اختل هذا الأصل فإنه على شفا جرف هار حتى لو أحسن في الأعمال الأخرى وجاءت محكمة مائة بالمائة؛ لأنها ليس لها أصل، فمن أجل ذلك سموه بأصول الدين.

    هذه هي أهم تسميات هذا العلم.

    1.   

    مسائل علم العقائد

    مسائل العلم هي التي تذكر فيه تفصيلاً، وقد ألف فيها كثير من الكتب، وهذا النظم الذي لدينا حاول صاحبه ذكر بعض المسائل المتعلقة بهذا العلم، وأحالها على النصوص الشرعية، على حسب ما جاء في الآيات والأحاديث، ولم يقسمها على تقسيم أصولها التي هي هذه الأركان الستة.

    1.   

    الأسئلة

    هل الطحاوي واضع علم العقيدة؟

    السؤال: لماذا لا يقال: إن الطحاوي هو واضع هذا العلم؛ لأن الذين سبقوه إنما ركزوا على جزئيات مخصوصة، وهو قد جمع أكثر جزئيات العلم في عقيدته؟

    الجواب: إن الطحاوي إنما ذكر عقيدة الأئمة فقط، وكثير من المسائل الأخرى التي حصل الخلاف فيها في الأمة لم يتعرض لها، وكثير من المسائل العقدية التي ضلت فيها فرق وكثرت تشعباتها لم يتعرض لها في الكتاب، وإنما أراد أن يفصل اعتقاد الأئمة عن عقائد الفرق، فلم يتعرض لكثير من المسائل التي هي مدروسة في زمانه ومعروفة ومألوفة.

    كثير من المسائل اشتهرت في زمانه أضرب عنها صفحاً مثل: المسألة اللفظية، وهذه حصل الخلاف فيها حتى بين كثير من أئمة أهل السنة من أئمة أهل الحديث، كما أنه ذكر بعض الأمور التي ليست من الاعتقاد، مثل المسح على الخفين لذلك إنما يقتضي تميز مذهب الأئمة عن مذهب الشيعة فقط.

    اختلاف العلماء في واضع علم الكلام

    السؤال: هل يتفق أهل مذهب على من وضع علم الكلام؟

    الجواب: بالنسبة لهذه الأقوال التي ذكرناها في الخلاف في واضع هذا العلم، لا تختص بمذهب من المذاهب المختلفة، فلا يتعصب مذهب من المذاهب للوضع إلا ما جاء عن الحنفية فيقولون: واضعه أبو حنيفة ، لكن لا يتفق الشافعية على أن واضعه أبو الحسن الأشعري وإن كان شافعياً، بل إن بعض الشافعية ينكر أنه الواضع الحقيقي لهذا العلم؛ لأن الشافعي نفسه له كلام كثير في هذا العلم، وله مناظرات ومناقشات مع حفص الفرد ومع غيره، وكذلك المالكية لا يقولون إن واضعه الباقلاني مثلاً وإن كان مالكياً، لكن لـمالك كلام في هذا الباب ولـابن وهب ولعدد من الأئمة وكذلك الحنابلة.

    فلا يتفق أهل مذهب من المذاهب على أن واضع هذا العلم هو فلان الفلاني، ومن هنا فإن كثيراً من المعتزلة حاولوا الإلمام ببعض جوانب هذا العلم قبل عدد من الذين ذكرناهم، فمثلاً النظام من المعتزلة ذكر بعض جوانب هذا العلم وجمعها، وكذلك أبو الهذيل العلاف وعدد من أئمة المعتزلة الكبار جمعوا في هذا العلم أشياء، لكن كثيراً منهم لم يؤلف مثل عمرو بن عبيد فإنه وإن كان ناقش في أكثر مسائل العقيدة وتخصص فيها لكن لم يكتب آراءه، إنما رويت عنه ونقلت، وحتى كان من تلامذته المنصور أمير المؤمنين فقد كان يزكيه ويقول:

    كلكم يطلب صيد كلكم يمشي رويد غير عمرو بن عبيد

    وبعد هذا اشتهر من المؤلفين منهم في هذا المجال: أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم والقاضي عبد الجبار ، والقاضي أبو الحسين البصري من الأصوليين الذين اشتهروا في هذا العلم أيضاً وجمعوا فيه.

    الفرق بين الإيمان بالملائكة والإيمان بالجن

    السؤال: لماذا كان الإيمان بالملائكة ركناً من أركان الإيمان ولم يكن الإيمان بالجن كذلك؟

    الجواب: ذكرنا أن أهم شيء ينفع العقل البشري فيما يتعلق بجنود الله سبحانه وتعالى الغيبية، هو الإيمان بالملائكة، ولهذا كان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان، لكن مع هذا نؤمن بالجن ووجودهم، ولكن فائدة ذلك للعقل محدودة، ولهذا لم يكن الإيمان بهم ركناً من أركان الإيمان وإنما كان جزئية من الإيمان بالكتب المنزلة؛ لأنه ثبت نزوله في الكتب المنزلة، لكن لو كان لنا في الجن مثل حسن لكان الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان.

    فتبين أنه يجب الإيمان بالجن لكن ليس ركناً من أركان الإيمان، لأنه ليس لنا فيهم مثل حسن ولا أسوة حسنة، ولا نستفيد كثيراً من الإيمان بهم، لكن إيماننا بالملائكة كيف يؤثر علينا عقلياً وعاطفياً؟ وكيف يقتضي محبتنا لله سبحانه وتعالى، ومنافستنا في عبادته؟ واضح جداً أن الإيمان بالملائكة مفيد لنا، وأن الإيمان بالجن فائدته محدودة.

    دخول الإيمان بالجن في الإيمان بالكتب المنزلة

    السؤال: هل الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالقرآن؟

    الجواب: نعم الإيمان بالجن يدخل في الإيمان بالكتاب؛ لكنه لم يكن ركناً مستقلاً لنقص أهميته للعقل، وبالنسبة لمن أنكر وجود الجن فإنه يكفر لكن كفرانه بإنكاره لبعض ما جاء في الكتب المنزلة، لكن ليس لركن من أركان الإيمان المستقل، وهذا طبعاً لا يكفر قبل إقامة الحجة عليه، فإنه إذا كان يجهل أن الجن ورد لهم ذكر في القرآن فأنكر وجودهم لا يكفر؛ لأنه لا يجب تعلم آيات الجن من القرآن، لكن من بلغه أن هذا في القرآن فأنكره تكذيباً للقرآن فإنه كافر بركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالكتب المنزلة.

    لكن من جهل ذلك وما عرف أن القرآن فيه ذكر للجن، فأنكر وجودهم لا يكفر.

    فائدة الإيمان باليوم الآخر

    السؤال: ما فائدة الإيمان باليوم الآخر؟

    الجواب: ذكرنا أن الإيمان باليوم الآخر مفيد لنا في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الأخرى، فحياتنا الأخرى كلها مرتبطة بالإيمان باليوم الآخر؛ لأن من آمن بأنه سيحشر ويبعث سيعمل لئلا يكون من الأشقياء ولئلا يكون من أصحاب النار، لكن فوائده في الدنيا منها: استمراره في العمل الدنيوي ليبقي ذكراً حسناً وفائدة بعده؛ لأن اليوم الآخر عندنا يبدأ من الموت: (إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته)، والإنسان إذا علق كل أعماله على موته هو لا يدري متى يموت؛ فكل لحظة يمكن أن يموت فيها، فلو كان لا يعمل إلا لحياته الدنيا فقط، ولا يشعر بشيء في المستقبل لما أتى بالمشاريع النافعة التي تستمر مئات السنوات أو آلاف السنوات، ولا ألف كتاباً ولا بنى مبنىً ولا أجرى نهراً ولا زرع زراعة ولا أقام أي مشروع تستفيد منه البشرية في المستقبل.

    لكن نظراً لأنه يؤمن بأن حياته ليست مقتصرة على هذه الحياة الدنيا، وأن هذه الحياة الدنيا إنما تمثل جزءاً بسيطاً من حياته وهي وقت الامتحان فقط، أما الحياة الحقيقية فهي الحياة الأخروية؛ فمن هنا تعمل لذلك وتريد الاستمرار للجنس البشري وتريد -نظراً لمحبتك لله- أن يعبده الناس، حتى إذا عجزت أنت عن عبادته تحب أن يعبده جبريل وميكائيل، وتحب أن يعبده أقوام آخرون لم ترهم.

    تداخل عناصر الدين وترابطها في تغذية الروح والبدن

    السؤال: عناصر الدين الثلاثة يلاحظ أن كلاً منها يفيد الروح والبدن، وأنتم خصصتم فائدتها، فكيف ذلك؟

    الجواب: ما يلاحظ من الارتباط أو التداخل بين هذه العناصر من أن الإيمان فإنه قد يفيد الروح أيضاً وقد يفيد البدن، والإسلام كذلك يفيد الروح ويفيد البدن، والإحسان يفيد الروح ويفيد البدن والعقل.

    فيجاب عن هذا: بأن هذا التداخل نظراً لترابطها ولأنها عناصر لشيء واحد وهو الدين، والعناصر لا يمكن إفراد كل واحد منها وحده؛ فلا ينفع الإيمان دون الإسلام، ولا ينفع الإسلام دون الإيمان، ولا ينفع واحد منهما دون الإحسان فلابد من جمع الجميع حتى يقع التوازن، وتوجد نقاط معينة لالتقاء هذه الجوانب يصعب تحديدها جداً، مثل الروح مع البدن، هل تستطيع أن تفصل روحك عن بدنك؟ وهل تستطيع أن تفصل عقلك عن بدنك وروحك؟

    هذه مشتبكة، لكن أنت تفهم أن عناصرك الأساسية هي هذه الثلاثة، وتفهم أن عناصر الدين الأساسية هي هذه الثلاثة، لكن هناك مناطق تتداخل فيها، ويصعب عليك تحديدها بالضبط ولا تحتاج إلى ذلك، والعلم حاجتك إليه عقلية، فما ليس منه مفيداً نافعاً لك ولا يترتب عليه عمل لا ينبغي أن تشغل به وقتك، وما كان نافعاً لك مفيداً هو الذي تركز عليه، فالعلم الذي يترتب عليه العمل أهم من غيره؛ لأن غيره مجرد ترف في العلم.

    اعتقاد عدم فناء النار من الأمور الظنية في علم التوحيد

    السؤال: هل اعتقاد عدم فناء النار من الأمور القطعية في الاعتقاد؟

    الجواب: بالنسبة للجنة لم يقل أحد من المسلمين بفنائها، لكن النار فيها خلاف، وهذا الخلاف يقتضي ألا تكون من الأمور القطعية، بل هي من الأمور الظنية في هذا العلم، وسنذكر ذلك إن شاء الله في موضعه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768429304