الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حياتين: إحداهما هي هذه الدار التي هي دار عمل ولا جزاء، والأخرى هي دار الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل.
وجعل الإنسان يبدأ بهذه الدار الدنيا التي اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو لقربها، أو مشتقاً من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
جعل الإنسان يبدأ هنا بهذه الدنيا ليتزود للدار الآخرة، وجعل هذه الحياة الدنيوية إنما هي ورد وعرض زائل، وجعل الدار الآخرة هي الحيوان، أي: الحياة المتجددة الباقية.
وأتاح للإنسان ثلاث فرص للنجاح في الامتحان، هذه الفرص هي التي يمكن أن نسميها أعماراً.
فالعمر الأول: عمر الإنسان الشخصي الذي يبدأ من النفخ فيه، نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، كما في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد).
فمن هنا يبدأ عمر الإنسان الشخصي، وينتهي بقبض الروح منه، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34] ، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً[النازعات:1-2] .
وهذا العمر ما يعمل الإنسان فيه من خير وشر فإنه يجده يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30] ، وهذا العمر أمده مجهول، لا يدري الإنسان متى يناديه منادي الله، لكنه يعلم أنه إذا ناداه فلن يتأخر لحظة، ويعلم أنه إذا ناداه منادي الله فلن تتاح له فرصة للتأخر، لكنه لا يدري متى يناديه المنادي.
ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد قبل أن يناديه المنادي إلى الدار الآخرة للنجاة، عليه أن يجتهد في عمره هذا ليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يكون وسيلة سعادته يوم القيامة يوم العرض على الله، وهذا العمر المحدود في علم الله المجهول لدى الإنسان يعتري الإنسان فيه كثير من الشواغل والصوارف التي تحاول فتنته وصرفه عن استغلال هذا العمر فيما يرضي الله، ومع ذلك فهذا العمر ثمين جداً، وهو رأس المال، والإنسان فيه محتاج إلى أن يستغله أبلغ استغلال، ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته، فإما أن يستغله الاستغلال الصحيح فيتغلب على الشواغل والصوارف التي تصرفه عن هذا الاستغلال، وهذا هو النجاح الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالربح في قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً تجاراً، لكن منهم من ينجح في تجارته فيربح، ومنهم من لا ينجح في هذه التجارة، فالعمر هو رأس المال، بمثابة الدراهم التي لدى الإنسان يقضي بها حاجته، كما قال الحكيم:
والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي به حاجاته
فكل أربع وعشرين ساعة هي محطة من محطات العمر، تنادي كل دقيقة من دقائقها إذا لم تستغل: قد ضاعت منك فرصة يا ابن آدم. لأنه بالإمكان أن يقول الإنسان في كل لحظة منها: لا إله إلا الله، فيجدها وقت الحاجة إليها، وهو يعلم أنه سيحال بينه وبين ذلك، فإذا مات وأخذت روحه فإنه لن تتاح له الفرصة بعد ذلك ليقول: لا إله إلا الله.
ومن هنا فإن هذه الصوارف والشواغل إذا اتبعها الإنسان سيتمنى على الله الأماني، وسيغره الشيطان ببقائه في هذه الدنيا ويوسوس إليه ويخيل إليه أنها دار بقاء وأنه مستمر فيها، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الشيطان يعقد على قافية رأس ابن آدم ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم) يريد أن يحول بينه وبين ما يقربه إلى الله من الطاعة، فيحاول أن تمضي الأوقات في المعصية، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً حاول أن تكون فارغة لا للإنسان ولا عليه، وهذا هو غاية الخسران؛ لأن هذه الساعات إذا لم تشحن بالطاعة فإما أن تشحن بالمعصية -نسأل الله السلامة والعافية- فتكون حسرة ووبالاً، أو تمضي فارغة ليس فيها فائدة، فيكون الإنسان قد قامت عليه الحجة، وأنعم الله عليه بنعمة التعمير، ويناديه يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .
إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11] .
وقال تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100] ، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً[الزمر:56-58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ[الزمر:58] .
فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).
وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا.
ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.
في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً. يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً.
كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[يس:12] .
إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه[الزلزلة:7-8] .
إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا
ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).
والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94] .
يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا.
ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22] .
ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم.
حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش. ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. ثم أنشأ يقول:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا
وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب
وقال آخر:
ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا
يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا
سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا
والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا
إن فرصة التعمير في هذه الدار فرصة لا تعوض، والشواغل التي تشغل الإنسان وتجعله يضيع عمره في غير طائل كثيرة جداً، من أعظمها خمسة، هي أعداء الإنسان التي تحيط به.
قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] .
ومشكلة الشيطان والناس أن الناس يصدقون الخبر ولا يمتثلون الأمر، فهذه الآية متضمنة لخبر وأمر، فقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ[فاطر:6] هذا خبر يصدقه كل الناس، والأمر: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] ، هذا أمر لا يعمل به إلا قليل من الناس، فإذا تذكر كل واحد منا أن الشيطان عدو له علم أن العدو لا بد أن يبذل الإنسان في سبيل عداوته شيئاً؛ إذ لا يمكن أن تستشعر أن هذا الشخص عدو لك ولا تبذل أي شيء في سبيل عداوته وضرره.
إن عداوتك للشيطان هي بعداوتك لآرائه وما يلقيه عليك، ووسوسته وشبهه، وكذلك بعداوتك لحزبه الذين يصدون عن سبيل الله.
قال الله فيها: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[يوسف:53] .
والنفوس التي تجبل على طول الأمل وعلى العدول إلى الراحة والطمأنينة تغر الإنسان بنفسه، وتجعله يضيع الفرص النادرة، فهي عدو من هذا القبيل، ولهذا حذر الله من غوائلها، وحقوق النفس على الإنسان ثلاثة: هي الانتصار منها للغير، وترك الانتصار لها، والخوف من غوائلها.
ثلاثة حقوق من جمعها أدى حقوق نفسه.
أولها: ترك الانتصار لها، فإذا زينت لك أنك قد اعتدي على حقوقك، وأنك لا بد أن تدافع عن نفسك وأن تأخذ حقك كاملاً فاعلم أن هذا هو عين الغرور، وأنها إنما تغرك بذلك، فهذا غرور وليس صواباً ولا حقاً، فلا تصدقها في ذلك.
ثانيها: الانتصار منها للغير، أن تأخذ منها الحقوق للآخرين كاملة غير منقوصة، وإذا لم تفعل ذلك كنت مطففاً، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:1-6] .
وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. أي: كل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.
هم الذين لا يعينون الإنسان على دين ولا دنيا، وهم أخلاؤه الذين يشغلونه عن طاعة الله، ويلهونه بما لا يرضي الله، فهم أعداء له يقتطعون جزءاً من وقته في غير طائل، ولذلك قال الله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ[الزخرف:67] .
ويقول تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً[الفرقان:27-29] .
والإخوان ثلاثة أقسام: القسم الأول: أخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمر دينك ودنياك.
القسم الثاني: أخ كالدواء تحتاج إليه في بعض الأحيان، ولكن لا ينبغي أن تكثر منه، وهو الذي يعينك على أمور دنياك فقط.
القسم الثالث: أخ كالداء، لا يعينك على دين ولا على دنيا، وإنما يقتطع جزءاً من عمرك فيضيعه عليه.
ولهذا يقول أحد العلماء:
الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا
ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا
وكم أخاً لست محتاجاً له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا
إن الإنسان قد يلهى بهم ويشغل فيفتن بهم، كما قالت الأعراب: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا[الفتح:11] ، والله سبحانه وتعالى حذر من أن بعض هؤلاء من هو عدو للإنسان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن:14] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ[التغابن:15] .
والله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35] ، وعلى هذا فكثيراً ما يبتلى الإنسان بما يشغله عن ذكر الله من الأهل والأموال، فيكون ذلك ملهاة له عن ذكر الله، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ[المنافقون:9] ، قد خسروا لأن العلاقة بهؤلاء منقطعة يوم القيامة، والمتاع في هذه الدنيا قليل يسير؛ لأنها دار الغرور، ولذلك فبقاء الإنسان مع أهله وماله في هذه الدنيا محصور، وانتفاعه منهم يسير، وهو منتقل إلى دار البقاء والخلود، فلهذا عليه أن لا يغتر بوجود هؤلاء.
إن للدنيا زخرفاً يجذب النفوس، وتميل وراءه العيون والطباع، وهذا ما نبه الله عليه في قوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132] .
ونبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطر هذه الدنيا ومفاتنها فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت).
فهؤلاء الأعداء الخمسة الذين يحيطون بالإنسان، وهم الشواغل التي تصرف الإنسان عن أن يستغل عمره وأن ينتهز الفرصة لإنقاذ نفسه ولنجاته من الموقف عندما يعرض على الله.
ولذلك يقول المختار بن بُنى رحمه الله تعالى:
للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر
ولله فضل لا يزال ورحمة ومنّ وتوفيق وعفو لمن وزر
إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر
ثم إن فوات الأوان يأتي بالتدريج والتقصير؛ لأن العمر لا يراه الإنسان وحدة متكاملة، وإنما هو أيام وليال وساعات وثوان تمضي بالتدريج، وكل يوم يمر هو عمر بكامله ينقضي؛ لأن أمس الدابر أمره لا يعود، بل يختم على عمله.
ولهذا ينادي المنادي إذا انصدع المنذر وقت طلوع الفجر فيقول: يا ابن آدم! إن أمسي قد ذهب بما فيه، وختم على أعمالي، وإنك أمامك الغد فاجتهد فيه.
ولهذا يقول أحد العلماء:
أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس
فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس
وهذا التدريج الحاصل في الوقت بين الله سبحانه وتعالى حكمته في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً[الفرقان:61-62] ، فالليل والنهار جعلهما الله تعالى خلفة يتعاقبان، فمن لم يزعه النهار ولم يذكره بالتوبة فإن الليل كفيل بذلك، ومن لم يزعه الليل ولم يذكره بالتوبة فإن النهار كفيل بذلك، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
العمر الثاني بعد العمر الشخصي هو عمر هذه الدنيا التي لها نهاية حتمية لا بد منها، ومشكلتها أن نهايتها مثل نهاية العمر الشخصي بغتة: لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً[الأعراف:187] .
لكننا نعلم أن الإنسان إذا طلعت عليه الشمس من مغربها -ولا يدري متى تطلع- لا يمكن أن يستفيد من عمل إذا كان مقصراً، كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً[الأنعام:158] .
فعمر هذه الدنيا فائدته أن الإنسان يقدم فيه لنفسه ويتوب ويستغفر ما دام باب التوبة مفتوحاً، وهو باب من قبل المغرب، فإذا طلعت منه الشمس أغلق هذا الباب فلم تقبل توبة أحد.
ولهذا فإن هذه الدنيا فانية، وهي ذاهبة منطلقة، كما قال علي رضي الله عنه في خطبته: (هذه الآخرة قد أقبلت، وتلك الدنيا قد أدبرت، فليتذكر الإنسان أنه اليوم في آخر هذه الدنيا في آخر الأمم).
وقد مضت الأمم كلها قبلنا وجئنا على الأثر، فنحن اليوم لا ننتظر إلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه عنه الترمذي في السنن في قوله: (بادروا بالأعمال ستاً: فهل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)،
لهذا فإن فرصة هذه الدنيا فرصة لا تعوض، فعندما يؤتى بالناس فينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، ويجتمعون في الساهرة، ويؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب، وتدنو الشمس ميلاً، ويتجلى الباري سبحانه وتعالى لفصل الخصام: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ[الحاقة:17] ، حينئذ يعرف الإنسان أن هذه الدنيا كانت نعمة عظيمة؛ لأنها الوقت المتاح للعبادة، ولأن الآخرة لا يطلب من الإنسان فيها عمل، ولذلك فإن نعمة وجودنا في هذه الدنيا نعمة لا بد من استحضارها والسعي لاستغلالها في الوجه الصحيح، فهي فرصة لا تعوض، ونحن لا ندري متى تطلع الشمس من مغربها ويغلق باب التوبة، ولذلك علينا أن نبادر بالتوبة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى حيث قال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31] ، وفي قوله: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[الزمر:53-54] ، وكذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً[التحريم:8] .
العمر الثالث: هو عمر التمكين. فإن الله سبحانه وتعالى أتاح لنا في هذه الدنيا كثيراً من الإمكانات، التي مكن لنا فيها، ولها أعمار محددة كأعمارنا نحن وآجالنا.
للإنسان جوارح هو ممتع بها اليوم، لكن لها آجال تنتهي إليها، فهذا البصر له أجل ينتهي إليه، سواءٌ أكان ذلك الأجل بالموت أم بما قبله، فكم من إنسان نام على فراشه ممتعاً بسمعه وبصره ثم استيقظ وقد أخذ الله بصره، أو أخذ سمعه، أو شل جهازه العصبي فاستيقظ وهو لا يتصرف في شيء من بدنه.
إن نعمة التمكين في هذا البدن نعمة عظيمة، نعمة التصرف، ولا يدركها إلا من رأى الآخرين يسلبون هذه النعمة، من رأى أن أقواماً كانوا أقوى منه أبداناً وأبلغ عناية بصحتهم، ومع ذلك ينام أحدهم يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً معافىً في بدنه فيستيقظ وليس به حراك، أو يستمر في نومته تلك فيزايله عقله إلى أن يموت، إنها نعمة عظيمة، نعمة العقل والجوارح، ولها آجال محددة، فعلى الإنسان أن يستغلها فيما يرضي الله قبل زوالها، وبئس العبد الذي لا يعرف النعمة إلا بزوالها، لا يعرف النعمة بدوامها وإنما يعرفها بزوالها.
كذلك فإن ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه مما جعل تحت أيدينا من الأموال والوظائف والعلاقات له آجال محددة؛ لأن الإنسان قد يعين في وظيفة وفي علم الله أن لتلك الوظيفة أجلاً مسمى، فإذا لم يبادر لاستغلالها فيما يرضي الله فستكون عليه حسرة وندامة، ويخرج منها صاغراً، وكذلك فإن ما يجعله الله تحت أيدينا من الأموال له آجال محددة؛ لأن المال مال الله ليس مال الناس، والإنسان فيه وكيل ينتظر العدل في كل حين، ولهذا قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] ، وعدله إما بموته، أو بإزاحة ماله، أو بفرض الحصار عليه، أو بفرض الحجر عليه بأن يفلس، كل هذا ممكن، ونحن نشاهده ونراه في كثير الناس، وإذا علمنا ذلك وأيقناه وشاهدناه فإن هذا مقتض منا أن نستغل ما جعل الله تحت أيدينا، وأن ننتهز الفرصة ما دام ذلك ممكناً.
كذلك العلاقات التي يهبها الله لمن شاء من عباده لها آجال محددة، والله يسأل عن صحبة ساعة، فالساعة التي تمضيها جالساً إلى شخص أياً كان هي علاقة حصلت بينك وبينه، إذا لم تؤد حق الله فيها وتنصح وتأمر بالمعروف وتنه عن المنكر فقد ضاعت هذه الفرصة وانتهت، ويمكن أن لا تلتقي مع هذا الشخص أبداً.
ولله عينا من رأى من تفرق أشت وأنأى من فراق المعصب
فريقان منهم سالك بطن نخلة وآخرُ منهم جازع كبكب
فجلوسنا يمكن أن يعقبه افتراق إلى غير رجعة، وعلى هذا فمن حق الله علينا إذا جلسنا أن يذكر بعضنا بعضاً في ذات الله، وأن ينصح له، وأن لا تفوت هذه الفرصة، وأي ساعة يسأل الله عنها إذا استغلت في غير طائل، فكم عرف كل واحد منا من الأصدقاء الذين صحبهم زمناً وقد حال الموت بينه وبينهم، ولا يتذكر أنه قد أدى إليهم حق النصيحة في يوم من الأيام ولا في ساعة من الساعات! وهم خصومه يوم القيامة، فيجادلونه بين يدي الله: رأيتنا على كذا فلم تنهنا.
فلذلك علينا أن نستغل هذه الفرص، وأن لا ندعها تضيع.
ثم بعد ذلك فإن مما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه ما نجده في حياتنا هذه من الاتساع والطمأنينة والأمان الذي يوشك أن يتغير، وأحوال الدنيا غير ثابتة، فهي متغيرة لا محالة، هي عرض سيال جار، ومن هنا فكل ما فيها متغير، فعلينا أن ننتهز فرص ما مكننا الله سبحانه وتعالى فيه، وأن نعلم أن له أعماراً محددة ينتهي إليها، ولهذا فلنتذكر الصوارف التي تشغلنا ونحاول التغلب عليها.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن مما يكفر السيئات وترفع به الدرجات انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، وكثرة الخطا إلى المساجد، وإسباغ الوضوء على المكاره، لكنَّ قليلاً منا من يستطيع انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، مع علمه بما أعد الله لمن فعل ذلك، ويعلم أن الملائكة تصلي عليه في مجلسه تقول: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه. ودعاء الملائكة مستجاب.
كثير منا تعترضه الأشغال وتأتيه الوساوس والأوهام الصارفة له عن اغتنام هذه الفرص، مثل الجلوس ما بين صلاة المغرب والعشاء فقط، وهو وقت يسير ومحصور، مع علمه بحاجته إلى دعاء الملائكة، كل واحد منا اليوم إذا رأى أي مسلم من المسلمين يظن به الخير يحاول أن يستخلص منه دعوة صالحة لعله يستجاب لها، فكيف بدعاء الملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟
إنها فرص عظيمة تفوت وتزول دون أن تستغل، وإن الإنسان إذا جلس يحاسب نفسه على هذه الفرص النادرة سيجد خسارة عظيمة لا تقدر بثمن، إن عمر التمكين هذا يزول بالتدريج والتقصير، فما ينتقص من بصرك لا تشعر به إلا إذا وصلت إلى حد المعاناة في القراءة مثلاً، أو في إدراك الأشياء، وهكذا ما ينتقص من رزقك، وما ينتقص من كل ما جعل الله تحت يدك يأتي انتقاصه بالتدريج والتقصير.
ولهذا يمكن أن تكون قد بدأت بالعد التنازلي وأنت لا تشعر، كما قال الله تعالى: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185] ، فعلى الإنسان أن يبادر، وأن ينتهز هذه الفرص قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الرشيد العاقل هو الذي إذا جاءه النذير وفهم وتدبر استفاد من ذلك، أما من لا يتعظ ولا يعتبر، أو إذا سمع الموعظة والعبرة تذكرها في وقت السماع ثم انصرف ونسيها ولم تؤثر في عمله فهذا ليس صاحب عقل ولا صاحب إيمان؛ لأن الله تعالى يقول: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] .
ولذلك فإن حاجة الإنسان إلى الذكرى هي مثل حاجته إلى الغذاء والماء.
والناس في سبيل الذكرى ينقسمون إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: قوم لا يستطيعون تحمل الذكرى ولا سماعها بالكلية، ولذلك يكرهون المواعظ ويكرهون سماعها، وهؤلاء هم الكثرة الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51] ، فهم يفرون من الذكرى كما يفرون من الأسد، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرَةٌ[المدثر:50] ، وفي قراءة أخرى: مُسْتَنْفِرَةٌ[المدثر:50] أي: قد نفرت من تلقاء نفسها، أو نفرت فأسرعت فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:51] أي: من أسد.
القسم الثاني: الذين يسمعون الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة فلا توصلها إلى قلوبهم؛ لأنه قد انقطع البث بين الأذن والقلب بسبب الختم الذي ختمه الله على القلوب، وهؤلاء هم المنافقون الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16] .
القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيستطيعون سماعها من بعض الناس لأنه يعجبهم، ولا يستطيعون سماعها من آخرين لأنهم ليسوا على المستوى الذي يعجبهم ويناسبهم، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض فيريدون التفصيل، من أعجبهم شكله أو نسبه استطاعوا أن يتحملوا منه أو يسمعوا، وهنا لم يستمعوا إلى الذكرى وإنما استمعوا إلى الأشخاص، ولذلك قال الله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[الزخرف:31-32] .
القسم الرابع: قوم يسمعون الذكرى من أي طرفٍ صدرت، فيستفيدون منها، ويستغلون ذلك الاستغلال الصحيح، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى[الأعلى:9-10] ، فالذين يخشون الله هم الذين سيذكرون، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى* ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا[الأعلى:10-13] ، وقال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً[الفرقان:73] ، وقال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:17-18] ، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11] ، وقال تعالى: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] ، فهؤلاء هم المستفيدون من الذكرى الذين ينتفعون بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين ينتهزون الفرص قبل فوات الأوان، وأن يجعلنا من الذين لا يندمون حين يندم الناس حيث لا ينفع الندم، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، ونسأله سبحانه وتعالى الفرح عند لقائه.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اختم بالحسنات آجالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! وفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، اللهم! اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق واصرف عنا سيئها، لا يهدي لأحسنها ولا يصرف سيئها إلا أنت، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
السؤال: ما العلاج المقترح لمن يسمع المواعظ دائماً وسرعان ما ينساها لكونه لا يعمل بمقتضاها لقساوة قلبه، مع أنه يأسف لذلك ويحاول التغلب عليه؟
الجواب: على من يجد هذا أن يكثر من الاستغفار والتوبة، وأن يكثر مما يذكره بالآخرة، ومما يذكره بالموت؛ فإن ذلك مدعاة إلى أن ينتفع بالذكرى.
السؤال: نلاحظ أن أهل الخير من أهل الأموال لم يكن لهم ذلك الدور الفعال الذي يعود بالنفع العميم على هذه الدعوة المباركة، والمطلوب هو الدلالة على بعض المشاريع التي يمكن أن يلجوا منها لخدمة الدين، لعل الدعوة لمثل هذه المشاريع تكون سبب زوال هذا التقصير الملحوظ.
الجواب: إن أبواب الخير كثيرة جداً، وإن الإنسان مسئول عن جميعها، وعليه أن يجتهد في أقربها إلى الله سبحانه وتعالى وأكثرها ملائمة لمقاصد الشرع، ولا شك أن من ائتمنه الله سبحانه وتعالى على جزء من المال وجعله تحت يده ينبغي أن يكون مسئولاً عن عيال الله المحتاجين، والناس عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، ولذلك فإن أغنياء العالم وتجاره هم الذين يقومون بنشر الخير، ومساعدة أهله، وبناء جيل التعليم النافع الذي يتعلم فيه الناس العلم والعمل، وكذلك في القيام برعاية اليتامى والمحتاجين، وهذه الأمور واضحة للعيان، والناس يرونها، فبناء المساجد، والإنفاق على العدد الكبير من اليتامى وكفالتهم، والقيام كذلك ببناء بعض المدارس الإسلامية التي يدرس فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجه الخير التي قام بها رجال الخير.
السؤال: بعض الفقهاء أجاز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:107] فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه؟
الجواب: هذا الأمر لا دليل فيه، والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم تعبد، والتعبد مقصور على النص، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الاحتفال بمولده هو صيام يوم الإثنين، فقد صح في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال: ذلك يوم ولدت فيه)، وعلى هذا فالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم هو أن يصوم الإنسان يوم الإثنين إن استطاع بصفة دائمة، وإلا فما تيسر من ذلك، أما غير هذا فلم يرد عنه صلى الله عليه وسلم ولا أرشد إليه، وهو مخالف لهديه ولسنته ولعمل خلفائه الراشدين وهم أحب الناس إليه وأولاهم به.
السؤال: ما هي عوامل تقوية الإيمان؟
الجواب: ترسيخ الإيمان إنما يتم بالإقبال على الله سبحانه وتعالى وقوة الدافع لكل عمل، فالذي يصلي وصلاته إنما هي عادة من حياته، كما قيل: ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب. فوجد أسلافه يصلون فهو يصلي كما كانوا يصلون، ووجدهم يزكون فهو يزكي كما كانوا يزكون لا ينتفع بهذه العبادات، ولا تباشر شغاف قلبه، ولا يصل الإيمان إلى شغاف قلبه.
لكن الذي يصلي وهو يتذكر الدافع العقدي الذي جعله يصلي ستنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وأنا أعرف أن كثيراً منا يقول: أنا أصلي لا أتركها، ومع ذلك لا أجد صلاتي تنهاني عن الفحشاء والمنكر، وأزكي ولا أتركها، ومع ذلك لا أجد زكاءً بسبب الزكاة، وأصوم ولا أترك الصيام، ومع ذلك لا أجد طهرة كما يطهر الصيام أهله، وأحج، ومع ذلك لا أجد أثر الحج البالغ في زيادة الإيمان، فما السبب؟
الجواب أن هذا إنما يفعله الإنسان تقليداً وعادة، ولم يتذكر الدافع العقدي له، لكن إذا كان يصلي بهذا الدافع العقدي ويزكي به ويصوم به ويحج به ويتذكر قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ[الأنعام:162-163] فإنه سيستفيد من عباداته ويتقوى إيمانه بذلك.
وكذلك مما يعين على تقوية الإيمان حضور القلب بأداء العبادات، وتزكيتها بالنيات، فإذا خرج الإنسان من بيته تذكر أن كل حصاة وكل ذرة من الأكسجين وغيرها ستشهد له في مسيرته إلى أن يرجع، ويتذكر كذلك قصده، وأنه إنما قصد الابتغاء لمرضاة الله وأداء ما افترضه الله عليه في المسجد، وأنه يريد بذلك حسن الخاتمة، كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود : (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وأن يتذكر الإنسان كذلك أنه سيعمر بيتاً من بيوت الله، والله تعالى يقول: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18] ، وأنه سيلقى أهل الإيمان في المسجد من الملائكة وصالح الإنس والجن فيزيدونه إيماناً وتثبيتاً، وكذلك فإنه يلقى الملائكة الذين يكتبون الناس على أبواب المساجد الأول فالأول، وهكذا، فيكون في المسجد قد حبس جوارحه عن المعصية وأقبل بها على الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يقوي الإيمان.
وكذلك مما يقويه صلاة الرجل في الليل والناس نيام، عندما ينام الناس فيتجافى جنبه عن المضجع، فهذا من أقوى ما يقوي إيمانه بالله، ولذلك قال الله تعالى : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ[السجدة:16-18] .
السؤال: كيف يستشعر الإنسان نعمة الله عليه، وما شكر النعمة؟
الجواب: استشعار النعمة بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن ينظر الإنسان إلى هذه النعمة فيقر بها ويعرفها بوجودها لا بزوالها.
الرتبة الثانية: أن يتذكر من أين له هذه النعمة، حتى لا يقول ما قال قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ[القصص:78] .
الرتبة الثالثة: أن يقيدها بالشكر، والشكر يشمل الشكر اللساني بأن يذكر نعمة الله، والله سبحانه وتعالى يحب أن تشكر نعمه، وقد ارتضى لعباده ذلك وأرشدهم للشكر فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الفاتحة:2] ، وهذا هو أبلغ شكر يشكر الله به، فأبلغ ما يشكر الله به الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، ثم بعد ذلك الشكر الفعلي، وهو بصرف تلك النعم فيما يحب الله صرفها فيه، وأن يعلم الإنسان أن كثيراً من الناس يدعي المعاذير لنفسه، ومنهم النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار -نسأل الله السلامة العافية-، وهؤلاء النفر الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار أحدهم آتاه الله علماً فعلّم، فأتى به يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: يا رب! علمتها فيك. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما علمت ليقال: عالم. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار -نسأل الله السلامة والعافية-.
والثاني: رجل آتاه الله من أصناف المال ما آتاه، فدعاه يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: لم يبق وجه تحب أن يصرف فيه المال إلا صرفته فيه. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال: جواد. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار.
والثالث: رجل قواه الله في بدنه فقاتل حتى قتل، فدعاه الله يوم القيامة فعرفه نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فيقول: يا رب! جاهدت فيك حتى قتلت. فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع. فقد قيل. فيؤمر به فيجر على وجهه فيرمى في النار.
ولهذا قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ[البينة:5] .
فالإخلاص هو أساس هذا العمل كله، ولا يمكن أن يستشعر الإنسان نعمة الله عليه وأن يشكرها إلا إذا أخلص في ذلك الشكر لله سبحانه وتعالى، وأدى الحق الذي لله عليه في ذلك، ومن هنا فالأوقات كلها نعم على الإنسان أن يستشعرها وأن يصرفها في الوجه الصحيح، وكثير من الناس يقول: أنا أفعل كذا أقتل به الوقت. كأن الوقت عدو له، وما له عدو إلا هذا الوقت الذي يريد القضاء عليه وقتله.
السؤال: ما يفعل من يريد التوبة ويحول دونها العوائق الدنيوية؟
الجواب: عليه أن يستعين بالمعينات التي تعين على التوبة، ومنها تذكر الآخرة، وصحبة أهل الخير، وعدم الإسراف في مشاغل الدنيا، وتعلم العلم، فهذه هي الأمور التي تعين على التوبة، فعدم الإسراف معين على عدم الغفلة، ويشمل ذلك سهره بعض الليل، وبعض العزلة، وكذلك مخالطته لأهل الصلاح والهداية، فإنها مقتضية لحصول المنافسة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26] ، وإذا رآه من أناس تذكر ما هم فيه وأنهم مقبلون على الله، فبمجرد رؤيتهم يزيده ذلك إقبالاً على الله سبحانه وتعالى.
السؤال: ما الفرق بين أمر النفس بالسوء. وأمر الشيطان الذي يأمر بالسوء أيضاً؟
الجواب: الخواطر التي تعتري الإنسان أربعة أقسام:
خاطر إلهي -أي: رباني-، وخاطر ملكي -أي: لمة الملك-، وخاطر شيطاني، وخاطر نفساني. فهذه أربعة أقسام.
فالخاطر الرباني هو ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب عبده المؤمن، ولا يكون إلا خيراً، وهو غير متذبذب، وينال الإنسان بأدائه سعادة عظيمة، ويستشعر فرحاً عظيماً وراحة قلبية عجيبة، وذلك عندما يؤدي هذا الذي ألقي في قلبه أن يفعله، فينام الإنسان على فراشه فيستيقظ وقد ذهب الكرى من عينيه بالكلية، فيأتي خاطر في قلبه أن يقوم ويتوضأ ويصلي ركعتين يعفر وجهه لله في هذا الوقت الذي قد شغل الناس فيه عن طرق باب الله، منهم من شغل بالنوم، ومنهم من شغل بالغفلة، ومنهم من شغل بالكفر، ومنهم من شغل بالمعصية، فيستفتح هذا الباب فيفتح له، كما قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً.
فهؤلاء استشعروا عظم هذا الموقف حين أذن لهم بطرق هذا الباب الذي لم يؤذن بطرقه لكثير من الناس، استشعروا طعم صلاة الليل والناس نيام، واستشعروا الإقبال على الله سبحانه وتعالى بقلوب مطمئنة، فلذلك كانوا أهل الله سبحانه وتعالى وخاصته في هذا الوقت وأهل المناجاة والقرب.
السؤال: ما حكم جمع النساء في مكان لتعليمهن وموعظتهن من قبل رجل ليس لهن بمحرم، وهل يعتبر هذا من الاختلاط غير المشروع؟
وكذلك صح في الصحيحين: (أنه صلى الله عليه وسلم يوم العيد حين خطب ظن أنه لم يسمع النساء، فتوكأ على بلال فوقف على النساء فوعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء في وجهها سفعة فقالت: ولم يا رسول الله أيكفرن بالله؟! فقال: يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً. قالت: ما رأيت منك خيراً قط. فجعل النساء يتصدقن، وبسط بلال ثوبه فجعلن يرمين فيه ما معهن من الذهب).
فهذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمور المشروعة، وهذا ليس اختلاطاً؛ لأن الاختلاط هو مماسة أجساد الرجال لأجساد النساء الأجانب أو الاقتراب من ذلك، والاختلاط محرم، ولكن ليس هذا منه؛ لأن هذا هو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في التعليم، وقد كان أصحابه رضي الله عنهم يفعلون ذلك أيضاً، وهكذا السلف الصالح كلهم، سواء أكان بحائل أم بدونه إذا لم تخش الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهن وليس بينه وبينهن حجاب، كما ثبت في الصحيحين في الحديث الذي ذكرناه في خطبة العيد، وفي تدريسه لهن يوم الخميس، ولكن لا شك أن جعل الحاجز بين الإنسان وبينهن أحوط لعدم الريبة.
السؤال: بعض الناس لا يتقبل التذكرة من بعض الدعاة، بل يصفهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم، فما حقيقة ذلك؟
الجواب: الجنة والنار لكل واحدة منهما دعاة يدعون إليها، فالدعاة الذين يدعون على أبواب الجنة هم الذين يدعون إلى الصلاة وبر الوالدين والصدقة وقراءة القرآن والاستغفار وغير ذلك، فهؤلاء دعاة على أبواب الجنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة باباً هو باب الصلاة، وباباً هو باب الصدقة، وباباً اسمه: (الريان) لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوه أغلق فلم يدخل منه أحد)، فأبواب الجنة هي كبريات الطاعات.
كذلك أبواب النار هي كبريات الفواحش والمعاصي، فللنار دعاة أيضاً يدعون إليها، كالذي يدعو إلى الزنا، أو إلى قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، أو إلى السفور والفجور، أو إلى السفور والاختلاط، أو إلى عقوق الوالدين، أو إلى ترك الصلاة، فهؤلاء يدعون إلى أبواب النار، وهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ لأنهم يدعون إلى هذه المعاصي التي هي أبواب النار.
وحينئذ لا يمكن الالتباس بين الجانبين، فالذي يدعو إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة إلى أبواب جهنم. لأنه يدعو على أبواب الجنة، والذي يدعو إلى الزنا وشرب الخمر والفواحش كلها لا يمكن أن يقال: إنه من الدعاة على أبواب الجنة. بل هو داع على أبواب النار، والفرق واضح، ولا يمكن أن يقع التباس بين الجانبين.
السؤال: بعض العلماء ينكرون على الدعاة ويكفرونهم -حسبنا الله ونعم الوكيل، فما جواب ذلك؟
الجواب: تكفير المسلم خطره عظيم جداً، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، وقال: (تكفير المسلم كقتله)، وقال: (إن قال الرجل لأخيه: كافر فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)
وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التكفير تحذيراً بالغاً، ولذلك لا يحل تكفير المسلمين، وعلى المسلم أن يتقي الله، ويعلم أنه إذا كفره وهو غير كافر في علم الله فقد رجعت عليه وحارت عليه، ويكون هو كافراً، نسأل الله السلامة والعافية، ولهذا فالتكفير صعب جداً.
والتكفير المعين يشترط له سبعة شروط:
الشرط الأول: أن لا يكون من قال الكفر أو فعله مكرهاً عليه؛ لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ[النحل:106] .
الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً؛ لقول الله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ[الأعراف:138] ، ولم يقل: إنكم قوم تكفرون. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على شجرة كانت تدعى في الجاهلية (ذات أنواط)، فقالوا: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفس محمد بيده- ما قال أصحاب موسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، ولم يكفر أحداً منهم.
الشرط الثالث: أن لا يكون الإنسان مقلداً إذا جرت عليه العادة في بلده، فإن وجد الناس على شيء لا ينكرونه ففعله أحدهم -ولو كان ذلك كفراً- فإنه لا يكفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله)، وسمع عمر يحلف بأبيه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، فمن حلف بغير الله فقد أشرك)، ومع ذلك لم يكفر أحداً بهذا الحلف.
الشرط الرابع: أن لا يكون مغطىً على عقله مغلوباً عليه، فإن كان مغطىً على عقله مغلوباً عليه فإنه لا يكفر بذلك؛ لقصة الرجل التي قصها لنا النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً كان عاصياً، فلما دنا أجله جمع أولاده وأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته وأن يقسموا رماده نصفين فيرموا نصفه في البر ونصفه في البحر، قال: فلإن قدر الله علي ليعذبنني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين - يشك في قدرة الله -. فلما مات فعلوا به ما أمر، فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، فقام بشراً سوياً، فقال: إيه عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيت يا رب، فغفر له)، فهذا كان مغطىً على عقله بخشية الله وقت موته، فلذلك غفر الله له، مع أن ما قاله هو كفر.
الشرط الخامس: أن لا يكون غالط اللسان، فإن غلط لسانه وقال الكفر من غير قصد فإنه لا يكفر بذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أن آخر رجل يدخل الجنة يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)، وكذلك في الحديث الذي في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم تكون معه راحلته وعليها زاده ومتاعه بفلاة من الأرض، فتنفلت منها فيتبعها، حتى إذا أيس من نفسه رأى شجرة فقال: لعلي أموت عندها. فبينما هو كذلك إذا راحلته عنده فأمسك بخطامها وهو يقول: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)، فهذا لا يكفر به.
الشرط السادس: أن يكون الإنسان قد أقيمت عليه الحجة، فإذا لم تقم عليه الحجة فإنه لا يكفر؛ لقول الله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[الإسراء:15] .
الشرط السابع: أن يثبت ذلك عليه؛ لأن التكفير حكم قضائي يحتاج إلى إثبات، فالمتأول الذي لا يقصد الكفر وإنما اجتهد فأخطأ لا يكفر بذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر).
ثم إن على الإنسان أن يتهم نفسه فيمن يعاديه ويواليه، فالعداء والولاء أمران من أمور العقيدة، والله سبحانه وتعالى بين للمسلمين من يحق لهم أن يوالوه ومن يحق لهم أن يعادوه، فقال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ[المائدة:55-56] .
وبين لهم من يعادونه فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ..[الممتحنة:1] إلى آخر السورة، وكذلك قال: لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:28] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[المائدة:51] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً[النساء:144] ، وقال: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22] .
فإذاً الذي يعاديه الإنسان ويواليه معروف محصور، وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يعادي إنساناً آخر على أساس أنه يدعو إلى خير مثلاً، بل هذا حقه أن يواليه، وإذا أخطأ نصح له، كما أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فلا بد من تناصح المسلمين فيما بينهم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة الخضر) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن ما أخوف ما أخافه عليكم - أي: على هذه الأمة - ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا)، فإنها لم تفتح في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكرمه الله بأن لم يُرِهِ فتح الأمصار، وإنما أعطاه مفاتيح خزائن كسرى وقيصر، وأخبر أن خزائنهما ستنفق في سبيل الله، لكن أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لم ير ذلك، ولم ير الحضارة، ولم ير انفتاح أبواب الدنيا على هذه الأمة، فشرفه الله عن ذلك، فهو أكرم على الله من أن يعيش كما يعيش الناس في هذه الدنيا، ولهذا شرفه الله فلم تفتح هذه الفتوحات والخزائن التي وهبه الله إلا بعد موته. (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة) أي: إن هذه الدنيا بمثابة النبات، فهي خضرة حلوة، فهذا داع للازدياد منها، والإنسان الذي يجمع المال إذا غفل عن هدفه فإنه لن يكتفي، فهدفه في البداية هو الاستغناء عن الناس، فهو يريد أن يستعف بما يؤتيه الله، ويريد أن يتقرب إلى الله بما يتصدق به من ماله وبما يؤدي به الحقوق، يريد أن يتعز وأن لا يكون ذليلاً مسكيناً، لكنه يغفل عن هذا فيجمع فوق ما يكفيه لتحقيق هذه الأهداف، وما يزال يزيد على ذلك، فاثنان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب العلم، فطالب العلم لا يزداد من الله إلا قرباً، وطالب الدنيا لا يزداد من الله إلا بعداً.
ومن هنا قال: (فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)، أي: إن مما ينبت الربيع بسبب نزول المطر ما يقتل حبطاً -أي: انتفاخاً- يقتل البهائم بالانتفاخ.
وقوله: (أو يلم) أي: يقارب ذلك، (إلا آكلة الخضر) هو نبات ليس من أعز النبات على الحيوانات البهيمية، ولكنه مع ذلك كاف من ناحية التغذية، ولهذا قال: (وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر فإنها رتعة) أي: آكلة من الخضر (حتى إذا امتدت خاصرتها) أي: نالت كفايتها (حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت) أي: أخرجت بعض ما في بطنها (وبالت ثم رتعت بعد ذلك).
وهكذا طالب الدنيا ينبغي أن يجعل لنفسه وقتاً للراحة من الجمع، وأن لا يجعل عمره كله كداً لا ينقطع، فإذا كانت العبادة التي يتقرب بها إلى الله ينبغي للإنسان أن لا ينقطع فيها ليله ونهاره، وأن لا يسرف فيها، فكيف بجلب الدنيا؟.
يقول البخاري في الصحيح: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي قال: حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر فأوغلوا فيه برفق)، فإذا كان الأمر كذلك فالدنيا من باب أولى، فالذي أمر أن لا يوغل في الدين بشدة فمعناه أن إيغاله في الدنيا بشدة أيضاً محضور وهو أشد من غيره.
اللهم! صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك الرسول الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اللهم! اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم! استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأبطل كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! أظهر دينك وكتابك على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم! وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم! اجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! إنا نعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، اللهم! اختم بالصالحات أعمالنا، واختم بالحسنات آجالنا، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، اللهم! استرنا بسترك الجميل، اللهم! استرنا بسترك الجميل، اللهم! استرنا بسترك الجميل، اللهم! استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم! استرنا يوم العرض عليك يا أرحم الراحمين، اللهم! استرنا بسترك الجميل، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وجميع الفتن ما ظهر منها وما بطن عن كل بلاد المسلمين عامة يا أرحم الراحمين، اللهم! إن عبادك وإماؤك يرفعون إليك أيدي الضراعة فلا تردهم خائبين، اللهم! لا تجعلهم آخر الداعين، ولا آخر من يرفع إليك اليدين يا أرحم الراحمين، اللهم! إنك أعلم بحوائجنا منا فاقض ما في علمك من حوائجنا يا أرحم الراحمين، اللهم! لا تردنا خائبين، اللهم! هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر