بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد..
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (باب معرفة الوقوف) عقد هذا الباب لبيان أمر مهم من أمور التجويد، وهو حكم الوقف والابتداء، والوقف في اللغة: مصدر (وقف) تستعمل لازمة، وتستعمل متعدية، فيقال: وقف فلان في الصلاة؛ أي: قام، ويقال: وقف فلان راحلته أو ناقته إذا حبسها، ومنه قول عنترة:
ولقد وقفت بها طويلا ناقتي أشكو إلى سفع رواكد جثم
وقول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ونظيره قول طرفة:
وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد
الفرق فقط في القافية (تجمل) و(تجلد).
فهنا (وقف) متعدية في هذه الأبيات كلها، وقفه؛ أي: حبسه، والوقف في الاصطلاح هو: حبس النطق زمنًا يتنفس فيه الإنسان، وحبس النطق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول منه: ما كان مع التنفس، ويقصد بعده المواصلة في القراءة، وهذا هو الوقف.
والقسم الثاني: ما ليس معه تنفس، وهذا هو السكت.
والقسم الثالث: ما يقصد به قطع القراءة، وهو وقف، لكن لا بد بعده من الابتداء بالتعوذ والبسملة إن كان ذلك في رأس سورة، وبعضهم استحسنها أيضًا في أول الأجزاء.
والفرق بين الوقف والسكت: أن الوقف لا بد أن يتنفس فيه الإنسان، والسكت لا يتنفس فيه الإنسان، والوقف لا يكون في وسط الكلمة وإنما يكون في نهايتها، والسكت يمكن أن يكون في وسط الكلمة، ويمكن أن يكون في نهايتها، فالسكت على (أل) المظهرة، وهو لـخلاد عن خلف، وروي كذلك عن حفص بخلف عنه، فهذا النوع من السكت في أثناء الكلمة ليس فيه تنفس، ولكنه سكوت، والسكت على نهاية الكلمة مثل سكتات حفص مثلًا، وهي على قوله تعالى: عِوَجَا [الكهف:1]، في سورة الكهف، وعلى قوله: مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] في سورة يس، وعلى قوله: بَلْ رَانَ [المطففين:14] في سورة المطففين، وعلى قوله: مَنْ رَاقٍ [القيامة:27] في سورة القيامة، والخامسة مختلف فيها، وهي: مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]؛ فهذه هي السكتات الخمس لـحفص عن عاصم، وله كذلك سكتات كثيرة أخرى لا تدخل في الفرش، وإنما هي من القواعد؛ أي: من الأصول، وهي السكوت على لام (أل) المظهرة، وقد ذكرنا أن رواية خلاد عن خلف فيها السكت مطلقًا.
وكثير من الناس يظن أن السكت بالخيار، وأنه بالإمكان أن يسكت متى شاء فيظن ذلك من تحسين القراءة، فيقول مثلا: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وهذا النوع هو من مخالفة القراءة؛ لأن هذا ليس محل سكت ولا محل وقف، فهو لم يقف مضطرًّا وإلا أسكن، فالوقف على المتحرك لا يمكن إلا بالروم، كما سيأتي أو بالإشمام، وكذلك فليس المحل محلًا للوقف أصلًا، وأيضًا ليس محل سكت بالإجماع، فهذا النوع السكت عليه من الغلط الذي ينتهجه بعض الأئمة، ومثله أيضًا ما يفعلونه، أثناء القراءة لقصد التحسين يقول بعضهم: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) ونحو ذلك، هذا النوع من التقطيع هو من السكت المخالف الذي لم يقرأ به أحد، فلا يحل تعمده.
والوقف جمعه هنا فقال: (باب معرفة الوقوف)، وكان الأفضل أن يقول: (باب الوقوف) فقط، دون ذكر المعرفة؛ لأن المعرفة هي الخبرة التي تحصل أنت عليها، وهذه لا يبوب لها إنما يبوب لعلم الوقوف، وفرق بين المعرفة والعلم، فالعلم هو الجانب النظري، وهو يقتضي إدراك الجزئيات، والمعرفة في الغالب هي الجانب التطبيقي، وهي تتعلق بالكليات، ولهذا تقول: عرفت فلانًا، ولا تقول: علمت فلانًا؛ لأن قولك عرفته معناه عرفت وجهه واسمه ونسبه، لكنك لا تعلم متى يموت، ولا تعلم قدر رزقه، ولا هل هو شقي أو سعيد، فذلك من العلم ليس من المعرفة، فالمعرفة إذًا تتعلق بالكليات، والعلم يتعلق بالجزئيات، فكان اللازم أن يقول: (باب الوقوف).
والوقوف جمع (وقف)، والوقف كما ذكرنا مصدر، والمصدر في الأصل يدل على ما في علم الله من الماهية، فلا يُحتاج إلى جمعه، ولكن نظرًا لتعدد أنواعه احتيج إلى جمعه بيانًا للتنوع، فالوقف أنواع وهي أربعة لدى أهل التجويد:
القسم الأول: يسمونه بالوقف الاختياري، وهو ما يقف عليه الإنسان مختارًا غير مضطر، ويحسن ذلك إذا احتيج إليه في تبصير المعنى وبيانه، وهو من تمام التفسير، ومن تمام إدراك الإنسان لما يقول، فالإنسان مضطر دائمًا لقطع الصوت، وأحسن ما يكون قطعه عند المكان المناسب للقطع، كأن يكون المعنى قد كمل بالكلية، فهذا وقف اختياري، وهذا الوقف الاختياري هو الذي عقد له هذا الباب وذكر أقسامه فيه.
والنوع الثاني هو الوقف الاضطراري، وهو وقف الإنسان مضطرًّا للعطاس أو لانقطاع التنفس؛ لأننا ذكرنا أن الهواء المنطلق من الرئة يضغط عليه الإنسان في مكان فيتكون حرف كما سبق، فإذا انتهى هذا الهواء- انتهى مخزون الرئة من الهواء- احتاج الإنسان إلى إدخال هواء جديد، وحينئذ لا بد أن يتوقف الضغط على الهواء؛ لأن الهواء نفد فيأتي هواء جديد تمتلئ منه الرئة، ثم بعد ذلك يخرجه فتبدأ العملية من جديد، وهذا الوقف حينئذ يضطر له الإنسان؛ لذلك سمي بالوقف الاضطراري؛ لأنه مضطر لقطع الكلام حتى يدخل الهواء من جديد إلى الرئة، وهو الوقف القبيح كما سيأتينا إن شاء الله.
والنوع الثالث: هو الوقف الاختباري، منسوب إلى الاختبار بالباء الموحدة، وهو الامتحان؛ أي: امتحان الشيخ لتلميذه في فهمه للكلام، أو في معرفته برسم المصحف أو نحو ذلك، فالقارئ الذي يعرف رسم المصحف لن يقف بين اللفظين الموصولين في الرسم، بل سيقف على المقطوع ولا يقف على الموصول، والقارئ الذي يعرف رسم المصحف كذلك يقف على ما كتب من تاءات التأنيث بالتاء يقف عليه بالتاء، وما كتب منها بالهاء يقف عليه بالهاء، فهذا النوع هو وقف اختباري، ليس عند نهاية المعنى وليس صاحبه مضطرًّا له، ولكنه يختبر به في معرفة الرسم، وقد يختبر به في معرفة القراءة أصلًا، فالقراءات تختلف الأوقاف باختلافها، فمثلًا قراءة أبي عمرو بن العلاء في سورة يونس: (قال موسى ما جئتم به؟ آلسحر؟ إن الله سيبطله) فقراءة الجمهور: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ [يونس:81] بدون استفهام، (ما جئتم به) (ما) هنا اسم موصول، وهي مبتدأ، وخبره السحر، ثم استأنف فقال: (إن الله سيبطله)، وقراءة أبي عمرو: (قال موسى ما جئتم به) (ما) استفهامية، معناه: ما الذي جئتم به؟ فما مبتدأ، وخبره (جئتم به)، والكلام انتهى عند قوله (ما جئتم به) ثم قال: آلسحر؟ أي: هل هو السحر، فالسحر خبر لمبتدأ محذوف وهو الضمير الذي هو صدر الجملة، ثم بعد ذلك قال: (إن الله سيبطله) باستئناف، فهذا النوع يختبر القارئ فيه في القراءات، فيقال: اقرأها على قراءة الجمهور، فيقرأ: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ [يونس:81]، وإذا سئل عن قراءتها بقراءة أبي عمرو، فإنه يقول: (قال موسى ما جئتم به؟ آلسحر؟ إن الله سيبطله).
ونظير هذا الاختبار أيضًا في قراءة الكسائي في سورة النمل: (ألا يا اسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون) فالجمهور قراءتهم: أَلَّا يَسْجُدُوا [النمل:25]، فــ(يسجدوا) فعل مضارع، وهو منصوب بـ(أن) الموصولة مع (لا)، وقراءة الكسائي: (ألا يا اسجدوا) فإذا جاء الاختبار في الوقف فإنك تقول: (ألا يا، اسجدوا) معناه: ألا يا قوم اسجدوا، فـ(ألا) للافتتاح والتحضيض، (يا) حرف نداء والمنادى محذوف، (اسجدوا) فعل أمر، وليس في الجملة فعل مضارع كما في قراءة الجمهور، بل الفعل فعل أمر في قراءة الكسائي، (ألا يا اسجدوا) فيمتحن القارئ بالوقف على كل كلمة، ولو كان ذلك مخالفًا لرسم المصحف؛ لأن هذا الوقف وقف اختباري لا علاقة له برسم المصحف، فالوقف الاختياري والاضطراري هما المتعلقان بالرسم، ومثلهما أيضًا الوقف الانتظاري الذي سيأتي.
والقسم الرابع: هو الوقف الانتظاري، وهو وقف القارئ عندما يجمع القراءات على الشيخ في ختمة واحدة، فيقف على الكلمة التي اختلفت فيها القراءات حتى يأتي بها يقرؤها في كل مرة على وجه من الوجوه، وبذلك يقف في غير موقف، وإنما يقف بالانتظار بقصد الانتظار فقط، فإذا قرأ مثلا سورة الفاتحة يقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]، وإذا كان يقرأ مثلا بالشواذ سيقرأ بقراءة الحسن البصري: (الحمدِ لله رب العالمين) ثم يقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، ثم يعود فيقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، (ملك يوم الدين) برواية السوسي عن أبي عمرو، ثم يعود فيقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وهكذا فيقف على كل كلمة اختلفت فيها القراءات حتى يأتي بها على الوجوه كلها، فهذا النوع يسمى وقفا انتظاريًّا، والأفضل ألا يقف فيه الإنسان على ركن من أركان الجملة أو بين المتضايفين أو نحو ذلك؛ لأن ذلك مغير للمعنى، وقد ذكر ابن الجزري رحمه الله أن شيخًا من شيوخه كان يقرأ عليه طالب بالجمع فقرأ: (تبت يدا أبي) ووقف يريد الرجوع إلى المد المنفصل فهو محل خلاف بين القراء، فمنهم من يشبعه فيقول: (تبت يدآ أبي لهب)، ومنهم من يقصره فيقول: (تبت يدا أبي لهب)، فقرأها هو فوقف على (أبي) فقال: يستحق من نجلك؛ أي: الذي ولدك يستحق أن يدعى عليه بهذا الدعاء، فهو دعا على أبيه، فقال: (تبت يدا أبي) فقال: نعم، يستحق من نجلك؛ فلذلك لا ينبغي للإنسان في الانتظار إلا أن يقف على الكلام التام.
وهذا النوع من القراءة هو مما اشتهر بين الناس، فقلما يجد الشيخ وقتا كافيًا ليقرأ عليه القارئ مثلًا عشر ختمات أو عشرين ختمة إذا كان سيجمع عليه العشر، لكن يقرؤها بالجمع فيقرأ ختمة واحدة يجمع فيها العشرين؛ أي: القراءات العشر برواياتها العشرين، وبالأخص عند اختلاف الطرق، فكل رواية فيها طريقان فيكون الجميع على ذلك أربعين طريقًا، وإذا زاد عن ذلك أيضًا زادت المدة، فــابن الجزري ذكر في النشر ألفًا وطريقًا واحدًا في القرآن كله، ألف طريق وطريق واحد، وقراءتها متعذرة يشق على الإنسان أن يقرأ بجميعها، كل واحدة ختمة مستقلة؛ فلذلك احتيج إلى طريقة الجمع في القراءات، وهي أيسر وأكثر اختصارًا، ولا شك أن طريقة الإفراد أولى منها، هي الفرق التي تسمى بالفرق أن تقرأ ختمة كاملة برواية من وجه، ثم تقرأ بنفس الرواية من وجه آخر، ثم تقرأ برواية أخرى بوجهيها وهكذا.
فهذه إذًا أربعة أقسام هي: الوقف الاختياري، والوقف الاضطراري، والوقف الاختباري، والوقف الانتظاري.
والوقف الاختياري منها ينقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار التعلق بين الموقوف عليه والمبتدأ به؛ فلذلك كان تعلمه أمرًا لا بد منه، والناس يحتاجون إليه احتياجًا بالغًا، فقد سئل علي رضي الله عنه كما يُروى عنه عن الترتيل الذي أمر الله به في قوله: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فقال: (تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف)؛ أي: أن يجيد الإنسان الحروف فيجودها من مخارجها وصفاتها، وأن يعرف الوقوف فلا يقف إلا في موضع يمكن الوقف فيه.
قال المؤلف رحمه الله:
وبعد تجويدك للحروف لا بد من معرفة الوقوف
وبعد تجويدك للحروف كما درستها، فعرفت مخارجها وصفاتها، وعرفت نوعي الصفات، وهما: حق الحرف ومستحقه، وحق الحرف صفته الأصلية، ومستحقه صفته العارضة، فبعد معرفتك لمخارج الحروف، ومعرفتك للحروف أولًا، فقد عرفت أن الحروف تنقسم إلى قسمين أيضًا: حروف أصلية، وحروف غير أصلية، ثم بعد ذلك المخارج عرفت أنها تنقسم إلى قسمين: مخرج محقق ومخرج مقدر، ثم بعد ذلك عرفت الصفات أنها تنقسم إلى قسمين، هما: صفات أصلية، وصفات فرعية عرضية.
فبعد معرفتك لذلك كله، ومعرفتك لأحكامه، كأحكام المدود، وأحكام النون والتنوين والميم، وكل ذلك من معرفة صفات الحروف العرضية بعد ذلك يحق بك أن تعرف كيف تقف، وكيف تبتدئ، والوقف والابتداء غير متلازمين؛ فقد يقف الإنسان موقفا لكن لا ينبغي له أن يبتدئ بما بعده، فلابد أن يعرف كيف يبتدئ، وإذا لم يعرف ذلك الإنسان فإنه سيجعل القرآن عضين؛ أي: سيقسمه ويجزئه تجزيئًا لا يفهم معه، أذكر مرة من المرات أننا صلى بنا إمام تركي لا يفهم العربية، فقرأ الفاتحة، ثم بعدها قال: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [الرحمن:12]، مباشرة ابتدأ: (( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ))، فلا تدري من أين أتت، وهذا الذي يقول فيه العرب: (ولدها فقارًا يا أبا ليلى) وأبو ليلى لدى العرب هو: الأحمق، فيقولون: (ولدها فقارًا)؛ أي: جيء بها مقطعة، جيء بالكلام لا يعرف بم يتعلق، وقد صليت وراء إمام هنا في هذا البلد، فقرأ سورة الأعلى، فقال في آخرها: (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة)، ثم ابتدأ فقال: (خير وأبقى) فغير المعنى تمامًا، جعلكم تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة معًا، ثم قال: (خير وأبقى) غير متصلة بشيء، وكذلك آخر يقرأ سورة القدر، فيقول: (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما) (أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر) (خير من ألف شهر تنزل الملائكة) (والروح فيها) فيقطعها تقطيعًا عجيبًا، لا تكاد تفهم منها أية جملة، والغريب أنه يقف على سلام يقول فيها: (بإذن ربهم من كل أمر سلام)، ثم يقول: (هي حتى مطلع الفجر)، فهذا النوع من التقطيع لا يفهم معه الكلام نهائيًّا؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى إتقان الوقف والابتداء؛ فلهذا قال: (لابد من معرفة الوقوف)؛ أي: لا بد من معرفتك للوقوف؛ أي: لا سبيل لك عن ذلك.
والبُدُّ في الأصل: المكان الذي تُبِدُّه بصرَك؛ أي: تنظر إليه، إذا كنت لا بد لك من كذا، معناه: ليس لك أي: منظر تنظر إليه إلا هذا المكان؛ أي: كأن نظرك وُجِّه إلى هذا الاتجاه فلا تستطيع أن تعدل عنه يمينًا ولا شمالًا، هذا معنى (لابد منه).
(لابد معرفة الوقوف والابتداء) كذلك لا بد من معرفة الابتداء، وأفرده؛ لأن الأوقاف متنوعة، ومسماة بأسمائها لدى أهل التجويد، والابتداء له اسم واحد لدى أهل التجويد، وإن اختلف حكمه، وهي- أي: الوقوف- تقسم إذًا، معناه قسَّمَها أهلُ التجويد إلى ثلاثة أقسام، وإذًا معناه في حال معرفتها حال تعلمك لها، فإنها تقسم ثلاثة؛ أي: ثلاثة أقسام: تام، وكاف، وحسن، ثلاثة أقسام هي: التام، والكافي، والحسن، فالتام في الأصل مشدد (تامٌّ)، وهو فاعل من (تَمَّ) وهو مدغم، ولكنه هو خففه للضرورة، فقال: (تامٌ) للضرورة؛ لأن هذا النوع من المدغمات لا يتزن في أي بحر من بحور الشعر كله؛ ولذلك فإن الأخفش وهو من أدرى الناس بالعروض يقول:
أريد الركوب إلى حاجة فمن لي بفاعلة من دَبَب
يريد دابة، فهي لا تتزن في الشعر، وقد ذكر بعض أهل العروض أن ضربًا من ضروب السريع يمكن أن يلتقي فيه ساكنان في مثل هذا النوع، لكن هذا غير معروف في شعر العرب؛ فلذلك خففها للضرورة، وهذه الكلمة فيها مد لازم كلمي مثقل.
الوقف: تام وكافٍ وحسن؛ فالتام هو: فاعل من تم الشيء إذا كمل، فهو وصف من التمام، وهو الكمال، والمقصود به كمال المعنى إذا تم المعنى، فلم يبق له أي: تعلق لا من قريب ولا من بعيد بما بعده، إذًا التام في اللغة هو: الكامل، وهو في الاصطلاح: الوقف عند تمام المعنى، بحيث لا يتعلق ما بعد الوقف بما قبله، لا يبقى تعلق بين الجملتين، لا في المعنى ولا في اللفظ، فهذا النوع هو الذي يسمى بالوقف التام، ومحاله هي نهايات السور، فنهاية السورة قطعًا وقف تام، وكذلك نهايات القصص، فكل قصة إذا انتهت فنهايتها وقف تام؛ لأن ما بعدها سيكون استئنافًا، وكذلك المواضع التي جاء فيها تخلص أو اقتضاب في القرآن فهي كلها كذلك وقف تام، فالتخلص كما يأتي بعد مقدمة السورة، بعدما تنتهي مقدمة السورة يشرع في معنى جديد، مثل أن يقال: (يا أيها الذين آمنوا) فهذا نداء مشعر بأن ما قبله منقطع عنه، فهو استئناف، ونظير ذلك ما كان باقتضاب مثل (هذا)، و(إن) في سورة (ص) فهذا النوع هو الذي يسمى بالاقتضاب، والاقتضاب هو: قطع الكلام السابق واستئناف جديد فذلك يكون بحسن التخلص، كأن يساق المعنى حتى يذكر في آخر المعنى السابق ما يشعر بالأول؛ كقول أبي الطيب المتنبي:
لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم
فهو يريد التخلص إلى مدح أبي الحسين، وكان يتكلم في الانقطاع عن الأحباب ونواهم، فقال:
لا والذي هو عالم أن النوى صبر وأن أبا الحسين كريم
فتخلص إلى مدح أبي الحسين، ونظير هذا قول زهير بن أبي سلمى:
إن البخيل ملوم حيث كان ولـ ـكن الجواد على علاته هرم
(إن البخيل ملوم حيث كان) هذا من تمام المعنى السابق، وتخلص فقال: (ولكن الجواد على علاته هرم)، والاقتضاب هو مثل أن يقول: هذا؛ أي: اعرف هذا، أو نحو ذلك كما ذكرنا في سورة (ص) فهذا النوع هو الذي يسمى بالاقتضاب؛ أي: من قطع الكلام، فيكون الكلام قبله منقطعًا عما بعده، وكل كلام أوله (أما بعد) في الكلام العادي، فهو اقتضاب؛ لأنه انقطع عن المقدمة وصل إلى حسن التخلص، ونظير هذا في المصاحف فإن الله سبحانه وتعالى يجزئ السورة الواحدة إلى مقاطع فكل مقطع منها يتعلق بأمر معين، ويكون في آخره ما يشعر بالمقطع الذي يليه؛ ولهذا قال السيوطي رحمه الله:
ويطلب التأنيق في ابتداء وفي تخلص وفي انتهاء
وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها
واردة أكمل وجه وأجل وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أمعن بالتأمل بان له كل خفي وجلي
وهذا أيضًا هو خاتمة ألفيته هو في البلاغة، فكان حسن تخلص أيضًا؛ لأنه قال:
ويطلب التأنيق في ابتداء وفي تخلص وفي انتهاء
وهو هنا قد أحسن حين جعل هذا خاتمة كتابه، قال:
وسور القرآن في ابتدائها وفي خلوصها وفي انتهائها
واردة أكمل وجه وأجل وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أمعن بالتأمل بان له كل خفي وجلي
وتم ذا النظم بتيسير الأحد.
النوع الثاني: هو الكافي، وهو أيضًا وصف من (كفاه، يكفيه) فتستعمل لازمة ومتعدية، يقال: كفى فلان.
كفا وشفا ما بالنفوس فلم يدع لذي إربة في القول جدًا ولا هزلا
ويقال: كفاه.. يكفيه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم، اكفني ما أهمني، وما لا أهتم له)، (اكفني ما أهمني)، والكافي في الاصطلاح هو: الوقف على ما لا تعلق له من ناحية اللفظ، وله تعلق من ناحية المعنى بما قبله، ما له تعلق من ناحية المعنى لكن لا تعلق له من ناحية اللفظ، فهذا هو الوقف الكافي، انتهت تعلقات الفعل مثلًا، انتهت العمدة، وهي: المرفوعات، وانتهت المنصوبات التي لها تعلق، فالعمل اللفظي انتهى، وبقي بعض ما يكمل المعنى من الجمل التي لها علاقة بسابقتها، فهذا النوع وقف كاف، فإذا تمت متعلقات الفعل فجاء مثلا الفعل وفاعله، وجاءت المفعولات وجاء المستثنى، وجاء الحال والتمييز، وانتهت متعلقات الفعل، وبعد ذلك ابتدئ بجملة أخرى لكن لها تعلقا بالجملة السابقة من ناحية المعنى، فهذا النوع هو الوقف بينهما هو الوقف الكافي.
والنوع الثالث: هو الوقف الحسن، وهو: الوقف على ما انتهت أركان الجملة فيه، وبقي بعض تعلقاتها، إذا انتهت أركان الجملة فانتهت العمدة، وبقي بعض التعلقات التي لو لم تأت أصلا لصح الكلام بدونها، فالفضلات وهي: المنصوبات من الأسماء مثلًا، وهي المفعولات الخمسة، والحال، والتمييز، والاستثناء، وإن شئت قلت هي المفعولات كلها؛ لأن المفعول المطلق، والمفعول به، والمفعول معه، والمفعول لأجله، والمفعول فيه الذي هو الظرف معها أيضًا المفعول دونه، وهو المستثنى، وكذلك المفعول في حاله وهو: الحال مثلًا، وكذلك بالنسبة للتمييز، فهو في الحقيقة مفعول أريد به تمييز منبهم من الكلام السابق، فهذه هي متعلقات الفعل، فإذا بقي منها شيء لو سقط أصلًا، ولم يأت في الكلام لما احتيج إليه؛ لأن الفضلة هي: ما يسوغ حذفه من الكلام لغير دليل، وعكسها العمدة، وهي: ما لا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل، والعمدة قد عرفناها بالحد؛ أي: بالتعريف فهي: ما لا يسوغ حذفه من الكلام إلا لدليل، ونعرفها بالعد، فهي: المبتدأ وخبره، والفاعل ونائبه، هذا عند أهل النحو، ومع ذلك أيضًا عند أهل البلاغة الفعل؛ لأنه مسند دائمًا، فهو ركن ركين من أركان الجملة لا غنى عنه في الجملة الفعلية، فيعد أيضًا من أركان الجملة، فإذا كملت هذه الأركان فما بقي بعد ذلك من التعلقات قد لا تحتاج إليه، فإذا قيل لك: ضرب زيد؛ فقد حصلت لك فائدة قطعًا فقد عرفت أن زيدًا حصل منه ضرب، فالفائدة حصلت، لكن إذا قلت: عمرًا، فقد ازدادت الفائدة، وهذه الفائدة كان مستغنًى عنها عرفت الذي وقع عليه الضرب، إذا قلت: بالسلاح مثلًا أو بالعصا، فهذه فائدة أخرى كان مستغنًى عنها، ولكنها زادت فكلما زيد أحد متعلقات الفعل ازداد المعنى.
أما الوقف الحسن فحكمه جواز الوقف عليه، لكن لا يبتدأ بما بعده إلا إذا كان رأس آية، فالوقف الحسن إذا كان في وسط آية لا بد من الرجوع ولا تبتدئ بما بعده، أما إذا كان رأس آية فيجوز الوقف عليه والابتداء بما بعده، مثلًا إذا قلت: (الحمد لله) ووقفت، هذا وقف حسن؛ لأن الجملة انتهت، مبتدؤها (الحمد) وخبرها (لله) أو الذي يدل عليه الجار والمجرور، وهو متعلق وهو المحذوف، فالجملة كملت هذا وقف حسن، لكن لا تبتدئ فتقول: (رب العالمين) لأن هذا ليس رأس آية، لكن يجوز أن تقول: (الحمد لله رب العالمين) ثم تستأنف فتقول: (الرحمن الرحيم) وهذا من متعلقات الجملة السابقة؛ لأنه نعت، والنعت هو من التوابع التي تلحق الأسماء الأول في الإعراب كما قال ابن مالك:
يتبع في الإعراب الاسماء الأول نعت وتوكيد وعطف وبدل
فهي مرتبطة بالأسماء السابقة؛ وعلى هذا فهي من مكملات الجملة فتكمل العمدة فتكون منها، وتكمل الفضلة فتكون منها.
قال: (وهي لما تم) (وهي)؛ أي: هذه الأوقاف (لما تم)؛ أي: تمت أركان الجملة فيه، فالمقصود بالتمام هنا: تمام عمدة الجملة وأركانها؛ أي: هذه الأوقاف إنما تكون لما تم؛ أي: عندما تم فاللام هنا للانتهاء، فاللام تكون للانتهاء، بعتك هذا الحائط لهذه الشجرة؛ أي: إلى نهايتها، لهي نهاية المبيع، وتكون للابتداء: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]؛ أي: عند ابتداء عدتهن.
فاللام هنا للانتهاء، ومعناها أن هذه الأوقاف الثلاثة تنتهي حيث ينتهي تمام عمدة الكلام، فإذا تمت العمدة وأركان الجملة كانت هذه الأوقاف الثلاثة (وهي لما تم).
(فإن لم يوجد تعلق) إذا لم يوجد تعلق أصلًا فالتام، فذلك هو الوقف التام إذا لم يحصل أي: تعلق بينهما فهذا الوقف التام، (أو كان معنًى) إذا حصل تعلق من الناحية المعنوية، ولم يبق أي: تعلق من الناحية اللفظية فهذا الكافي، (فابتدي) فالحكم حينئذ أن تبتدئ بما وقفت عليه، ولا ترجع فيهما معًا، (فالتام فالكافي)؛ أي: الأول الذي لا تعلق فيه أصلًا هو التام، والثاني الذي فيه تعلق من ناحية المعنى لا من ناحية اللفظ هو الكافي، فابتدئ في كل واحد منهما، (ولفظًا فامنعن إلا رءوس الآي جوز فالحسن) إذا كان التعلق لفظًا؛ أي: كان التعلق لفظيًّا وهو مقتض للتعلق المعنوي حيث وجد التعلق اللفظي لا بد أن يوجد التعلق المعنوي، بخلاف العكس قد يوجد تعلق معنوي وهو غير لفظي، لكن لا يوجد التعلق اللفظي إلا حيث وجد التعلق المعنوي، (ولفظًا فجوز) جوز الوقوف عليه، وهو الحسن، (وامنعن)؛ أي: امنعن الابتداء (إلا رءوس الآي) (إلا رءوس الآي) معناه: إلا إذا كان الوقف على رأس آية فيجوز الوقف والابتداء، وإذا كان على غير رأس آية، فيجوز الوقف ولا يجوز الابتداء، بل لا بد من الرجوع، وهنا قوله: (فامنعن) النون التي فيها هي نون التوكيد الخفيفة ولا تكون قافية في الشعر، وهذا عيب من عيوب القوافي أن يجعلها قافية للبيت، (إلا رءوس الآي جوز فالحسن) وهذا البيت فيه تداخل، وهو واضح لكم، قد فهمتم التداخل في البيتين، في قوله:
وهي لما تم فإن لم يوجد تعلق أو كان معنى فابتدى
فالتام فالكافي ولفظا فامنعن إلا رءوس الآي جوز فالحسن
هذا التداخل نظير قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكًا أبو أمه حي أبوه يقاربه
(وما مثله في الناس إلا مملكًا)؛ أي: إلا ملكًا، (أبو أمه) أبوه؛ أي: هو خاله، فالملك ابن أخته هو، قال:
وما مثله في الناس إلا مملكًا أبو أمه حي أبوه يقاربه
أي: ما مثله في الناس حي يقاربه، (إلا مملكًا أبو أمه)؛ أي: أبو أم ذلك الملك المملك أبوه، فهو خاله، وهو يمدح خال هشام بن عبد الملك.
(وغير ما تم قبيح) إذا لم تتم أركان الجملة بأن كان الوقف بين المبتدأ والخبر، أو بين الفعل والفاعل، أو بين المضاف والمضاف إليه، أو نحو ذلك فهذا الوقف قبيح.
ويسال أحدهم عن التداخل في القرآن وهذا يقع في الضمائر، كقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح:8-9]، (تعزروه وتوقروه) الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، (وتسبحوه) الضمير لله عز وجل، وقد يقع في اعتبار اللفظ واعتبار المعنى، كقوله تعالى في سورة الطلاق: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق:11]؛ لأنه قال: (من يؤمن بالله ويعمل صالحًا) بالإفراد (نكفر عنه سيئاته) بالإفراد، (وندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين) بالجمع، ندخله: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا [الطلاق:11]، بالإفراد أيضًا، فهذا اعتبار اللفظ، ثم اعتبار المعنى، ثم اعتبار اللفظ أيضًا، (من) تشمل الجمع، والمفرد فيجوز اعتبار لفظها، ويجوز اعتبار معناها، فاعتبر أولًا لفظها، ثم اعتبر معناها، ثم اعتبر لفظها بعد ذلك، فهذا النوع هو من التداخل الموجود في القرآن وهو قليل، وهو معجز؛ لأنه لا يشعر الإنسان فيه بأي تعارض، ولا أي: إشكال.
(فإن لم يوجد تعلق فالتام) (أو كان معنى فالكافي فابتدي) حينئذ ابتدئ، ثم بعد ذلك قال: (ولفظًا)؛ أي: إن وجد التعلق لفظًا (جوز) جوز الوقف (فالحسن) فهو الحسن حينئذ.
(وامنعن الابتداء إلا رءوس الآي) إلا رءوس الآي فيجوز، مثل: (الرحمن الرحيم) يجوز أن تبتدئ بها، (ملك يوم الدين) يجوز أن تبتدئ بها، وهي رأس آية ولو كان ذلك بين المبتدأ والخبر.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الفرق بين المكي والمدني في الآي أن المكي آياته قصيرة، وفواصله متقاربة؛ فلذلك يقع الوقف فيه بين ركني الجملة، وبين النعوت ومنعوتاتها، والفاتحة حصل فيها هذا، وهي مما تكرر نزوله فهي من المكي ومن المدني، المدني عشرون سورة متفق عليها، والمكي اثنتان وثمانون سورة متفق عليها، وعشرون سورة محل خلاف، وهي مما تكرر نزوله على الراجح، وهنا مثلا قول الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2] (عبس وتولى) هذا وقف؛ لأنه رأس آية، (أن جاءه الأعمى) لا يمكن الابتداء بها؛ لأن هذا السبب معناه: لأجل أن جاءه الأعمى، فهي مفعول لأجله، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس:3-5]، هذا مبتدأ، وقد وقفت عليه، ثم تقول: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس:6]، وهذا خبر، ويجوز الابتداء به، وهذا أيضًا من الإعجاز في القرآن، فهذا في المكي يقع الوقف الحسن كثيرًا.
وبالنسبة لــ(وما يدريك) على الجواز إذا كان (لعله يزكى) لا تتعلق بها، فهي من ناحية التفسير قابلة للوجهين؛ ولذلك فالإنسان في إدراكه للمعاني يمكن أن يفهم المواضع التي يختار هو الوقف فيها، فهذه الأوقاف التي ذكر هو وهي الثلاثة: التام، والكافي، والحسن، لبعض أهل التجويد تقسيمات أخرى، فيقسمونها أيضًا تقسيما آخر أدق من هذا، إلى: وقف لازم، ووقف الأولى فيه الوقف، ووقف الأولى فيه الوصل، ووقف جائز مستوي الطرفين، ووقف لا يقع إلا في الضرورة، الوقف القبيح، وسنذكرها تفصيلًا؛ ولذلك قد يتردد الإنسان في مكان الوقف، وهذا الذي يسميه أهل التفسير بالوقف المزدوج؛ أي: المعنى محتمل للوقف في موضعين في الآية، ويوضع عليه في المصحف عادة ثلاث نقاط على الموضع الأول وثلاث نقاط على الموضع الثاني؛ أي: أنت مخير بين أي: الوقفين شئت لكن لا تجمع بينهما، مثلًا: الــم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2] تجدون فوقها ثلاث نقاط في المصحف ما معناها؟ معناه يجوز الوقف هنا، لكن إذا وقفت لا تقف على (فيه) وهو الموضع الثاني الذي عليه ثلاث نقاط؛ لأن المعنى إما أن يكون: (لا ريب فيه)، أو أن يكون المعنى: (فيه هدى للمتقين)، (لا ريب) انتهى الكلام (فيه هدى للمتقين) فــ(فيه) يمكن أن تكون خبرًا للمبتدأ الذي بعدها، هدى للمتقين فيه، ويمكن أن تكون أيضًا خبرا لــ(لا) واسمها المسبوك معها وهو السابق، فهي خبر على كل حال، سواء كانت خبرًا لما قبلها، أو خبرًا لما بعدها.
ونظير ذلك أيضًا في سورة المائدة: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31] تجدون عليها ثلاث نقاط، ثم بعدها: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة:32] تجدون عليها ثلاث نقاط، فمعنى ذلك: أن الوقف مزدوج، إذا شئت وقفت على (النادمين) ثم تقول: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32] ويمكن أن تقف فتقول: (فأصبح من النادمين من أجل ذلك) ثم تبتدئ: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
هذا يسمى الازدواج، وهو الوقف المزدوج؛ أي: الذي إذا وقفت على أحد شقيه لم يحل لك الوقف على الآخر، وهو محتمل لهما من ناحية التفسير، ونظير هذا أيضًا في سورة آل عمران قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30]، فهذان وقفان ازدواجيان، فإذا قلت: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30] فهذا كلام مستقل، وإذا قلت: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] فهذا أيضًا كلام كامل.
وهذا الاختلاف في التفسير أن يكون القرآن محتملًا للوجهين في التفسير من إعجازه، ونظيره في المعنى الخلاف في (عِلِّيِّين)، فـ(عليون) مختلف فيها ما هي؟ فقيل: جمع (عِلِّيٍّ)، وهو أعلى الجنة، ومنه قول الشاعر:
كأن حوطًا جزاه الله صالحة وجنة ذات علي وأشراع
لم يقطع الخرق تمسي الجن ساكنه برسلة سهلة المرفوع هلواع
(وجنة ذات علي وأشراع)، فـ(علي) جمعها (عليون)، وهي أعلى الجنة، وقيل: (عليون) هو الكتاب الذي تدون فيه أعمال أهل السعادة، هذان احتمالان في التفسير، وكلاهما يدل عليه شيء من الآية، فإنك إذا قلت: إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، هذا يدل على أنه مكان لوضع الكتاب، وهو أعلى الجنة، وإذا قلت: (وما أدراك ما عليون كتاب) جعلت عليين هي الكتاب، فأنت على احتمالين إذا فسرت عليين بأعلى الجنة تقول: إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]؛ أي: إن موضع كتاب الأبرار المحل الذي يوضع فيه هو عليون وهو أعلى الجنة، (وما أدراك ما عليون كتاب)؛ أي: محل كتاب، وقد حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه:
وما يلي المضاف يأتي خلفًا عنه في الاعراب إذا ما حذفا
كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:9].
وإذا قلت: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]؛ أي: إن عملهم لفي عليين، فمعناه إن كتاب الأبرار؛ أي: إن كتابة عمل الأبرار، فالكتاب بمعنى الكتابة، وقد جاء إطلاق الكتاب على الكتابة في القرآن في عدد من المواضع، كقوله تعالى في سورة آل عمران: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [آل عمران:48] في ذكر المسيح بن مريم عليه السلام، فالمقصود بالكتاب هنا الكتابة، فعيسى بن مريم هو أحسن خلق الله خطًا، أحسن البشر خطًا، فقد علمه الله الكتاب تعليمًا من عند الله مباشرة، مثل ما نطق في المهد كذلك تعلم الكتابة في المهد، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [آل عمران:48]؛ لأنه لا يقصد قطعًا الكتاب المنزل؛ لأن الكتاب المنزل الذي يعرفه عيسى هو التوراة والإنجيل وقد ذكرا، وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [آل عمران:48]؛ فهذا النوع هو من هذا الوقف المزدوج.
وكذلك لكل إنسان الاختيار في الفهم فيما يترجح لديه إذا ترجح لدى الإنسان أحد التفسيرين وقف على أساسه، ونظير هذا أيضًا استحسان الوقف لدى بعض أهل التفسير في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34]، ثم يستأنف فيقول: إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34]، فإن الملائكة سجدوا، والفاء تقتضي الترتيب والتعقيب، فبادر الملائكة إلى السجود، فلو قلت: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، ووقفت، ثم قلت: (فسجدوا) لكان هذا تشويشًا في اللفظ؛ ولذلك قل: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34]؛ فيجوز أن تقف هنا، فتقول: إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34]؛ لأن الاستثناء منقطع، كما يجوز أيضًا الوصل، فتقول: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة:34].
أما مثل: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فليس فيها هذا النوع، لأن هذه رأس آية، والوقف فيها كاف؛ فهي مختلفة تمامًا عما كنا فيه.
(وغير ما تم قبيح) إذا كان الكلام غير تام فهو قبيح، ومحل ذلك إن لم يكن رأس آية، فإن كان رأس آية، فلا قبح، كما ذكرنا في سورة عبس، فالتعلق موجود، وأركان الجملة بقي بعضها، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس:3-6]، فهذا الوقف هنا ليس قبيحًا، وإن كان الكلام لم يتم بعد، (وغير ما تم قبيح وله يوقف مضطرًّا)؛ أي يوقف له؛ أي: عنده، واللام للانتهاء أيضًا (مضطرًّا)؛ أي: في حال الاضطرار، وهي حال من نائب (يوقف)؛ لأن (يوقف) فعل مسند للنائب، و(مضطرًّا) حال من الضمير الذي فيها.
(يوقف مضطرًّا ويبدأ قبله) أي: للقبيح لكن لا يحل الابتداء بما بعده، بل لا بد من الرجوع، وهذا الرجوع مختلف فيه، فقيل: لا بد أن يكون إلى أول الكلام، أو أول الآية، وقيل: تكفي فيه كلمة واحدة، مثلًا إذا قلت: (الحمد لله) وعطست، فتريد قراءة الفاتحة، أو قراءة الكهف، أو قراءة الأنعام، أو قراءة فاطر، أو قراءة سبأ، فوقفت على (الحمد لله) هذا وقف حسن في الأصل، ولكن لا تبتدئ بعده؛ لأنه ليس رأس آية، كذلك إذا وقفت على (الحمد) وعطست، فهذا وقف قبيح؛ لأن الجملة لم تكمل بعد؛ فلذلك لا بد أن ترجع.
و(مضطرًّا) يمكن أن تجعل مصدرًا، وتكون حينئذ المصدر المنصوب يحتمل الحالية أيضًا، فالمصدر المنصوب من حيث هو له أربع إعرابات: إما أن يكون على ما ناب عن المطلق، وإما أن يكون حالًا، وإما أن يكون مفعولًا لأجله وإما أن يكون منصوبًا على التشبيه بالمفعول به، هذه إعرابات المصدر المنصوب دائمًا، (وله يوقف مضطرًّا، ويبدأ قبله) (يبدأ قبله)؛ أي: يستأنف بما قبله وجوبًا، قال:
وليس في القرآن من وقف وجب ولا حرام غير ما له سبب
يقول: إن الوقف لا يجب شيء منه في القرآن، ولا يحرم إلا ما كان له سبب من ناحية القصد، فما كان تجزيئًا للمعنى، كالوقف بين الفعل والفاعل، وبين المبتدأ والخبر، فهذا له سبب فهو حرام يحرم تعمده، ويقف عليه الإنسان مضطرًّا فقط، وكذلك ما كان وصله يؤدي إلى خلاف المعنى يوهم خلاف المعنى، فيجب الوقف عليه، وهذا الذي يسمى بالوقف اللازم، وهو الذي يشار له في المصحف بالميم؛ أي: وقف لازم، وذلك كقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:117-118]، فإنك لو وصلت لتوهم أن الذي قال ذلك هو الله؛ لأن الفعل الذي قبله فاعله الله، لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ [النساء:118]، والضمير يرجع على أقرب مذكور في الأصل؛ فلذلك يوقف هنا فيقال: لَعَنَهُ اللهُ [النساء:118] ثم تستأنف فتقول: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ [النساء:118]، (وقال)؛ أي: الشيطان، لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118]، ومثل هذا قوله تعالى أيضًا في نفس السورة في سورة النساء: سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ [النساء:171] فهنا لو وصلت لتوهم أن المنفي هو ولد يملك ما في السموات والأرض، وهذا غير صحيح فالمعنى: سبحانه أن يكون له ولد مطلقًا، (له)؛ أي: لله، لا للولد، (له ما في السموات) فالوصل يوهم خلاف المعنى، ونظير هذا في سور الأنعام: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ [الأنعام:36]؛ فإنك لو وصلت أوهم ذلك أن الموتى يستجيبون، وليس كذلك، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]، وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ [الأنعام:36]؛ فلذلك يحسن هذا الوقف ويسمى وقفا لازمًا، ويشار إليه بالميم، وقد يكون الوقف أولى من غيره وهذا الذي يشار إليه بـ(قلي) بالقاف واللام والياء؛ أي: القطع، قطع الكلام أو الوقف أولى، وقد يكون الوصل أولى فيشار إليه بـ(صلي) بالصاد واللام والياء؛ أي: الوصل أولى، وقد يكون جائزًا مستوي الحالين وهو الذي يشار إليه بالجيم، وقد يكون ممنوعًا لأنه يغير المعنى فيمنع ويكتب عليه (لا)؛ أي: لا تقف هنا، وذلك في مثل ما ذكر، فالوقف اللازم وصله يغير المعنى، وكذلك إذا كان الوقف أيضًا يغير المعنى، كالوقف بين المبتدأ والخبر، وبين المضاف والمضاف إليه ونحو ذلك، فالذي يقرأ مثلًا: أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3]، فيجعل هذا يوهم أنه بريء منه، وهذا غير صحيح، ونظير هذا مثلًا من وقف على: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ [البقرة:258]؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه مفسد للمعنى، ومثل ذلك: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ [آل عمران:181]، ثم يقول: لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا [آل عمران:181] ويقف، ثم يقول: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] مثلًا، فهذا لا يجوز، ومن تعمد هذا النوع كفر به.
فالوقف القبيح ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: تعمده حرام، وليس بكفر، وهو الذي يغير المعنى، لكن لا علاقة له بالاعتقاد، كالوقف بين المبتدأ والخبر، وبين المضاف والمضاف إليه مثلا.
القسم الثاني هو: الذي يغير المعنى، ويتعلق بالاعتقاد، فالوقف عليه تعمده كفر، كبعض الأمثلة التي ذكرناها؛ فلهذا قال: (ولا حرام غير ما له سبب) أما ما له سبب فقد يلزم الوقف فيه، وقد يلزم الوصل كما ذكرنا، وهذه اللوحات التي ترونها توضح لكم بعض هذه القواعد التي ذكرناها.
بقي من أحكام الوقف أن ننبه إلى أن الوقف الكافي ينقسم إلى درجات متفاوتة، فقد يكون الوقف كافيًا، ويكون غيره أكفى منه، ويكون غير ذلك أكفى منه أيضًا بالدرجات، فمثلا: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] هذا وقف كاف، وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، هذا وقف أكفى من السابق، لو وصلت، فقلت: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] هذا أكفأ من السابق؛ لأنه محتمل للمعنيين، فالسمع يمكن أن يكون معطوفًا على ما سبق، ويمكن أن يكون داخلًا فيما لحق، فيمكن أن يكون حكمه حكم الختم مع القلب، ويمكن أن يكون حكم الغشاوة مع البصر؛ فلذلك يكون الوقف الثاني أكفى من الأول، وإذا أكملت الآية: وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، فهنا هذا الوقف أكفى من سابقه وأكمل؛ لأن المعنى قد كمل تمامًا؛ فلذلك إذا كان على نهاية المقطع، كما في هذه الآية في أول سورة البقرة فــ(المفلحون) هذا الوقف تام؛ لأنه انتهت به صفات المؤمنين، والذي بعده: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] هذه بداية صفات الكفار، ونهايتها عند عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7]، ثم بعد ذلك صفات المنافقين بدايتها: وَمِنَ النَّاسِ [البقرة:8]، فيكون الوقف حينئذ تامًا، وكذلك الوقف الحسن يتفاوت حسنه، فقد يكون الباقي من المتعلقات لمجرد الاحتمال، يحتمل أن يكون معمولًا للعامل السابق، ويمكن ألا يكون كذلك، فيكون الوقف حينئذ حسنًا بالغ الغاية في الحسن فيه، وقد يكون المتعلق قطعًا من متعلقات الفعل السابق أو الجملة السابقة، فيكون الوقف فيه ناقص الحسن.
فـ(ما له سبب) ينقسم الوقف فيه إلى قسمين: إلى ما كان الوقف عليه مغيرًا للمعنى، ولكنه لا يوهم خلاف الاعتقاد فهذا حرام، وما يوهم خلاف الاعتقاد فهو كفر، تعمده طبعًا واعتقاده قصده، وهذا محله فيمن يفهمه ويقصده، أما الجاهل بالعربية فلا يكفر بهذا، وهو معذور في ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر