الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد انتهينا فيما سبق من علم الاعتقاد فيما يتعلق بتعريفه وواضعه.
أما نسبته إلى غيره من العلوم فهي بالنسبة لعلم الحديث وكذلك علم التفسير نسبة العموم والخصوص المطلقين، ولغيرهما من علوم الشريعة نسبة العموم والخصوص الوجهي؛ للاشتراك في بعض المسائل، وانفراد كل في مسائل مختصة.
أما مستمد هذا العلم، فالنقل الصحيح والعقل السليم، النقل الصحيح معناه الوحي كتاباً أو سنةً، أو اجتهاد السلف، اجتهادات التابعين وأتباعهم، وما روي كذلك من الآثار عن بعض الصحابة، وهذا هو النقل الصحيح.
والعقل السليم ما يتعلق بالتقعيد لذلك وفهمه، وجمع نصوصه إذا حصل تعارض بينها، وحمل المتشابه منه على المحكم مطلقاً، كلما وقع تشابه أي إشكال وخفاء في الدلالة يحمل على المحكم وهو الواضح الدلالة، وهذا يحتاج فيه إلى عقل وتدبر وتفهم، لكن لا بد أن يكون ذلك العقل سليماً معناه مستنيراً بنور الوحي والعبادة.
أما اسمه فقد اطلق على هذا العلم عدد كبير من الأسماء، فيسمى قديماً باسم الإيمان، ولذلك ألف عدد من المؤلفات بهذا الاسم، ويسمى كذلك بعلم السنة، وهذا الاسم الذي اختاره أحمد بن حنبل فقد قال فيه حينما سئل عن سفيان ومالك قال: كان مالك إماماً في الحديث إماماً في السنة، وكان سفيان إماماً في الحديث وليس إماماً في السنة، يقصد تفصيلات هذا العلم لديه، ولذلك اشتهر أهله في البداية بأهل السنة؛ لأن هذا العلم يسمى بالسنة؛ لأن المرجع فيه إلى التسليم بالنصوص السابقة ولما كان عليه الصدر الأول من هذه الأمة.
ثم سمي بالتوحيد، والتوحيد تفعيل، والتفعيل في الأصل من أفعال الصيرورة والجعل، ولا يقصد ذلك فليس معنى توحيد الله جعله واحداً، بل هو واحد أصلاً، وهذا الإطلاق انتهجه البخاري في صحيحه، وابن خزيمة كذلك في كتاب التوحيد، وغيرهما من الذين أطلقوا على هذا علم التوحيد.
كذلك من أسمائه علم الاعتقاد، قد اشتهر هذا الاسم لدى المتأخرين بعلم الاعتقاد وعلم العقيدة.
ومن أسمائه كذلك علم الكلام؛ لأن أكثر مسائله شهرةً وخلافاً وافتراقاً مسألة إثبات التكلم لله سبحانه وتعالى، وهل كلامه صفةً من صفاته أو لا؟ وهل تكلمنا بالقرآن مخلوق صفةً من صفاتنا أو لا يقال ذلك؛ لأن القرآن كلام الله؟ وهذه المسائل هي التي كثر فيها الاحتجاج كثيراً، فكانت أغلب مسائل هذا العلم وأكثرها، ويمكن أن يسمى العلم كله باسم جزئه كما يسمى العبد رقبةً، وكما تسمى البهيمة رأساً، يعني رأس من الإبل، أو رأس من البقر، أو رأس من الغنم، اعتباره جزء من أجزائه وهو أهمها.
كذلك حكمه قد اختلف فيه، فما يجب عيناً منه واجب عيناً بالإجماع، علم أركان الإيمان ما يشهد به الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويعرف المعلوم من الدين بالضرورة، هذا واجب بالإجماع على كل مسلم.
أما ما عدا ذلك وهو التفصيل والتدليل في المسائل فقد اختلف فيه، فقالت طائفة: يجب عيناً، وهؤلاء قد غلوا في هذا الأمر فالتبس عليهم الواجب العيني من ذلك بالواجب الكفائي، وهذا الالتباس ما زال موجوداً إلى الآن، وكثير من الناس يرى أن هذا العلم أفضل العلوم، وهو مقدم على غيره منها، وأنه ينبغي أن يشتغل به طلاب العلم قبل غيره؛ لأنه يلتبس عليهم ما يجب على كل مكلف اعتقاده وبالتفصيلات الجزئية التي توجد في هذا العلم، ولذلك إذا أخطأ إنسان في مسألة من مسائله أو جهلها جعلوا ذلك أكبر مما لو جهل مسألةً من مسائل التفسير، أو مسائل الحديث بفارق عظيم، والواقع أنه علم من هذه العلوم الشرعية ليس أكبرها ولا أصدرها من ناحية الصدارة.
والقول الآخر: أنه يجب الكفائي أيضاً، يجب على الأمة أن يكون فيهم من يعلمه.
القول الثالث: أن منه ما يحرم تعلمه أصلاً ومنه ما يجوز، فما يحرم تعلمه ما يوقع في الشبهة دون أن يقدر الإنسان على إجابتها، أو ما لم يكن السلف يعرفونه أي: لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وهذا القول لا شك كذلك لا يخلو من غلو؛ لأنه لو كان كل ما لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عموماً لا يحل تعلمه لحرم تعلم الفقه والحديث والتفسير وغيرها، وهذا لا قائل به.
القول الرابع: أنه يستحب تعلم مسائله فقط، وهذا هو اختيار ابن رشد من المالكية، قال: يستحب لطالب العلم تعلم مسائله التفصيلية ولا تجب؛ لأنه إنما يجب كفايةً ما يؤدي إلى مناظرة الكفار ومجادلتهم بالتي هي أحسن ورد الشبهات، أما كثير من المسائل التي فيها خلاف داخل الأمة الإسلامية فالأفضل للناس أن يجهلوها حتى تموت، مثل مسألة الاستطاعة، هل تنشأ عند الفعل أو قبله أو بعده؟ أو تبقى أو لا تبقى؟ وهل هي متدرجة أو متفاوتة؟ ومسألة العرض هل يبقى زمانين أو لا؟ ومسألة الجوهر الفرد وتعلق التكليف به أو تعلق الوجوب به، هذه المسائل قال فيها السبكي في آخر كتابه جمع الجوامع بعد أن ذكر مسائل الاعتقاد قال: ومما ينفع علمه ولا يضر فعله، وذكر عدداً من المسائل الكلامية مثل قوله: أن الممكن الموجود يحتاج في بقائه إلى المؤثر، وفي علة احتياجه إليه هل الحدوث أو الإمكان أو هما معاً أو جزءا علة أقوال، أو الإمكان بشرط الحدوث أو معاً أقوال، ومسائل كثيرة من هذا النوع، ينفع علمها ولا يضر جهلها، فلذلك قال ابن رشد: يستحب فقط تعلم هذه المسائل التفصيلية ولا يجب، وهذا القول محله فيما يخرج منه ما يجب اعتقاده على كل مكلف فهذا قطعاً واجب عيناً، وما ترد به الشبهة ويناظر به أهل الإلحاد فهذا واجب كفايةً أيضاً قطعاً، ثم المسائل الأخرى هي التي تستحب، وعلى هذا لا يمكن أن يطلق حكم واحد على علم العقائد، لا يمكن أن يطلق عليه الحرمة، ولا الوجوب العيني، ولا الوجوب الكفائي، ولا الاستحباب، بل منه ما هو واجب عيناً، ومنه ما هو واجب كفايةً، ومنه ما هو مستحب، ومنه أيضاً بعض المسائل التي قال بعض أهل العلم: بحرمة تعلمها، هذه المسائل نظمها محمد مولود رحمه الله في قوله:
علم العقائد بلا دليل يجب
إجماعاً وبالدليل هل فرض عين أو كفايةً يجب
أو حضر ولابن رشد استحب
والأولان جريا فينا الشبه يرد، والتفصيل رأي طلبة.
التفصيل بين ما هو واجب عيناً وما هو واجب كفايةً وما هو محرم وما هو مندوب رأي طلبة، أي: هو رأي أكثر طلبة العلم يقصد به العلماء.
ثم بعد هذا فضله، ولا شك أن فضل كل علم بحسب فائدته التي هي تترتب عليه، ولم يرد في فضل هذا العلم نصوص بخصوص التوسع في هذا المجال، لكن ورد في القرآن وفي السنة الحض على التدبر في آيات الله، والتفكر في آلائه ونعمه، والآيات المختصة بذلك والبراهين العقلية في خلق السموات والأرض وغيرها عظيمة جداً، قد أمر الله بالتفكر في خلق الإنسان نفسه وَفِي أَنفُسِكُمْ [الذاريات:21]، وفي خلق السموات والأرض والجبال والإبل وغيرها، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
وكقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:190-191]، وغير هذا من الآيات الكثيرة.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة الحديبية على أثر مطر نزل، ( أتدرون ماذا قال: ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي ومؤمن بالكوكب، فالذي يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته مؤمن بي كافر بالكوكب، والذي يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا كافر بي مؤمن بالكوكب )، وغير هذا من تنبيهه إلى هذه الأمور، فهذه كلها يؤخذ منها فضل ما يقتضي زيادة إيمان، وزيادة خشوع وأدب مع الله، ولكن مع هذا ففي مسائل هذا العلم ما يقتضي قسوةً وغلظةً وجفاءً وتجبراً على عباد الله، وأن يجعل الإنسان نفسه حكماً على الآخرين، أو يحتكر الحق دونهم، وهذه المسائل حينئذ مذمومة لما يترتب عليها من تربية الإنسان نفسه، ولذلك نبه على معنى هذا في كثير من النصوص، فقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند عن يحيى بن سعيد أنه بلغه: ( أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم؛ لأن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلىً ومعافىً فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ).
وبالأخص أنه يوقع في مزالق كثيرة فكثير من مسائل هذا العلم تقتضي من الإنسان التعصب له مما يقتضي منه تكفيراً لقوم أو تبديعاً أو تفسيقاً، أو غير ذلك، وهذا في الأصل راجع إلى القضاة؛ لأن التكفير والتبديع والتفسيق حكم قضائي يحتاج فيه إلى إثبات ومناقشة وإقامة للحجة.
أما فائدته ففائدة هذا العلم: زيادة الإيمان والتصديق بالخبر، وزيادة الأجر على حفظ النصوص، وكذلك زيادة اليقين في الخبر المحض، والقدرة على الدفاع عن الدين والجهاد بالقول، ولا شك أن الجهاد بالقول من أعظم أنواع الجهاد، فقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين، ولم يجاهدهم إلا بالقول، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73]، ولم يجاهدهم إلا بالأقوال.
وكذلك قال الله في القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52]، دل ذلك على أن الجهاد بالقول جهاد كبير.
وكذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )، كل هذا جهاد باللسان، فدل هذا على أن تعلمه من الإعداد للجهاد؛ لأنه رد لشبهات الكفار والملحدين، ودفاعاً عن الدين وصدع بالحق، وقد أمر الله بذلك في الدعوة في قوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وفي قوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46].
أما المسائل فهي ما يدخل تحته من الجزئيات السابقة وغيرها، وكان الأولى للذين يؤلفون فيه أن يرتبوه على أركان الإيمان، أن يرتبوا المسائل على أركان الإيمان، فليبدأ أولاً فيه بتعريف الإيمان وما يتعلق به، ثم بذكر مسائل الإيمان بالله، وتقسيمها إلى ثلاثة أقسام: الإيمان بألوهيته، وما يتعلق بذلك من شأن المخالفين الذين يعبدون غيره، أو يقدمون إليه نذوراً أو تقرباً، أو يدعونه من دونه، أو يتوسلون به، أو يستشفعون، أو غير ذلك، ثم مسائل الإيمان بربوبيته، وما يتعلق بانفراده بالخلق والملك سبحانه وحده، والرد على المخالفين في ذلك من الطبائعيين والدهريين وعبدة الأوثان أقصد الذين يدعون أن الأوثان شركاً في السموات والأرض، أو الذين يدعون أن أحداً يملك له نفعاً أو ضراً أو موتاً أو حياةً أو نشوراً، ثم بعد ذلك الإيمان بأسمائه سبحانه وتعالى إجمالاً وتفصيلاً، والبيان بهذه الأسماء ومعانيها مما يقتضي محبةً له، وزيادة اتصال به، ثم الإيمان بصفاته، وبيان ما جاء منها في النصوص، وبيان اتصافه بكل كمال، وامتناع كل نقص عليه، وهذا مما يزيد محبته؛ لأنك كلما ازددت معرفةً بصفاته كلما ازددت قرباً إليه وتقرباً، ثم بعد هذا الإيمان بملائكته وصفاتهم وأحوالهم، وأسماء من سمي منهم وأعدادهم وغير ذلك، ثم الإيمان بكتبه، ويزداد التفصيل في القرآن مثلاً، ثم الإيمان برسله وما لهم من حقوق، وأسماء من سمي منهم، ثم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به مما يسبق قيام الساعة من الأشراط، والقيامة الصغرى التي هي الموت وما وراءه، ثم مشاهد القيامة، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره بأقسامه كلها أقسام القدر الأربعة ومراتبه الأربع كذلك، فهذا الأولى أن يرتب هذا العلم على هذه الطريقة، ومع الأسف لم يرتب في كتاب شامل على هذا الوجه، بل وضعت مسائل هذا العلم بعيدة عن أركان الإيمان والاختلاط بها في أغلب الكتب، وكثر الكلام فيها فقط في الأسماء والصفات، فهذا أكثر ما ألف في علوم العقائد، مع أن الأصل أن يهتم بالجميع، وقد شعر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في زمانه بثغرة مهمة في أهل هذا الزمان؛ لجهلهم بكثير مما يتعلق بالإيمان بألوهية الله سبحانه وتعالى، فألف كتابه كتاب التوحيد، وخصصه أساساً لتوحيد الألوهية توحيد العبادة، ومن الأولى لطلاب العلم الآن أن يؤلفوا هذا العلم على طريقة جديدة ترتبط بأركان الإيمان وتفصيلاتها؛ حتى يعرف الإنسان لماذا يذكر أهل علم العقائد الطيرة مثلاً أو التولة أو التمائم في علم الاعتقاد، وإلى أي أصل ترجع؟ كلها ترجع إلى القدر بخيره وشره، كذلك المسائل الأخرى فمرجعها إلى أصولها، ويكون العلم شجرةً واضحةً في الأذهان، مثل الطريقة التي ألفت عليها العلوم الأخرى، وهذا أنفى للتعصب، وأنفى كذلك للتوسع في مسائل لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تنفع، فيكون هذا أولى.
هذا ما يتعلق بالمقدمات العشر في هذا العلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السؤال: بالنسبة للسؤال عن المالكية: هل كان لهم مذهب متميز في الجانب العقدي؟ فقد عرفنا مذهباً مختصاً بالحنفية وهو مذهب الماتريدية في الغالب، ومذهباً مختصاً بالشافعية وهو المذهب الأشعري في الغالب، ومذهباً بالحنابلة وهو مذهب الحنابلة، الذي كان ينسب إلى البربهاري ثم بعد ذلك ابن قدامة ثم شيخ الإسلام ابن تيمية فيما بعد؟
الجواب: إن المالكية في بداية نشأة المذهب إنما يعتبرون من أهل الحديث، ولذلك مؤلفاتهم في هذا العلم تعد من مؤلفات أهل الحديث، فمؤلفات أصحاب مالك في هذا الباب كثيرة كمؤلفات ابن وهب وغيره من الذين ألفوا في هذا العلم، ثم صار متأخروهم في أغلب الأحيان على هذا السير في العصور الأولى يوافقون أهل الحديث والحنابلة في كثير مما يسيرون عليه، ومن مشاهير المؤلفين في هذا الباب ابن الجلاب، وابن رشد في مقدمة كتابه (المقدمات)، وابن أبي زيد في مقدمة الرسالة، وغير هؤلاء من كبار الأئمة في مذهب مالك، ثم درج متأخروهم في أغلب الأحيان أيضاً على المذهب الأشعري، وإن كانوا يردون على بعض الأشاعرة في بعض المسائل، وقد أصبح في ذلك الزمان المذهب الأشعري رمزاً لأهل السنة في مقابل المعتزلة وأهل البدعة، فينتسب إليهم أن لا يوافقوهم في أكثر المسائل؛ لأن المذاهب العقدية هي مثل المذاهب الفقهية، وانتسابك لمذهب فقهي ليس معناه أنك ترى أن كل ما فيه صواب، بل ترد عليه ومع ذلك تنتسب إليه، فأنت تقول: أنا مالكي وليس معناه أنك تعتقد أن كل ما رآه مالك صواباً، أو ما رآه من دونه من أئمة المذهب صواباً، بل كثير مما رآه مالك ترده عليه، كثير مما رآه أصحابه ممن دونه ترده عليهم، وكذلك الانتساب لأي مذهب من هذه المذاهب لا يقتضي الإلزام بالأخذ بكل ما في ذلك المذهب، ولهذا فينبغي للذين يتصدون للردود داخل الأمة الإسلامية وبالأخص داخل أهل السنة أن يعلموا أن احتكار اسم السنة، أو قصرها على مذهب واحد من هذه المذاهب مما لا ينبغي، وأيضاً أنه إذا قيل: إن المذهب الفلاني يقول كذا فهذا الإطلاق غير صحيح؛ لأن هذه المذاهب ما نقيت مثل تنقية المذاهب الفقهية حتى يقال: إن القول الفلاني هو المذهب، وكثير مما ينسب لأئمتها غير صحيح النسبة إليهم، وأيضاً كثير من المسائل التفصيلية ما قالها الإمام الذي ينتسب إليه المذهب، كثير من المسائل التي تنقل على الأشاعرة ما قالها أبو الحسن الأشعري، كثير من المسائل التي تنقل عن الماتريدية ما قالها أبو منصور الماتريدي، ولا توجد لديه أصلاً، مثلما أن المذهب الحنبلي لو نسب إلى الإمام أحمد فكثير من المسائل التي فيه لم ترو عن الإمام أحمد أصلاً ولم يقل بها، إنما قالها من دونه.
يشتهر لدى كثير من الناس انحصار مذهب أهل السنة في الاعتقاد في مذهب الحنابلة فقط، لكن هذه النقولة غلط وهي منتشرة مشتهرة في جزيرة العرب الآن، ولكن ذلك مثل التعصب كما لو قيل في مذهب من المذاهب الفقهية وحده: إنه مذهب أهل السنة، أو إنه أسعد بالدليل مثلاً، وأن ما سواه ليس من مذاهب أهل الحديث، أو ليس أسعد بالدليل، فهذه كلها أقوال المتعصبة الذين يتبعون الهوى في ذلك.
أما أهل السنة فالمذاهب التي ذكرناها الثلاثة العقدية كلها من مذاهب أهل السنة، وأئمتها وعلمائها كلهم من أهل السنة، وإذا قلنا: أهل السنة المقصود أهل الحديث، وأهل الفقه وعلماء الأمة الإسلامية، وهم يرجعون إلى هذه المذاهب، انظر إلى الذين ذكرنا أسماءهم من المؤلفين في كل العلوم السابقة في التفسير وفي شرح السنة ستجدهم موزعين على هذه المذاهب، بعضهم شوافع ينتسبون إلى المذهب الأشعري، وبعضهم أحناف ينتسبون إلى المذهب الماتريدي، وبعضهم حنابلة ينتسبون إلى مذهب البربهاري أو شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضهم مالكية ينتسبون إلى أي مذهب من هذه المذاهب إما مذهب الحنابلة كما كانوا يقولون: حنبلي في الاعتقاد مالكي في الفقه، هذا يقوله كثير من علمائنا المالكية، ولا يقصدون بذلك أن مذهب مالك مخالف لمذهب الحنابلة أو الحنفية أو الشافعية، لكن هذا اصطلاح في زمانه؛ لأن مذهب الحنابلة يطلق على هذا المذهب الذي يسمى هنا في جزيرة العرب الآن مذهب السنة، فهو مذهب الحنابلة، ولذلك أهل التعصب إذا أرادوا أن يطلقوا اسم السنة على أحد هذه المذاهب فقط انحرجوا حينما يخرجون أئمة الإسلام من أهل السنة، من أخرج البيهقي من أهل السنة ماذا سيبقى لديه؟ من أخرج الحاكم النيسابوري من أهل السنة كلاهما أشعري، من أخرج أبا نعيم الحافظ من أهل السنة، وهو أشعري أيضاً أو ماتريدي، من أخرج ابن حجر والنووي والعيني، وعلماء الإسلام كلهم بعد ذلك.
والذي يحصره في مذهب معين فهذا من المتعصبة أتباع الهوى الذين يتبعون الهوى ولا يتبعون الشرع، وإلا فالجميع متسع، والسنة الحمد لله متسعة، وما الفرق بين المذاهب العقدية والمذاهب الفقهية؟ لم تختلف في أصول الإيمان وأركانه وأموره الأساسية، وإنما اختلفت في أمور اجتهادية، وفي ترتيب قواعد وتنظيمها، وهذه مصطلحات ولا حرج فيها، ولذلك إذا رجعت إلى الافتراق بين هذه المذاهب تجد أنه محصور جداً في نقاط كلها اجتهادية في الأصل، وليس شيء منها قاطعاً، وحتى لو تبين لديك قطع بالخطأ من واحد من المذاهب لا يبطل ذلك المذهب من أساسه؛ لأنك تعلم أن المسألة قابلة للاجتهاد، وأن الله هداك بها للأصوب والأقرب إلى النص، ولكن ليس معنى ذلك أن البقية على ضلال، أنت هديت إلى الأصوب، فهذا من فضل الله ورحمته وليس من عقلك أنت، ولا من نسبك، ولا ميراث ورثته عن أجدادك، وبالنسبة للبقية إذا اخطئوا فخطأهم أيضاً ابتلاء ابتلاهم الله به، ويمكن أن يكون لهم من الأعمال ما يكفره، وأيضاً قد لا يكون مكتوباً عليهم أصلاً؛ لأنه اجتهاد في محل الاجتهاد، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل من اجتهد في طلب الحق فهو معذور مطلقاً أصاب أو أخطأ، في العقائد وغيره، والعقائد هنا المقصود بها تفصيلات هذا العلم الاجتهادية، أما أركان الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، هذه أصلاً ما فيها خلاف، وهي التي لو دان بها الإنسان ومات ولم يعرف شيئاً من تفصيلات هذه المذاهب دخل الجنة، ( وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضر الصف فقال: يا رسول الله! أسلم وأقاتل أو أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عمل هذا يسيراً وأجر كثيراً ) وهذا دخل الجنة، وما عرف شيئاً من هذه التفصيلات، فلذلك إذا أردت أنت أن تجبر الأمة على مذهب واحد من هذه المذاهب وتجعل ما سواه ضلالاً مبيناً فستقع في حرج حتى أمام الصحابة الذين لا يعرفون هذه التفصيلات والتابعين كذلك أو أتباع التابعين، وقبل أن تنشأ هذه المسائل أصلاً، قبل أن ينشأ مذهب أهل السنة ماذا كان الصحابة والتابعون وأتباعهم هل كانوا على هذا المذهب الذي يسمى مذهب أهل السنة؟ قد أثبتنا من قبل بما لا يدع مجالاً للشك أن الصحابة ليس لهم مذهب، وأن التابعين ليس لهم مذهب، وأن المذاهب إنما نشأت في زمان أتباع التابعين، فهم الذين احتاجوا إلى البحث في جهة الدلالة، أما الصحابة فلم يحتاجوا إلى البحث في جهة الورود، ولا البحث في جهة الدلالة، والتابعون كانت حاجتهم أيضاً البحث في جهة الورود وجهة الدلالة الخفيفة لم تقتض منهم التمذهب، وإنما بدأ هذا في أيام أتباع التابعين.
ولا شك أن كثيراً من المالكية الذين دخلوا في المذهب الأشعري طوروه وزادوا فيه، ومن أشهرهم الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، فهو من أعلام المذهب الأشعري، وقد قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه أحسن الأشاعرة اعتقاداً، ويقصد بذلك أن مسائله نظيفة، فلا يتتبع المسائل التي هي مزالق ومزلات أقدام، وإذا بحث مسألةً على التقعيد الأشعري من الناحية العقلية يربطها أيضاً بالأدلة والنصوص كما كان الأشعري يفعل.. وهكذا الذين لحقوا أبا بكر الباقلاني من أصحابه.
السؤال: هل لدينا قواعد للتعامل مع المخالف مطلقاً؟
الجواب: نعم، هذا الموضوع بحثه عدد من الباحثين والمناظرين وهو الذي ألف فيه علم مستقل يسمى آداب البحث والمناظرة، وهذه الآداب بعضها عليه نصوص من كتاب الله، ونصوص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجادلة، فلا تكون إلا بالتي هي أحسن، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، و(التي هي أحسن) وضع لها العلماء قواعد حتى بينوها وهي ضوابط الخلاف، والعمل مع المخالف عموماً، ولكن التعصب أدى بكثير من الناس إلى التفريق بين المسائل الفقهية والمسائل العقدية، ففي الخلافات الفقهية الناس يستعدون للتعايش في أكثر الأحيان، تجد هذا يقول: أنا حنفي، وهذا يقول: أنا شافعي، وهذا يقول: أنا مالكي، ومع ذلك هم مستعدون للتعايش فيما بينهم، لكن من الناحية العقدية إلى الآن بسبب الحروب حرب فتنة القشيرية التي حصل فيها القتل بين الأشاعرة والحنابلة، والفتن التي جاءت بعد ذلك بسبب هذه الفتن حصل التعصب الذي لم يجعل الناس قادرين على التعايش مع اختلافهم في المسائل العقدية الاجتهادية إلى الآن، لكن سيزول التعصب.
وبالنسبة للمصنفات في آداب البحث والمناظرة تنقسم إلى قسمين منها ما سيأتينا إن شاء الله في علم الخلاف وهو علم الجدل والمؤلفات في الخلاف الفقهي وهذا سنذكره إن شاء الله.
ومنها ما يتعلق بالجانب العقدي، وقد ألف فيها عدد من المؤلفات، وجمع الشيخ محمد الأمين رحمة الله عليه في مذكرته التي وضعها للجامعة الإسلامية بعض القواعد والضوابط، وألف عدد من المتأخرين تحت عنوان (أدب الخلاف) كتباً مستقلة في هذا الباب.
السؤال: نسمع بعض الناس يقول: إذا ذكر له عالم أو علم من الأعلام أو داعية يقول: كيف عقيدته أو ما اعتقاده؟
الجواب: أن هذا النوع هو بسبب هذه التعصبات، وهو من البدع المحدثة، فقد قال البخاري رحمه الله: الامتحان في الاعتقاد ابتداع، وهذا قاله في محنته في خلافه مع محمد بن يحيى الذهلي، ونقله الحافظ ابن حجر عنه في مقدمة فتح الباري هدي الساري، ذكر كلام البخاري في هذا الامتحان في الاعتقاد ابتداع، ومن راجع القصة فيما جرى بين البخاري والذهلي في مقدمة فتح الباري الجزء الذي يسمى هدي الساري جزء مستقل فيه القصة بتفاصيلها، وفيه كلام البخاري، وقد نص أهل العلم على أن الامتحان في الاعتقاد لا يجوز إلا بحالين فقط:
الحال الأول: إذا قدم من أرض الكفر قادم إلى أرض المسلمين اتهموه أن يكون جاسوساً فلهم الحق أن يمتحنوه؛ حتى يطلعوا على تقاريره لئلا يكون جاسوساً مندساً لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10].
الحال الثاني: إذا ملك الإنسان رقبةً من السبي وقد كانت كافرةً، فأراد أن يعتقها كفارةً، في الكفارات التي لا يجزئ فيها إلا رقبة مؤمنة فإنه لا بد أن يمتحنها ليعلم أنها مؤمنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه الرجل بجارية سألها فقال: ( أين الله؟ فأشارت بإصبعها إلى السماء، فقال: من أنا؟ فقالت: رسول الله، قال: اعتقها؛ فإنها مؤمنة )، وهذا مع الأسف يغلط فيه كثير من الناس فيمتحن كل أحد بامتحان الجارية، وقد حصل لأحد من علمائنا أنه لقي رجلاً فسأله هذه الأسئلة، فلما انتهى منها وأجاب قال: اعتقني إذاً، هذا مختص بمن يريد الإنسان إعتاقه فقط كالرقبة.
بالنسبة لعلم أصول الدين اسم كذلك من الأسماء المختصة بهذا العلم، وكذلك علم الفقه الأكبر كما يسميه بعض الحنفية، وهذه من أسماء هذا العلم كذلك، ولذلك قال السبكي في كتابه جمع الجوامع: [ نحمدك اللهم على نعم يؤذن الحمد بازديادها، ونصلي ونسلم على نبيك محمد هادي الأمة إلى رشادها، ونضرع إليك اللهم في منع الموانع عن إكمال جمع الجوامع، القاصد من الأصلين مقصد ذوي الجد والتشمير، الوارد من زهاء مائة مصنف منهلاً يروي ويمير، الحاوي لزبدة ما في شرحي على المختصر والمنهاج مع مزيد كثير ].
الأصلين يقصد أصول الفقه وأصول الاعتقاد، وذلك أن أبا الحسن الأشعري وضع قواعد علم الاعتقاد على قواعد أصول الفقه.
السؤال: أننا ذكرنا أن أعمال أهل بدر وأهل بيعة الرضوان تقع مغفورةً، وأنها لا يترتب عليها شؤم يحيط بالأمة، فما شرح هذا الكلام؟
الجواب: أما كونها تقع مغفورةً أصلاً؛ فلأن الله قد اطلع عليهم فقال: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )؛ ولأنه أحل عليهم رضوانه الأكبر؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بالجنة فقال: ( والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، وقال جابر: ( فنظر إلينا فقال: أنتم أفضل أهل الأرض، وفي رواية: خير أهل الأرض )، فهذا يقتضي أن ذنوبهم كلها مغفورةً، فما حدث من الذنوب بعد أن غزوا بدراً أو بعد أن بايعوا تحت الشجرة قد وقع مغفوراً لهم؛ لأنه يجب الاعتقاد أنهم من أهل الجنة بتصديق الخبر، وأن ذنوبهم مغفورة، وأنهم لا يدخلون النار أصلاً، كما صح في الصحيحين: ( أن عبداً لـحاطب جاء يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! والله ليلجن حاطب النار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة )، فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم له أن لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة.
أما ما يتعلق بالشؤم فإن المبدأ يتعلق بأمرين: العقوبة والشؤم.
فالعقوبة قد عرفنا أنها مرفوعة بالمغفرة لهم، وهي لا تتعدى صاحبها قطعاً، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:36-41]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30]، فإذاً هذا الجانب مغفور.
الثاني الشؤم، وهو الضرر الدنيوي الذي يحصل منه، قد لا يكون الذنب ذا ضرر أخروي بأن يغفر لصاحبه لكن يترتب عليه شؤم دنيوي، مثل منع الزكاة يتعلق به منع القطر من السماء، ومثل الحكم بغير ما أنزل الله يتعلق به أن يكون البأس بين الأمة، ومثل نقض الميثاق نقض العهود يترتب عليه أن يسلط الله عليهم عدواً من سواهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، ومثل نقص المكيال والميزان يقتضي الغلاء، وجور السلطان، ونقص المئونة، فهذا يسمى شؤم الذنب، وهو يحيط بالجميع، يتعدى صاحبه إلى غيره، فذنوب هؤلاء أيضاً ليس لها هذا الشؤم الذي يصل إلى الغير؛ لأنها حصلت مغفورةً أصلاً، فالشؤم إنما يحصل في الذنب غير المغفور، ولذلك ما ترتب على الفتنة التي حصلت في قتل عثمان وقتل علي رضي الله عنهما وما جاء بعد ذلك فليس من ذنوبهم هم ولا من شؤمها بل من ذنوب أهل الفتنة الذين سعوا فيها، وهذا ما بينه علي رضي الله عنه حين سأله رجل من الخوارج قال: ما لك قد اختلف الناس عليك وعلى عثمان واتفقوا على أبي بكر وعمر؟ قال: اتفق الناس على أبي بكر وعمر حين كان الناس أنا وعثمان، واختلف الناس علي وعلى عثمان حين كان الناس أنت وأصحابك.
السؤال: كتاب الإيمان لـنعيم ياسين هل هو تجربة جيدة في هذا الباب؟
الجواب: نعم، ومثله أيضاً بعض التجارب الأخرى كتجارب الأشقر في جزئيات أركان الإيمان، مع أنه لم يجمعها في كتاب واحد، لكنها كتب مهمة جيدة في بابها، ولكن أنا أقصد أن هذا التشجير مما ينفع ويجعل الأمور تتعلق بأصولها وترجع إليها، وينفي التعصب، ويبين مساحةً للاجتهاد، والأمور غير قابلة للاجتهاد، فمثلاً الذي أريده أنا في خطة هذا البحث أن يكون الباحث أو الذي يقدم درساً يبدأ بتقرير المسائل الأصلية التي لا خلاف فيها بين الأمة، وهذه ليست مذهباً لأحد، بل هي دين الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يذكر بعد ذلك المسائل الخلافية التي هي قابلة للاجتهاد، ويبين أدلة كل فريق، ويبين ما ترجح لديه هو أنه صواب، ويذكر أن الآخرين معذورون، وأن دليلهم كذا وكذا، وهو مردود أو ضعيف من الوجه الفلاني والوجه الفلاني، وتكون المسألة هكذا بهذه البساطة حتى لا تؤدي إلى التعسف، فلو حصل تأليف من هذا النوع لاتسع الحال، مثلما حصل في الفقه تماماً.
ونحن محتاجون إلى أن تظهر أولاً مساحة مختصة بالأمور المتفقة عليها بين المسلمين، والتي هي غير قابلة للاجتهاد، ومن خالف فيها لم يكن من أهل السنة أصلاً، والأمور التي الخلاف فيها واقع بسبب التعارض بين النصوص، أو بسبب عدم فهمها، أو عدم اعتقاد مساحتها مثلاً، أو للأخذ بأدلة أخرى مخالفة، وهذه أمور اجتهادية، مساحة أخرى واسعة.
السؤال: هل الأشاعرة ينفون صفات الله ما عدا سبعاً منها؟
الجواب: أن هذا غير صحيح، ولكن أبا الحسن الأشعري رحمه الله عندما وضع قواعد للصفات ذكر أن الصفات تدور على ثلاث عشرة صفة: صفة نفسية وصفات سلبية، وصفات سماها المعاني، والمعاني هي السبعة، وقال: أكثر الصفات تعود إليها، وهي تنقسم عنده إلى قسمين: قسم يسمى صفات تأثير هي الحياة والعلم والإرادة والقدرة، والصفات الأخرى صفات كمال وهي السمع والبصر والكلام، وكل صفة من هذه الصفات أم ينبني عليها عدد من الصفات الأخرى.
وصفات سلبية هي الوحدانية والقدم والبقاء والغنى المطلق والمخالفة للحوادث، وهذه أصول أيضاً كل واحد منها تشمل عدداً من الصفات، وصفة النفس هي الوجود، فالجميع إذاً ثلاث عشرة صفة.
ذكرها في رسالة الثغر واللمعة، وقد زادها الفخر الرازي بسبع صفات أخرى والتي سماها بالمعنويات وهي الأحوال، ولكن يبدو أنه غلط في التصور وما فهم كلام الأشعري أصلاً، فلذلك أخطأ خطأً فاحشاً في هذا الباب، و الأشعري إنما جعلها أصولاً باعتبار النصوص الشرعية الواردة فيها، فرجع إلى سورة الإخلاص فوجد فيها خمس صفات كلها سلبية التي سماها الصفات السلبية، (قل هو الله أحد) هذه الوحدانية، ومعناها نفي التعدد، (الله الصمد) معناه الغنى المطلق أنه لا يحتاج إلى مخصص ولا إلى محل، ولا يحتاج إلى مخلوق، ولا إلى عابد يعبده، ولا يحتاج إلى أي شيء من خلقه، فهذه سماها الغنى المطلق، والغنى المطلق هو نفي الاحتياج، وهذا عدم كذلك.
ثم (لم يلد)، وهذا هو البقاء؛ لأن الذي يلد هو الذي يفنى ويحتاج إلى البقاء، فقوله: (لم يلد) هذا يقتضي بقاؤه، (ولم يولد) هذا القدم، يقتضي قدمه، والقدم هو نفي العدم السابق للوجود، والبقاء هو نفي العدم اللاحق للوجود، كل ذلك نفي، ثم (لم يكن له كفواً أحد) هذه مخالفة للحوادث، مخالفة للحوادث هي نفي المماثلة، انتفاء مماثلة خلقه له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وهذه خمس صفات تضمنتها سورة الإخلاص، جعلها أصول الصفات السلبية كلها، كل ما ينفى عن الله يعود إلى هذه الخمس، ولذلك فالنفي ينقسم إلى قسمين: نفي مجمل، ونفي تفصيلي.
والنفي المجمل أكثر من النفي التفصيلي، النفي التفصيلي قليل في القرآن وروده أصلاً، بينما الإثبات في القرآن كثير تفصيلاً، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:14-16]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وهكذا، فالإثبات في العقائد التفصيل فيه أكثر من النفي.
السؤال: سؤال عن جمال الدين الأفغاني ودعوته التي اشتهرت بالدعوة العقلانية، ومن أعلامها الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا؟
الجواب: أن هؤلاء من الذين عاصروا ضعف المسلمين وضعف دولتهم، وظهور الفكر الغربي الذي يعتمد المنهاج التجريبي في العلوم كلها، وكل ما ليس تجريبياً لا يثبته، وقد تأثروا بهذا الواقع، ولكنهم مع ذلك تمسكوا بالقرآن، فوجدوا فيه مجالاً خصباً للتفكير، والذي يقعون فيه من الخطأ سببه عدم توسعهم بالسنة، ولهذا حين رجع محمد رشيد إلى السنة سد الثغرات التي كانت لديه.
أما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده فالذي وقعا فيه من الأخطاء سببه عدم التوسع في دراسة السنة، ولكنهما مع ذلك قدما الشيء الكثير، ولا نتهم نياتهما، ولا شك أنهما مثل غيرهما أخطأ في بعض المسائل، وبالأخص محمد عبده فله أخطاء في كتابه المدون المكتوب الذي هو رسالة التوحيد، فيه أخطاء عقدية وقع فيها بسبب إساءة فهمه لبعض النصوص، وبالأخص ما توضح لدى غيره من الأتباع أتباع النظرية العقلانية، ما يتعلق بالبعث الجسماني، والنعيم والعذاب هل هو روحي أو جسمي وغير ذلك، وهذه أخطاء كثيرة حصلت، وقد تبع هذا الطريق القائمون على المعهد العالي للفكر الإسلامي الآن، وهو طريق محفوف بالأشواك، ويحتاج أصحابه إلى التوسع في دراسة السنة، فهي الركن الثاني بعد القرآن، ولا يمكن أن تعزل عنه، ولا أن تفصل عنه أصلاً، ولا يمكن أن يفهم القرآن فهماً صحيحاً إلا بدراسة السنة وفهمها.
فلذلك يمكن أن يقال في هؤلاء: أنهم اجتهدوا وقدموا ما استطاعوا وبذلوا ونحن لم نبذل ما بذلوا، ومع ذلك أخطئوا في بعض المسائل التي نرجو الله أن يتجاوزها عنهم ويغفرها لهم بما قدموه من الحسنات.
السؤال: عن كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سماه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)؟
الجواب: هو كتاب في أسباب الخلاف، وهو يشمل الخلاف العقدي، والخلاف الفقهي، وقد ذكر عدة أسباب للخلاف بين العلماء، ومثل لها أمثلة، والكتاب عموماً فيه من قواعد الإنصاف وحسن التعامل مع المخالف الشيء الكثير، وهو الذي بنى عليه ولي الله الدهلوي كتابه كذلك في الاختلاف، فلذلك ينصح الناس بقراءة هذا الكتاب، وقراءة كتاب الدهلوي كذلك، والتماس الأعذار للذين وقعوا في الأخطاء من أهل العلم، وقاعدة ابن القيم رحمه الله في هذا الباب عجيبة، حيث قال: إن العلماء بحار، وزلاتهم أقذار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فكيف بالبحار، وقراءة هذا النوع من الكتب يفيد في نفي التعصب، وإنصاف الآخرين والنظر إلى النفس مقارنةً مع الغير، حتى لا يستأسد الإنسان وهو هر كما يحصل لدى كثير من طلبة العلم المبتدئين.
وبالنسبة لكتب شيخ الإسلام في هذا الباب أيضاً أو فتاويه وأبحاثه كثيرة، ومناظراته تكلم فيها كثيراً عن هذا الجانب، ومن أهم ذلك الرسالة الماردينية، الكتاب مطبوع في جزأين، كتاب مهم جداً في نفي التعصب في المسائل العقدية، وذكر مسائل الخلاف فيها، ومن يقتدى به ومن لا يقتدى به، وكذلك مسألة القول بتكفير القائلين: بخلق القرآن، والقول: بتكفير المعتزلة عموماً والجهمية، فهذا قد بحثه في الفتاوي في المجلد الثاني عشر، بحثه في مائة صفحة كاملة متوالية تبدأ من الصفحة أربعمائة وسبعة وثمانين فما وراءها.
السؤال: فيما يتعلق بدعوى أن أبا الحسن قد رجع عن مذهبه في آخر عمره؟
الجواب: هذا ليس عليه دليل، بل قول أبي الحسن: إنه موافق لـأحمد بن حنبل في الاعتقاد كما قال في الإبانة، وقال ذلك أيضاً في مقالات الإسلاميين في موضوعين أو ثلاثة يصرح بأن هذا مذهب السنة إنما يقوله في الأصول التي لا اختلاف فيها وليس بين مذهبه ومذهب الحنابلة فيها خلاف أصلاً، هي أصول ومسائل متفق عليها، أما القواعد التي وضعها فهي أمور اجتهادية لا تنافي ذلك أصلاً، والأمور التي أخطأ فيها لا يذكر فيها موافقته للمذهب، فلذلك أنا لا أرى صحة رجوعه؛ لأنه لو كان كذلك لاندرس المذهب في حياته، أو لما استمرت النسبة إليه هو.
أما ما يسمى اليوم بالمذهب الأشعري فمسائله كثيرة، وكثير منها ليس أصلاً قولاً للأشعري ولا قال به ولا كان في زمانه أصلاً، وأكثر المسائل التي ينقلها الناس على المذهب الأشعري ما حصلت في زمان أبي الحسن ولا عرفها، ولا ناقشها، ولا ذكرها في كتبه أصلاً، ولا يستطيع أحد أن يثبت له قول فيها، بل من المسائل التي نسبت إليه مثلاً أن المقلد في العقائد كافر، وهذا القول أنكره عدد من الأئمة عنه قالوا: ما صح هذا عن الأشعري أبداً وما قال به، لذلك قال السيوطي رحمه الله في نظمه في الكوكب الساطع نظم جمع الجوامع:
يمتنع التقليد في العقائد للفخر والأستاذ ثم الآمدي
والعنبري جوزه وقد حظر أسلافنا كالشافعي فيها النظر
ثم على الأول إن يقلد فمؤمن عاص على المعتمد
لكن أبو هاشم لم يعتبر إيمانه وقد عزي للأشعري
قال القشيري عليه مفترى والحق إن يأخذ بقول من عرى
بغير حجة لأدنى وهم لم يكفه ويكتفى بالجزم
فليجزم العقد ولا يناكث بأنما العالم حقاً حادث
أما رجوع الأشعري عن مذهب المعتزلة فقد صرح به، وصرح أنه يتبع في ذلك أحمد بن حنبل، هذا في الإبانة وغيرها، هذا رجوع من الأشعري عن مذهب المعتزلة، وقد كان مذهبه في البداية؛ لأنه قد تربى في أحضان الجبائي وكان ربيباً له، ودرس عليه علم الأصول، وعلم الاعتقاد، وعلم التفسير، وغيرها من العلوم، لكن الأشعري برز في علم الحديث اشتغل به وانتقل إليه، فلذلك رجع عن مذهب المعتزلة، وصرح بأنه على مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة والمحدثين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر