الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فبعد أن استعرضنا الكتب التي تلتزم الصحة من دواوين السنة نصل إلى كتب السنن وأشهرها سنن الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، الذي سبق ذكره وهو كتاب من دواوين الإسلام الحافلة، قد ألقى الله عليه القبول كذلك, فتنافس الناس قديماً في حفظه وروايته, واشتهر في الدنيا منه رواية اللؤلؤي التي طبقت الآفاق وانتشرت، وله روايات كثيرة سواها، فللحافظ أبي القاسم بن عساكر وحده عشرة أسانيد إلى أبي داود يخرج منها في تاريخه تاريخ دمشق الكبير, لكن رواية اللؤلؤي هي التي انتشرت في الدنيا كلها.
ثم يليه سنن الإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي, ولم يشترط فيه الصحة وإنما سماه الجامع، ومع ذلك فهو ملحق بكتب الصحة كسنن أبي داود, وقد التزم فيه الحكم على الأحاديث, ويذكر أهل العلم بالحديث أنه من أنفع الكتب لطالب العلم.
ومن ميزته أنه أورد كل شيء في كتابه بخلاف سنن أبي داود مثلاً، فلا تجد فيه المناقب ولا السير، ولا فضائل القرآن ولا غير ذلك مما ذكره الترمذي.
الوجه الثاني: أنه مستخرج على الصحيحين، فالحديث إذا وجده من غير طريق الشيخين أورده من غير طريقهما, ثم يقول بعد ذلك: وفي الباب عن فلان وفلان وفلان من الصحابة, ولا يورد الحديث المشهور الذي في الصحيحين في الغالب, مثلاً: إذا كان الحديث يوجد في الصحيحين من رواية أبي هريرة، ووجده الترمذي من رواية أنس فيأتي به من رواية أنس، ثم يقول: وفي الباب عن أبي هريرة، ويلمح إلى الحديث المشهور.
الوجه الثالث: حكمه على الأحاديث ووضعه لميزان الحكم، حيث يحكم بالصحة أو بالحسن أو بهما معاً، أو بالغرابة فقط، أو بالحسن والغرابة, أو بالصحة والغرابة، أو بالحسن والصحة والغرابة كلها، هذه أحكام الترمذي.
ثم بعده كتاب أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، الذي سماه: المجتبى من السنن الكبرى, وقد رواه عنه أبو بكر بن السني ولم يعرف له راوٍ سواه, وقد اشتهر في العالم كله من رواية أبي بكر بن السني حتى زعم بعض من ليس من أهل النظر في الأثر أن هذا الاختيار إنما هو اختيار ابن السني من كتاب النسائي الكبير، الذي هو السنن الكبرى, ولكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، فليس كتاب السنن الكبرى مستوعباً لكل السنن الصغرى؛ بل في السنن الصغرى كثير من الأحاديث ليست في السنن الكبرى، مما يدلنا على أن هذا من تأليف النسائي نفسه.
فسنن النسائي كما تقدم لا توجد إلا من رواية أبي بكر بن السني، وبالنسبة لسنن الترمذي لا توجد اليوم إلا من رواية ابن محبوب فقط.
ثم بعده كتاب السنن لـمحمد بن ماجه القزويني وهو كتاب أحكمه صاحبه وأتقنه من ناحية الترتيب والتبويب بشكل عجيب, ولكنه في الشرط دون السنن السابقة، ولذلك فإن أبا السعادات بن الأثير عندما ألف كتاب جامع الأصول لم يدرجه في الأصول الستة، وإنما جعل الأصول الستة: الموطأ، والصحيحين، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وأضاف إليها مسند رزين ولم يضف إليها سنن ابن ماجه؛ لأن العادة أن ما انفرد به عن بقية الكتب لا يصل إلى درجة السهو, لذلك تعقبه البوصيري بكتابه مصباح الزجاجة, فأخرج منه زوائده، أي: ما زاده عن الكتب الأخرى, والغالب أن يحكم على ما زاده ابن ماجه بالضعف, وهو من مظنة الحسن كذلك، أي: أن بعض ما انفرد به قد يصل إلى درجة الحسن, وبعضه يصل إلى درجة الصحيح وهو نادر جداً.
ثم سنن الإمام الكبير الدارمي وهو متقدم من ناحية العمر، ولكن كتابه نازل عن هذه الكتب، بل هو في المنزلة التي تليها, وقد سماه بعض أهل الحديث بمسند الدارمي وأدرجوه ضمن المسانيد، ولكن الواقع أنه ليس من كتب المسانيد؛ لأنه غير مرتب ترتيب المسانيد؛ بل ترتيبه على ترتيب السنن كما هو واضح ومعروف.
ثم بعد هذا كتاب السنن للإمام الكبير حافظ الدنيا الدارقطني، وهو من أحفظ مشاهير هذه الأمة في الحفظ، وكتابه قد خصه بالأحكام فقط، فلم يدخل فيه ما ليس من الأحكام، وذكر فيه عدداً كبير من الأحاديث التي هي مرجع الفقهاء في المذاهب كلها، ولم يشترط فيها الصحة ولا الحسن ولا الضعف، بل يذكر كل ذلك ويحكم عليه بالغالب, وحكمه لطيف مختصر، يأتي بالحديث من عدة أسانيد ثم يقول: مداره على العرزمي وهو متروك مثلاً, أو مداره على محمد بن مسلم بن عقيل وهو ضعيف, أو مداره على مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف, وأحكام الدارقطني فيه دقيقة جداً، ومشكلة هذا الكتاب الوحيدة نقص التبويب فيه, فإنه يجمع كثيراً من الكتب في باب واحد, البيوع والأقضية وما شاكلها كل هذه في باب واحد، فهو بحاجة إلى أن يبوب مثل ما فعل النووي والقرطبي والأبي بصحيح مسلم، فمسلم وضع الكتب ولم يضع الأبواب كما فعل البخاري، وشراحه هم الذين وضعوا له هذا التبويب, وسنن الدارقطني محتاج إلى من يفعل به هذا.
وله شرح لا يعتبر شرحاً بمعنى شرح الحديث, لكننا سنذكره في شروح الحديث عموماً.
ثم بعده السنن الكبرى للإمام البيهقي, وهو أحد دواوين الإسلام الكبيرة التي جمعت أحاديث الأحكام تقريباً، وفيه أحد عشر ألف حديث في الأحكام تقريباً, ويعتني كذلك البيهقي فيه بالآثار الواردة عن الصحابة؛ لأنها تدل على عدم نسخ الحديث, وتدل كذلك على العمل به؛ لأن مما يؤيد الدليل إثبات عدم نسخه, وإثبات العمل به في زمان السلف, وهذا مقصد من مقاصد البيهقي رحمه الله.
وأيضاً فإنه يستخرج الأحاديث على الصحيحين، لكن إذا قال: أخرجاه، فلا يقصد بذلك لفظهما وإنما يقصد أصل الحديث فقط, فقد يرويه هو من وجه غير وجههما, وكتابه ديوان جمع كثيراً من الكتب السابقة، فقد استوعب أكثر ما يتعلق بالأحكام من المستدرك، فيقول فيه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أي: من المستدرك, وكذلك كثيراً من المسانيد كمسند الطيالسي فأكثر أحاديثه موجودة في السنن الكبرى للبيهقي.
وقد ذكر كثير من أهل الحديث أن هذا الكتاب ينبغي للحافظ إذا قرأ الكتب الستة أن يركز عليه فيقولون: كل الصيد في جوف الفراء, وكثير من الكتب الأخرى موجودة فيه، فهو فراء كتب الحديث، والفراء: حمار الوحش، فقد اصطاد أعرابي حمار وحش فلما ذبحه وبقر بطنه وجد فيه ضباً وأرنباً وأشياء أخرى فقال: كل الصيد في جوف الفراء, فأرسلها مثلاً.
ثم بعد هذا كتاب البغوي الذي سماه شرح السنة, وهو كذلك ينسب للصحيحين ويقصد الأصل لا اللفظ كحال البيهقي، وقد امتاز كتابه بما يذكره من فقه الحديث ومما يستنبط منه, واعتمد كذلك على الترمذي في نسبة الأقوال إلى ذويها؛ لأن الترمذي من شرطه كذلك في السنن إذا كان الحديث معمولاً به في بعض المذاهب أن يبين ذلك، فيقول: وبهذا أخذ بعض أهل العلم، وبهذا أخذ جمهور العلماء, وبهذا أخذ من لقيناه أو من كتبنا عنه من أهل العلم, فـالترمذي يعتني بفقه الحديث بهذه العبارات, والبغوي كذلك اعتنى بفقه الحديث وأخذ عن الترمذي هذا الوجه, وقد أفرد كتابه الآخر الذي سماه مصابيح السنن، للذين لا يشتغلون بعلم الحديث رواية، وهم مشغولون إما بالتجارات، وإما بالزهد والعبادة, وإما بالفقر وضيق ذات اليد، فألف لهم كتاب مصابيح السنن, واختار لهم فيه وانتخب عدداً لا بأس به من الأحاديث يقول: من حفظها أغنته في دينه ودنياه, لكنه رتبها ترتيباً مخصوصاً، فكل باب يجعل فيه فصلين: الفصل الأول للصحيح, والفصل الثاني: للحسن, ويقصد بالصحيح ما أخرجاه في الصحيحين, ويقصد بالحسن ما أخرجه أصحاب السنن، وقد أنكر عليه هذا بعض أهل الحديث؛ ولذلك قال العراقي رحمه الله في الألفية:
والبغوي إذ قسم المصابح إلى الصحاح والحسان جانحا
أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن
ففيها ما هو ضعيف، وفيها ما هو صحيح, فكيف يسمي كل ذلك حسناً؟
ثم كذلك الكتب المؤلفة على المسانيد وهي أنزل من المؤلفة على السنن بدرجة، وأعظمها كتاب الإمام أحمد بن حنبل، لكن الإمام أحمد لم يخرجه في حياته فلم يروه عنه غير ابنه عبد الله، ولم يروه عن عبد الله غير أبي بكر القطيعي، ولذلك وقع فيه كثير من الضرب أي: الأحاديث التي ضرب عليها الإمام أحمد وبقيت مقروءة، والأحاديث التي أمر بإثباتها في كتابه ولم تثبت فيه, فكان عبد الله يزيدها بعد ذلك، وأضاف إليها عبد الله بعض الأحاديث من مروياته هو، إما عن أبيه، وإما عن غير أبيه، وعموماً هو كتاب حافل بالحديث.
ومثل مسند أحمد كتاب بقي بن مخلد الأندلسي أو هو أحفل منه وأكبر، ولكن هذا الكتاب لم يصل إلينا، بل لا يوجد منه في الدنيا حتى الآن حسب علمي إلا أجزاء قليلة في مكتبة الإسكوريـال في أسبانيا، كان من الكتب التي فقدها المسلمون في الحروب مع الصليبيين, وهو أضخم المسانيد وأعظمها.
ثم بعد هذا المسانيد التي سقنا من قبل، ومن أهمها مسند أبي يعلى الموصلي، ومسند البزار، أما مسند أبي يعلى فلشهرة أحاديثه وانتشارها, وأما مسند البزار فلعنايته بالتعليل، ومن النوادر أن يتم مسند معلل، فكل الذين كتبوا مسانيد معللة توفاهم الله قبل أن يكملوها إلا البزار فهو الوحيد الذي أكمل مسنداً معللاً, وأما كالدورقي ويعقوب بن شيبة وغيرهما من الذين كتبوا المسانيد المعللة ماتوا قبل أن يكملوها.
ومعنى معللاً أي: إذا ذكر حديثاً يذكر ما فيه من العلل وما جاء فيه من الأوجه من الوقف والرفع والإرسال والقطع وغير ذلك.
ثم بعد هذا الكتب الجامعة، فمنها ما جمع الصحيحين فقط، ومن أهم الكتب الجامعة لهما كتاب الجمع بين الصحيحين لـعبد الحق الإشبيلي, ثم كتاب الحميدي المتأخر اسمه الجمع بين الصحيحين, وكذلك الجمع بين الصحيحين للصاغاني, ثم كتب الجمع لأكثر من ذلك ومن أعظمها كتاب جامع الأصول لـابن الأثير.
ثم الكتب المتعلقة بالزوائد أي: التي تعتني بما زاده بعض الكتب على بعض, ومن أهم من أشتغل بهذا الفن، أو قل: واضع هذا الفن الذي هو فن الزوائد هو الحافظ الهيثمي أبو بكر رحمه الله, فقد اعتنى بهذا نظراً لعناية شيخه الإمام العراقي به, فتفرد هو لهذا العلم، فكتب زوائد مسند الإمام أحمد وحده, ثم زوائد مسند البزار، ثم زوائد مسند صحيح ابن حبان، ثم زوائد المعجمين الأوسط والصغير, ثم زوائد المعجم الكبير, فجمع هذه الزوائد كل واحد منها في كتاب مستقل, ثم جمع هذه الزوائد في كتابه الذي سماه: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد, ومن النادر أن يسقط عليه بعض الأحاديث.
ومنها كذلك كتاب المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر, وكتابه كذلك من زوائد المسانيد العشرة, وكذلك كتاب الحافظ البوصيري: إتحاف المهرة الخيرة في زوائد المسانيد العشرة.
ومثل ذلك الكتب التي تعتني بتخريج أحاديث هذه الكتب، ومن أهمها كتاب تحفة الأشراف للحافظ المزي، وبهامشه كذلك النكت الظراف للحافظ ابن حجر وهو استدراكات عليه, وقد جمع المزي في كتابه مزايا كثيرة، ومن أهمها إتقان الترتيب، فقد جمع فيه بين الترتيب المعجمي والترتيب المسندي، والترتيب الجامعي، فالتراتيب الثلاثة التي في علم الحديث رواية جمع كلها في كتابه؛ لأنه يذكر الإسناد من الوسط، لا يذكر من بداية إسناده هو، بل يختزل الإسناد فيذكره من الوسط إلى أن يصل إلى الصحابي ويعد الأحاديث التي اجتمع فيها هذا الإسناد كله أولاً, ثم التي سقط منها الرجل الأول, ثم التي سقط منها رجلان الأول والثاني، معضل طبعاً، ثم التي سقط منها هذا الإسناد إلى الصحابي، والتي بإسناد آخر إلى الصحابي وهكذا حتى يحوي أحاديث كل صحابي, فيكون بترتيبه على الصحابة ترتيباً مسندياً، وبترتيبه على من دون الصحابة ترتيباً معجمياً, وبأبواب العلم كذلك رتبه ترتيباً جامعياً، أي: نسبة إلى الجوامع.
ثم بعد هذا المستخرجات التي تستخرج على الكتب، فيروى فيها ما في الكتب من أحاديث من رواية غير طريق أصحابها، ومن أهمها المستخرجات على الصحيحين, وفائدتها ثلاثة أمور:
أولاً: وجود المواطأة أي: وجود المتابعة لكل حديث، فالحديث الذي لا يرى إلا من وجه واحد يتعرض دارسه لكثير من المشكلات, لكن الحديث الذي له متابعة أكثر طمأنينة وثباتاً.
ثانياً: الزيادات التي تكون على نفس الشرط وفيها علم جم.
الثالث: علو رتبة الإسناد في بعض الأحيان, فإن المستخرج قد يأتي بما هو أعلى إسناداً من الكتاب الذي استخرج عليه، ومن المستخرجات على الصحيحين كتاب المستخرج على صحيح مسلم لـأبي عوانة، ومستخرج الإسماعيلي كذلك على صحيح البخاري، ومستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم وعلى صحيح البخاري كذلك, ومستخرجات كثيرة, ومع الأسف لم يطبع منها إلى الآن غير كتابين فقط، مستخرج أبي عوانة الذي يسمى بالمسند وليس هو مسند ولا مرتباً ترتيب المسانيد, ومستخرج الإسماعيلي سمعت أنه طبع حديثاً وما رأيته إلى الآن.
ومستخرج أبي نعيم طبع أيضاً.
ومن الكتب الجامعة كذلك ما يتعلق بأدلة الأحكام من المرفوعات والآثار، من أهمها كتاب شرح معاني الآثار للطحاوي، وقد جمع فيه عدداً كبيراً من الأحاديث، وعدداً كبيراً كذلك من الآثار، وحاول استيعاب الآثار التي يستدل بها الحنفية, وكذلك كتاب معرفة السنن والآثار للإمام البيهقي، فقد حاول استيعاب الأحاديث والآثار التي يستدل بها الشافعي.
قد ذكرنا من قبل أن أبا يوسف له كتاب الآثار، وأغلبه من روايته هو عن أبي حنيفة، وكذلك محمد بن الحسن الشيباني له كتاب الآثار كلاهما مطبوع منتشر, هذا فيما يتعلق بعلم الحديث رواية، والدارس لهذا العلم لابد أن يعلم أن العمدة فيه إنما هي على الحفظـ، ولذلك فأهم شيء لديه الوقت, والذين يشتغلون بعلم الحديث رواية هم أشد الناس جداً واجتهاداً وحفظاً لأوقاتهم، فإنهم قالوا: يندب للمشتغل بالحديث الإسراع في ثلاثة أمور: في الأكل والمشي والكتابة, إذا أكل يأكل بسرعة حتى لا يضيع وقته, وإذا مشى يمشي بسرعة حتى يأتي على عدد كبير من الشيوخ ويحضر كثيراً من المجالس, وإذا كتب يكتب بسرعة حتى لا يفوته شيئاً من المستملي.
والعمدة في ذلك على الحفظ، ولذلك فإن كثيراً من الناس يلومون المشتغلين بهذا العلم، بل ينسبونهم إلى أنهم لا يفهمون شيئاً؛ لأنهم إنما يروون هذا للناس فهم الصيادلة، والفقهاء هم الأطباء الذين يصفون للناس العلاج مما لدى الصيادلة, ولهذا قال الزمخشري في قصيدته التي أمليتها عليكم من قبل:
وإن كنت من أهل الحديث وحزبه يقولون تيس ليس يدري ويفهم
قد ذكرنا في ثنايا كلامنا بعض المقدمات عن هذا العلم، منها: حده, ومنها الكلام في واضعه.
وموضوعه المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن دونهم.
أما مستمده فهو قائم بنفسه؛ لأن مستمده الرواية، ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن دونهم, وأما فضله: فهو أصل كل العلوم وذلك مقتض لفضله, ولهذا قال الإمام أبو القاسم بن عساكر:
لقول الشيخ أخبرنا فلان وكان من الأئمة عن فلان
إلى آخر قصيدته, هذا أحب شيءٍ تسمع إليه أذنه: أخبرنا فلان، وكان من الأئمة قال: أخبرنا فلان.. إلى آخره.
كذلك فإن حكم تعلمه الوجوب الكفائي؛ لأن الله خص هذه الأمة بالإسناد, والإسناد نسب الحديث، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، ولذلك لا يحل تركه، فلابد أن يكون في الأمة مسندون يروون بأسانيدهم.
وقد سهل أهل العلم ذلك فقسموا الإجازة وحدها وهي إحدى ثماني طرق للتلقي إلى تسعة أنواع ليسهل ذلك, ومع الأسف فكثير من الناس يزهد في هذا العلم والعناية به في زماننا هذا؛ بل قد انقطع اليوم من الدنيا من يملي الحديث إملاءً كما كانت مجالس الإملاء التي كان يعقدها العلماء، انقطعت من الدنيا اليوم حسب علمي، لا يوجد أحد اليوم يملي الأحاديث بإسناده, وقد انقطعت في فترات مضت وأحياها عدد من الأئمة فقد أحياها العراقي بعد انقطاع, وأحياها الحافظ ابن حجر كذلك بعده، ثم الجلال السيوطي بعد هذا، كذلك يقول:
عاب إملائي الحديث رجال قد سعوا في الضلال سعياً حثيثاً
إنـا ينكـر الأماني قوم لا يكادون يفقـهون حديثاً
والمقصود من انقطاعها من قبل، انقطاعها في بلد من البلدان دون غيره, وإلا فقبل زماننا هذا لم تنقطع بالكلية في أصقاع الأرض, لكن زماننا هذا قد انقطعت فيه ولله الأمر من قبل ومن بعد، نسأل الله أن يعيد ذلك للمسلمين.
أما نسبته إلى غيره من العلوم فهي نسبة العموم والخصوص المطلق؛ لأن العلوم كلها داخلة فيه، فمنه استخرجت العلوم كلها؛ لأنه أصل العلوم, علم الحديث رواية هو أصل كل العلوم الإسلامية، فيتفرع منه التفسير، وعلم العقائد، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلوم اللغة التي تخدمه وغير ذلك، كل هذه مأخوذة من علم الحديث فهو أصل هذه العلوم كلها, والحديث رواية هو أصل كل العلوم الشرعية، فنسبته إلى كل العلوم نسبة العموم والخصوص المطلقين فهو أعم مطلقاً وغيره أخص مطلقاً.
أما اسمه: فهو علم الحديث أو علم الحديث رواية لينفصل علم الحديث دراية وهو علم المصطلح.
فائدته: التعرف على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الدين عن ثبتٍ, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبتٍ فإثمه على مفتيه ), والله تعالى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33], ويقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36], والاشتغال بهذا العلم يجعل الإنسان على بصيرة وثبت, ولهذا قال يحيى بن بكير لـأبي زرعة الرازي حين سأله عن حديث حدث به قال: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال: يا أبا زرعة ليس هذا زعزعة أو زوبعة، هذا مالك عن نافع عن ابن عمر ما بينك وبين أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ترفع الستر فتراه, فالذي يستند إلى هذا العلم يستند إلى ثبت، فهو معتمد على أمرٍ ثابت لا مرية فيه, ولذلك قال الإمام أحمد: العلم قال الله قال رسوله, ولذلك يقال: ما من علم يكثر فيه الإنسان إلا غلا وتجاوز الحد إلا علم الحديث لا يستطيع أن يغلب فيه ويتجاوز الحد لكثرته وانتشاره.
وقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بدعائه المستجاب للمشتغلين بهذا العلم التنوير، وأن تبيض وجوههم في قوله: ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها, فرب حامل فقه ليس بفقيه, ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ), قد كان أحد العلماء من أشياخ أشياخ أشياخي يحدث بهذا الحديث ويشرحه، فسئل عن مثال ذلك: فذكر لهم أحد العلماء المشاهير فقال: مثل فلان هذا، وكان جالساً في حلقته, كان من الحفاظ للحديث وكان لوجهه نور يشع ويتلألأ، وهو أحد أجداد محمد بن مولود.
أما مسائله فيمكن أن تقسمها إلى وجوه العلم كله، فتقول: مسائل علم الحديث رواية ما يتعلق بالأحكام أي: الفقه عموماً، وما يتعلق بالعقائد, وما يتعلق بالأخلاق والرقائق, وما يتعلق بالمناقب والفضائل, وما يتعلق بالتفسير، فهذه هي أساساً هي أهم كتب علم الحديث, فإذا رجعت إلى الكتب المؤلفة على هذه الطريق تجدها مستوعبة لهذه المسائل التي ذكرناها، وإن كان ترتيبها متفاوتاً في ذلك، فقد بدأ مالك كتابه بكتاب وقوت الصلاة, ثم بعد أن انتهى من المواقيت بدأ بالطهارة ثم بأحكام الصلاة ثم بالزكاة، ثم بالصوم والاعتكاف ثم بالحج وهكذا حتى رتب كتابه بهذا الترتيب، وختمه رحمه الله بصفة النبي صلى الله عليه وسلم, فآخر حديث فيه هو أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا محمد، أنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحي به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب ), وسلك البخاري طريقاً آخر فابتدأ كتابه ببدء الوحي، افتتحه بحديث: ( إنما الأعمال بالنيات ), وتبعه على ذلك عدد من المؤلفين منهم البغوي في كتابيه شرح السنة والمصابيح, ومنهم المقدسي في عمدة الأحكام، كل هؤلاء يبدءون بحديث: ( إنما الأعمال بالنيات ), والحافظ ابن حجر كذلك.
والبخاري ابتدأ صحيحه بكيف كان بدء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, أتى بعده بالإيمان، ثم بالعلم، ثم بعد ذلك بالأحكام بدأها بالطهارة قبل الأوقات ورتبها على الترتيب السابق، ثم جمع الأبواب كلها حتى ختم كتابه بصفة الجنة وآخر حديث فيه: ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحانه الله وبحمده، سبحان الله العظيم ).
وابتدأ مسلم كذلك في مقدمة ذكر فيها منهجه في كتابه تقريباً، وناقش فيها المخالفين له, ثم افتتح كتابه بكتاب الإيمان, ثم بعده بالأحكام، وختم كتابه بكتاب التفسير، ويبدو أنه كان يريد زيادة في كتاب التفسير فلم ينشط لذلك, ولم يكمل كتاب التفسير فيما يبدو, فتجد لديه كثيراً من الأحاديث الصحيحة في التفسير لم يوردها؛ لأنه محا أحاديث البخاري وأحاديث الزهري من صحيحه عندما حصلت مشكلة بينهما، فطمس كل أحاديث البخاري، وكل أحاديث الزهري؛ عدلاً بين الرجلين.
فإذاً: هذه هي مسائل هذا العلم، وبهذا نكون قد أتينا على المقدمات العشر فيه نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا بما ينفعنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمداً وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر