بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فلما كانت نصوص الفقه كثيرة منتشرة، وكانت نوازله غير محصورة، وكثرت فتاوي الأئمة وأقوالهم في المسائل، وكثرت التخريجات على أقوالهم أيضاً صعب حفظ ذلك، فكان أصعب علم عرف في علوم الدنيا هو علم الفقه؛ لتشعبه واتساعه، ونصوص الإمام الواحد لو أريد الإحاطة بها أو حفظها لكان في ذلك عناء عظيم، فمثلاً الإمام أحمد بن حنبل مسائله وفتاويه كتب منها الناس عشرات الكتب، فكتب ابنه عبد الله مسائل الإمام أحمد، وكتب ابنه صالح مسائل الإمام أحمد، وكتب الخلال مسائل الإمام أحمد، وكتب ابن هانئ مسائل الإمام أحمد، وكتب الكوسج مسائل الإمام أحمد، وكتب الزركشي مسائل الإمام أحمد، وغيرهم كثير جداً، وخرج على هذه المسائل بأكثر منها وبأضعاف مضاعفة، فالروايات المستخرجة أكثر بكثير من الروايات المنصوصة، فصعب ضبط هذه المسائل وقصرت الفهوم والهمم دون الإحاطة بها، فاحتيج إلى ما ينظمها للضبط والحفظ.
وأول ما نشأت هذه الحاجة في العراق حيث معترك أهل الحضارة الإسلامية وهي معترك الفقه، وكان هناك شيخ من شيوخ الحنفية ضرير أعمى، وكان له مسجد، فإذا صلى فيه العشاء أغلق عليه أبوابه، وجلس يستذكر الفروع الفقهية، ويختصرها في أصل وقاعدة، ويعد تلك القواعد وما يندرج تحتها من المسائل الفقهية، وذات ليلة جاء ضيف من خارج البلد، فصلى العشاء وانزوى في طرف المسجد، فأغلق الشيخ أبواب المسجد، وجعل يستذكر تلك القواعد، والضيف يسمعها ويحفظها، حتى إذا أتى بأربع وثلاثين قاعدة أخذته سعلة فسعل، فقام عليه الشيخ وضربه، وأخرجه من المسجد، فأخرج تلك القواعد التي حفظها، وكانت بداية علم القواعد الفقهية.
القواعد في اللغة: جمع قاعدة، وهي أصل الشيء، ومنه قواعد الإسلام، أي: أصوله التي ينبني عليها.
وهي في الاصطلاح: الضوابط التي يرجع إليها، أو المعايير التي يحمل عليها غيرها، فالقواعد الأصولية هي المعايير التي يحمل عليها غيرها، والقواعد الفقهية هي الضوابط التي يرجع إليها غيرها.
وفي تعريفها الاصطلاحي هي ألفاظ مختصرة تجمع فروعاً كثيرة من فروع الفقه.
هذا هو غالب إطلاق القواعد في الاصطلاح.
وقد أطلقها بعض الأئمة على أبواب العلم، فتجدهم بعد أن يشرحوا باباً من الأبواب، ويبينوا حاله يقولون: وهذه قاعدة جليلة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عندما يشرح أمراً من الأمور يتشعب، ويدخل أبواباً شتى من أبواب العلم يقول: وهذه قاعدة عظيمة مع أنه لم يصغها ولم يضعها في لفظ مختصر.
وبهذا يكون حد علم قواعد الفقهية: هو العلم بتلك الألفاظ المختصرة التي ترجع إليه فروع فقهية كثيرة.
وهي تنقسم إلى قسمين: إلى قواعد عامة وقواعد بابية، بمعنى أنها ترجع إلى باب بخصوصه.
فالقواعد العامة هي التي يدخل فيها فروع من شتى أبواب الفقه.
والقواعد البابية هي التي تكون في باب من الأبواب تختص به.
وغالب اصطلاح المتأخرين التفريق بين القواعد والضوابط، فيجعلون القواعد للعامة التي تكثر فروعها، ويجعلون الضوابط لما كان في باب من الأبواب، فمثلاً من القواعد البابية التي هي في باب محدد كالصلاة مثلاً: الإعادة المختصة بالوقت لا تكون إلا مندوبة، هذا يسمونه ضابطاً، ولا يسمونه قاعدة؛ لأنه لا يتعدى الصلاة إلى غيرها.
وكذلك كل طلاق أوقعه القاضي فهو بائن، فهذه قاعدة مختصة في باب الطلاق فقط وهكذا.
ومع ذلك فيدخل في هذا العلم: الفروق بين المسائل التي يشكل الفرق بينها، وكذلك الكلام في النظائر والأشباه التي هي متشابهة فيما بينها، وكل ذلك داخل في علم القواعد.
هذه هي المقدمة الأولى في حد هذا العلم.
أما واضع هذا العلم فليس له واضع محدد، ولكن الدباس من الحنفية كان أول من وضع هذه الألفاظ المختصرة، ولذلك يمكن أن يطلق عليه أنه واضع علم القواعد الفقهية، وإن كان لم يؤلف فيه، وقد ألف بعده أبو زيد الدبوسي كتابه تأسيس النظر، وهذا الكتاب فيه ذكر المسائل التي وقع فيها الخلاف داخل المذهب الحنفي أو المذهب الحنفي وغيره من المذاهب، وأرجع تلك الخلافات إلى اثنين وثمانين أصلاً، فالأصل الأول هو الذي يسمى بالقاعدة الاثنا عشرية؛ لأن فروع هذا الأصل اثنا عشر فرعاً، وهو ما غير الفرض في أوله غيره في آخره عنده لا عندهما.
فقوله: (ما غير الفرض) معناه ما أبطل الصلاة (في أوله) المقصود بها في أوله أو في وسطه أو في أثنائه (غيره في آخره) أي: أبطله عند نهايته (عنده) أي: عند أبي حنيفة (لا عندهما) أي: الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
ومن أمثلة هذه القاعدة لو أن إنساناً أحرم فصلى حتى لم يبق من صلاته إلا السلام، وبعد أن أكمل التشهد انتقض وضوءه، فعند أبي حنيفة صلاته باطلة؛ لأنه لو انتقض وضوءه في أثناء الصلاة بطلت، وعند الصاحبين لم تبطل، وكذلك لو أنه استيقظ قبل طلوع الشمس فأحرم فصلى، فلما أكمل التشهد طلعت الشمس، بطلت صلاته عند أبي حنيفة؛ لأن الصلاة وقت طلوع الشمس جاء النهي عنها، والنهي يقتضي البطلان، وعند الصاحبين لم تبطل، ولكنه سقط عنه السلام. وكذلك إذا غربت الشمس عليه في مثل هذا الوقت في صلاة العصر.
وكذلك إذا حاضت امرأة فأحرمت بإحرامه دخلت معه في عين الصلاة التي هو فيها، أو تقدمت عليه، فإن ذلك مبطل للصلاة عند أبي حنيفة، ولا يبطلها عند الصاحبين، لكن يخرج منها ويسقط عنه السلام؛ لأن السلام ليس فرضاً عند الحنفية بل هو واجب.
ومن فروعها أيضاً إذا انتهى وقت المسح بالنسبة للمقيم يوماً وليلة، وبالنسبة للمسافر ثلاثة أيام بليليهن، فإذا انتهى وقت وقد بقي من الصلاة السلام فقط فقد بطلت الصلاة عند أبي حنيفة، وصحت عند الصاحبين وسقط السلام.
ومثل هذا إذا دخل الوقت بالنسبة للمتيمم، فإن دخول وقت الصلاة الأخرى منه مبطل لتيممه؛ لأن التيمم عنده مختص بالوقت، وكذلك الغسل بالنسبة للمستحاضة أو الوضوء بالنسبة لها، فإنها تتوضأ لوقت كل صلاة، فإذا دخل وقت الصلاة الأخرى بطلت وهي في الصلاة، ولم يبق عليها إلا التشهد بطلت صلاتها عند أبي حنيفة، وصحت عند الصاحبين.
وكذلك نظير هذا من المسائل.
ثم جاء بعد الدبوسي عدد من الأئمة، ومن أشهر القواعديين من الحنفية: النسفي الذي جمع قواعد الدبوسي وزادها وشرحها، وقد ألحقت قواعده بتأسيس النظر وطبعت معه.
ثم اشتهر فقهاء المالكية بالتفريع في المسائل الفقهية وتقسيمها، والفروق فيما بينها، ومن أشهرهم في ذلك الإمام أبو العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي المشهور بـالقرافي، وهو من أشهر الناس تقسيمات، وقد ألف كتابه أنوار البروق في أنواع الفروق، فوضع فيه مائتين واثنين وثمانين فرقاً من الفروق الفقهية، وكل فرق فيه عدد كبير من القواعد.
وهذه الفروق وإن كان بعضها لا يختص بالفقه، لكن أغلبها فيه، فقد يكون بعض الفروق عقدياً أو أصولياً، لكن يتعلق به جانب من جوانب الفقه مثل الفرق بين أنواع الجهل، حيث ذكر فيه ستة وثلاثين نوعاً هي أنواع الجهل: منها جهل مخرج من الملة مطلقاً لا يعذر أحد به، ومنها جهل مكفر بعد الإيمان في حق أهل الدار، عن دار الإسلام فقط، ولا يكفر به من كان حديث عهد بكفر. ومنها جهل يعذر به في مجال التكليفات والعبادات، ومنها جهل لا يعذر به في ذلك المجال، ومنها جهل يعذر به في العقود: الطلاق والعتق ونحو ذلك، ومنها جهل لا يعذر به.. إلى آخر الأقسام التي ذكرها.
فالفروق بين هذه من الأمور المهمة، وإن كان بعضها لا يتعلق بالفقه، لكن لها صلة به عموماً.
أما الأشباه والنظائر فاشتهر من المعتنين بها أصحاب الشافعي، ولهم بها عناية واضحة، فكثرة مؤلفات الشافعية تحت عنوان الأشباه والنظائر، كالأشباه والنظائر لـابن الوكيل، والأشباه والنظائر للعلائي، والأشباه والنظائر للسبكي، والأشباه والنظائر للسيوطي، فهذه كلها من الأشباه والنظائر، وإن كان السيوطي قد غير فأتى فيها بالقواعد، ورتبها على طريقة جديدة، وتبعة على ذلك ابن نجيم من الحنفية، فليس كتابه ككتب السابقين في الأشباه والنظائر، بل جعل باب الأشباه والنظائر باباً واحداً من أبواب الكتاب.
ولدى المالكية أيضاً عناية بهذا النوع يختصون به بعض الكتب، مثل كتاب ابن غازي تحرير المقالة في نظائر الرسالة، وهو نظم في نظائر الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني فقط.
وأغلب ما يعتني به الضوابط التي تقيد بعض القواعد أو بعض الأحكام العامة، ويأتي بها بنظم سلس محبوب، وقد يزيد ضوابط ليست في أصل الكتاب كبعض الفتاوي التي يستحسنها فيضيفها وليست من كلام ابن أبي زيد كقوله مثلاً:
كل صيد مسلم صحيح الذبح غير مفرط بنحو الرمح
أو جارح مكلب ومرسل من يده لصيده مشتغل
يصيد مرئياً أخا امتناع يموت من جرح بلا نزاع
فهذه القيود كثير منها ليست موجودة في الرسالة بلفظها، فهو ذكر القيود:
(كل صيد مسلم) فلابد أن يكون الصائد مسلماً، فخرج الكتابي فيؤكل ذبحه لغير الصيد.
(صحيح الذبح) أما إن كان ذبحه غير صحيح، فقطع من غير محل القطع أو لم يقطع الحلقوم والودجين من المقدم بلا رفع قبل التمام، فإن ذلك لا يصح له.
(غير مفرط) إذا كان الصائد مفرطاً، فكان بالإمكان أن يأخذ الصيد بالمباشرة، وأن يذبحه كما يذبح الأهلي من الحيوان، فإنه لا يؤكل بذلك، كما إذا رمى الصيد فأصابه، ثم توانى ولم يذبحه حتى مات من جرحه.
(بنحو الرمح) أي بشيء له مور في البدن يجرحه.
(أو جارح مكلب) كالكلب والصقر ونحوه.
(مرسل من يده) لابد أن يكون أرسله من يده، فإن كان أشلاه وقد انطلق هو فلا يؤكل صيده.
(بصيده مشتغل) فإن اشتغل بصيد غير ذلك الصيد أو اشتغل بصيد لم يره المطلق، فلا يكون ذلك ذكاة.
(يصيد مرئياً) فإن صاد ما هو في حفرة لا يراه مطلقاً، فإن ذلك لا يكون ذكاة له.
(أخا امتناع) لابد أن يكون الصيد مما يمتنع ويرد، فإن كان الصيد من الحيوان التي لا تهرب فلا تفيد فيه ذكاة المكلب.
(يموت من جرح بلا نزاع) فإن مات من غير الجرح، كالرعب أو وقع في ماء فغرق أو في نار فاحترق، فإنه لا يؤكل بذلك.
فأتى بهذه الضوابط، وليست كلها موجودة في الرسالة، ولذلك أضاف عليه ابن عبد القادر الفاسي في نظم العمل قال:
وما ببندق الرصاص صيدا جواز أكله قد استفيدا
أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه
أما موضوع القواعد الفقهية، فهو فروع الفقه المتشابهة أو المتغايرة، وفروع الفقه المتشابهة هي التي يجمعها أصل واحد، (أو المتغايرة) أي: التي بينها تفريق واضح، هذه الفروق.
أما نسبته إلى علم الفقه فهو في الواقع جزء منه، فهي نسبة العموم والخصوص المطلقين، بمعنى أن الفقه أعم مطلقاً، والقواعد أخص مطلقاً، هذا في أغلب الأحيان، ومع هذا فإن القواعديين قد يتعرضون لمسائل لا يدرسها الفقهاء، فقد يدرسون مسائل عقدية أو كلامية أو حديثية أو غير ذلك، وقد يدرسون مسائل فقهية أيضاً من الألغاز التي لا توجد في الفقه، فكثير من المسائل التي هي ألغاز في الفقه لا توجد في كتب الفقه، وإنما تدرس في القواعد أو في الكتب المتخصصة في الألغاز الفقهية.
والقواعديون يعقدون باب الألغاز في الفقه، وقد جاء النهي عن الاشتغال بذلك النوع من العلوم الذي هو محير للناس، وقد أخرج أبو داود في السنن بإسناد صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات )، والأغلوطات المقصود بها الألغاز المحيرة التي لا يمكن حلها.
ومن الكتب المختصة في الألغاز الفقهية كتاب درة الغواص في مذاكرة الخواص لـابن فرحون، وهناك درة الغواص أيضاً للحريري، ولكن ابن فرحون أقوى من الناحية الفقهية، وهو مطبوع، ومثل ذلك في كتب القواعد الفقهية، وكتب الأشباه والنظائر يعقدون باباً للألغاز الفقهية، ومثل عدد من كتب المتأخرين مثل دالية الألغاز، التي اشتهرت عندنا في البلاد لأحد العلماء الشناقطة، فقد أتى فيها بالكثير من الألغاز الفقهية.
وهذا النوع كما ذكرنا يكثر في الجدل الفقهي، وفي العلوم العقدية أيضاً كثيراً ما يأتي فيها ألغاز كبيرة مثل لغز المهينن، الذي قال: (من أجابه دخل النار ومن لم يجبه خش النار)، فهذا لغز محير، والألغاز العقدية كثيرة جداً.
ومن أشهر ما للمتأخرين فيها إلغازية المختار ولد بون التي يخاطب بها العلامة مولود بن أحمد الجواد يقول فيها:
أحاجيك هذا النور قلما وجوده بقلب النبي يتلو ويقرأ بالفم
أينمى لما ينمى له وهو قائم بذات العلي الواحد المتكلم
أتجعله إذ ذاك وصفاً محله ذوات الورى أم ذو الجلال المعظم
أيجعل مقسوماً إلى الخبر الذي تضمن والإنشاء أم لم يقسم
كسائر أوصاف العزيز الذي علا علواً كبيراً جل عن كل موهم
لم لا كلام الناس يدعى كلامه أليس هو المنشيه في المتكلم
هي قصيدة طويلة يقول في آخرها:
عنيدي إن حاجيته وأجبته ولم يدر لماذا يقول ويفهم
فماذا عسى يوماً يناظرني به ويجعل أهلاً أن يكون مكلم
فكل لغز أردف معه جوابه بحيث لا يفرق بين اللغز والجواب، اللغز معه الجواب، لكي لا يعرف الفرق بين اللغز وجوابه.
والغالب أن المسائل التي فيها ألغاز قد تكون مختصة بمذهب من المذاهب أو نحو ذلك، كالسريجية بالنسبة للمذهب الشافعي، وهي لغز محير فيمن قال لامرأته: إذا طلقتك فأنت طالق قبلها ثلاثاً! فما الحيلة في التخلص من هذا؟ لأنه قبل أن يطلقها طالق ثلاثاً، وهي الآن قبل أن يطلقها؟
وكذلك مسألة الهجرة بالنسبة للمذهب المالكي، ومسائل أخرى اشتهرت، مثل مسألة الكرسف بالنسبة للمذهب الحنفي، وهذه لغز محير ألقاها محمد بن الحسن الشيباني على طلابه، فقال: أفهمتموها؟ فقالوا: نعم. قال: ما أظنكم، فخرجوا، فما تجاوزت معهم كرسفة الباب، وهي مسألة من مسائل الصلح فيمن تزوج امرأة، فدفع إليها الصداق المسمى كاملاً، ومات قبل الدخول، فالمرأة يجب عليها رد نصف الصداق، ولكنها هي ترث أيضاً الربع من ميراثه، فصالحها بعض ورثته بما أخذت عن تركتها، وحصل الخصام في القدر التي ترده، وهذه المسألة فيها ثمانية وعشرون صورة، وكل صورة لها حكم عن حكم الصورة الأخرى.
ومثل هذا عند المالكية ما لو وضع إنسان مالاً في بيته، فجاء فلم يجده، فأقسم لقد أخذته زوجته من مكانه، وهذه فيها أربعون صورة.
وكذلك من عليه دين فحلف ليقضينه غداً مثلاً أو قبل يوم الخميس، ثم باع بيعاً فاسداً من ذلك الشخص الذي يطالبه بالدين، فهل يكون ذلك وفاء أو لا؟ هذه أيضاً لها صور تصل إلى نفس العدد إلى أربعين صورة، والحكم فيها مختلف، وهاتان المسألتان نظمهما محمد مولود الكفاف حيث قال:
وحالف لا يقضين خالدا إلى كذا فباع بيعاً فاسدا
من خالد قبل انقضاء الزمن ...
إلى آخر النظم.
وفي المسألة الأولى أيضاً يقول:
ودافن مالاً فأقسم لقد تناولته هذه من ذا البلد
بالله أو سواه عن يقيني أو لا وتنتهي لأربعين
قوله: (وتنتهي لأربعين) أي: أربعين صورة؛ لأنه إما أن يحلف بالطلاق أو أن يحلف بعتق، أو أن يحلف بيمين بالله، سواء كان عن يقين أقسم، أو عن ظن، أو عن شك.. إلى آخره.
ثم بعد ذلك يتبين ما قال أو يتبين خلافه، أو يوجد المال في مكانه أو يوجد قد أخذه سواها، كلها صور مختلفة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
السؤال: هل يختص التقعيد في كل مذهب بما يميزه، نظراً لاختلاف المذاهب أو أن من القواعد ما يشمل المذاهب؟
الجواب: القواعد الكبرى توجد لكل المذاهب، ومن القواعد الخلافية ما يكون أيضاً بين كل المذاهب كالقواعد الترددية: إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يقدم؟ إذا تعارض أصلان فبأيهما يعمل؟ إذا تعارض غالبان فبأيهما يعمل؟ إذا تعارض الأصل والظاهر بأيهما يعمل؟ إذا تعارض الظاهر والغالب بأيهما يعمل؟ هذه الخلاف موجود في كل المذاهب مع أنها قواعد ترددية، والقواعد الخمس الكبرى في كل المذاهب عليها ينبني الفقه في كل المذاهب.
وكذلك كثير من هذه القواعد تشترك بين المذاهب، كالتي تسمى بالهليات، أي: التي يقال في مقدمتها: هل كذا؟ هل الظفر والشعر كالمنفصل أو كالمتصل؟ وهذه قاعدة لدى الحنابلة، لكنها أيضاً بنفس التردد، وستجدها في المذاهب الثلاثة الأخرى.
وهذه القاعدة ينبني عليها أمور، فإذا كان الإنسان كث اللحية وكان يصلي وكان يلبس ثوباً واحداً متسعاً، وعورته لا يسترها إلا لحيته، فهل يعتبر بذلك ستراً تصح به صلاته أو تبطل؟ هذا محل خلاف، وهذا الخلاف موجود في المذاهب كلها.
ومثل ذلك هل الجار كالراكد، وهذه قاعدة عند الحنابلة، وهي أول قواعد ابن رجب، لكنها موجودة في المذاهب كلها، وينبني عليها أربعة أمور هي: من حلف أن لا يشرب من هذا الماء، فمرت تلك الجرية، فجاءت جرية أخرى فشرب منها هل يحنث أو لا؟
ومن انغمس في الماء فمر عليه أربع عثريات هل يصح وضوءه أو لا؟
ومن أدخل إناءً قد ولغ فيه كلب في هذا الماء فمر به سبع جريات هل يعتبر ذلك غسلاً له أم لا؟
وإذا وقع نجس قليل لم يغير في جرية من الجريات فذهبت به، فهل يتنجس ما سواه؟ على القول بأن الماء القليل إذا وقعت فيه النجاسة ولم يغيره يتنجس، وهذا مذهب الجمهور ما عدا المالكية.
فهذه كلها تجد فيها هذا الخلاف.
السؤال: ما هو مستمد القواعد الفقهية؟
الجواب: هذه مقدمة من المقدمات التي سنتحدث عنها وما وصلنا إليها بعد، لكن هذه القواعد مستمدة من المسائل الفقهية وأدلتها معاً، ولذلك اختلف في القواعد الفقهية، هل هي من جنس الأدلة أو من جنس الفروع؟ فكثير من الفقهاء يرون أن القواعد الفقهية أدلة؛ لأن لكل قاعدة دليلاً، ودليلها دليل لكل فروعها، ولهذا فالمتأخرون من العلماء يستدلون بالقواعد الفقهية، فيجعلونها بمثابة الأدلة؛ لأن كل قاعدة عنوان لدليل وراءها، وكل قاعدة لها دليل، فكل فروعها ترجع إليها.
وبالنسبة لفروع القواعد الاتفاقية كالقواعد الكبرى مثلاً، هي نفس القواعد الإجماعية، لكن ليس كل فروعها إجماعياً، بل ما من قاعدة إلا وفيها استثناءات كثيرة، ولهذا فإن من المسائل المحيرة في الفقه والفتوى ما ينقض به حكم القاضي، وما يجب فيه إنكار المنكر من المسائل الخلافية، فقاعدة العلماء المشهورة بينهم هي:
إذا قضى حاكم يوماً بأربعة فالحكم منفسخ من بعد إبرام
خلاف نص وإجماع وقاعدة كذا قياس جلي دون إيهام
ولكن ذلك إذا جاءوا به إلى حيز التطبيق وجدوا فيه اختلافاً لا نهاية له ولا حصر له، فليس كل حكم خالف قاعدة، أو كل فعل خالف قاعدة يجب نقضه ورده؛ لأن القواعد كذلك فيها كثير من الاستثناءات.
السؤال: بالنسبة لما يشبه التقعيد الفقهي في العلوم الأخرى، هل وصل إلى هذا المستوى؟
الجواب: من المعلوم أن علم الفقه هو أوسع العلوم وأكبرها، والتطور الحضاري حصل فيه، ولم يحصل في غيره، ولم يقاربه في ذلك إلا علوم اللغة، ولذلك حاول الأقدمون وضع قواعد للغة أيضاً، فألف ابن الأنباري كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، وذكر فيه قواعد النحو المختلف فيها.
وكذلك فإن سيبويه في كل باب من أبواب الكتاب يبدأه بقاعدة، وقد حاولت أنا وأحد الطلاب جمع القواعد الكلية من كتاب سيبويه، فأوصلناها إلى أربعمائة وزيادة من القواعد الكلية، والنحويون قديماً يقولون: أكبر قواعد النحو فيها استثناءات. فقاعدة (كل حرف مستحق للبناء) هذه قاعدة عامة، لكن مع ذلك وجدوا أن: (ثمت وربت) قد اتصفتا بوصف من أوصاف الأسماء.
وكذلك رفع الفاعل وهو قاعدة من قواعد النحو المسلمة، أن الأصل في الفاعل الرفع، ومع ذلك يجر الفاعل في خمس مسائل، ونصب في مسألة واحدة، فنصبه لم يأتِ إلا في قول الشاعر:
يبسط للأضياف وجها رحبا بسط ذراعيه لعظم كلبا
وجره في المسائل الخمس المعروفة:
وجر فاعل أتى في خمس مسائل أتت بغير لبس
يجر باللام كهيهات لما أو من كمثل من بشير فاعلما
وجاز أن يجر بالباء كما في قوله جل كفى فلتعلما
كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:79].
وجره جر التوهم ذكر عن بعضهم كحين هاج الصنبر
بجفان تعتري نادينا من سديف حين هاج الصنبر
أصلها حين هاجَ الصنَ البري، فجر الفاعل هنا؛ لأن حركة الحرف الآخر نقلت إلى الساكن الذي قبله لغوي حين هاج الصن بر. وكذلك يجر بالإضافة كفاعل المصدر وهي من المسائل المقيسة.
والتقعيد اللغوي أيضاً تطور في زماننا هذا، فقد ألفت موسوعة للقواعد البلاغية، قواعد البلاغة، وكذلك قواعد النحو ألفت لها موسوعة، وكذلك ما جاء على خلاف الظاهر وضعت له قواعد.
وكذلك كل ما قيل فيه: ليس في لسان العرب، وكذلك ما قال فيه الأقدمون: لا نظير له، وهذه قد نظم بعضها الحسن بن زين رحمه الله قوله:
يحب خصم مضارع خصم غلب في الخصام من له وصل
يهب يا باء ويجدن ويلب نظيره هذه يعز من طلب
إلا أبا فمنه أث الشعر وهلك العاتي وعظ الصفر
هذه هي التي قال فيها المجد ابن فيروزآبادي في القاموس: لا نظير لها في لغة العرب، وكذلك في الأوزان، فكثير من الأوزان لا يوجد له مثال إلا أمثلة محصورة:
أهمل فعال فاؤه يـ.. انكسار غير أي وآمن وإي عار ويسار
ففعال إذا كان فاؤه ياء مكسورة فلا وجود له في اللغة العربية إلا في ثلاث مسائل، ومثل ذلك قول الشيخ محمد المامي رحمه الله:
فعلت بضم العين لم يأتِ عينه ولا لامه ياء سوى هي ونهو
هذه قاعدة أن فعُل بالضم لم تأتِ في لغة العرب، عينها ياءً سوى هي، ولم تأتِ لامها ياء كذلك سوى (نهو) أصلها نهي من النهية التي هي العقل.
فهذا النوع اهتم به اللغويون وألفوا فيه واعتنوا به، وقد نظم ابن مالك رحمه الله فيه أيضاً عدداً من المنظومات مثل منظومته في الاعتماد في نظائر الظاء والضاد، ومثل قواعد المثلث التي رتبها على الحروف، ومثل ذلك قصيدة ابن النحاس المشهورة بالواوية اليائية:
قل إن نسيت عزوته وعزيته وكنوت أحمد كنية وكنيته
وهكذا فهذا النوع مشتهر في لغة العرب، أما في الأصول فقد ذكرنا أن تخريج الفروع على الأصول اعتني فيه بالقواعد الأصولية، وذكرت بعض الكتب المؤلفة في ذلك، وكذلك في القواعد المنطقية قد حاول بعضنا استلالها من كتب المنطق، ولم يشتهر في ذلك كتاب مخصوص، لكن اشتهرت بعض القواعد المنطقية، مثل قاعدة الافتراض وقاعدة الخلف وغيرهما من القواعد التي نظمت مستلقة.
وطبعاً قد يؤلف في علم من العلوم كتاب فيسمى باسم القواعد، ولا يقصد بذلك أنه صيغ صياغة قواعدية، مثل كتاب القاسمي في مصطلح الحديث سماه: قواعد التحديث، فليس معناه أنه وضع قواعد للمصطلح كالقواعد الفقهية أو على غرارها.
وكذلك كتاب عقد الفصول في قواعد الأصول لا يقصد به أنه صاغ الأصول على هيئة القواعد، فهذا من التسميات التي يقصد بها الإتيان بأصول الشيء وأهم ما فيه.
السؤال: ماذا عن إيجابية القواعد الفقهية وسلبيتها؟
الجواب: الفقه مبناه على حرية الاجتهاد تبعاً للأدلة وللوقائع أيضاً التي يتأثر بها المجتهد، والظروف التي تحيط بالنازلة، وأن القواعد تحصره، فلا يحق له اختراق تلك القواعد، وهذا ما أجبنا عنه من قبل، فذكرنا أن القواعد في نفسها وإن كانت إجماعية إلا أن فروعها غير إجماعية، فلذلك لا يمكن أن تحجر القواعد واسعاً في الاجتهاد، بل إنما تحصر للمجتهد تراث من سبقه ليستطيع البناء عليه وإعماله.
وقد يقال: إن المجتهد الدارس للقواعد الفقهية كثيراً ما يتأثر بأقوال السابقين؛ لأنه يجد دعاية قد تسبق التصور لديه فينطلق من ذلك النتاج الذي هو من إنتاج غيره، ليس من إنتاج عقله هو، لكن يجاب عن هذا بأنه حتى في دراسته للفقه لا يمكن أن يكون الإنسان مجتهداً إلا بعد دراسته للفروع الفقهية، على مقتضى مذهب من المذاهب، فلابد أن يمر بمرحلة تسمى مرحلة التقليد، هذا أمر مفروغ منه، لكن إذا تجاوزها سيصل إلى منطقة الحرية الواسعة في الفقه الإسلامي.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر