إسلام ويب

شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [9]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخوخة هي الباب الذي لا يكون على طول قامة إنسان، بل يكون مخرجًا يدخل منه الإنسان، كالكوة التي هي قريبة من الأرض، وقد اختلف في المرور في المسجد إذا كان الإنسان لا يصلي فيه وإنما يمر منه نافذًا إلى وجه ما، فذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك من الإرفاق، والمسجد ملك عام، فيمكن أن ينفذ منه الإنسان إذا كان ذلك أخصر له، وذهب بعضهم إلى أن من احترام المساجد ألا تتخذ ممرًّا أصلًا، وألا ينفذ منها الإنسان إلى غيرها بل لا بد أن تقصد هي لذاتها؛ لأنها مقصودة للعبادة، ولم تبنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله، وإقامة الصلاة، وهذا القول أرجح.

    1.   

    شرح باب الخوخة والممر في المسجد

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب: الخوخة والممر في المسجد:

    الخوخة: الباب الذي لا يكون على طول قامة إنسان، بل يكون مخرجًا يدخل منه الإنسان، كالكوة التي هي قريبة من الأرض، وقد يكون ذا مصراعين، وقد يكون ذا مصراع واحد، وهو يكون في الجدران الطويلة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتون من دورهم، وهي محيطة بالمسجد في اتجاهات مختلفة، فيتخذون في جدار المسجد فتحات صغيرة يدخلون منها، ويجعلون لها ما يسدها، وتعدد ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوصى- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- في مرضه أن تسد كلها إلا خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

    و(الممر): مفعَل، يأتي للمصدر، ويأتي للزمان، ويأتي للمكان، والمقصود به: مكان المرور في المسجد، والممر لم يذكر في هذا الحديث إلا أنه يتناوله ذكر الخوخة، وقد اختلف في المرور في المسجد إذا كان الإنسان لا يصلي فيه وإنما يمر منه نافذًا إلى وجه ما، فذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك من الإرفاق، والمسجد ملك عام، فيمكن أن ينفذ منه الإنسان إذا كان ذلك أخصر له، إذا كان المسجد كبيرًا، وكان إذا خرج من ورائه فاته بعض شأنه أو تعب، فيمكن أن يمر من داخله لتلك الحاجة، وذهب بعضهم إلى أن من احترام المساجد ألا تتخذ ممرًّا أصلًا، وألا ينفذ منها الإنسان إلى غيرها، بل لا بد أن تقصد هي لذاتها؛ لأنها مقصودة للعبادة، ولم تبنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله، وإقامة الصلاة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا القول الأخير أرجح، فإن المساجد لا تتخذ طرقًا إلا من أجل الضرورة، واتخاذها طرقًا يدخل فيها الأوساخ والغبار، وذلك مناف لرفعها الذي أمر الله به، فقد قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور:36].

    شرح حديث أبي سعيد لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر

    قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر، لا تبكِ، إن أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، فهذا الحديث حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وذلك بعد أن أعلمه الله سبحانه وتعالى بدنو أجله، وانتقاله من هذه الحياة الدنيا، فخطب الناس وهو عاصب رأسه، وقد كان مرضه الصداع، فقال: (إن الله خير عبدًا)؛ أي: قال في أثناء خطبته: (إن الله خير عبدًا)، وهو يلمح إلى نفسه بذلك؛ أي: إن الله خيرني (بين الدنيا)؛ أي: التعمير فيها، (وبين ما عنده)؛ أي: مجاورة الله جل جلاله، (فاختار)؛ أي: اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العبد الملمح عنه هنا، (ما عند الله)، ومعنى هذا: أن حياته في هذه الحياة الدنيا قد انتهت؛ لأنه اختار ما عند الله، ولم يمت نبي قط إلا خير.

    (فبكى أبو بكر)، عرف أبو بكر أن العبد المخير هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اختار ما عند الله، ومعنى ذلك: أنه سينتقل من هذه الحياة الدنيا، (فبكى أبو بكر)، ومعنى ذلك: سالت دمعتاه، و(بكى) تطلق على سيلان الدمع من العين، وعلى الصوت الذي يصدر عند ذلك، ومصدرهما مختلف، فيقال: (بكى بكاءً)؛ أي: بصوت، و(بكى بكًى) بالقصر؛ أي: بدون صوت، والمقصود هنا بالبكاء: الدمع فقط، وربما كان معه النشيج والحنين، كما كان الصحابة يفعلون إذا وعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمع لهم حنين، لكن لا يقصد بذلك رفع الصوت بالبكاء، فليس ذلك من الأدب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، (فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقلت)؛ أي: قال أبو سعيد الخدري (في نفسي)؛ أي: لم ينطق بذلك بلسانه، ولكنه فكر فيه، (ما يبكي هذا الشيخ)؛ أي: ما الذي جعل هذا الشيخ يبكي؟! (إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فلم يفهم أن هذا يختص بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك تعجب من بكاء أبي بكر، (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ)، بعد ذلك فهم أبو سعيد وجه بكاء أبي بكر، ففهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، (العبدَ) هنا منصوبة هي خبر (كان)، أصلحوها في الكتاب، هي خبر (كان)، والضمير الذي قبلها (هو) ضمير فصل، وهو لا يؤثر في إعراب الجزأين، (وكان أبو بكر أعلمنا)، أخبر أبو سعيد أن أبا بكر الصديق كان أعلم الصحابة؛ ولذلك فهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توريته، فهو من بينهم الذي فهم هذا الكلام واستوعبه.

    وأبو سعيد من علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهائهم، ولم يستوعب ذلك، ولم يفهمه، فدل هذا على فضل أبي بكر في العلم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعلمهم كما صرحوا بذلك؛ ولذلك قال أبو سعيد هنا: (وكان أبو بكر أعلمنا)، والمقصود بالعلم هنا: الفهم عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، واستيعاب الوحي، (قال: يا أبا بكر)؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر، (لا تبكِ)، فنهاه عن البكاء، والمقصود: النهي عن سببه، وهو الحزن، معناه: لا تحزن.

    (إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر)، أراد أن يزيل عنه الحزن، فبين أن أمنَّ الناس عليه؛ أي: أكثرهم عليه منة؛ أي: فضلًا في صحبته؛ أي: بذاته ونفسه، (وماله- أبو بكر)، فليس أحد أكثر إنفاقًا من وقته وماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، والامتنان هنا معناه: الفضل، فالمنة بمعنى الفضل، ولا يقصد بذلك أنه يمن عليه ما أحسن به إليه، (بل لله المنة ولرسوله)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، فله الفضل في القبول.

    ومعنى (في صحبته)؛ أي: بنفسه، فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، ولم يفارقه في حضر ولا سفر، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يغب عن مشهد منها من الغزوات كلها، (وماله)، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله، وكان امرأً تاجرًا في الجاهلية فكان غنيًّا، وبعد ذلك في الإسلام خرج من ماله كله في سبيل الله ثلاثًا، من كل ما لديه من تجارة جاء بها يحملها، وخرج منها في سبيل الله.

    ثم زاد في تعزيته وتسليته، فقال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في مقابل إحسان أبي بكر لو كان متخذًا خليلًا؛ أي: لو صح له أن يتخذ خليلًا من أمته، لاتخذ أبا بكر، والخليل معناه: المحبوب الذي خالط حبه القلب، فلم يترك فيه خللًا لغيره، لم يترك فيه مكانًا لغيره، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن منه ذلك، فهو خليل الله جل جلاله، فلا يمكن أن يصرف حبه لغيره، قال: (ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر)، وقد تكرر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشاهد شتى، فقال: (لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله)، وفي الحديث الآخر: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أنه وصل إلى مقام الخلة، فكانت محبته جميعًا لله جل جلاله، وهذا المقام يندر أن يصل إليه العبد، وقد وصل إليه إبراهيم عليه السلام، فقال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء:125]، ووصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وهما فقط اللذان ثبتت لهما الخلة، ولم تثبت لمن سواهما من الأنبياء، وإبراهيم يقول يوم القيامة- كما في حديث الشفاعة- (وهل كنت إلا خليلًا من وراء وراء)، ويريد بذلك تشريف النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وإبداء منزلته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه.

    وقول الصحابة: (أوصاني خليلي)، كما كان أبو هريرة يقول، وكما ورد ذلك عن علي، وورد عن أبي ذر المقصود به: أنه هو محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا؛ فهو أحب إليه من جميع الناس، وليس المقصود العكس، فإذًا لا ينافي ذلك أن يقول الصحابي: (أوصاني خليلي)، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ خليلًا من الناس، لكن الصحابي يحبه هو حبًّا شديدًا، فلا يترك في قلبه مجالًا لحب غيره من الناس.

    (ولكن أخوة الإسلام ومودته)، معناه: ولكن له؛ أي: لـأبي بكر مني أخوة الإسلام، فهو أخوه في الإسلام، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، وآخى بين أبي بكر ونفسه، فـأبو بكر أخوه في الإسلام، وهذا شرف عظيم جدًّا، ومنزلة سامقة عالية، (ومودته)؛ أي: مع الأخوة الإسلامية أيضًا المودة، وهي من: (ود)؛ أي: تمنى ودادًا، وودادة، فالمقصود بذلك: أنه يتمناه دائمًا، ويتمنى لقاءه، ويتمنى صحبته، وهذا معنى الوداد، فمصدره في الأصل: (الوَد)، و(الوِد)، و(الوُد)، وهو مثلث الواو، ومعناه: أن تشتاق نفس الإنسان إلى صاحبه، فيكون كلما غاب عن عينه تذكره، فهذا معنى المودة، ولوازمها منها النفع؛ ولذلك تطلق المودة على النفع، وقد فسر بذلك قول الله تعالى في سورة الشورى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[الشورى:23]؛ أي: مودة قرباي، هذا التفسير الأول؛ أي: أن تحبوا آل بيتي، وتحسنوا إليهم، وفي تفسير آخر: إِلَّا المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ٌ[الشورى:23]؛ أي: أن تودوني وتحبوني؛ لأنني من قرابتكم، ويكون الخطاب حينئذ لقريش، ليس من سواهم من الأمة.

    ثم سلاه بأمر ثالث، وهو ما يشير إلى الخلافة من بعده، فقال: (لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، يجوز في لفظة (باب) هنا الرفع والنصب؛ لأن الكلام موجب؛ فلذلك قال: (لا يبقين في المسجد)؛ أي: لا تتركوا في المسجد، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يسدوا الأبواب التي تقابل الدور، وأنتم تعلمون أن حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في جانب المسجد الشرقي والشمالي، وبعضها في الغربي، (حجرتان منها في الجانب الغربي)، وكل حجرة لها باب يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فكذلك الذين يحيطون بالمسجد من أصحابه كانت لهم أبواب يدخلون منها، كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب، ولكنه أوصى أن تسد هذه الأبواب، فلا يترك منها إلا باب أبي بكر الصديق، وكان باب أبي بكر الصديق إلى جهة الغرب، وأبو بكر رضي الله عنه كان له داران بالمدينة: إحداهما داره الأولى التي نزل فيها لما جاء مهاجرًا، وقد اشتراها من رجل من الأنصار، والدار الثانية هي التي بناها لـأسماء بنت عميس حين تزوج بها بعد غزوة مؤتة، وكانت زوجة لـجعفر بن أبي طالب، وهي أم أولاده الثلاثة، فقتل عنها جعفر، فتزوجها أبو بكر الصديق، فولدت له محمدًا، وأوصى أبو بكر إذا مات أن تغسله أسماء بنت عميس، فهي التي تولت غسل أبي بكر، وله زوجة أخرى إذ ذاك، فدل هذا على أن العدل بين الزوجات لا يشمل ما يتعلق بالوصية وتغسيله، وزوجته الأخرى هي بنت خارجة، ويمكن أن يكون لذلك سبب آخر، وهو أن بنت خارجة كانت حاملًا مقربًا؛ فلذلك لم يوص بغسلها ومشاركتها لـأسماء، فقال لـعائشة عند موته: (قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقًا من نخلي الذي بالعالية، فلو كنت حزتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد، وأما أختاي فهذه أسماء، فمن الثانية؟ قال: أُرَى ذا بطن بنت خارجة أنثى)، فأراه الله ببصيرته النافذة وفراسته أن حمل بنت خارجة أنثى، فكانت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وهي التي تزوجها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وأعطاها صداقًا لم يعرف الصحابة مثله؛ ولذلك قال البدوي في نظم الأنساب:

    بنحلة عن القياس خارجة خص السخي بنت بنت خارجة

    وهي حظية وبنت أخرى بنت اللذين بُشِّرا بالأخرى

    فوائد حديث أبي سعيد رضي الله عنه

    وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الفوائد، منها:

    جواز التعمية في الكلام لمصلحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبدًا) بالتنكير، وقد جاء نظير ذلك في القرآن في مواضع، فالإبهام في القرآن والسنة لا يأتي إلا لحكمة؛ لأن الإبهام ليس عن جهل؛ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى[القصص:20]، لو شاء الله لسماه، ولكن من حكمته أن يبهم، وهكذا في كل موضع جاء فيه الإبهام في الكتاب أو في السنة، فذلك لحكمة.

    وكذلك أن هذا النوع من الأمور ليس فيه رياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أنه اختار الآخرة على الأولى، وأخبر الناس بذلك، فليس في هذا رياء.

    وأيضًا فيه فضل أبي بكر الصديق وفهمه على سائر الصحابة رضوان الله عليهم، وفيه منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه كذلك شكر من أحسن إليك، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فكل من أحسن إليك ينبغي أن تشكر له فضله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شكر لـأبي بكر فضله على الملأ، وفيه أيضًا أن المدح المقتصد إذا كان في الوجه فليس داخلًا في النهي، فقد جاء النهي عن المدح في الوجه، (مدح الإنسان في وجهه)، وجاء: (إذا أتاكم المداحون فاحثوا في وجوههم التراب)، لكن المقصود بذلك: المدح الذي فيه مبالغة، وليس المدح المقتصد، وهنا كان مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر مقتصدًا، ولم يكن فيه تجاوز، وفيه كذلك مشروعية التعزية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك للناس عمومًا على وجه التعزية، وأخذ منه بعض أهل العلم جواز النعي العام، أن يقف الإنسان في حلقة، فيقول: استغفروا لأخيكم فلان، أو يعلم الناس بموت فلان إذا كان ذلك لمصلحة، كما إذا كان عليه دين، أو يترتب على العلم بموته مصالح، وقد كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يعلن موت الزبير في الموسم؛ لأن الزبير كانت عليه ديون كثيرة للناس، وقد أوصى عبد الله بقضائها، وقال: (إذا ضاق عليك شيء منها، فاستعن بمولاي)، فكان عبد الله إذا جاءه أصحاب الدين، يقول: (يا مولى الزبير)، فييسر الله له قضاء ديونهم، وأخَّر قسمة تركة الزبير ثلاث سنين، في كل عام يعلن في الموقف بعرفة: (من له دين على الزبير فليأت)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هنا على المنبر أعلن ما يفهم منه موته، وقد أنزل الله ذلك في كتابه، فقد أنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:1-3]، وقد سأل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الصحابة عن تفسير هذه السورة، وكان كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن أهل بدر يعجبون من أن عمر يأتي بـابن عباس- وهو طفل صغير- فيجعله معهم في منزلتهم ومكانهم، ويستشيره فيما يستشيرهم فيه من أمر الأمة، فلما سألهم عن هذه السورة ما معناها لم يعرفوه، فسأل ابن عباس، فعرفها، قال هو: نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا الذي جعلني أقدمه، وكان عمر يسميه "فتى الكهول".

    كذلك في الحديث إثبات الخلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي المنزلة العالية.

    وفيه أيضًا الإشارة إلى خلافة أبي بكر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص بالخلافة لأحد، ولكنه قال لـعائشة: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، ولم يعلن ذلك للناس، وقد أشار إلى خلافة أبي بكر في عدد من النصوص، منها: تعيينه للإمامة، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، متى يقوم مقامك لا يسمع الناس من البكاء)، و(أسيف)؛ أي: رقيق، فقال: (مروا أبا بكر، فليصل بالناس، إنكن صواحب يوسف)، وكذلك هنا في هذا الحديث أمر بسد الأبواب جميعًا إلا باب أبي بكر، وكل ذلك يشير إلى الخلافة، وكذلك في حديث جابر: (أن امرأة وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أن تأتيه فيعطيها مالًا، فقالت: أرأيت إذا أتيت، فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر)، وهذا الحديث أيضًا يدل على أن أبا بكر هو الذي سيتولى الخلافة بعده، لكن ليس شيء من ذلك صريحًا، بل كله كان إشارات، وليست وصية، ولا أمرًا للصحابة بالاستخلاف، وقد كانت بيعة أبي بكر فلتة، كما قال عمر رضي الله عنه؛ أي: حصلت فجأة دون تخطيط، لكنها كانت اختيار الله للمؤمنين، فوفق الله هذه الأمة لاختيار خيرها، فاختاروه وبايعوه، فقادهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودهم، والذين لم يبايعوه في البداية بايعوه في النهاية إلا سعد بن عبادة، فقد بايعه علي، وإن كان في البداية تأخر في البيعة، ولكنه جاء وبايعه أمام الملأ في المسجد كما في الصحيح، بايعه أمام الناس، وبين أنه ما تأخر عليه حسدًا، ولا أنه ينفسه الخلافة، وإنما كان مشغولًا بأمر آخر من تمريض فاطمة رضي الله عنها حتى توفاها الله.

    وفي الحديث ما عقد له البخاري الباب، وهو جواز الارتفاق بفتح الخوخة في جدار المسجد، إذا كان ذلك لا يضر بالجدار، فإذا كان التكسير في الجدار يؤثر عليه أو يضر بالمصلين فإنه لا يفعل، وأيضًا أن الأمر في هذا إلى الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسد تلك الأبواب الأخرى إلا باب أبي بكر، فدل هذا على أنه لا بد من أن يكون ذلك بإذن ولي الأمر الذي يعنيه ذلك.

    ثم قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه، أو عاصبٌ رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)، هذا الحديث هو نفس المعنى في الحديث الأول، إلا أن الحديث الأول ليس فيه التصريح بالخوخة التي عقد لها البخاري الباب، وفي هذا الحديث التصريح بذلك، وقد زاد هذا الحديث فوائد، منها: أن ذلك كان في مرض موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الإمام قد يخطب، وهو شاك؛ أي: مريض، فرسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على المنبر، وهو عاصبٌ رأسه، فـ(عاصب رأسه) هنا: خبر مبتدأ محذوف، إذا رفعت، وإذا نصبت، قلت: (عاصبًا رأسه)، تكون حالًا، (بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله)، قعد على المنبر، ليس معنى هذا أنه خطب، وهو جالس كما توهمه بعض الفقهاء، فقد نص أهل الحديث على أن أول من خطب، وهو جالس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس قبل الخطبة على المنبر، ثم يقوم ثم يجلس بين الخطبين، ثم يقوم، وكذلك خلفاؤه الراشدون، ولم يخطب أحد منهم جالسًا قبل معاوية رضي الله عنه، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وهذا في بداية خطبته، ثم قال: (إنه ليس من الناس أحد أمن علي)؛ أي: قال في أثناء الخطبة، وقد سبق في حديث أبي سعيد زيادة، وهي (إن الله خير عبدًا)، فلم يذكرها ابن عباس هنا، (إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله)، وجاء هنا التصريح (في نفسه) بدل (في صحبته) التي سبقت في حديث أبي سعيد، وذلك شرح لما سبق، (في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة) فعرفه، ورفع في نسبه، ذكر اسم أبيه لئلا يقع اللبس في هذا، (ولو كنت متخذًا خليلًا من الناس، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن خلة الإسلام أفضل)، هنا جاء في هذا اللفظ (ولكن خلة الإسلام أفضل)، وقد استشكل ذلك كثير من الشراح، فقالوا: قد نفى الخلة، وما هي إلا خلة الإسلام، فكيف يثبتها مرة أخرى؟ والجواب عن ذلك: أن المقصود بالخلة الثانية: هي الصحبة، فلا يقصد بها الخلة بمعنى تخلل القلب تمامًا، وليست أفضل من الخلة بالمعنى الأول، ولكنها أفضل لـأبي بكر مما قدم، فهي أفضل في مقابل ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، (سدوا عني كل خوخة)، ظاهر هذا الحديث أن في ذلك أمرًا بالسد مباشرةً دون تأخر؛ لأنه قال: عني، وهذا يدل على الفورية في الأمر، والحديث الأول لا يدل على الفورية؛ لأنه يدل على الوصية، ولم يرد أنهم سدوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سدوه بعد موته، وقد كانت دار العباس قريبة من المسجد، وكان لها ميزاب يصب في داخل المسجد، فرآه عمر يصب في داخل المسجد، فانتزعه بيده، كان عمر طويلًا، فقال العباس: (والله ما وضعه في هذا الموضع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده)، فبكى عمر، وجلس إلى العباس، وحلف أن يركب عليه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، العباس كبير ضخم، ولكن عمر حلف له أن يركب على كتفيه حتى يعيد الميزاب إلى مكانه.

    1.   

    شرح باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد

    ثم قال: باب: الأبواب والغلق للكعبة والمساجد:

    تجاوز المؤلف رحمه الله تعالى هنا بابين من الصحيح لم يذكرهما اختصارًا؛ لأن أكثر الأحاديث التي فيهما قد سبقت، وأيضًا في هذه الأبواب يحذف بعض الأحاديث؛ لأنه سيوردها بأتم في موضع آخر.

    قال: باب: الأبواب والغلق للمساجد.

    عقد هذا الباب لاستخدام الأبواب؛ أي: اتخاذها (للمساجد)؛ أي: لمشروعية ذلك، والغلق بالتحريك؛ أي: بفتح الغين واللام هو: ما يسد به الباب، ويمكن أن يقرأ بالإسكان؛ أي: (باب: الأبواب والغلْق للكعبة والمساجد)؛ لأن الحديث فيه ذكر غلق باب الكعبة عليهم حين دخلوها، وعطف (المساجد) على الكعبة للقياس؛ لأن الحديث ليس فيه باب إلا للكعبة، ولم يرد أن للمسجد أبوابًا إلا الممرات، ولم يكن لها غلَقٌ؛ أي: ما يغلقها، ولكن إذا اتخذ للكعبة غلَق، فمن باب أولى أن يتخذ للمساجد الأخرى؛ لأن باب الكعبة مرتفع، وقد يجاب عن ذلك بأن الكعبة لا يحتاج إلى فتحها دائمًا، فمن النادر الدخول فيها الصلاة بداخلها، بينما المساجد يحتاج إلى فتحها في كل الأوقات.

    1.   

    شرح حديث ابن عمر في فتح باب الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم

    فقال: عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة، فدعا عثمان بن طلحة، ففتح الباب، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة بن زيد، وعثمان بن طلحة، ثم أغلق الباب، فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا)، قال ابن عمر: (فبدرت فسألت بلالاً، فقال: صلى فيه، فقلت: في أيٍّ؟ قال: بين الأسطوانتين)، قال ابن عمر: (فذهب عليَّ أن أسأله: كم صلى؟)، هذا الحديث رواه ابن عمر عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيت، وذلك عندما فتح الله عليه مكة، فهذا هو الراجح، وقيل: قد كان ذلك في حجة الوداع، وسدانة الكعبة، ومفتاحها كانت لبني عبد الدار بوصية قصي جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فكانت لـطلحة بن أبي طلحة، وقد قتل يوم أحد كافرًا، فكان المفتاح بين ابنه عثمان وابن أخيه شيبة بن عثمان، فكانا يتناوبان على فتح الكعبة، وقد أسلم عثمان بعد صلح الحديبية، وجاء مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص إلى المدينة، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رمتكم مكة بأفلاذ كبدها)، وشيبة لم يسلم إلا يوم الفتح، وقد كان يكره النبي صلى الله عليه وسلم كراهة شديدة، فمر من حوله فدعاه، فقال: (ادن شيب)؛ أي: ادن يا شيبة، فضرب في صدره، فقال: (فوالله ما رفع يده عن صدري وعلى وجه الأرض أحد أحب إلي منه)، وأعطاه المفتاح بعد أن أخذه منه، وكانوا يظنون أنه سيأخذ المفتاح فيعطيه غيرهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما رأى جيش قريش سأل عن الراية: (لمن أعطوها؟ فقالوا: لبني عبد الدار، فقال: نحن أحق بالوفاء منهم، فانتزع الراية من علي- وكان أعطاه إياها- فأعطاها مصعب بن عمير، وهو من بني عبد الدار)، فكذلك رد إليهم المفتاح، وقال: (خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة، لا ينزعها منكم إلا ظالم)، والحديث يدل على بقاء مفتاح الكعبة وخدمتها في بني عبد الدار إلى يوم القيامة، ويدل على بقاء نسلهم وذريتهم؛ ولذلك فذرية شيبة إلى الآن هم الذين يقومون بهذه المهمة، وهم- ولله الحمد- ذوو عدد، فقال: (خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة، لا ينزعها منكم إلا ظالم).

    فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة، دعا عثمان بن طلحة، ففتح الباب، فقد يكون ذلك بالتناوب بينه وبين شيبة، تارة يكون المفتاح لهذا، وتارة يكون لهذا، فكان ذلك الوقت في نوبة عثمان، ففتح الباب؛ أي: باب الكعبة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة، وعثمان، وهذا الحديث يدل على أنه لم يدخل غير الأربعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال، وأسامة، فكانا معه، فكان بلال يقود به ناقته، وكان أسامة يظلله بثوب، كان يركب وراءه، وقد كان بلال وأسامة في خدمته، فهما يدخلان معه، وعثمان هو صاحب المفتاح، فكانوا أربعة، وقد ورد في الحديث: (خير الرفقاء أربعة)، والأربعة أكبر نصاب للإثبات، أكبر نصاب لإثبات أي شيء في الشرع هو الأربعة؛ ولذلك يثبت بهم الزنا، ولا يثبت بأقل من هذا العدد من الشهود؛ فلذلك لم ينقص العدد عن هذا القدر، ولم يزد عليه، فأدخل أربعة، ثم بعد ذلك قال: (ثم أغلق الباب، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسبب إغلاقه أحد أمرين:

    الأمر الأول: لئلا يزدحم الناس عليه في داخل الكعبة فإنها فرصة، وإذا دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أن الناس سيزدحمون لدخولها، والكعبة ليس فيها نافذة، فإذا كثر فيها الناس نقص فيها الأكسجين، وحصل الاختناق.

    وأيضًا السبب الثاني هو: قصد هيبة الكعبة وبقاء مكانتها، فلو ترك المجال لدخول الناس لها دائمًا لنقصت هيبتها ومكانتها، وهي مشرفة؛ ولذلك كان ابن عمر إذا دخل المسجد فرأى الكعبة، قال: (اللهم، زد هذا البيت تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا، اللهم، زد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا ومهابةً وبرًّا) فلا بد من تعظيمه؛ لأنه من حرمات الله: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ[الحج:30]، فتعظيم الكعبة لا بد منه، وبقاء هيبتها في النفوس؛ ولذلك فإن هارون الرشيد أراد أن يهدم ما بناه الحجاج منها، فيردها على بناء عبد الله بن الزبير، وهو على قواعد إبراهيم، فنهاه مالك عن هذا، وقال: (اتق الله في هذه البنية المعظمة، لا تجعلها لعبة لأولاد الملوك، كلما ولي ملك أراد أن يجعل لنفسه ذكرًا فيهدم الكعبة)، فمنعه مالك من هدمها؛ لأنه لو فعل، وجاء معارض له فتولى فإنه سيغير أيضًا، وهكذا كل ملك يريد الذكر يهدمها، وبالتالي تزول مكانتها وهيبتها؛ فلذلك نهاه مالك، وزجره عن هذا، فإذًا أغلق الباب لهذين الأمرين: الأمر الأول: خشية الزحام، والأمر الثاني: لهيبة الكعبة واحترامها.

    وذكر الحافظ ابن حجر أيضًا وجهًا ثالثًا، وهو: قصد الخشوع، فإن الظلام وعدم سماع الأصوات وحركة الناس مما يعين على الخشوع في الصلاة.

    وذكر ابن بطال وجهًا رابعًا لإغلاقها، وهو: ليصلي في كل اتجاه؛ ليجوز أن يصلي في كل اتجاه؛ لأنه إذا كان الباب مفتوحًا لا يجوز أن يصلي إلا جهته، فإذا أغلق جاز أن يصلي إلى كل جهة منها، فهي قبلة جميعًا، والكعبة يجوز أن يصلى بداخلها النفل، ولا يجوز أن يصلى بداخلها الفرض، ويجوز أن يصلى فوقها كذلك على ظهرها النفل، ولا يجوز أن يصلى فوقها الفرض، لكن إذا كان الإنسان حولها- ولو كان أرفع منها- فيجوز أن يصلي إليها؛ كالذي فوق الجبل، أو الذي في أرض بعيدة، قد تكون قبلته لو ذهب على مستوى الموجات، فكان فوق الكعبة أو أسفل منها، فكل ذلك جائز، فإن هواء البيت إلى البيت المعمور قبلة.

    (فلبث فيه ساعة)؛ أي: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيه)؛ أي: في البيت، ولم يرد ذكره من قبل، فهذا من عود الضمير على غير مذكور، ولكنه لما ذكر الباب دل ذلك على البيت، ونظير هذا قول الله تعالى: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا[العاديات:1-4]، (أثرن به)؛ أي: بالمكان المفهوم من العاديات؛ لأنها لا تعدو إلا في مكان، ولم يرد ذكر المكان، فأعيد الضمير عليه، وكذلك هنا لم يرد ذكر البيت في الحديث، ولكن ورد ذكر الباب، والباب لا يقعد فيه لا يمكث فيه ساعة، فالمقصود: البيت، المفهوم الذي يدل عليه الباب، وهذا نوع من الدلالة عند الأصوليين يسمى دلالة اللازم على الملزوم، فاللازم هو وجود البيت، لازم على وجود الباب، والملزوم هو الباب، فدلالته عليه دلالة معتبرة شرعًا.

    (فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا)؛ أي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة، قال ابن عمر: (فبدرت)؛ أي: بادرت، وبدر الكلام من فلان؛ أي: صدر منه دون روية كما يقال: بدرت يمين من فلان؛ أي: صدرت منه دون تفكر، وكذلك ابن عمر هنا جاء من غير روية، فسأل بلالاً مباشرة، ومن ذلك قول الشاعر:

    قليل الألايا حافظ ليمينه وإن بدرت منه الألية برت

    (وإن بدرت منه الألية)؛ أي: صدرت فجأة، (منه الألية)؛ أي: القسم، اليمين (برت).

    (فبدرت فسألت بلالاً)، فقال: صلى فيه، معناه: سألته: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل البيت؟ وحذف السؤال؛ لأن الجواب يدل عليه، وهو قوله: (فقال: صلى فيه)؛ أي: أثبت له أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة، (فقلت: في أي؟)؛ أي: في أي مكان صلى من البيت؟ فأراه بلال مكان صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الكعبة إذ ذاك يقوم سقفها على ستة أعمدة، فترك أربعة أعمدة عن يمينه وعمودين شماله، وصلى جهة الباب المغلق، وجعل الباب المفتوحَ الآن قِبل ظهره، والكعبة قديمًا لها بابان: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون، كما في حديث عائشة، والباب المغلق إذا كشف لباس الكعبة عنها رأيتموه حول الركن اليماني، فهو باق على ما كان عليه في عهد ابن الزبير في تصميمه، وهو باب يقابل الباب الآخر الباب المغلق، وهو الذي صلى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: استقبله لما صلى في داخل الكعبة، فجعل أربعة أعمدة عن يمينه واثنين عن شماله، وصلى جهة الباب المغلق، وقد كان ابن عمر إذا دخل الكعبة يلزم الصلاة في هذا المكان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه، وكان يصلي فيه مرة، فجاء رجل فألصق منكبه بمنكب ابن عمر، وما زال يزحمه حتى أخرجه من هذا المكان، قال: فلما سلم نظر، فإذا هو عبد الله بن الزبير، وذلك من حرص الصحابة على المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وسيأتينا قريبًا حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وأنه كان يتحرى العمود أو الأسطوانة التي عندها المصحف في المسجد النبوي، وهذه الأسطوانة هي التي تسمى الآن بأسطوانة عائشة، مكتوب عليها "أسطوانة عائشة"، هذه كان عندها المصحف في عهد الخلفاء، والمصحف المقصود به: الأوراق التي جمع فيها أبو بكر القرآن، ولا يقصد به المصحف الذي جمع عثمان، وجمع عليه كل المصاحف، فالأوراق التي جمع فيها أبو بكر القرآن كانت موضوعة عند هذه الأسطوانة، فكان سلمة يتحرى الصلاة عندها، فسئل عن ذلك، فذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها، وعائشة رضي الله عنه ذكرت لعدد من الصحابة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاة الظهر، ذهب إلى أسطوانة في المسجد، فصلى عندها ركعتين، فسألوها أن تدلهم عليها، فصرفت الكلام إلى وجه آخر، فلما خرجوا بقي عندها ابن أختها عبد الله بن الزبير، فقال لهم ابن عباس: (عليكم أبا خبيب، فإنه لن يخرج) كان ملحاحًا، (لن يخرج حتى تخبره بمكان الأسطوانة، فإذا رأيتموه صلى إلى أسطوانة فاعلموا أنها هي)، فجلس ابن الزبير ساعة عند خالته عائشة، فدلته على الأسطوانة، فخرج إليها، فصلى عندها، فجاء الصحابة يصلون عندها، وهي هذه التي رآها أيضًا سلمة بن الأكوع، رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها؛ أي: يتعمد ذلك ويقصده، فكل مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل شيء مس جسده الشريف ففيه بركة، وقد كان أصحابه يحرصون على التبرك به صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن ينالهم أي شيء مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم، أو جسده الشريف؛ ولذلك فإن ابن عمر رضي الله عنهما كان يحرص على الصلاة بالأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتينا قريبًا الحديث الطويل الذي فيه طريق الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة، كل منزل صلى فيه يذكره ابن عمر يذكره نافع، وأن ابن عمر كان يحرص على الصلاة فيه، سيسمي لنا المواضع جميعًا في الطريق في حديث قريب إن شاء الله هنا في هذا الكتاب.

    والرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج، لم يخبر الناس أنه صلى، ولم يأمرهم بالصلاة في داخل الكعبة، فدل ذلك على أن الصلاة فيه ليست بسنة مؤكدة، وإنما هي مندوبة، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا[آل عمران:97] في ذكر البيت الحرام وتشريف الله له، فقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ[آل عمران:96]، ومعنى هذا: أن حضارة البشرية في البنيان بدأت من البيت الحرام، فهو أول بيت وضع للناس، إما على وجه الإطلاق، وإما على وجه العبادة بالخصوص، فإما أن يكون التفسير: أول بيت وضع للناس: أول بيت بني على وجه الأرض، قد بنته الملائكة لآدم، أو أن يكون المعنى: أول بيت وضع للناس؛ أي: للعبادة، فهو أول مسجد على وجه الأرض، وقد تجدد بناؤه بعد ذلك، فبنته الملائكة أولًا لآدم، ثم لما جاء الطوفان ترك مكانه كالربوة المرتفعة، فلما أمر إبراهيم ببنائه، بوأ الله له مكانه: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ[الحج:26]، واختُلف في ذلك التبويء، فقيل: كان بغمامة على قدره، وقيل: بل أنزلت مطرًا على قدر الكعبة فقط، وقيل: جاءت خجوج؛ أي: رياح مستديرة، وهي كنست في تلك الربوة حتى أظهرت الحجارة لإبراهيم، فالمهم أن الله بوأ لإبراهيم مكان البيت، وبناه إبراهيم عليه السلام، وكان يبنيه على تلك القواعد التي هي من بناء الملائكة، وهي حجارة بيض كأسنمة الإبل متداخلة، وهي باقية إلى الآن، فبنى إبراهيم فوقها، ولم يهدم منها شيئًا، وكان كلما وضع صفًا من الحجارة نزل فنظر ليرى الاعتدال والسمت، والكعبة ليست أضلاعها متساوية، فأطول أضلاعها ما بين الركن اليماني إلى الركن الشامي، وهو ثمانية عشر ذراعًا، وأقصر أضلاعها ما كان داخل الحِجر، فهو أقصر أضلاعها، وهو ناقص عن الآخر بذراع وثلثي ذراع؛ فلذلك ما فيها ضلعان متساويان أبدًا في بناء الكعبة، وطولها إلى الأعلى ثمانية عشر ذراعًا، وكان إبراهيم يقف على الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وكلما طال البناء ارتفع به، فلما توقف الحجر عن الارتفاع به، علم أن الله لم يأذن في رفع الكعبة أكثر من ذلك، فتوقف عن البناء، والراجح أن إبراهيم لم يجعل للكعبة سقفًا، بل أنهى بناءها عند القدر الذي انتهى عنده طول المقام، ولم يجعل لها سقفًا، ولكن جعل لها بابين.

    قال ابن عمر: (فذهب علي أن أسأله: كم صلى)، (ذهب علي)؛ أي: لم يقع في خاطري أن أسأله؛ أي: أن أسأل بلالاً: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن أقل ذلك على الراجح ركعتان؛ لأن هذا أقل النفل؛ لما في حديث ابن عمر: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فأقل ذلك ركعتان، هذا عند الجمهور، أن النافلة لا تكون بأقل من ركعتين إلا الوتر، وذهب الشافعي إلى جواز التنفل بركعة واحدة، وعمومًا فأقل ما يمكن أن يتنفل به متحقق بثبوت أنه صلى، وما زاد على ذلك مشكوك فيه، فالجمهور يرون أنه على الأقل صلى ركعتين، ويمكن أن يكون صلى أربعًا أو أكثر، لكن أقل ما يمكن أن يكون صلى ركعتان، وعند الشافعية يمكن أن يكون تنفل بركعة واحدة؛ لجواز ذلك في مذهبهم.

    وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الطواف والسعي في الدور الثاني

    السؤال: هذا يقول: هل الطواف في الدور الثاني أو السطح والسعي جائز أم لا؟

    الجواب: أن الطواف -كما ذكرنا- يقول الله فيه: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، ولا بد أن تكون الكعبة فيه أعلى من الإنسان، ولا أرى الطواف في ما هو أرفع من الكعبة، أو بين الإنسان وبينها فيه بناء، والسعي يجوز في الدور الأعلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سعى على ناقته، وهو يقف مرتفعًا على الصفا، ومرتفعًا على المروة، فدل هذا على أن الارتفاع فوق الصفا، وفوق المروة لا حرج فيه.

    وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952408