بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنا في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في سلام النبي صلى الله عليه وسلم من ركعتين من إحدى صلاتي العشي، ووصلنا فيه إلى قول ذي اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟) وذكرنا أن الناس صاروا ثلاثة أقسام: قسم سلموا ولم يتكلموا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا منهم أبا بكر وعمر ومن معهما، وقسم سلموا وخرجوا من المسجد أصلًا، (خرج سرعان الناس)، وقسم تكلموا ومنهم ذو اليدين، وقد رأى بعض أهل العلم أن أبا بكر وعمر ومن معهما لم يسلموا أصلًا، وإنما بقوا على هيئتهم ينتظرون رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاته، ولكن من المستشكل أن يقع ذلك وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم من مصلاه، وخرج إلى الخشبة وجلس عندها.
وذو اليدين هو: الخرباق السلمي، من بني سليم، وكان يلقب ذا اليدين لطولهما، فقال: ( يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس، ولم تقصر )، وهذا مخالف للواقع، لكنه غير مخالف للاعتقاد، فلا يكون كذبًا، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب، فلا يمكن أن يقع منه كذب، وهذا الأمر- وهو نفيه لحصول أحد الأمرين- مناف للواقع، فقد نسي، وسلم من اثنتين، لكنه غير مخالف للاعتقاد، والكذب هو ما خالف الواقع والاعتقاد معًا؛ كأن الإنسان يعتقد شيئًا وهو الواقع فحدث بخلافه، فهو كاذب قطعًا، أما إذا كان الكلام يخالف الاعتقاد، ولكنه يوافق الواقع، فهو أيضًا صنف من الكذب؛ لأن الله كذب المنافقين حين قالوا: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ [المنافقون:1]، فهذا موافق للواقع لكنه مخالف لاعتقادهم؛ فهم بذلك كاذبون وإن وافقوا الواقع.
فإذًا الصور ثلاث: أن يخالف الكلام الواقع واعتقاد المتكلم معًا، فهذا الكذب الذي لا غبار عليه.
والصورة الثانية: أن يخالف الاعتقاد ويوافق الواقع، كذب أيضًا؛ لأن الله كذب المنافقين قال: وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
والصورة الثالثة: أن يطابق الاعتقاد ويخالف الواقع، فليست بكذب كما هنا.
أما موافقته للاعتقاد والواقع معًا فهي الصدق، ويدخل في ذلك أيضًا هذه الصورة الثالثة وهي موافقته للاعتقاد، ولو كان مخالفًا للواقع.
وهنا يأتي الكلام فيما يتعلق بعصمة الأنبياء، فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم عصمهم الله تعالى من الخطأ في التبليغ عنه مطلقًا، فلا يمكن أن يبلغوا عنه خلاف الواقع الذي أرسلوا به، فمن فعل ذلك منهم فهو مهدد بتهديد عظيم، فقد قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]، فإذًا لا يمكن أن يقع منهم خطأ في التبليغ، لكن يمكن أن يلقي الشيطان على مسامع الناس في وقت قراءتهم ما لم يقرءوه، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52]، والتمني معناه: القراءة، قالوا: تمنى في الكلام بمعنى: قرأ، و(الأمنية) بالتشديد والتخفيف: القراءة، و(الأماني) كذلك بالتشديد والتخفيف معناها: القراءة، وقراءة جمهور القراء: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، بالتشديد وقراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المدني: (في أمنيَته) بالتخفيف، هو وحده انفرد من بين العشرة بتخفيف (أمنيَته)، كذلك إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، قراءة الجمهور بالتشديد، وقراءة أبي جعفر وحده بالتخفيف (إلا أمانَي)؛ وذلك أن الأمنية جاءت بالتشديد والتخفيف معًا، فكذلك جمعها، وهي بمعنى: القراءة.
وهم كذلك معصومون من الذنوب والكبائر، فلا يمكن أن يقعوا في محرم، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، وكذلك المكروهات إلا للتشريع إلا ما وقعوا فيه من أجل التشريع، فإنهم قد يفعلون بعض الأفعال التي هي تخفيف على الناس؛ كما في ترك غسل الوجه الغسلتين الأخريين في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد توضأ مرة مرة، وهذا هنا في الأصل خلاف الأولى، لكن لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان فعله له تشريعًا؛ فهو الأفضل في حقه؛ لأنه حينئذ واجب عليه؛ لأنه يجب عليه تبليغ الشرع، ومن الشرع كل ما يجزئ، فهو داخل فيه؛ فلذلك توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، كل ذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
وهم كذلك معصومون من الإقرار على الخطأ في اجتهاداتهم، فالاجتهادات حتى في الأمور الأخرى في غير الشرع يجتهدون وقد يخطئون في الاجتهاد، لكن لا يقرون على الخطأ، لا بد أن ينبهوا عليه؛ كاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى بدر، وكاجتهاده في قضية ابن أم مكتوم، وكاجتهاده في قضية زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما، فكل هذه الاجتهادات جاء عن الله سبحانه وتعالى تنبيهه على الأصوب والأولى، وكاجتهاده أيضًا في قضية المعذرين من الأعراب الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، كل ذلك تجدون التنبيه عليه في القرآن؛ قد قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، وقال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وقال تعالى: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة:43]، وقال تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، فكل هذا تنبيه على الخطأ الاجتهادي الذي هو مأجور عليه قطعًا، الخطأ الاجتهادي يؤجر عليه المجتهد، حتى من ليس نبيًا، إذا اجتهد فأصاب له أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم )، في قضية التأبير- تأبير النخل- فقد نهاهم عنه، أو بين أنه لا يغير شيئًا، ( فلم تأت الثمرة على ما كانت تأتي عليه، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم )، ومن هنا نبه النبي صلى الله عليه وسلم بالواقع لا بالوحي على هذه المسألة، فجاءت على خلاف اجتهاده، فقال: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ).
وتأتي مسألة أخرى وهي عصمة الأنبياء قبل بعثتهم أو قبل نزول الوحي إليهم، فهل هي مثل عصمتهم بعد نزول الوحي أم لا؟ هذا محل خلاف بين أهل العلم، وكثير منهم يرون عصمتهم مطلقًا؛ لأن الله هيأهم لذلك واختارهم له قبل ميلادهم؛ ولذلك هيئت لهم مسائل الاختيار من قبل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان اختياره سابقًا عليه كما ثبت في صحيح مسلم: ( إن الله اصطفى من ذرية آدم إبراهيم، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ذرية إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسنى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، ويدل على ذلك الإرهاصات التي تأتي قبل مبعثهم؛ فصرف الفيل عن مكة، وما حصل عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم من تصدع إيوان كسرى، وسقوط شرفاته الأربع عشرة ورؤيا الموبذان، وخمود نار فارس؛ وكذلك رجوم الشياطين، كل ذلك كان إرهاصًا عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن معجزة؛ لأن المعجزة لا تكون إلا عند التحدي في وقت دعوى الرسالة، ومثل ذلك ميلاد عيسى من غير أب، وتكلمه في المهد، وما نالته مريم من الكرامات العجيبة؛ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، فكانت تأتيها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكل ذلك كان إكرامًا من الله سبحانه وتعالى لـمريم ولابنها عيسى عليه السلام.
وكذلك ما خص الله به أم موسى عليه السلام، فقد ألهمها إذا خافت عليه أن تجعله في التابوت، وأن ترميه في البحر، وكانت تثبت بتثبيت من عند الله تعالى: وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ [القصص:7]، واختلف هل كان ذلك وحيًا إليها كالوحي إلى الأنبياء، أو كان كما هو ظاهر النصوص، ظاهر آيات القصص: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ [القصص:7]، هذا ظاهره أنه وحي أوحي إليها، وهذا قال به طائفة من أهل العلم، وقالت طائفة أخرى: بل المقصود أن ذلك كان في رؤيا المنام، فقد سميت وحيًا في القرآن لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51]، (وحيًا) هنا بمعنى رؤيا المنام، وهي نوع من أنواع الوحي إذًا رؤى الأنبياء وحي، ( منامات الأنبياء وحي )، كما في الحديث الصحيح.
وعمومًا قد اختلف في اشتراط الذكورة في الموحى إليه؛ أي: في الأنبياء مطلقًا، وبعض أهل العلم يرى أن مريم وحواء وأم موسى أوحي إليهن، وأنهن داخلات في عداد الأنبياء، وكذلك اختلف في عدد من الرجال في دخولهم في هذا كـالخضر ولقمان وذي القرنين، هل هم أنبياء أو لا، وهذا خلاف بين أهل السنة، وهو معروف في كتب العقائد، وقد نظمه السيوطي رحمه الله، فقال:
واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول
لقمان ذي القرنين حوا مريم والوقف في الجميع رأي المعظم
معظم الناس يتوقفون فيهم؛ لأن الآيات ظاهرها الوحي والخطاب، كما كان الخطاب إلى مريم عليها السلام، وقد جاءها روح القدس، تمثل لها بشرًا سويًّا، وأمرت بأوامر: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25].
والنبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه كما ذكره مالك في الموطأ بلاغًا، ولم يسنده أبو عمر، فـأبو عمر بن عبد البر تتبع بلاغات الموطأ؛ أي: الأحاديث التي يقول فيها مالك: إنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذف مالك الإسناد فيها تتبعها أبو عمر فوصلها جميعًا، وهي مائتان وستة وعشرون تقريبًا، فلم يترك منها أي بلاغ إلا وصله، إلا أربعة، أحد هذه البلاغات الأربعة التي لم يجد لها أبو عمر إسنادًا هو: ( إني لأَنسى أو لأُنسى لأسن )، (إني لأَنسى) وهذا النسيان ليس من عنده؛ فلذلك قال: (لأُنسى)؛ أي: ينسيه الله سبحانه وتعالى ما شاء، (لأسن)؛ أي: لأبين الحكم، فيكون سبب بيان الحكم هو حصول النسيان، كما حصل في هذا الحديث، وفي عدد من الأحاديث التي فيها سهو في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر البال فيها، فهو في حال نومه لا ينام قلبه، ( إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي )، فإذًا ما يحصل له من السهو في الصلاة وغيرها إنما هو تشريع، وفيه حكمة ومصلحة لنا نحن وفائدة عظيمة، والبلاغات الأربع هذه وصلها ابن الصلاح في رسالة مستقلة تسمى: وصل البلاغات الأربع التي أهملها أبو عمر، ووصلها لا يقتضي صحتها، فإنه وجدها من طرق وإن كانت تلك الطرق في بعضها ضعفاء، ولا يقدح ذلك في صحة كل ما في الموطأ، فقد صحت هذه البلاغات عند مالك، ولولا ذلك لما أتى بها في الموطأ، وقد حذف منه الكثير، فقد مكث أربعين سنة وهو ينقص منه، وقيل له: الناس يزيدون في كتبهم وأنت تنقص من كتابك؟ قال: ما كان لله فسيبقى، ولم يصل إلينا اليوم من كتب السلف أقدم من الموطأ، فهو أقدم كتاب لدى المسلمين اليوم، كل الكتب المؤلفة في عصره ما وصل إلينا منها شيء، والكتاب الذي ينسب إلى أبي حنيفة وهو "الفقه الأكبر" لم تصح نسبته إليه.
البلاغات وصلها ابن عبد البر إلا أربعًا، فقد وصلها ابن الصلاح، وصلها في التمهيد.
وهذه الجمل التي فيها محاورة كانت في الصلاة، وأهل العلم رأوا أنه لا يزاد في الكلام على الصلاة عن قدر الحاجة، واختلفوا في قدر ذلك، فذهب بعضهم إلى أن أقصى ذلك خمس جمل؛ لأن ذا اليدين قال: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: (
نعم )، فكان الحوار من خمس جمل، فما زاد عليها لا يشرع؛ لأن الأصل عدم الكلام في الصلاة، ودليل ذلك قول الله تعالى: وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فالقنوت هنا في هذه الآية بمعنى: السكوت، وقد كانوا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية، كما في حديث الأعرابي: ( الذي أتى فعطس وهو في الصلاة فحمد الله، فلم يشمته أحد، فقال: ما لكم لا تشمتونني؟ فضربوا أفخاذهم، فقال: وا ثكل أمياه! ما لكم تصمتونني؟! فلما سلم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فوضع يده على منكبي، فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن، فوالله ما رأيت قبله ولا بعده معلمًا أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني )، ما ضربني ولا كهرني معناه: ما عنفني، فهذا التعليم الصحيح.
وكون هذه الجمل حصلت هكذا خمسًا لا يقتضي الحصر، فليس هذا من أساليب الحصر، وهذا نظير ما أخذ منه بعض الفقهاء أن الجمعة لا تصح إلا باثني عشر باقين مع الإمام لسلامها أخذًا من حديث العير، فإن اثني عشر هم الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العير حين كان الناس في جهد شديد، فجاءت العير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب، فتسلل الناس إلى العير من شدة الجوع، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا، فأنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:9-11]، فأخذ كثير من الفقهاء من بقاء اثني عشر معه أن هذا أقل ما تصح به الجمعة، باقين لسلامها، فإذا كان الإمام يصلي ومعه اثنا عشر رجلًا، فأحدث واحدٌ منهم أو تذكر حدثًا أو رعف فخرج فإنه تبطل صلاتهم جميعًا حينئذ.
وهذا الوجه في الاستدلال غريب، فإنه لم يكن مقصودًا أصلًا، لم يكن مقصودًا أن يبقى معه اثنا عشر، بل هذا الذي قدره الله سبحانه وتعالى، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء، ولم ينه غيرهم عن الانصراف، فدل ذلك على أن هذا لم يكن مقصودًا؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم )، قال الإمام عبد الحق الإشبيلي: (هذا عام في الجمعة وفي غيرها، لا مخصص له من الشرع)، وهذا مذهب الحنفية: أن الجمعة تصح بثلاثة، بإمام ومستمعين يستمعان خطبته، وذهب الزهري إلى أنها تصح باثنين فقط إمام ومأموم كغيرها من الصلوات، قال: (ما الجمعة إلا صلاة من الصلوات، فتصح بإمام ومأموم).
قال: ( لم أنس ولم تقصر، قال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك )، فتقدم؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود بالتقدم الرجوع إلى مصلاه، ولم يكن تقدمًا بمعنى التجاوز؛ لأنه كان مناظرًا له، فهو كان أمام الصف عند الخشبة المعروضة، فتقدم فصلى ما ترك؛ أي: صلى بقية صلاته، وذلك أنه ترك ركعتين، (ثم سلم)؛ أي: بعد أن أكمل صلاته سلم بعد التشهد، (ثم كبر)؛ أي: في جلوسه، (وسجد مثل سجوده أو أطول)؛ أي: مثل سجوده في الصلاة أو أطول، (ثم رفع رأسه وكبر)؛ أي: جلس بين السجدتين، (ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول)؛ أي: السجود الثاني، قريب من الأول أيضًا، (ثم رفع رأسه وكبر)؛ أي: جلس، (فربما سألوه)؛ أي: ربما سأل أصحاب ابن سيرين ابن سيرين، فيقولون له: ثم سلم؟ أي: يسألونه هل روى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم بعد سجدتي السهو؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: (ثم سلم)، فمعنى هذا أن ابن سيرين لم يرو عن أبي هريرة السلام من سجدتي السهو، وأنه أيضًا لم يسمع ذلك من عمران بن الحصين رضي الله عنهما.
وقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي أن ابن سيرين حدث بهذه الزيادة، وهي بالسلام، عن عمران بن حصين بثلاث وسائط: حدث بذلك عن خالد الحذاء، قال: حدثنا أبو قلابة، عن عمه أبي المهلب، عن عمران بن حصين، فـخالد الحذاء أصغر من محمد بن سيرين بكثير جدًّا، فهذا من تحديث الأكابر عن الأصاغر، وخالد الحذاء يحدث عن أبي قلابة، وهو من أواسط التابعين، وهو يحدث عن عمه أبي المهلب، وهو من كبار التابعين وهو يحدث عن عمران بن الحصين، وهذا الإسناد اجتمع فيه أربعة من التابعين في إسناد واحد، وهذا من النوادر جدًّا ومن النكات لدى أهل الحديث، محمد بن سيرين من كبار التابعين، وخالد الحذاء من صغار التابعين، وأبو قلابة من أواسطهم، وأبو المهلب من كبارهم، والغريب أن الكبيرين كانا في أول الإسناد وآخره، وبينهما الصغير والأوسط، إذا قلت: إن الكبار مقصود بهم عدد قليل جدًّا، الذين رووا عن الخلفاء الأربعة فمحمد من الأواسط، لكن جمهور أهل العلم يعممون، فيرون أن الكبار هم الذين أدركوا علي بن أبي طالب، أو أدركوا أي واحد من الخلفاء الراشدين، بعض الناس يخصص ذلك، فيقول: الكبار هم الذين حدثوا عن العشرة، أو عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وهذا نادر جدًّا، لم يحدث عن العشرة جميعًا إلا واحد، وهو قيس بن أبي حازم وحده، ولا تعرف هذه المزية لمن سواه، وقد اختلف أيضًا في روايته هل هي موصلة أو لا، والذين حدثوا عن الخلفاء الأربعة الراشدين كـطارق بن شهاب وزر بن حبيش وغيرهما، فهؤلاء.. لهم عدد لكنه ليس بالكبير.
وطارق بن شهاب كان رجلًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يسلم إلا بعد موته.
والحديث يدل على كثير من الأحكام، ووجه الاستدلال منه هنا في هذه الترجمة جواز تشبيك الأصابع في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ويدل كذلك على مشروعية خروج الإمام عن مصلاه إذا سلم، فالإمام ينبغي أن ينفتل من مصلاه إذا سلم، فإذا سلم وبقي جالسًا على هيئة الصلاة مستقبل القبلة فإن بعض الناس يأتون ويظنون أنه ما زال في الصلاة، فيحرمون بنية الاقتداء به ويجلسون، ويكون هذا غرورًا لهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم انفتل، تارة ينفتل عن يمينه، وتارة ينفتل عن شماله، ويستقبل الناس بوجهه، وكذلك أبو بكر وعمر كانا إذا سلما قاما كأنما يجلسان على الملة، فيقومان بسرعة عن مكانهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا انصرف بعد السلام بسرعة، فذهب إلى تلك الخشبة.
وفي الحديث أيضًا جواز الاتكاء والاستناد في المسجد، ولو كان ذلك على متكأ كالخشبة، مع أن المسجد لا ينبغي اتخاذ الوساد فيه، فلا ينبغي للإنسان أن يتخذ وسادة في المسجد لما في ذلك من الرفاهية التي لم يوضع لها، وكذلك التروح بالمروحة أن يأخذ شيئًا يتروح به بيده هكذا لأن في هذا عبثًا، وهو كثرة تحريك اليد، فلا ينبغي مثل ذلك في المسجد.
كذلك يدل الحديث على جواز السهو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس من نقص الإيمان، ولا من نقص الإدراك، وهنا تفصيل بين السهو في الصلاة، والسهو عن الصلاة، فالسهو في الصلاة هو: الغفلة عن المعلوم بحيث يرجع إليه الإنسان بأدنى تنبيه، هذا الفرق أيضًا بين السهو والنسيان، فالنسيان: هو الغفلة عن المعلوم بحيث لا يرجع إليه إلا باستئناف تحصيله، يحصله من جديد، والسهو هو: الغفلة عن المعلوم بحيث يرجع إليه بأدنى تنبيه، فأنت الآن في هذا الوقت لا تتذكر أنك تحفظ الفاتحة، لكن بمجرد التنبيه تذكرها، فهذا ليس نسيانًا لم تنس الفاتحة في هذا الوقت، ولكن سهوت عنها، فالسهو عن الشيء بمعنى: إغفاله والغفلة عنه وهو مذموم عن الصلاة، وأما السهو في الصلاة فليس مذمومًا، فقد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه هذا الحديث والأحاديث الأخرى؛ ولذلك قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ولم يقل: في صلاتهم ساهون، السهو عن الصلاة بمعنى تأخيرها عن أوقاتها، وهذا المذموم؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله )، وفي رواية: ( كأنما وتر أهلُه ومالُه )، معناه: كأنما انتزعوا منه وهو ينظر، وهذا أبلغ شيء في شدة ذلك على النفس.
كذلك يدل الحديث على فضل أبي بكر وعمر وفقههما، فقد خص ذكرهما هنا من بين كبار الصحابة بذلك، وهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة لفقههما وفضلهما، ويدل على ذلك كثير من الأحاديث، ففي حديث ابن عباس في صحيح البخاري: (أنه كان من الذين يحملون جنازة عمر، فجاء رجل فجعل رأسه من فوق منكبي فنظر، فقال: رحمك الله، لطالما كنا نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خرجت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، قال: فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، فـعلي رضي الله عنه كان كثيرًا ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يعطف أبا بكر وعمر على نفسه؛ فلذلك لما دفن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الحجرة النبوية، تذكر علي وجه كون النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا يعطف: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر)، و(أتيت أنا وأبو بكر وعمر)، فتذكر هذه المزية لـعمر رضي الله عنه، وكذلك ثبت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن بقرة تكلمت، قالوا: سبحان الله! بقرة تكلمت! قال: لكني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر )، ولم يكن أبو بكر وعمر في المجلس، كان شهادة لهما بالإيمان بكل ما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يسمعاه.
كذلك يدل هذا على أن السرعان من الناس وأهل الخفة منهم يعذرون، وأنهم إذا عرض لهم فهم أو تأويل فإنه لا يتسرع عليهم كما تسرعوا هم، فالسرعان من الناس خرجوا من المسجد وتكلموا، وقالوا: قصرت الصلاة، وأخبروا بأمر لم يسمعوه، ولم يتثبتوا منه، لكنهم عذروا بذلك، وهنا خلاف فيما يتعلق بمن سها، فسلم قبل أن تكمل صلاته، فإنه إذا تذكر وهو في المسجد أو في مصلاه فإنه يتمها قطعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل، لكن إذا كان قد خرج من المسجد، فتذكر، فهل يبني على ما مضى أو يستأنف؟ مذهب الجمهور أنه يستأنف؛ لأنه لم يرد في هذا الحديث ماذا فعل سرعان الناس بعد أن خرجوا، والظاهر من الصلاة المواثبة؛ أي: أنها تكون على فور واحد، فمن خرج من المسجد، وتكلم خارج المسجد لغير عذر فإنه لا يستطيع البناء، ومحل هذا عند عدم العذر، فمن كان معذورًا كالراعف إذا خرج للبناء ليغسل الدم عن أنفه، بأن خاف تلوث المسجد، وفتله في أنامل يسراه حتى امتلأت، أو زاد ما فيها عن درهم مثلًا، وخرج لغسله ولم يستدبر قبلة، ولم يطأ نجسًا، ولم يتكلم ولو سهوًا، ولم يتجاوز أقرب مكان، ممكن وكان المكان الذي غسل فيه قريبًا، وهذه كلها شروط لا بد من تحققها، فإنه يبني على ما مضى، كما كان ابن عمر يفعل، وعند الحنفية يبني الإنسان على كل حدث أيًا كان، ومذهب الجمهور أن البناء مختص بالرعاف فقط؛ لأنه الذي ورد فيه.
كلها حصلت منه فعرف ذلك؛ لأن الأصل ألا يتجاوز في الرخص مكانها، فالرخص لا يتعدى فيها محلها، ولا يقاس عليها، فالرخصة والكفارة والمقدر أيًا كان من الخارج عن سنن القياس، لا يقاس عليها غيرها، الحدود والكفارات والرخص والمقدرات لا يقاس عليها، وهي الخارجة عن سنن القياس.
كذلك يدل الحديث على جواز السهو على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، وأن السهو لا ينقص أجر الصلاة، بل قد ورد أن الصلاة بالترقيع أفضل من غيرها، والترقيع معناه: ما كان فيها من سجود السهو؛ لأن سجود السهو ترغيم لأنف الشيطان، ويدل على مشروعية سجود السهو في الصلاة، ويدل أيضًا على نوع من نوعيه، وسجود السهو ينقسم إلى قسمين: إلى قبلي، وبعدي، والقبلي: ما كان قبل السلام، والبعدي: ما كان بعد السلام، وكل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه في هذا الحديث أنه سجد بعد السلام، وثبت عنه في أحاديث أخرى أنه سجد قبل السلام، واختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال هي المذاهب، فذهب أبو حنيفة إلى أن السجود كله بعدي؛ لأنه جبر، ومن شأن الجبر الانفصال، واعتمدوا على هذا الحديث، وقالوا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جبر الصلاة بالنوافل؛ أي: جبر الفرض بالنوافل، فالجبر يكون منفصلًا، فنوافل الإنسان تتمم له كل نقص من فرضه، وذهب الشافعي إلى أن الأصل في السجود أن يكون كله قبليًا؛ لأنه ليس صلاة مستقلة؛ فلذلك هو مكمل للصلاة، ومنها فيكون قبل سلامها؛ لأن السلام هو التحليل والخروج منها، وكلاهما حمل المواضع التي سجد فيها على السهو، أبو حنيفة حمل المواضع التي سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام على السهو، والشافعي حمل المواضع التي سجد فيها بعد السلام على السهو؛ أي: أنه سها، فسلم قبل أن يسجد، ثم سجد فسلم، وذهب أحمد بن حنبل إلى أن سجود السهو يتبع فيه الأثر، فما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيه من المواضع قبل السلام يسجد فيه قبل السلام، وما ورد أنه سجد فيه بعد السلام يسجد فيه بعد السلام، وما لم يرد فيه شيء عنه فالأصل أن يكون قبل السلام؛ لأنه من الصلاة عنده كمذهب الشافعي، وذهب مالك رحمه الله إلى التعليل، فرأى أن المواضع التي سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام كانت لنقص، أو لاجتماع النقص والزيادة، وأن المواضع التي سجد فيها بعد السلام كانت لزيادة، فحمل النقص على النقص والزيادة على الزيادة، فقال: إذا سها الإنسان فزاد فليسجد بعد السلام، وإذا سها فنقص، أو زاد ونقص معًا، فإنه يسجد قبل السلام، وهذا جمع بين النصوص؛ لأن قاعدة مالك هي التي يقول فيها: (إعمال الدليلين أحب إلي من إلغائهما أو إلغاء أحدهما).
فعمومًا حكم هذا السجود أيضًا مختلف فيه، فكثير من أهل العلم يرى أنه واجب؛ لأنه جبر للصلاة، وذلك ظاهر الهيئات بفعل النبي صلى الله عليه وسلم له، ومنهم من يراه سنة فقط للجبر، ومنهم من يفرق بين القبلي والبعدي، فيرى البعدي سنة، والقبلي واجبًا، ومنهم من ينظر إلى موجبه، فإن كان مرتبًا على ما هو مؤكد من الصلاة كالجلوس الأوسط التشهد الأول، فمن قام عنه فقد قام عن ثلاثة أمور: عن التكبيرة، وعن الجلسة، وعن التشهد، بخلاف ما كان عن الإسرار بالسورة فقط، أو عن الجهر بها في موضع السر، أو ما كان بترك تكبيرة واحدة، أو تسميعة واحدة مثلًا على القول بذلك؛ ولذلك فالذين يسمون هذه بواجبات يقولون: يرتب عن ترك واجب غير ركن، وكذلك إذا تعدد الواجب غير الركن، كالتكبيرة والجلوس والتشهد فهو آكد، والذين يسمونها سننًا فيقولون: القبلي المرتب عن ثلاث سنن إذا تركه عمدًا بطلت صلاته.
وعمومًا اتفقوا على أنه إذا قدم القبلي أو أخر البعدي فالصلاة صحيحة.
إذا نسي فسلم قبل السجود فليسجد بعد السلام، وإذا سجد قبل السلام فليس عليه أن يسجد بعده مرة أخرى، وإذا سجد قبله سهوًا فليس عليه أن يسجد بعده، وكذلك إذا سها فيه فسلم بين السجدتين فليأتِ بسجدة أخرى، وليس عليه سجود للسهو؛ لأنه لو كان كذلك لتسلسل الأمر، وهذه من مسائل الكسائي المعروفة، فقد سأله الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، فقال: (يقال: إن من أتقن علمًا أداه إلى سائر العلوم، وأنت أتقنت علم القراءة وعلم النحو، فسأسألك عن مسائل من الفقه، فقال: هاتها، فسأله: من سها في سجود السهو فسلم من سجدة واحدة، هل يلزمه سجود سهو آخر؟ قال: لا، قال: من أي نحوك أخذتها؟ قال: من قولهم: إن المصغر لا يصغر ثانيًا)، فالمصغر مثلًا شخص اسمه عيينة أو اسمه رجيل أو طفيل، الطفيل مثلًا كيف تصغره؟ لا تستطيع أن تصغره مرة أخرى.
الطفيل بن الحارث ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو عبيدة بن الحارث بن المطلب فلا يصغر مرة أخرى، أو الحصين كذلك لا يمكن أن يصغر مرة أخرى.
ومن هذه المسائل إذا انفصلت السفن كانت السفن في البحر أو النهر، فاقتدوا بإمام واحد في إحدى السفن، فاغتلم البحر وهم في أثناء الصلاة، فانقطعوا عن السفينة التي فيها الإمام، ولم يسمعوا له صوتًا، فانفصلوا بصلاتهم وبعد برهة عادت إليهم السفينة، فسمعوا الإمام يكبر، هل يعودون إليه بعد الانفصال أم لا؟ فقال: لا يعودون إليه، قال: من أي نحوك أخذتها؟ قال: لا إتباع بعد القطع، فالتوابع حكمها في الأصل أن تكون تابعة للمتبوع من ناحية الإعراب، ويجوز قطعها إذا كان المتبوع معينًا بدونها، فتقطع إلى الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، وتقطع إلى النصب على أنها مفعول لفعل محذوف، فإذا قطعت في البداية لا يصح أن تتبع مرة أخرى يجوز أن تقول: بسم الله الرحمنُ الرحيمُ، ويجوز أن تقول: بسم الله الرحمنَ الرحيمَ، لكن لا يجوز أن تقول: بسم الله الرحمنُ الرحيمِ؛ لأن هذا إتباع بعد القطع، فلا يجوز؛ فلذلك أخذ منها الكسائي هذه المسألة.
كذلك هنا يدل هذا الحديث على أن سجدتي السهو مثل سجود الصلاة؛ فلذلك قال: (نحو سجوده أو أطول)، فيسبح فيه الإنسان ثلاث تسبيحات على الأقل، ويدعو فيه كدعائه في سجود الصلاة، ومن أهل العلم من يرى أنه يسبح فيه تسبيحًا مخصوصًا، ومنهم من يرى أنه يقول: (سبحان من لا يسهو، سبحان من لا يغفل)، لكن لم يرد هذا مرفوعًا؛ فلذلك الأصل أن يقتصر على المرفوع في هيئة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فيسبح فيه الإنسان: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثًا، ثم يدعو بما شاء بعد ذلك، وكذلك الجلوس بين سجدتي السهو، فهو مثل الجلوس بين السجدتين، يدعو فيه الإنسان بالدعاء الوارد في ذلك، وكذلك أن يتشهد بعده، وهذا محل خلاف بين أهل العلم، فذهب بعضهم إلى أنه يتشهد؛ لأنه لا سلام إلا في دبر تشهد في الأصل، وذلك أن الصلاة رحلة إلى الله سبحانه وتعالى، والقادم من السفر هو الذي يسلم ويأتي بالتحية؛ ولذلك فقد استشكل أحد أجدادي رحمة الله عليه قضية التشهد في آخر الصلاة يقول:
أساة عضال الجهل سرج ظلامه وعمار ربع الدين من بعد ما أقوى
فما السر في كون الإمام مسلمًا أخيرًا على مأمومه عصبة التقوى
أخيرًا على مأمومه عصبة التقوى أما العرف تقديم التحية في النجوى
إلى أن يقول فيها:
..وقد خفيت عني فلا بد من شكوى
وقد أجابه أحد العلماء في عصره فقال:
فإن عماد الدين لله رحلة وعند انتهاء السير تستأنف النجوى
فعماد الدين الصلاة، رحلة إلى الله عز وجل، وعند انتهاء السير في الرحلة (تستأنف النجوى)، وذلك عندما يتم الإنسان الرحلة، فيصل إلى حضرة القدس، فيقول: التحيات لله، فالعادة أن من وصل إلى الملك يحييه بتحيته المعروفة، والله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تسلم عليه؛ لأنه هو السلام، وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول: السلام على الله كما كانوا يقولون، وكل ملك من ملوك الدنيا له تحية يُحيا بها، فقد كان من الملوك من يقال له: أبيت اللعن، ومنهم من يقال له: عم صباحًا.. إلى آخره، كل يختار تحية لنفسه؛ فلذلك كان الجواب هنا: التحيات لله، فلا يمكن أن نحييه بأية تحية منها، وهكذا في التشهد كله، فإذًا على هذا يشرع التشهد بعد السجدتين، وإذا قلنا بمشروعيته فلا يزاد عليه، يقتصر الإنسان على التشهد إذا قال: أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يقتصر على هذا ويسلم.
بالنسبة للتشهد ورد فيه حديثان في إثباته ليس واحد منهما صحيحًا، لكنهما يتعاضدان، أحدهما عن عائشة، والآخر عن أنس رضي الله عنهما، وفي كل واحد من إسنادهما ضعيف، لكن يعضد أحدهما الآخر، فيثبت ذلك التشهد عمومًا، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدمه.
وكذلك السلام، فإن السلام في الأصل هو الخروج من الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تحريمها التكبير، وتحليلها السلام )، وهذا يقتضي مشروعية السلام عند نهاية الصلاة مطلقًا، فعلى هذا إذا أنهى سجود السهو يسلم سواء عند الذين يرون التشهد أو الذين لا يرونه، وقد ذهب بعضهم إلى أنه لا سلام عليه؛ لأن السلام قد سبق، ومحل ذلك إذا كان قد سلم من قبل كالسجود البعدي، أما السجود القبلي فلا بد أن يسلم قطعًا من بعده؛ لأنه بقي عليه ركن من أركان الصلاة عند الجمهور، وهو السلام، وهو ركن، وعند الحنفية هو واجب غير ركن، فليس فرضًا.
ثم قال: (باب: المساجد التي على طريق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم).
عقد البخاري رحمه الله تعالى هذا الباب للمساجد؛ أي: أماكن الصلاة المعروفة المحوزة على طريق المدينة، وفي أكثر نسخ البخاري (على طرق المدينة)، والمقصود بذلك: الطريق بين مكة والمدينة، وجمعت باعتبار تفاوتها، والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: ذكر فضلها، وإن كانت تلك المواضع زائدة على هذه المساجد المذكورة.
وهذا الباب داخل في أبواب المساجد؛ لأن فيه تنبيهًا على أن المساجد لا تختص بالمبني منها، فالمساجد غير المبنية حكمها كذلك حكم المساجد؛ لأن المسجد الحرام لم يكن مبنيًّا، وإنما كان الناس يصلون في مقام إبراهيم؛ أي: ما حول الكعبة؛ كما قال الله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فمقام إبراهيم هو المطاف الذي حول الكعبة، وقد قيل: إن مقام إبراهيم في هذه الآية المقصود به الحجر المخصوص الذي فيه أثر إبراهيم، وهو قطعًا المقصود في قوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97]، فيتعين تفسير الآية التي في سورة آل عمران بالحجر المخصوص، أما الآية التي في سورة البقرة فلا يتعين ذلك فيها؛ لأن إبراهيم كان يقوم حول البيت من كل جهاته، فالمقصود بمقامه إذًا ما حول البيت، فالمحيط بالبيت من كل جانب هو مقام إبراهيم بهذا الاعتبار.
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتمون به، ويقتدون به، ويبتدرون أمره ويستبقون إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم أمر الدين، وكان مما علمهم: ( أن الله سبحانه وتعالى أعطاه خمسًا لم يعطهن نبي قبله، ومنها أنه جعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا )، فالأرض كلها مسجد: ( فأيما عبد أدركته الصلاة فليصل )، وهذا بخلاف ما كان في الشرائع قبلنا، فلم يكن أهل الكتابين قبلنا يصلون إلا في مواضع الصلاة المخصوصة عندهم، وهي: البيع، والكنائس، وهذه توسعة على هذه الأمة وفضل لها، فالإنسان إذا كان في خلاء من الأرض وحده، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أذن وأقام فصلى، فإنه يصلي وراءه أمثال الجبال من الملائكة، فلا يكون منفردًا وحده، وكذلك لا يبلغ مدى صوته- إذا رفع صوته بالأذان- لا يسمع مدى صوته إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له.
والمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مزيتان:
المزية الأولى: ثبوت القبلة، فهي قبلة وحي؛ فكل مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقر على خطأ في القبلة قطعًا، فإذا صلى إلى اتجاه دل ذلك قطعًا على أنه هو جهة البيت الحرام؛ لأن الله قال له: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].
المزية الثانية: بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل مكان تنفس فيه أو جلس، وكل شيء ماس أعضاءه أو مس لباسه أو مسه بيده فهو مبارك، فكيف بمكان تعبد فيه لله وسجد ودعا وقرأ فيه القرآن، فهذا أكثر بركة من غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم تلتمس البركة من كل شيء باشره؛ ولذلك كان أصحابه يتبركون بمخاطه وريقه ووضوئه وشعره وأظافره، ومنهم من شرب بوله كـابن الزبير ومنهم من شرب دمه كـأم أيمن رضي الله عنها، فيتبركون من كل شيء منه، وفضلات الأنبياء طاهرة.
قال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أنه كان يصلي في أماكن في الطريق، ويقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة )، عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان من أشد الصحابة حرصًا على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم لأمرين:
الأمر الأول: لشدة محبته له وتعلقه به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدنيه ويثني عليه، وقال: ( نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل، فما ترك عبد الله قيام الليل بعد ).
الأمر الثاني: أنه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (طال عمره حتى لم يبق أفضل منه)، فقد بقي وراء أصحابه حتى كان أفضل وأعلم الباقين من أهل الأرض، مات الذين هم أفضل منه وأعلم في حياته، فآخر العشرة المبشرين موتًا سعد بن أبي وقاص، وقد مات في حياته هو، فبقي هو بعدهم، فكان أعلم الصحابة الباقين وأفضلهم؛ فلذلك روي تتبعه لمثل هذه الأمور، وقد كان من هو أفضل منه وأكبر من الصحابة مشغولين في أمور أخرى، ولو عاشوا واتسعت أعمارهم لظن بهم ما فعل ابن عمر، وقد يكون لبعضهم تحرز أو أخذ بسد الذرائع، كما روي عن عمر نفسه: أنه كان في طريق، فرأى الناس يبتدرون مكانًا للصلاة فيه، فقال: ماذا يفعلون؟ فقيل: صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبين لهم عمر أن من أدركته الصلاة فليصل، ومن لم يكن جاء في وقت صلاة فليس له أن يفعل ذلك، وقد حمل كلام عمر على سد الذرائع، وحمل أيضًا على أنهم قد يصلون في غير وقت صلاة، كما إذا صلوا بعد العصر أو بعد الفجر، وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة في ذلك الوقت، حتى لو جاء الإنسان إلى مسجد من المساجد المفضلة، فإن كان لا يريد الدخول ولا الجلوس فيه في وقت نهي فلا يصلي فيه في وقت النهي، أما إذا أراد الدخول في المسجد في وقت النهي فينظر إلى النهي نفسه، فإن كان نهيًا مغلظًا فلا يصلي، كمن دخل مسجدًا وقت غروب الشمس، أو وقت طلوعها، أو حين يقوم قائم الظهيرة، فليس له أن يصلي في ذلك الوقت؛ لأنه نهي على سبيل التحريم، ومثل ذلك النهي على سبيل الكراهة المغلظة كما إذا جاء إلى المسجد بعد أن اختلطت الظلال بعد العصر وكان الاصفرار، أو جاء إليه بعد الإسفار الأعلى، أو بعد طلوع الشمس قبل أن ترتفع قيد رمح وتزول عنها الحمرة، فلينتظر حتى يأتي وقت الإباحة، وأما وقت الكراهة المخففة فرأى الحنابلة والشافعية أن ذوات الأسباب تؤدى فيه، إذا دخلت المسجد الآن فلتصل ركعتين قبل الجلوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، وأنت تريد الجلوس فيه، وذهب المالكية إلى أنه لا يصليهما في وقت النهي على سبيل الكراهة المخففة؛ لأن جانب الخطر مقدم على جانب الأمر، وقد ثبتت الأحاديث بالنهي، وإذا تعارض أمر ونهي قدم النهي دائمًا؛ لأن جانب الحظر مقدم على جانب الأمر، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( شهد عندي رجال مرضيون، وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع )، ومن ذلك قصد كل مكان ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس فيه أو صلى فيه لقصد التبرك به، فإن ابن عمر يرى ذلك، وجمهور أهل العلم يرونه، ومن أهل العلم من يسد الذريعة فلا يرى ذلك، ومن هذا دخول غار حراء وغار ثور فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيهما ويتحنث فيهما، أما غار ثور فقد مكث فيه ثلاثة أيام في الهجرة، وأما غار حراء فهو الذي أنزل عليه الوحي فيه، وقد كان الناس من لدن الملل السابقة يصعدون فيهما، وقد كان الأنبياء الأولون يتعبدون فيهما؛ فلذلك تعبد النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأجل ذلك؛ ولهذا قال أبو طالب:
وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه وساع ليرقى في حراء ونازل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيًا غير ناعل
ومثل ذلك ما جاء عن ابن عمر أنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت السمرة عام الحديبية، وهي شجرة، ونزل عليهم رضوان الله تحتها، فقد قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وفي حديث جابر في صحيح مسلم: ( لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة نظر إلينا، فقال: أنتم خير أهل الأرض، فنالوا هذا الفضل العظيم في ذلك المكان، فلما كان من العام القابل، وهو عام عمرة القضاء، أتيناها فلم يتفق اثنان منا عليها )؛ أي: قصدوها ولم تكن في الطريق، فالشجرة كانت في الحديبية، وليست في طريق القادمين من المدنية ولا الذاهبين إليها، فقصدها ابن عمر ومن معه، فلم يتفق اثنان منهم عليها، هل هي هذه أو هذه، وأخفاها الله بذلك؛ لأن الوقت ما زال وقت شرك، فسد الله هذه الذريعة، ومع ذلك عين الناس فيما بعد شجرة، وزعموا أنها هي الشجرة، فقطعها عمر؛ لأنهم لم يتفقوا عليها هل هي هي أم لا؛ فلذلك كان ابن عمر يصلي في أماكن في الطريق، ويقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة، والمقصود هنا بالصلاة إذا كانت في وقت إباحة بأن كان وقت الفرض فيصلي فيها الفرض، أو كان وقت إباحة فيصلي فيها النفل، وهذا يدل على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم ومشروعيته، وهو محل إجماع بين المسلمين قد أجمع المسلمون على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم بجسده وثيابه، وكل شيء مسه، وحتى أي مكان جلس فيه إذا عرف بخصوصه، والمقصود بالتبرك: التماس البركة، فالنبي صلى الله عليه وسلم ثبتت البركة فيه، كالبيت الحرام الذي قال الله فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96]، وكماء المطر الذي قال الله فيه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق:9]، فما دل الوحي على أنه مبارك هو الذي تلتمس فيه البركة، بخلاف ما لم يرد الوحي بحصول البركة به، كالعلماء والصالحين والزهاد والعباد الذين لم يرد الوحي بأن البركة فيهم، فلا يتبرك بهم؛ لأنك لا ترى البركة، ولا تشمها، ولا تلمسها، ولا تذوقها، ولا يمكن أن تعرفها إلا عن طريق الوحي، ولم يرد الوحي بذلك.
فإذًا يقتصر على ما جاء الوحي أنه مبارك، فتتبرك بالبيت العتيق لأن الله أخبر أنه مبارك، وتتبرك بماء المطر فتكشف له عن كتفيك؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ويقول: ( إنه حديث عهد بربه )، وتشربه، وكذلك التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآثاره، ويدخل في هذا التبرك بما مسه أثره، فمثلًا ثبت في صحيح البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كان لها جلجل من فضة فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت إذا مرض مريض أرسل إليها قدحًا من ماء، فتخض له فيه الجلجل، فيشربه فيبرأ، فهذا الماء لم يمسه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مس شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت البركة تلتمس فيه من أجل ذلك، وكذلك الآبار التي بصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو التي صب فيها وضوءه، كبئر الحديبية ما زالت قائمة، وبئر التفلة التي على طريق المدينة، وما زالت قائمة، وما زال الناس يشربون ماءها، وكذلك بئر بيسان، ومثل ذلك بئر بضاعة، وقد كان السلف يأتونها لهذا، وقد جاءها قتيبة بن سعيد صاحب مالك وشيخ البخاري ومسلم وغيرهما، ودخل فيها حتى قاس ماءها، وبسط عليها رداءه، وأتاها أبو داود بعده، فسأل خازنها: هل غيرت عما كانت عليه؟ فذكر: أن لا، فذرعها أبو داود بذراعه، وقد زالت هذه البئر الآن، لم يبق لها أثر، ومثل ذلك الآبار الأخرى التي كانت في المدينة فلم يبق منها الآن تقريبًا إلا ثلاث، فبئر حاء دخلت في المسجد في التوسعة الآن، وبئر أريس التي هي بئر الخاتم، التي وقع فيها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عثمان مر عليها الشارع الذي عند مسجد قباء، وبئر بضاعة مكانها هو الذي كان فيه النقل الجماعي عند مسجد السبق، فطمت وسويت، أما الآبار الأخرى الباقية فهي من هذا.
قال: وعنه رضي الله عنه؛ أي: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة )، وذو الحليفة: موضع قريب من المدينة على سبعة أميال منها، وهو مكان إحرام أهل المدينة؛ أي: ميقات إحرام أهل المدينة، وهو في وادي العقيق، ووادي العقيق جاء فيه أنه مبارك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أتاني الليلة آت من ربي فقال: إنك في بطحاء مباركة فصل )، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصف ابن عمر أنه كان إذا رجع من سفر عرس به مع أنه قريب جدًّا من المدينة، ينزل فيه حتى يصبح فيصلي فيه الصبح.
فقال: (إنه كان ينزل بذي الحليفة)؛ أي: في طريقه إلى مكة أو رجوعه منها، (حين يعتمر)، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر )؛ أي: في العمر التي اعتمرها، وذلك مختلف في قدره، فقد اختلف في عمر النبي صلى الله عليه وسلم كم كانت؟ فذهب الجمهور إلى أنه اعتمر ثلاث عمر، والحجة هي الرابعة، وذهب بعضهم إلى أنه اعتمر أربع عمر وكانت الحجة خامسة، وعمومًا بعض العمر كان سفرها مستقلًّا، كعمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وبعضها كان سفرها تابعًا، كالعمرة التي كانت من الجعرانة، فقد كانت في منصرفه من غزوه للطائف وحنين بعد فتح مكة، فلم يكن لها سفر مستقل.
( حين يعتمر وفي حجته )؛ أي: حجة الوداع، ( حين حج تحت سمرة )، والسمرة: شجرة من نوع من الطلح يسمى: (السمر)، وهي شجرة كبيرة كانت في ذلك المكان؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر أيضًا في الصحيح: ( فأحرم عند المسجد الذي عند الشجرة )، والشجرة هي هذه السمرة، ( في موضع المسجد الذي بذي الحليفة )، وذو الحليفة مكان متسع، أبطح فيه مساجد متعددة، لكن مسجد الميقات منها هو الأفضل، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عنده عند تلك الشجرة، ( وكان إذا رجع من غزو )؛ أي: إذا رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزو؛ أي: من أية غزوة من الغزوات ( كان في تلك الطريق )؛ أي: كان الغزو في تلك الطريق.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر