بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن جميع المسلمين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم لحكمة واضحة بينها في كتابه، وشرع لهم شرائع هذا الدين الذي هو خير شرائعه، وضمنه خير كتبه، وأرسل إليهم خير رسله، فشرفهم بذلك على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن هذه الأمة شهود عدول يوم القيامة، وإنه ما من نبي إلا يخاصم أمته في الملأ الأعلى، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. حتى إن نوحاً يخاصم أمته في الملأ الأعلى فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير! فيقول: مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً أدعوكم إلى الله. وهم ينكرون، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لنوح أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى).
إن أمة يستشهدها الله تعالى في الملأ الأعلى ويرتضيها شاهدة على عباده لا بد أن تتحقق فيها صفات العدالة المطلوبة، ولا يمكن أن يكون الشهود على الأولين والآخرين من المجروحين الفاسقين، لا يمكن أن يرتضى هذا عند الله سبحانه وتعالى الذي هو أحكم الحاكمين.
لذلك فإن المطلوب من هذه الأمة أن تكون على الحكمة التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تحقق هذه الصفات في نفسها، ويبدأ ذلك بمراعاة الفرد نفسه لتحقق هذه الصفات فيه، فقد علمت عبد الله فالزم، فالمؤمن الذي يحقق انتماءه لمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجو أن يبعث تحت لوائه يوم القيامة، وأن ينادى باسم إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً[الإسراء:71] .
المؤمن الذي يرجو أن لا يدعى باسم إمام آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو أن يكون من أولئك الذين يعرفون يوم القيامة بالغرة والتحجيل الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يكون من الشهود على الناس لا بد أن يحقق في نفسه صفات مشروطة لذلك، ولا يمكن أن يتكل على مجرد التمني والتظني، فليس الأمر بالتمني ولا بالتظني، لا يتحقق هذا الأمر إلا بالجد والاجتهاد، فما أكثر المدعين الذين ينادون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بالفضيحة، ويحل عليهم قول الله الحق: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً[الفرقان:23] .
ما أكثر الذين يدعون انتماءهم لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ولكنهم سيذادون عن حوضه يوم القيامة كما تذاد الإبلات الضلل يضربون على وجوههم، فيقول: يا رب! أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقا.
الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أطوار هذه الأمة وما ستتحمله من المسؤولية، فأخبر أن خير القرون هم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء إذا قرأنا شيئاً من أخبارهم وسيرهم واطلعنا على بعض النماذج منهم عرفنا كيف حققوا هذه الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف حصل لهم الشرف بها وأيقنوا وآمنوا وجاهدوا واتبعوا، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وساروا على المحجة البيضاء غير مرتابين ولا شاكين، فوصلوا واتصلوا بحبل الحق فاستمسكوا به على بصيرة ويقين، وكانوا الزمرة الأولى، ثم جاء بعدهم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهنا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: ما أدري هل ذكر قرنين أو ثلاثة.
ثم إنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدا؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم).
إن هؤلاء قد سلكوا هذا الطريق حين عرفوه والتزموا به، وبذلك فازوا، وقدموا لله سبحانه وتعالى ما أمرهم بأن يقدموه، ولم يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل تأدبوا بالأدب الحق ففازوا بذلك ونجحوا، ولكن وراءهم أقواما قد غيروا وبدلوا، ولم يستمسكوا بالطريق الذي سلكه هؤلاء فنجوا، وإنما اتكلوا على التظني والتمني، تجد أقواماً كباراً يزعمون أنهم من المتمسكين بالسنة، ولا يرضون أن ينسبوا إلا إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حين تنظر إلى حياتهم وواقعهم، وحين تسألهم عن الفترة التي يقضونها في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله والبذل لله لا تجد شيئاً يذكر، وهنا ستعلم هل هم صادقون في دعواهم أو غير صادقين؟
إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم واضحة، وكل شخص يعرف أنه صلى الله عليه وسلم مكث على هذه الأرض بعد بعثته ثلاثاً وعشرين سنة، وأن هذه المدة كان أكثرها في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله، وما عدا ذلك فوقت بسيط للحياة الطبيعية المعتادة، وهي أيضاً واجبات ينوي لها نية تصيرها مثل السابقات، فالذي يدعي التمسك بسنته عليه أن يراجع سنته وسيرته، وأن يقسم وقته حتى يرى الجزء الذي خصصه في مقابل الجزء الذي خصصه الرسول صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله.
إننا جميعاً نعلم أن الله غني عنا، وأنه هو الغني الحميد، وأنه إنما أرسل إلينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم امتحاناً لنا، وأنه غني عن جهادنا، وغني عما نبذله من أموال، وأخبر أنه لا يسألنا أموالنا فقال: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ[محمد:37] ، ولكنه يحضنا على أن نقدم خيراً لأنفسنا، وحينئذ فإنه سيحفظه لنا حتى نناله في وقت الحاجة إليه، (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، الظالم إنما يظلم نفسه، والمطيع المتقي إنما يقدم ذلك لنفسه، فالله غني عن كل ذلك، والله سبحانه وتعالى حين أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين لم يجعله بدار هوان، ولم ينزله إلى هذه الأرض ليتخذ ظهريا، وإنما أنزله وتعهد بأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وأن لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، تعهد بذلك الله سبحانه وتعالى وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقطار الدين منطلق، والالتحاق بركبه مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وما علينا إلا أن نبادر ونسارع، فالله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المسابقة والمسارعة، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران:133-134] ، إن الملتحق بهذا الركب إنما يقدم لنفسه، وإنما يتشرف هو، ولن يشرف هذا الدين ولن يزيده شيئا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).
المؤمن حين يسأل: كيف أعمل للإسلام؟ بعد قناعته بهذا الدين وإيمانه به وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيمانه باليوم الآخر والبعث بعد الموت فإن عليه أن يوجه هذا السؤال إلى نفسه، وحينئذ سيرى أن الله لم يدعه في مظنة ولا مهلكة، بل أرسل إليه رسولاً خاتماً للرسل، وأتاه بشريعة واضحة، وبين له معالمها لأقواله وأفعاله وتقريراته، ولم يكلف إلا بما يطيق، ولن يسأل إلا عما قامت عليه الحجة فيه، وكل ما لم يبلغه فإنه لم تقم عليه الحجة به، فإنه لن يُسأل إلا عما كان معلوماً من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله.
لهذا فإن من انتمى إلى هذا الدين فأول واجب عليه أن يحقق انتماءه له، وأن يعلم أن هذا الانتماء قناعة، وأن القناعة أيا كانت مقتضية للعمل، فالذي يقتنع بأن عليه أن يكون عالماً ولكن لا يذهب إلى العلماء ولا إلى الكتب، وإنما يستقر في دويرة أهله، أو يذهب إلى الأسواق، أو إلى محلات بعيدة عن العلم لم يعمل من أجل قناعته، وبذلك لا تتحقق قناعته أبدا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في السنة لـابن أبي عاصم- أنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، فلا يمكن أن تتحقق هذه الأمنية حينئذ، وكذلك الذي يقتنع بأن عليه أن يكون من التجار الكبار ومن الأغنياء المشار إليهم عليه أن يبكر بكور الطير إلى الأسواق، فيصفق فيها كما يصفق الناس، فإن نام في وقت الصبيحة واستقر في بيته ولم يعمل من أجل قناعته فإن قناعته لاغية، وإن من اقتنع بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا لحكمة واضحة، وقامت عليه حجة بالغة، وأنه سيموت ويخرج من هذه الدنيا ويتركها وراء ظهره، وسيبعث من قبره، وسيوقف بين يدي الباري سبحانه وتعالى، ويسأل قبل ذلك في قبره فيقال: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل عليه أن يحقق وأن يعمل من أجل قناعته هذه حتى تكون قناعة واقعية، فما أكثر المتمنين الذين يتمنون على الله الأماني، ويزعمون أنهم من الذين ستكون لهم الغرفات يوم القيامة، ما أكثر الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضون إلا بمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن حين ننظر إلى الذين يقدمون من أجل ذلك أعمالاً جساما ويخلصون في ذلك لله نجدهم قلة قليلة من هؤلاء.
فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن المشركين وعن اليهود أنهم يودون أن يعطوا يوم القيامة براءة من النار، وأن يؤتوا صحفا منشرة، وأن يدخلوا الفردوس الأعلى من الجنة، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم هذه الأمنية وأخبر أنها كاذبة.
والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين يسلكون طريق اليهود والمشركين في ذلك، فيتمنون على الله الأماني ولا يقدمون شيئا، تجد المؤمن الذي أنعم الله عليه بالإيمان، وتربى في بيت مؤمن بين أبوين مؤمنين، وتعلم من دين الله أو أمكنه أن يتعلم على الأقل، وأنعم الله عليه بتمام جوارحه وقوة بدنه وتمام عقله وتفكيره، وكان في مجتمع فيه من يقتدى به وفيه من يستفاد منه، وتجده يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين لم تبق له حجة على الله، ولم يقدم شيئا يذكر لدين الله، تمضي هذه السنون هباءً منثورا، ويا ليتها كانت هباءً منثورا، بل تكون حجة على أصحابها، وهي حجة لله عليهم، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .
فيا ليت هذه السنوات التي مضت تمضي بما فيها من خيرٍ وشر، وتذهب بكل ما فيها، ويكون الشخص كأنما ولد من جديد، لكن المشكلة أنها تنقضي أيامها وتبقى تبعاتها، ولذلك كان كثير من السلف يقولون في دعائهم: اللهم إنا نعوذ بك من ذنوبٍ ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها. تنقطع اللذات وتبقى التبعات، ويمضي العمر على هذا والشخص يؤمل زيادةً في العمر حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100] ، فحينئذٍ تنقطع الآمال، ويندم الشخص على ما فرط في جنب الله حين لا ينفع الندم.
فأنت -يا عبد الله!- في هذه الدنيا قد مكن لك فيها، وفتح لك كثير من المجالات، وأنعم الله عليك بكثير ٍمن النعم، وعلمت الخير أو أمكنك تعلمه، فلماذا لا تستفيد من كل هذه المجالات؟! إلى متى وأنت تغدو وتؤمل غيباً لا يتمناه إلا العاجزون؟!
كثير من الذين يحبون نصرة الدين ويسعون لإعلاء كلمة الله يقولون نحن نرجو الوقت الذي ينزل فيه المسيح عيسى بن مريم فنجاهد معه، أو يخرج جيش المهدي ونجاهد معهم!! وما هذا الأمل الطويل الذي يوصلك بأزمانٍ قد لا تصلها أنت ولا ذريتك من بعدك؟! إنك لم تكلف بأن تنتظر هؤلاء، إنما كلفت بأن تنجي نفسك من عذاب الله، وأن تقدم شيئاً لدين الله، ولن تكلف إلا بما تطيقه وتستطيعه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً[الطلاق:7] ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286] .
إن العمل لهذا الدين ليس مثل الأعمال الدنيوية التي يمكن أن يقدم فيها الشخص منافع لبعض الناس أو يرفع عنهم أضراراً دون أن يستشيرهم؛ لأنه يعلم أنهم بحاجةٍ إلى هذه المنافع وفي خشية من هذه المضار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، لا يمكن أن تقدم نفعاً لله تعالى ولا أن ترفع عنه ضررا، إنما تنفع نفسك أو تضرها (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
نحن اليوم في زمان الغربة، وفي زمان ضعف الدين وتراجعه، ولم يأتنا هذا من جهالةٍ، بل أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق بذلك، وأخبرنا أن هذا الزمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأخبرنا بهذه الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.
وأخبرنا أن هذه الأزمان تكثر فيها الفتن وتنتشر، ويكثر فيها الهرج، ويرفع فيها العلم ويكثر الجهل، كل ذلك أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه أخبرنا عن الاستمساك فيها وما ينجي منها، فأخبرنا أن النجاة بهذا الحبل المتين المستقيم الذي هو حبل الله، من استمسك به عصم، ألا وهو القرآن الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42] .
وهذه السنة المبينة للقرآن التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن أتم بيان، فمن استمسك بهما عصم، ومن تركهما قصم الله ظهره، وانهوى على وجهه في النار، لذلك فإن الذي يتوقف عن العمل لنصرة الدين رجاء هذه الآمال الكاذبة مغرور ويخشى عليه من الخذلان، يخشى عليه من الخذلان حين يطيل الأمل ويتبعه، وتُمنيه النفس الأماني فينقاد لها، ويأتيه الشيطان كي يدعوه إلى بنيات الطريق ويقول له: وتكونوا من بعدها قوماً صالحين. حينئذٍ يغتر بأعماله التي يقوم بها، وينسى ما كلف به، وينسى ما أسلف وما فرط فيه من جنب الله فيما مضى من عمره، فيا ليت هؤلاء انتبهوا قبل أن يقعوا في الهاوية، وقبل أن توصد عليهم النار الحامية، يا ليت هؤلاء انتبهوا وأدركوا أن بقية العمر ما لها ثمن، ولذلك يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.
كل شخصٍ منا يعلم أن ما مضى من عمره قد ضيع، وأن بقيته لا يدرى متى تنقضي، فعمر ضيع أوله جدير بأن يحفظ آخره، فعلى الشخص حينئذٍ أن يحقق عهده مع الله الذي أخذه عليه، وأن يبدأ بنفسه ويحاول الإنطلاق بما أتاه الله من قوة، ويعلم أن الحرب القائمة سنة كونية وذات تاريخ طويل مستمر، فمنذ بعث أول رسولٍ إلى أهل الأرض وهذه الحرب قائمة بين الحق والباطل، يكون للباطل فيها بعض الصولات ولكنه يضمحل في النهاية، ويورث الله الأرض عباده المؤمنين المتقين، وبعدها تأتي صولة أخرى للباطل ثم يضمحل، وهكذا دواليك.
إن الحرب قائمة على ساقها، ونازعة بأشدها، ونحن نشهدها في مختلف مجالات الحياة، نشهدها في مجال الاعتقاد، وفي مجال العمل، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال السياسة، وفي مجال الثقافة، وفي غير ذلك من المجالات، وفي بناء البيوت والمجال الاجتماعي الحرب شعواء على دين الله، وقبل ذلك نُبِذَ فيها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في كثير ٍمن المجتمعات الإسلامية -إلا من عصم الله- وراء الظهور، وفي مجال الثقافة والعلم أصبح الناس يرجعون إلى مراجع مخالفةٍ لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقدمونها على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي مجال التشريع والتحاكم يرجع الناس إلى قوانين هي من وضع أقوامٍ لو نظر إلى مصالحهم الدنيوية وكيف يتصرفون فيها لرأيت أنهم من أسفه الناس، ومع ذلك يوكل إليهم التشريع للأمم، كل واحدٍ منهم لا يحسن القيام على نفسه، ولا على ما أودعه الله وما جعل تحت يده من أهله وأولاده وماله، ومع ذلك يأتي بقوانين يضعها لتطبق على عباد الله في أرض الله، إن هؤلاء السفهاء الذين يشرعون للناس أحكاماً غير شرع الله سبحانه وتعالى إنما يتلقون ذلك من قبل شياطينهم وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121] ، وإنهم بذلك حين شرعوا هذه القوانين ونصبوها في الأرض ودعوا الناس إليها بل أجبروهم على التحاكم إليها وترك كتاب الله ظهرياً وراء ظهورهم سيكون عليهم إثمهم وإثم من لحقهم واتبعهم على ذلك المنهج.
إن جهالة المسلمين اليوم بكثيرٍ من شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعيش الكبير منهم عمره كاملاً ويموت، بل قد تموت الأجيال المتلاحقة، فتجد أربعة أجيال وخمسة من المسلمين في قطرٍ واحد، وهذه الأجيال الخمسة لم يشهد الواحد منها حداً مقاماً على الأرض، ولم يشهد التحاكم الواقعي إلى دين الله تعالى في حياته، خمسة أجيال متلاحقة!! إن هؤلاء حين انصرفوا عن منهج الله ستكون عليهم آثام هذه الأجيال بكاملها، وهذه الآثام ليست تابعةً لدول، فهذه المؤسسات التي يسميها الناس الدول أو الشركات أو المجالس أو الإدارات لا تبعث يوم القيامة، إنما يبعث الأفراد، والمسئولية يوم القيامة فردية، في الدنيا يقال: فلان من قتله؟ فيقال: قتلته الدولة الفلانية. أو يقال: المال الفلاني من أخذه؟ فيقال: أخذته الدولة أو المؤسسة الفلانية، أو المحكمة الفلانية. لكن يوم القيامة المسئولية محددة، وفلان هو المسئول عن هذا بعينه، لا يبعث يوم القيامة أحد رئيساً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا قاضياً، يبعثون يوم القيامة عباداً سواسية، كل شخصٍ منهم يتحمل أوزاره على عنقه، وهو المسئول عنها وعن كل من عمل بها.
فلا تظن أن هذه المؤسسات التي تشاهدها باقية أو أنها دائمة، وانظر إلى القبور تخبرك بالحق الذي لا غبار عليه ولا مرية فيه، وانظر إلى القبور التي يستوي فيها الحاكمون والمحكومون، يأتي الدود والرمل على كل ما هنالك، فيذهب كل ذلك للملة والتراب والمهلة، وهو بعد ذلك سيبعث ويسأل عن أعماله.
وترى كثيراً من الذين كانوا صناديد في هذه الأرض وأذلوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها بسلطانهم وقد أصبحوا لا تدرى جثثهم في أي مكان من الأرض استقرت، وتجد الفقراء المساكين يمشون على قبورهم وهم لا يشعرون، أين الجبابرة الذين أخرجوا إبراهيم من كوثا؟! وأين نمرود الذي رمى به في النار؟ وأين الفراعنة الأقوياء؟ وأين القياصرة والكياسرة؟ كل هؤلاء إذا سألت عن قبورهم لا تجد من يخبرك عنها، وتجد أن كثيراً منهم حين عاد إلى الأرض التي منها بدأ أصبحت ذراته في هذا التراب يمشي عليها الفقراء والمعبّدون الخادمون، وأصبحت رفاتهم مزارع للفقراء، ما هي إلا مدة يسيرة تعود فيها الأمور وتحول كما كانت، ولكن بني الإنسان يغترون بهذه المدة اليسيرة، فحين يجلس شخص على كرسيٍ ما يتوقع أنه دائم على ذلك وأنه لا يتحرك، حينئذ يطغى ويبغي ويفعل ما سولت له نفسه، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً[الإسراء:7] ، لكن هذا منقطع زائل، ويبقى بعده الحجة لله على عباده، والمسائلة بين يديه والعرض عليه، فحينئذٍ إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.
إن كثيراً من الناس حين يطرح هذا السؤال -وهو: كيف نعمل للإسلام- ينطلق من نظرة عجلى ضيقة فيقول: نحن اليوم في أمة الإسلام ونراها وهي أضعف الأمم وأذلها، وأبعدها عن النهج الصحيح، حتى في أمور الدنيا تكون في مؤخرة الركب دائماً، ولا يوزن لها أي ميزان، وقد انتشر فيها من أنواع المخالفات والمعاصي ما لا يمكن عده فضلاً عن إصلاحه، وتأتي الهزيمة من هذا الوجه! فيقول الشخص كيف أعمل وأنا في هذا السيل الجارف؟! فيجد نفسه مضطراً بأن يسير في اتجاه السير، وبذلك يخسر نفسه؛ لأنه ليس مثل أولئك الهالكين الذين لم يرفعوا رؤوسهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك قد حددوا طريقهم وساروا فيها عن قناعةٍ، وهم الذين اتخذوا القرار بأن يضلوا سواء السبيل، ولكن هذا المسكين قد انجرف في السيول الجارفة دون أن يتخذ قراراً بذلك، بل هو تابع سيكون مستضعفاً في الدنيا مستضعفاً في الآخرة، ولذلك في خصومتهم مع الذين استكبروا يوم القيامة نجد هؤلاء المستضعفين يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[سبأ:31] .
ولكن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، فهؤلاء الذين ساروا مع هذا السيل في اتجاهه قد خسروا أنفسهم وقامت عليهم الحجة بقناعتهم، فلذلك غووا وضلوا عن سواء السبيل، فلم ينالوا حظاً في الدنيا ولا حظاً في الآخرة.
نجد كثيراً من الناس يقول: إن مسئولية إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه مسئولية شاقة ينبغي أن يتحملها الرؤساء والقادة والعلماء فقط، وأما من عداهم من الناس فما عليهم إلا السمع والطاعة وهز الرؤوس إلى الأمام لكل من قام. وهم رعاع وهمج يرعون كما ترعى البهائم، وهذا معناه أنهم يعلمون أنه لا خير فيهم؛ إذ لو كان فيهم خير لعلموا أن هذا لا يمكن أن يقدموه حجةً بين يدي الله سبحانه وتعالى في العرض عليه، ولعلموا بأن مسئوليتهم لا تقف عند هذا الحد، وأن المسئولية شاملة عامة، فليس الغزو لدين الله تعالى والتخريب فيه خاصاً بالمجال السياسي أو العلمي فقط حتى يُعدل فيه باللائمة على السياسة والقادة أو على العلماء، بل الفساد سائد وسائر في جميع المجالات، وأنت -يا عبد الله- آلة من الآلات فحاول أن تُستغل في خير، حاول أن يكون لك جزء بسيط من الإصلاح، ولا تحتقر ذلك الجزء؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121] .
إنك حين تصلح نفسك وتجعل منها نموذجاً صالحاً ملتزماً بشرع الله تعالى مسارعاً إلى الخير محققاً لزومية اتباع رسول صلى الله عليه وسلم تكون قد انتصرت على نفسك، وكان ذلك إرشاداً لمن سواك، وضرب مثلٍ لهم ليقتفوا أثرك، وحين تعجز عن هذا فلا تعجز عن أن تكف الشر وأن تقتصر على أن لا تكون آلةً تستغل في الشر، فما أكثر الذين يستغلون من حيث لا يشعرون، ما أكثر الذين يقادون بأزمتهم إلى الشر من حيث لا يشعرون فيستغلون في معصية الله سبحانه وتعالى، تستغل أوقاتهم بالمعصية ويسخرون لها، وتستغل أموالهم في المعصية وتؤخذ منهم لذلك، أو يؤدونها طائعةً بها أنفسهم.
ولو أن رئيساً أو جباراً من أهل الأرض أخبر قوماً أنه سيزورهم، فهل ترى أن تجارهم وأغنيائهم سيبخلون فيما يقدمون في ضيافته من المال؟ سيقدمون له كثيراً من الأموال التي لو عرضت عليه من قبل لما رضي بإفساد هذا المال الكثير في هذه اللحظات القليلة؛ لأن إفساده سيعود بالضرر عليه هو، لكن لو أنهم سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ[التوبة:111] فهل ترى أنهم سيقدمون العشر فقط من هذه المبالغ التي يقدمونها في سبيل وجهاء الدنيا وطواغيتها؟
إنه مع الأسف قلّ من ينظر هذه النظرة، وقل من يوجه هذا السؤال إلى نفسه، ولذلك ليس هذا فقط مختصاً بالجانب المالي، بل حين ننظر إلى الوقت ونجد أن عمر الإنسان في الواقع إنما هو أربع وعشرون ساعة فتقسيمه لها إذا راجع نفسه وحاسبها وهو على فراشه حين ينام، وسأل نفسه: كم أنفقتُ من هذه الأربع والعشرين ساعة في مرضات الله سيجد أن ذلك قليل جداً، وأنه كان بالإمكان أن يكون كل ما أنفق في سبيل الله، فإن ذهب يلتمس درهماً للمعاش فلو أخلص النية لله لكان ذلك في سبيل الله؛ حيث أدى حقاً واجباً عليه من نفقةٍ أهلٍ أو قضاء دينٍ أو خدمةٍ أياً كانت، فلو أخلص في ذلك لله لكان إنفاقاً في سبيل الله، وإن جلس وقتاً مع صديقٍ له أو أخ في الله فلو نوى لذلك وقصد به الخير وجعله من التزاور في ذات الله لكان ذلك في سبيل الله، ولكن المشكلة أن الناس سفهاء في الأوقات رغم رشدهم في الأموال، الأوقات تمضي دون حساب، والأموال تحاسب بالدوانق.
كذلك فإن الشخص عندما يقوم على تربية أهل بيته، ويجد نفسه مسئولاً عن زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ صغارٍ وجيرانٍ، وقد يكون له أثر في بعض الأحيان حتى على قبيلةٍ بكاملها، فيجد أنه كان بالإمكان أن يصلح، وأن يعلم أن هؤلاء رعية له، وهم خصومه يوم القيامة، وعليه أن يربيهم أحسن تربية، وأن يدعوهم إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن يحببه إليهم، وأن يسعى على الأقل أن لا يتخذوه سبيلاً إلى المخالفة والمعصية، وما أزال أذكر رجلاً من التجار الذين نحسبهم -والله حسيبهم- من أهل الخير والصلاح، ففي سنة ستٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد قام أولاده مع نهضة الجهل والشيوعية التي سادت في بعض ولاياتنا الداخلية، ولكن هذا الرجل الغيور دعا أولاده فقال: اخلعوا الملابس التي تلبسونها والنعال التي تتخذونها وكل ما لديكم، فهو من مالي وكسبي، وأنا الذي بذلت فيه عرق جبيني، ولا يمكن أن يحاسبني الله عليه وأنتم تتصرفون فيه في معصية الله.
فكان هذا الموقف شجاعاً، ومع ذلك لم ينقصه شيئاً في المجتمع ولا عند الناس، وكان في مرضات الله سبحانه وتعالى، ولذلك هدى الله به بعض أولاده للخير، وما زالت فيهم لمسة تربيته إلى وقتنا هذا.
إننا بحاجةٍ إلى أن تكون لدينا هذه الجراءة، فالذي يعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يكون جندياً من الجنود لا بد أن يعلم أن الجندية لا بد أن تمر بكثير ٍمن التدريب، فهل تظنُّ أن شخصاً يمكن أن يكون عقيداً دون أن يمر بكثيرٍ من التدريبات، وأن يكون خادماً لكثير ٍمن الجنود والضباط؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لا بد قبل هذا أن يبذل كثيراً من المجاهدة وأن يمر بكثير ٍمن المراحل، ونحن نعلم أن أول الفكرة آخر العمل، فالذي يفكر في نصرة دين الله وهو في بيته أول فكرةٍ تدور في خلده وخاطره هو أن يرجع الناس جميعاً إلى دين الله أفواجاً، وأن يقيموا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطبقوا القرآن ويتحاكموا إليه ويلغوا كل القوانين ويدوسوها بأقدامهم، وأن يعلوا راية الجهاد في سبيل الله وتنطلق تحتها الصائفة والشاتية، ولكن هذا هو غاية لا بد قبلها من كثيرٍ من الوسائل والخطوات التي تأتي بالتدريج، فقد لا تعيش أنت إلى ذلك الزمان، ولكن اجعل ما بقي من عمرك في سبيل الله، حاول أن يكون عمرك أنت إعداداً لأجيالٍ من أولادك وأولاد غيرك يسلكون هذا الطريق لعلهم يصلون إلى هناك وإلى ما ترغب فيه، حاول أن تكون مصلحاً إصلاحاً بسيطاً جداً في أسرةٍ خاصة، فهذا البيت من بيوت المسلمين حاول أن تجنبه الآثام والمعاصي الكبار كبائر الإثم والفواحش، حاول أن يكون هذا البيت يتلى فيه كتاب الله، وحاول أن يقام فيه دين الله، وأن يكون فيه الآمر واحداً ويكون البقية مأمورين، وأن يحاولوا الالتزام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، حاول أن يتقيدوا بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا جميعاً من ذوي النفوس الشفافة المقبلة على الخير التي ليست لديها عبيّة الجاهلية ولا دعاويها ولا تفاخرها بالآباء، وحاول أن تخرج لنا أهل بيتٍ يمكن أن يخرج من أصلابهم قوم يحققون هذه الأمنية التي تتمناها، إذا تجاوزت هذا وكنت سيداً مطاعاً أو كان مشاراً إليك بالبنان فاجعل من بيوت قبيلتك أو بيوت المجتمع التي تؤثر فيه بيوتاً مثل بيتك، فأصلح هذه البيوت حتى تكون نموذجاً في هذا المجتمع، فكيفما تكونوا يولَّ عليكم، فإذا وجدنا من كل أربعين بيتٍ بيتاً واحداً يشع منه نور القرآن، ويستمسك أهله بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلتزمون في العقائد والعبادات والأخلاق والآداب بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرفع بهم البلاء عن الأمة.
إن ما نجده ونعيشه من هذه الأخطار والابتعاد عن هذا الشرع هو بلاء أصبنا به بسبب ذنوبنا، وإننا إذا أقلعنا عن هذه الذنوب وعدنا فسيرفع الله عنا هذا الوباء، ولذلك قال أحد الدعاة المشاهير: أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم يقمها الله في بلادكم.
فإذا بدأ الشخص بنفسه وبيته، ولم يسر مع الهالكين الغاوين، وحاول أن يكبح نفسه وأن يلتزم بالحق وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن لا يتصرف تصرفاً إلا وهو يعد الجواب عنه بين يدي الله تعالى، وحاول أن يكون مصلحاً لكل من له عليه أمر أو يمكن أن يؤثر فيه فإن المجتمع سيصلح بكامله، ويرفع عنه هذا العقاب الذي قد ساده، إذا وجدنا من يربي أولاده على أن يكونوا من حملة كتاب الله في صباهم، ومن المحبين لسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومن الراغبين في السؤال عما يجهلون من الدين، ومن الذين يتحلون بالأخلاق الإسلامية الحميدة، ومن الذين يحبون هذه المساجد التي يشع منها هذا النور وتنطلق منها هذه الدعوة فإننا نكون حينئذٍ قد تحقق لدينا كسب كبير، وعملنا للإسلام عملاً جاداً، وبهذا تخرج الحشود من المسلمين وكل شخص منها عاقد العزم على أن يأتينا بأفرادٍ، فإذا مات لم نخسر مكانه في المسجد، فننظر إلى مكانه في الصف الأول أو في صفٍ من الصفوف فنجد من يخلفه فيه من ولده، سواءٌ أكان ولداً طينياً أم ولداً دينياً، فالطيني ولده لصلبه، والديني من أثر فيه ودعاه إلى الحق، وهداه بما تحمله من الهداية وبما آتاه الله تعالى من العلم، وبذلك يزداد العدد ويكثر السواد، وتحصل الهيبة المطلوبة في نصرة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر المسلمين أن يُخرجوا إلى صلاة العيد العواتقَ والحيَّضَ ورباتِ الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ويشهدن دعوة المؤمنين كان بهذا يرشد إلى أهمية اجتماع المسلمين واحتشادهم في حشدٍ عظيم يغيظ أعداء الله ويحقق نصرة دين الله تعالى ويعلي كلمته.
وبذلك يعلم في هذه العصور المتأخرة التي ركن الناس فيها إلى جمع الأصوات، وتحاكموا فيها إلى الحكم الديمقراطي، يعلم أن رغبة المسلمين وكثرتهم الكاثرة إنما هي في دين الله، وأن من أراد أن يحصل على أصواتهم ويصل إلى رغباتهم فليحقق دين الله سبحانه وتعالى وليطبقه عليهم، وأنهم لا يرضون قانوناً سواه، وأنهم ينبذون ذلك ويخالفونه، ولا يمنعهم من الإعلان بذلك أي مانع، فلا يمنعهم من إظهار الحق حياء ولا عجز ولا مسكنة، فهم الذين أعزهم الله بالإيمان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولا يمنعهم خوف، فهم الذين يعلمون قول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران:175] ، ولا يمنعهم طمع، فهم الذين يقرأون قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[التوبة:28] ، فلذلك على من يريد سيادة المسلمين أو يريد جمع أصواتهم أن يطبق عليهم شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعز دين الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن كل ما سوى ذلك لن يجد مساحةً في قلوب المسلمين المخلصة المؤمنة المنيبة التي تتذكر الموت وتتذكر أنها مهما داهنت ومهما استكانت ومهما انصرفت عن الحق فإن ذلك لا يمكن أن يكون جواباً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تعلم أن الموتة واحدة وأنها مفروضة على كل بني آدم.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول
يعلمون أنهم جميعاً صائرون إلى الموت، وأن موتتهم واحدة، وبذلك لا يهمهم ولا يحزنهم شيء من مصائب هذه الدنيا، ولا يزنون لذلك أي ميزان في مقابل سخط الله، فهم يعلمون أنهم لو عذبوا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا ثم كان بعد ذلك الجنة فإنهم لم يخسروا شيئاً، ولو تنعموا طيلة أعمارهم في هذه الدنيا بأعلى ما فيها من أنواع النعيم ثم كانت بعد ذلك النار فإنهم لم يربحوا شيئا، ولذلك قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لا خير بخيرٍ بعده النار، ولا شر بشرٍ بعده الجنة).
إن المؤمنين إذا حققوا هذا في أنفسهم فقد انطلقوا على الطريق الصحيح وساروا عليه، فمن عاش منهم عاش عزيزاً، ومن مات منهم مات على الحق وهو سائر في مرضات الله سبحانه وتعالى وعلى منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من لم يحقق انتمائه ولا ولاءه، بل قال: إنه مع السائرين. وينظر إلى الكثرة الكاثرة ويغتر بأهل الدنيا وما هم فيه، فإن حضر الصلاة في المسجد وسمع إعلاناً عن كلمةٍ أو درسٍ قال أستمع وأحضر. ولكنه لا يريد أن ينطلق بشيءٍ إلى بيته مما هنالك، فيفسد وقته في غير طائل، وتقوم عليه الحجة ببعض ما يسمع، وينطلق إلى بيته ولم يأخذ معه شيئاً لا في يده ولا في قلبه، إن هؤلاء إنما هم من الغثاء الذي يعلو على سطح الماء ثم يزول، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ[الرعد:17] .
إن على المؤمن أن يحقق قول الله سبحانه وتعالى: فَبَشِّر عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18] ، وليعلم أن سعيه في تعليم الناس ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان عاجزاً عن تعليمه أو تعلمه كأن يكون شيخاً كبيراً فانياً قد ولى شبابه وانقطعت قريحته، أو كان مشتغلاً بتجارته ولا يستطيع أن يعلم ولا أن يتعلم فإن عليه أن يعين متعلماً، وبذلك يكتب له مثل ثوابه، ويكون قد عمل للإسلام، وإن كان لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله بيده، ولا يستطيع أن يكون تحت بارقة السيوف في الصفوف الأمامية وأن يحل أزرار قميصه لاستقبال الرصاص ويقول: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84] إن لم يستطع ذلك وحالت بينه وبين ذلك نفسه الضعيفة أو شيطانه فإن عليه أن يجاهد بماله وأن يبذله في سبيل الله، فإن كان لا يستطيع هذه ولا تلك فإن عليه أن يجاهد بلسانه وهو سلاح الضعفاء، عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا رأى خيراً حاول أن يعد من أهله وأن يكون بذلك مناصراً للحق ساعٍ فيه مهما كان.
من غير المقبول أن يكون المؤمن سلبياً لا أثر له في هذه الحياة، يخرج منها كما دخلها، فإذا حمل على الرقاب إلى قبره لا يتذكر الناس أن شخصاً كان يقف في الصف يصلي معهم في المسجد ويكثر سواد المسلمين، ولا يتذكرون أنه كان يقول كلمة الحق يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى، ولا يتذكرون أنه كان من الذين ينكئون أعداء الله تعالى بما يملكون، ولعلك تتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو مريض فقال: (اللهم! اشف عبدك ينكأ لك عدواً، أو يمشي لك إلى صلاة)، وكثير من المرضى اليوم لا يتذكر الذين يعرفونهم أنهم سينكئون عدواً لله أو يمشون إلى صلاة، بل هم غثاء كغثاء السيل، إن عاشوا فليس عيشهم لدين الله، وإن ماتوا فلم ينتقص أهل دين الله بشيء، ما أكثر هؤلاء وما أقل أولئك الذين يقال فيهم ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن أبي وقاص.
إن على المؤمن أن يجعل من حياته منهاجاً وبرنامجاً واضحاً ينكأ فيه أعداء الله، ويوالي فيه أولياء الله، ويمشي فيه إلى الصلاة، ويحقق فيه جهاده لنفسه وصبره ومصابرته على الحق، ويتحقق فيه بالأخلاق الحميدة والآداب النبيلة، فإذا مات مات على الطريق الصحيح، وإن عاش فإن الله يكتب له العزة على ذلك، وأما من لم يرفع بهذا رأساً ولم يسر عليه فسواءٌ عاش أو مات فإنه كما قال القائل:
فستة رهطٍ به خمسة وخمسة رهطٍ به أربعة
إن على المؤمن أن يكون إيجابياً في حياته، وأن يكون مؤثراً فيها، وأن ينظر إلى الذين يحتذي بهم فيحاول أن يسد مسدهم لأمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى أقوامٍ يقومون بالحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، أو يجاهدون في سبيل الله، أو ينصحون الناس ويدعونهم إلى الخير، أو يؤمونهم أو يعلمونهم الخير، ويعلم أن حياتهم غير دائمة، وأنهم قد أدوا ما عليهم، فيحاول أن يلتحق بهم وأن يسد مسد أحدهم لهذه الأمة، حتى لا يبقى مكانه فراغاً لو اخترم من بين صفوف هذه الأمة، يشعر بأن حياته هذه التي لا يدري متى طولها إلا الله سبحانه وتعالى أشرف أحوالها أن تكون كحياة الغلام الذي قال للملك حين أراد قتله وبذل في ذلك كل ما يستطيعه فلم ينجح قال: إذا أردت قتلي فاجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم انصبني غرضاً، وأخرج سهماً من كنانتك واجعله في قوسك وقل: (بسم الله رب الغلام) وارمني به فحينئذٍ سأموت. ففعل الملك ذلك وجمع الناس في صعيدٍ واحد وقال: (بسم الله رب الغلام) ورماه، فمات الغلام، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. فكان موت هذا الغلام فتحاً لدين الله.
نحن جميعاً نعلم أننا سنموت، لكن هل يكون موتنا فتحاً لدين الله؟ وهل تكون حياتنا كذلك؟ ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام:162-163] ، فهل نحقق هذا في أنفسنا، أو نكون من الذين تلعنهم هذه الآية حين يقرؤونها؟ وهل حققنا في أنفسنا أن حياتنا ويقظتنا ومنامنا وقيامنا ودعاءنا وخطواتنا وأموالنا وكل أمورنا حتى الموت في سبيل الله؟
إننا نقرأ سورة يس في قصة الرجل الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، فبعد أن دخل الجنة أراد أن يكون داعياً بعد الموت، كان داعياً في حال الحياة ولكنه لم يرض بذلك بل قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ[يس:26-27] ، ليكون داعياً بعد الموت، وقص الله عنه ذلك وجعله يتلى في كتاب الله إلى أن يرفعه الله، فنحن جميعاً نشهد لهذا الرجل حين نقرأ كلام ربنا أنه كان داعيةً في حياته ثم كان داعيةً بعد موته حين قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ[يس:26-27] لا يريد بهذا أن يذكر في الدنيا فهو قد قدم إلى ما قدّم ورأى مصيره الحتمي، وعلم أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وقد أقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو ل (موضع سوط أحدكم في الجنة خير له من الدنيا وما فيها)، وهو قد دخل الجنة، لكنه يريد بهذا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وليلتزم الناس بمنهجه، وليعلموا أنه لو قتل على هذا المنهج فإنه لن يذوق من مرارة الموت إلا قدر القرصة كما يقرص الشخص، وأنه بذلك يرفع عنه كل الأذى، وأنه قد انطلق إلى مرضات الله.
إننا جميعاً مطالبون بأن نحقق من حياتنا حياةً لله سبحانه وتعالى، ومن موتنا موتاً لله سبحانه وتعالى، كل شخصٍ منا إذا فكر في الموت ووعظه الواعظون بالموت تذكر أنه ربما مات على سرير المرض في أحد المستشفيات، أو مات على فراشه في بيته، أو مات في حادث سيارةٍ أو غير ذلك من الموتات المألوفة لدينا، ولكنَّ قلةً منا هم الذين يفكرون في أن تكون موتهم لله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن يموتوا على فرشهم كما يموت العير، وبذلك يحققون قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لا وألت نفس الجبان، إنه لم يبق من جسمي مغرس إبرةٍ إلا وفيه ضربة بسيفٍ أو طعنة برمحٍ أو رشقة بنبلٍ، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير).
إن التعرض للمهالك لا يقرب الأجل، فالأجل مكتوب ولكنه يزيد في الأجر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كفى ببارقة السيوف) أي: شاهداً. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل أحدٍ ينقطع عمله بموته إلا الشهيد في سبيل الله، فإنه يجرى عليه عمله كاملاً كما كان يفعله في حياته لا ينقطع عنه، وبذلك يكون الشهيد أطول الناس عمراً، فـحمزة بن عبد المطلب -مثلاً- وإخوانه الذين قتلوا يوم أحدٍ قد قال فيهم المنافقون: إن هؤلاء قد خسروا أنفسهم وبادروا إلى القتل وماتوا، وكان الأولى بهم أن يدخلوا في الحصون ويغلقوها عليهم، وبذلك ينجون من القتل. لكن أعمار المنافقين قد انقطعت وباتوا في حصونهم، فخرجوا إلى المقابر، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ[آل عمران:156-158] ، لكن هؤلاء الذين قتلوا يوم أحدٍ ما زالت أعمارهم إلى وقتنا هذا، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[آل عمران:169-170] كل أولئك الذين ماتوا في غير الشهادة قد انقطعت أعمالهم وختم عليها، وهؤلاء الذين ماتوا بالشهادة استمرت أعمالهم وليس فيها رياء ولا سمعة، ولا يمكن أن ينقص الشيطان منها شيئا، من كان منهم يقوم الليل ويصوم النهار ما زال عمله كذلك، يكتب له في الصباح نية الصيام، ويكتب له في المساء فرحة الإفطار، ويكتب له في الليل قيام الليل دون أن يتأثر ذلك برياءٍ ولا بسمعةٍ، ودون أن ينتقص الشيطان منه شيئا، وكذلك من مات مرابطاً في سبيل الله، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( يأمن الفتان)، وأن (رباط ليلةٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرفه الله بكل ما شرفه به يتمنى أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا فيقاتل ثم يقتل ثم يحيا فيقاتل فيقتل، فيقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سريةٍ تغزوا في سبيل الله، ولقد وددت لو أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل)، وهو رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وجعل منزلته أعظم من كل المنازل عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك يتمنى هذا.
إننا -ونحن نعلم هذا وندين الله به ونحققه- لا يطلب منا ما لا نطيقه وما لا نستطيعه، فالأمر سهل بسيط بين أيدينا، وهو أن يبدأُ المرء بإصلاح نفسه بتعلم ما أمره الله بتعلمه، ويجاهد نفسه على العمل بذلك، ويجاهد نفسه على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويجاهد نفسه على الصبر على الأذى في سبيل ذلك، وإذا كان عاجزاً عن جهاد الكافرين والمنافقين بيده جاهدهم بلسانه وماله، وأيضاً أبغضهم بقلبه، فيحقق المطلوب منه، وتكون له حجة وعهد عند الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن هذا من الأمور البسيطة التي لا يمكن أن يعتذر الشخص بعجزه عنها، فأنت عندما تخطو خطواتك إلى المسجد فتجلس فيه لتتعلم علماً فقد جاهدت في سبيل الله إذا نويت ذلك، ولهذا أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه قال: (من خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا علم يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ورجع غانما)، وكذلك الأعمال التي تقوم بها في حياتك، ففي كثيرٍ من الأحيان يكون نصفها من الأعمال الصالحات الباقيات، ولكن عليك أن تنوي لها الخير وأن تخلص فيها النية لله، فتحاول أن تكون مخلصاً في تصرفاتك حتى في ثنايا العمل، فقد يجلس الشخص مجلساً لم يصلح نيته قبله، ولكنه حين يتذكر في أثنائه نيته ويراجعها يكتب له بقية مجلسه ولا يفوته، وبذلك لا يخسر كل شيء.
إن من سار في بداية خطواته إلى المسجد أو إلى العلم أو إلى تكثير سواد المسلمين أو حضور درسٍ أو محاضرة أو بيانٍ إن نوى ذلك كانت الحصى تشهد له، ولا يرفع خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، لكن إن لم يتذكر إلا في أثناء الطريق عليه أن يبادر إلى إخلاص النية فيما بقي من طريقه حتى يكتب له ذلك.
إن كثيراً من الناس حين يقرأ القرآن فيجد فيه الخطاب الموجه للمسلمين لا يستشعر أنه مخاطب به، فحين يقرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[الصف:10-11] يقرؤه ولا يفكر في معناه، أو إذا فكر فيه لا يستشعر أنه داخل في جملة المخاطبين وأن الله عناه بخطابه هذا ووجهه إليه.
وإذا قرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ[الصف:14] لا يستشعر أن السؤال موجه إليه هو، وأن القرآن ناطق عليه بالحق، وأنه في نفس الوقت يسأل: من أنصاري إلى الله؟ حينئذٍ عليه أن يبادر إلى الإجابة كما فعل أبو طلحة الأنصاري الذي قرأ قول الله تعالى: انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً[التوبة:41] فضم المصحف وقال: أي بني! جهزوني جهزوني. فقالوا: ألم تغز مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشهد المشاهد؟ فقال: إن أبركم بي أسرعكم بي جهازا.
إن أقواماً من الذين فتنوا بالعلم وتعلموا بعض العلم الشرعي ولكنهم سخروا أنفسهم ليكونوا أبواقاً ووسائل للظلمة يستعينون بها على منع الحق في كثيرٍ من الأحيان ينظرون إلى الآيات الواردة في كتاب الله فيحولون بين الناس وبين فهمها الصحيح.
وأذكر قصةً حصلت لأهل بلدٍ، فقد حدث أن رجلاً من المشار إليهم بالعلم أتي به إلى مجموعة من الشباب السجناء ليقيم عليهم الحجة لصالح النظام، وليشتت ما لديه من معلومات، فألقي عليهم هذا الرجل محاضرته حتى تعبوا، ثم بدأ يسألهم ويمتحنهم في استيعاب محاضرته، فكان من جملة ما قال لأحدهم: يا بني! إنك شاب طري وسيم، فلماذا تتعب نفسك في هذا السجن الذي مكثت فيه خمس سنوات أو أربع وأنت تتعرض لأنواع العذاب والإيذاء؟! لماذا لا تخرج منه؟ وأي نص في كتاب أو سنةٍ يدعوك إلى هذه المصابرة وهذا العمل؟! فقال الولد: قرأت قول ربي سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام:162] فأردت أن أطبق ذلك، فمن حال بيني وبين تطبيق ذلك فهو المسئول، فقال له الرجل: يا بني! أنت جاهل. إنما هو قل -يا محمد-: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وليس خطاباً لمن سواه، وكل كلمة (قل) جاءت في القرآن فإن المقصود بها محمد صلى الله عليه وسلم وحده دون من سواه. فقعد هذه القاعدة واستدل عليها بكثيرٍ من الأدلة، فخاطبه الولد في وداعةٍ وهدوء فقال: يا شيخنا الجليل! ما رأيك في قول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1] هل هو خاص بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فبهت الرجل ولم يذكر جواباً، وهذا النوع من الأجوبة المسكتة إنما هو تأييد من الله تعالى لجنده، وقد جرب منه الكثير الكثير، وشوهد منه في مختلف البلدان أشياء عجيبة.
والعجيب أن هذا الرجل الذي يتحدث شيخ من المشايخ المشهورين في مؤسسةٍ هي من أكبر المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، وصاحب عمامةٍ كبيرة، وقد ابيضت لحيته بين الكتب الصفراء، ولكنه سخر ذلك لأن يأتي بشبهٍ يصد بها عن سبيل الله، وسخر نفسه لأن يحاول أن يكون للخائنين خصيما، وهو مع هذا يعلم أن هؤلاء الذين يخاصم عنهم لم يسألوه ولم يستشيروه ولم يستفتوه في أعمالهم التي يقومون بها، ودوره هو التبرير لهذه الأعمال بعد حصولها، لا يستشار قبل حصولها لعله يقلل منها شيئاً أو يحسنه، وإنما دوره أن يلتمس العذر لها ويصدر الفتاوي بعد خروجها، فيكون بذلك مدافعاً عما لم يتحمل وزره من قبل فيلحقه الإثم بعد هذا، وكذلك نجد كثيراً من الناس في كثيرٍ من المجتمعات يُستغلون أبواقاً لهذه الدعايات، فما إن يُتخذ قرار جائر أو يصدر قانون أو تقع زيارة أو غير ذلك إلا وجدتهم ينطلقون كأنهم أعدوا لهذا الكلام عدته، وكأنهم سحبان وائل قد وجد الحق فنطق به، وإذا سئلوا: هل استُشِرتم فيما حصل؟ أو: هل ترون أن غيره أصلح منه؟ فإنهم لا يمكن أن يقولوا: ليس بالإمكان أفضل مما كان. لا يمكن أن يرضوا عن هذا الواقع الذي يعيشه الناس، ولا يمكن أن يقولوا: إننا الآن نعيش على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في كل أمورنا. لا يدعي هذا كاذب ولا صادق، كل الناس يعلمون أن أهل الأرض جميعاً إلا من رحم الله في حياتهم وفي واقعهم في عصرنا هذا قلّ منهم من استمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار على نهجه، وإن الآثام والفجور السافر قد ملأ أكثر هذه البلدان، وأن مسئولية المسلمين قائمة، وأن عليهم أن يغيروا واقعهم، وأنهم إذا غيروه سيغير الله ما بهم، فالله سبحانه وتعالى تعهّد بنصرة الذين ينصرونه وحكم بذلك في كتابه، فقال جل من قائلٍ سبحانه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:41] .
أريد من نفسي ومن إخواني أن يطبقوا هذه الآية في أنفسهم، كل شخصٍ منا قد مُكن في الأرض في بيته وفي مكانه الذي هو فيه، فليحاول أن يطبق فيما مكن فيه من الأرض هذه الآية وحدها، آية واحدة من ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية في المصحف، حاول أن تطبق آيةً واحدةً منها في حياتك تخاصم عنك بين يدي الله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:41] إذا انطلقنا بهذه الآية وحدها فقد انطلقنا بربحٍ كبير، واستطعنا من خلاله أن نعرف طريقنا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في القرآن العظيم، وأن ينفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأن يصلح قلوبنا، وأن يهدينا إلى سواء الصراط، وأن يجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يجعل ما نقوله حجةً لنا لا علينا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من جنود محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتمسكين بسنته عند فساد أمته، اللهم! إن عبادك يرفعون إليك أيدي الضراعة، اللهم! لا تردهم خائبين، اللهم! لا تدع أحداً إلا وقد غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقضيت ما في علمك من حوائجه، اللهم! إنك أعلم بحوائجنا منا، وإنها لا تنقص ما عندك شيئا، اللهم! فاقض لنا سؤالنا، اللهم! هذا الدعاء ومنك الإجابة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأمِّنا كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم! أعل كلمة الدين، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وتقام فيه حدودك يا أرحم الراحمين.
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر