إسلام ويب

الأحاديث المعلة في الجنائز [6]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صناعة الطعام عند الموت لا تخلو من حالتين: إما أن يصنع الطعام لأهل الميت؛ لكونه جاءهم ما يشغلهم فهذا هو المراد بقوله: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)، وإما أن يقوم أهل الميت بصناعة الطعام وإقامة العزاء والاجتماع فهذا هو المراد بقول جرير رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع على الميت ووضع الطعام من النياحة، ولكن إذا صنع أهل الميت الطعام لمن يشتغل بتجهيز الميت فهذا لا بأس به.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    ففي هذا اليوم يوم الأحد يوم العشرين من جمادى الآخرة لعام خمسة وثلاثين بعد الأربعمائة والألف نكمل الأحاديث المتعلقة بأبواب الجنائز، وتكلمنا على شيء من أحكام الدفن، وفي هذا المجلس نتكلم على شيء من أحكام العزاء، وشيء من أحكام صلاة الجنائز.

    أول هذه الأحاديث: هو حديث عبد الله بن جعفر عليه رضوان الله أن جعفر بن أبي طالب لما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم ).

    هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في المسند، وأبو داود ، و الترمذي ، و النسائي ، و الدارقطني ، و البيهقي ، وغيرهم يروونه من حديث خالد بن سارة عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهذا الحديث معروف من حديث سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة المخزومي القرشي عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه عن سفيان بن عيينة جماعة من الرواة من الأئمة الثقات كـالحميدي والإمام أحمد و مسدد وغيرهم يروونه عن سفيان بن عيينة عن جعفر بن خالد بن سارة به، وهذا الحديث قد تكلم فيه، وموضع الكلام فيه هو في خالد بن سارة المخزومي وذلك أنه مستور الحال ولا يعرف له إلا حديثان: هذا الحديث، وحديث آخر يرويه عنه ابنه جعفر بن خالد بن سارة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل اثنين من ابني عبد المطلب على راحلته )، وهذان الحديثان مستقيمان من جهة المتن، وأما من جهة الإسناد فإن خالد بن سارة مستور، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى منهم من يقوي هذا الحديث ويأخذ به، ومنهم من يقول بعدم الأخذ به وذلك للجهالة في إسناده.

    تقديم رواية العرب على رواية العجم

    و خالد بن سارة كما أنه مستور إلا أنه من أشراف العرب، ولما أخرج الحاكم رحمه الله هذا الحديث في كتابه المستدرك، قال: خالد بن سارة المخزومي قرشي من وجوه قريش، قال: وكما قال شعبة : اكتبوا عن الأشراف فإنهم لا يكذبون، والمراد بقول شعبة بن الحجاج : اكتبوا عن الأشراف فإنهم لا يكذبون، أن الذي يسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يدفعه إلى الجسارة بالحديث حب الوجاهة والصدارة في الناس، فإذا كان الإنسان شريفاً في نفسه فهذا دافع نفسي ضعيف، فهو وجيه من غير هذا الأمر.

    وأيضاً فإن الأئمة عليهم رحمة الله يجعلون العربي أضبط من غيره، وذلك أن العرب أميون يعتمدون على الحفظ وعلى الذاكرة، والقلم عندهم متأخر بخلاف الأمم الأخرى، ولهذا تجد بعض الأعاجم ممن دخل الإسلام وكان من أهل الرواية يعتمد على مكتوبه أكثر من محفوظه، وأما العرب فيعتمدون على المحفوظ، ولهذا الضبط لديهم أكثر، وإذا اعتمد غيرهم على محفوظه وقع عنده الوهم والغلط، واعتماد العرب على المحفوظ أضبط، وقد أشار إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله، والحاكم في كتابه معرفة في علوم الحديث، وابن عبد البر رحمه الله.

    وفي قول شعبة : إن الأشراف لا يكذبون، المراد بهذا: أن العرب تستقبح الكذب ولا تتعمده، ولهذا قل ما يكذبون حتى على الخصوم، ولهذا فإن أبا سفيان حينما كان مشركاً وسئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصفه وذكر ما فيه من حق، فإنهم يستثقلون الكذب.

    ومن وجه آخر فإن الأشراف وأسياد القوم لا يحبون أن يذكروا بسوء، والكذب في ذلك من أقبح أخلاق أهل السوء، ولو لم يدفعهم إلى ذلك ديانة فيدفعهم إلى ضبط المنقول حب الاستقامة، وحمد الناس وعدم ذمهم والسلامة أيضاً من قدحه، وهذا من القرائن التي يقوي فيها بعض الحفاظ هذا الحديث ويجعل الجهالة في ذلك لا تضر، وهل جهالة خالد بن سارة المخزومي هنا ترتفع أم لا؟

    الأسباب التي تدفع الجهالة عن الراوي

    نقول: عند النظر في الجهالة لا بد من النظر إلى وجوه متعددة تدفع الجهالة أو تكون سبباً في رد الحديث لجهالة الراوي ومن ذلك الطبقة، وطبقة خالد بن سارة المخزومي ليست من الطبقات الأولى من متقدمين التابعين.

    ومن القرائن التي ينظر فيها في أبواب الجهالة: قرينة القربى، وهنا هو قرشي، و جعفر بن خالد بن سارة قرشي مخزومي ومن أسياد قريش والعرب، ويروي في هذا عن عبد الله بن جعفر.

    ومن القرائن: أن خالد بن سارة يروي حديثين هذا أحدهما، ومعلوم أن من وجوه معرفة ضبط الراوي من عدمه هو استقامة المتن، وقد أشرنا مراراً إلى أن الراوي إذا كان مجهولاً وله أحاديث متعددة فهو أقرب إلى معرفة حاله من جهة ضبط حفظه ممن لا يروي إلا حديثاً أو حديثين، وله هنا حديثان: له هذا الحديث وله حديث آخر: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام حمل اثنين من ابني عبد المطلب على راحلته )، ومتنهما مستقيم وليس فيه نكارة، وهذا من قرائن القبول.

    وكذلك ينظر إلى من روى عن ذلك المستور أو المجهول، وقد روى عنه هنا جعفر بن خالد وهو ابنه وهو ثقة، وروى عنه عطاء كما ذكر البخاري رحمه الله أنه روى عنه عطاء بن أبي رباح ، وهذا نوع تعديل له.

    ومن القرائن: ورود الحديث من مخرج آخر، فإذا ورد الحديث من مخرج آخر فهذا قرينة على ضبط الحديث واستقامة متنه، هذا الحديث قد جاء من طرق أخرى، فقد أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند، وابن ماجه في السنن من حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن أم عيسى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن أسماء بنت عميس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ).

    وهذا الحديث في إسناده جهالة، ولكن مخرجه يختلف، فإنه ترويه أم عيسى عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن أسماء، و أم عيسى و أم جعفر تسمى أم جعفر وتسمى أم عون وهي امرأة محمد بن الحنفية تروي عن أسماء بنت عميس عليها رضوان الله، وهذا مخرج آخر، والإسناد في ذلك أيضاً مجهول.

    وقد جاء هذا الحديث من غير هذا الوجه من غير رواية محمد بن إسحاق له، فقد أخرجه الواقدي من حديث مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر ، وأخرجه عبد الرزاق في كتابه المصنف من حديث رجل عن عبد الله بن أبي بكر عن أسماء ولم يذكر الواسطة، ومتن هذا الحديث في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم ما يشغلهم ).

    حكم صناعة الطعام عند الموت

    وقد جاء في حديث جرير عليه رضوان الله قال: ( كنا نعد الاجتماع للميت ووضع الطعام من النياحة )، وسيأتي الكلام على هذا الحديث.

    فهل هذا الحديث يعارض حديث عبد الله بن جعفر في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً )؟ نقول: صناعة الطعام بعد موت الميت على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يصنع لآل الميت طعاماً وذلك لشغل بالهم وأنفسهم بالحزن على الميت فليس في نفوسهم ما يدفعهم إلى صناعة الطعام، فيدفع الجيران والأقارب والأرحام إلى صناعة الطعام لهم.

    الصورة الثانية: أن يصنع أهل الميت أو غير أهل الميت طعاماً للناس فيجتمعون، فهذا الموضع شبيه بالوليمة فيدعى لها الناس، والصورة الأولى هي المعنية في حديث عبد الله بن جعفر حينما قال: ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم ما يشغلهم )، ويحمل حديث جرير وسيأتي الكلام عليه وهو معلول أيضاً على صناعة الطعام لمن يقدم إلى العزاء، أو دعوة الناس إلى الغداء أو العشاء في العزاء، وبعضهم يتوسع في هذا فيجعل ذلك صدقة للميت، ويجعلون ذلك على ثلاثة أيام.

    فالثاني هو البدعة، صناعة الوليمة حتى يجتمع الناس ويتداعى إليه، فيقول: احضر إلى وليمة فلان أو طعام فلان أو عشاءهم فيجتمع الناس، فهذا هو البدعة الذي لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأما الصورة الأولى فهي مستحبة، وعليها يحمل حديث عبد الله بن جعفر ، والذي يظهر لي والله أعلم أن حديث عبد الله بن جعفر حديث مستقيم وله ما يشهد له ويأتي ذلك بعد قليل بإذن الله تعالى.

    وأما الصورة الثانية: وهو أن توضع وليمة ويدعى الناس إليها سواءً كان الداعي أهل الميت أو كان الداعي الأرحام أو الجيران، فهذا يقال: إنه لا أصل له بل منهي عنه، لكن أن الإنسان إذا صنع طعاماً أو صنع له طعام ثم جاء الناس على سبيل الاعتراض فتناولوا الطعام مع أهل الميت فهذا مما لا بأس به شريطة ألا يكون في ذلك دعوة فتصنع الوليمة كولائم الأفراح فهذا لا أصل له، ويدل على صناعة الطعام للميت: أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على صناعة الطعام للمحزون والمريض، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصناعة التلبينة للمريض والمحزون فقال: فإنها تجم الفؤاد وتذهب الحزن )، والتلبينة: نوع من الطعام يصنع من الدقيق ويطحن ويوضع معه شيء من الحليب أو اللبن أو نحو ذلك، فهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بصناعته للمريض، وكانت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما في الصحيحين تصنعه إذا مات أحد من أهلها، كما جاء في البخاري و مسلم أنها كانت: إذا مات الميت من أهلها وذهب النساء يعني: من اجتمع في العزاء يعني: أنها لا يصنع لهم، وهذا يجمع بينه وبين حديث عبد الله بن جعفر، ويفرق بينه وبين حديث جرير، قال: فتصنع لهم التلبينة، وهذا يؤيد التفريق بين الصورتين.

    وكذلك لا حرج من صناعة الطعام لمن انشغل بالميت إما بتكفينه وغسله والذهاب به وحفر القبر ودفنه ونحو ذلك وصناعة الطعام له فهذا مما لا حرج فيه، قد دل الدليل على هذا، كما جاء عند أبي داود في سننه من حديث عاصم بن كليب عن أبيه قال: أخبرني رجل من الأنصار ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قبر رجل من أصحابه، فقال لمن يدفنه: وسع من عند رأسه ووسع من عند رجليه، قال: فلما دفن قال أتاه داعي امرأته، يعني: داعي امرأة الميت إلى طعام، فجاء هو وأصحابه فأكلوا )، وهذا ليست وليمة للعزاء ونحو ذلك ولكن تصنع لمن قام بشأن الميت ولو لم يكن من أهل الميت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089441830

    عدد مرات الحفظ

    785084840