الحديث الثالث: هو حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله قال: ( بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت في وتره، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقنت قبل الركوع ) .
هذا الحديث قد رواه الدارقطني في السنن، ورواه البيهقي من حديث أبان عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث تفرد به أبان بن أبي عياش وهو منكر الحديث بل متروك، ثم أيضاً إن هذا الحديث حديث كوفي يرويه أبان عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر صلاته في الوتر.
ومثل هذا ينبغي أن يثبت وأن يستقر عند غيرهم من فقهاء المدينة رواية وعملاً، ولا أعلم خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قنت في وتره، وهذا من الأعمال الليلية التي تدوم، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يطيل السجود والدعاء فيه.
وهل نقول: إن القنوت في الوتر لم يثبت على الإطلاق؟
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقنت، وأما أصحابه فقنتوا في رمضان في الشطر الأخير منه، وأما في غير رمضان فلا أعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استدام هذا العمل، وإن فعله على سبيل الاعتراض.
لهذا نقول: إن السنة في الوتر أن يكون دعاء الإنسان في سجوده من صلاة الليل إلا إذا كان يصلي لجماعة في رمضان فإنه يقنت لنفسه ويقنت لهم وذلك لدعوة المسلمين.
وأما من يميل مثلاً أو يستشكل رواية سفيان الثوري لهذا الحديث عن أبان عن إبراهيم عن علقمة وهو إمام في الرواية ويروي عن أبان بن أبي عياش مثل هذا الحديث، نقول: إن الأئمة الثقات منهم من لا يروي إلا عن ثقة، ومنهم من يروي عن ثقة وغيره، ومنهم من يروي الحديث يريد بذلك ضبطه حتى لا يختلط عليه مع غيره، و سفيان الثوري كوفي، و أبان كوفي أيضاً، وكذلك إبراهيم النخعي و علقمة كلهم من أهل الكوفة، وإذا لم يضبط الأحاديث المغلوطة مثل سفيان فغيره أبعد من أن يتولى ضبطه، ولهذا سفيان ربما روى عن بعض الضعفاء من أهل الكوفة ولا يروي عن الضعفاء من غيرهم وذلك احترازاً من أن يخرج حديث ويدخل في حديث آخر، وهذا من وجوه أو من أسباب رواية بعض الأئمة للأحاديث التي يكون فيها ضعفاء وذلك من باب الاحتراز.
وقد تقدم الإشارة معنا أن الأئمة عليهم رحمة يجعلون من وجوه الإعلال: أن الراوي يختلط عليه رواية الضعيف مع غيره فيستشكل الرواية فيحدث الحديث عن الثقة وهو قد سمعه من الضعيف، فإذا ميز ذلك واحتاط له ورواه حتى لا يستشكل عليه خاصة ما يبلى به الإنسان مما سمعه، وذلك قد مثلنا عليه في قول ابن عيينة رحمه الله يقول: إذا سمعت الحسن بن عمارة يحدث عن ابن شهاب وضعت أصبعي في أذني، والسبب في ذلك: حتى لا يقع في أذنه أحاديث الحسن بن عمارة عن الزهري فيحفظها وتستقر في ذهنه ويتناساها وينسبها للزهري مباشرة لأن الزهري من شيوخ ابن عيينة، وهذا من قرائن الإعلال.
ولهذا نجد سفيان الثوري وغيره يحفظون روايات بعض الضعفاء كرواية أبان بن أبي عياش وقد جاء حفظ أيضاً شعبة بن الحجاج وضبطها حتى لا تدخل عليه أو على غيره من أحاديث الثقات، وربما أراد أن يثبتها لغيره أو إذا جاءته من وجه آخر عرف أن هذه الأحاديث من الأحاديث الدخيلة التي تفرد بها أبان بن أبي عياش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى خاصة وأن الكوفة هي من معاقل العلم، كذلك أيضاً فإن أهل الكوفة مما يتساهلون في رفع الموقوفات، وكذلك يتساهلون برواية الأحاديث بالمعنى، وفيهم العجم, والعجم يميلون إلى إحسان الظن بأعمال الصحابة فيجعلون الموقوف مرفوعاً، أي: أن الصحابة لا يفعلون شيئاً إلا وله أصل عن النبي عليه الصلاة والسلام، فتمييزهم لمثل ذلك يختلف عن تمييز غيرهم وذلك من أهل الحجاز كمكة والمدينة فإنهم يميزون أن بعض الصحابة ربما اجتهد في مسألة من المسائل فقال بقول لم يقل به أحد غيره، فكان ذلك من باب الاجتهاد بخلاف العجم الذين يظنون أن كل فعل يفعله الصحابة يرون أن لذلك مستنداً.
ولهذا تجد في العجم حتى المتأخرين يجعلون أعمال العرب على أنها سنن، وأن مثل هذا لابد أن يكون عن أثر، وهذا بعد قرون مديدة، فكيف إذا كان ذلك يروى وبينهم بين الصحابي راوي أو راويان ونحو ذلك؟ وهذا من أسباب رفع الموقوفات عند الكوفيين, وذلك لأن أكثر أهل الكوفة ليسوا من العرب بل إما أن يكونوا موالي أو ربما من قبائل غير العرب فاستعربوا فدخلوا في أبواب العلم ورووا عن جماعة من الصحابة ورفعوا كثيراً من الموقوفات وربما رووا شيئاً من المعاني بخلاف ما قصده ذلك الراوي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.