إسلام ويب

أسباب النزول [1]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • قال عمر رضي الله عنه لابن عباس: لماذا تختلف الأمة وكتابها واحد وربها واحد فقال ابن عباس: إن القرآن نزل إلينا ونحن نعلم فيما نزل، وإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن ولا يعلمون فيما نزل فيختلفون. فمعرفة سبب النزول من أسباب الاتفاق وعدم وقوع الشر، ومعين على فهم المعنى المراد، وأسباب النزول نوعان: عامة، كنزول آية الخمر، وخاصة نزلت لسبب معين.

    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

    فقد جعل الله جل وعلا كتابه العظيم هداية ونوراً ورشاداً ودلالة لمن أراد الحق والخير والهدى وطلب ذلك, وجعله الله سبحانه وتعالى غواية لمن أراد الغواية والزيغ, وذلك أن الله جل وعلا جعل من كتابه المحكم البين, وجعل منه المتشابه, قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7], يعني: أصله وقلبه ومجموعه, وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] .

    فبين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الأصل فيه أنه هداية, وهذا هو المقصود من تنزيله, ويكون غواية لمن أراد الغواية ممن يلتمس المتشابهات لإضلال نفسه وإضلال الأمة, وقد جعل سبحانه وتعالى أفضل الأعمال هو تعلم القرآن, فقد جاء في الصحيح من حديث أبي عبد الرحمن عن عثمان بن عفان عليه رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .

    وجعل الله جل وعلا كلامه أفضل الكلام على الإطلاق, وخصه بجملة من الخصائص, ومن ذلك أن الحسنة لمن قرأ كلام الله بعشر أمثالها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن مسعود وغيره: ( لا أقول: الم حرف, ولكن ألف حرف, ولام حرف, وميم حرف, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء ) . والله سبحانه وتعالى يوفق من علم التفسير والتأويل إلى مواضع الخير ومراتب الرحمة, فيعرف المواضع التي تكون فيها الفرقة والخلاف شراً, والمواضع التي يكون فيها الخلاف رحمة وسعة.

    وقاية الأمة من الوقوع في الشر والخلاف

    والأمة إذا جهلت القرآن وجهلت مواضع نزوله وقع فيها الشر والخلاف, ولهذا روى الخطيب من حديث إبراهيم أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى دعا عبد الله بن عباس وسأله قال: ما لهذه الأمة تختلف وكتابها واحد وربها واحد؟ فقال عبد الله بن عباس : إن القرآن أنزل إلينا ونحن نعلم فيما نزل, وإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن ولا يعلمون فيما نزل فيختلفون, فزبره عمر عليه رضوان الله تعالى، ثم قال: إيه أعد. يعني: أعد ذلك المعنى من شدة ما استحسنه عمر بن الخطاب.

    ولأن وجود النص إذا تجرد من معرفة معناه وسبب نزوله فسيقع الإنسان في الخلاف والشر, فالله سبحانه وتعالى جعل كلامه عاماً, وهذا هو الأصل في التنزيل, وهذا العموم لمصلحة الأمة في معرفة الحكم الخاص والحكم العام, ومعرفة ما يترخص به الإنسان من وجوه الترخص عند الحاجة والضرورة, وهذا يعرفه ويدركه أهل العلم والدراية.

    وأما من أراد أن يأخذ ما يسوغ له من كلام الله جل وعلا فإن ذلك كائن، وقد وجد عبر التاريخ من شرب الخمر مستدلاً بنص القرآن, ومن زاغ عن طريق الحق من الوقوع في الشرك وغير ذلك مستدلاً بالقرآن, ومن وقع في خير الخلق بعد الأنبياء مستدلاً بالقرآن, مما يدل على أن وجود أحرف القرآن بذاتها مجردة من فهم أسباب النزول ومعاني الآي تكون من وجوه الضلال والزيغ للإنسان, وهذا قد قال به غير واحد من السلف من الصحابة وغيرهم.

    ويكفي في ذلك أن الفتن التي وقعت في صدر هذه الأمة وآخرها كان الذين يقومون بها هم من أظهر الناس تمسكاً بالقرآن وعناية بحروفه, واستدلوا بجملة من ظواهر الأدلة المخالفة لما أراده الله جل وعلا, وأراده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا كان من أعظم المهمات أن يعتني طالب العلم بمعرفة القرآن بتأويله, وأعظم وجوه التأويل التي يستفيد منها طالب العلم في معرفة المعاني المقصودة هو معرفة أسباب النزول, وهذا ما دعا إليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

    ونحن نعلم أن مقتضى حكمة الله جل وعلا من جهة الأصل أنه لا يفعل شيئاً إلا لسبب, والله سبحانه وتعالى يتكلم لحكمة بالغة, وما أرسل الرسل الذين تنزل عليهم الكتب إلا لحكمة وسبب, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم، كلما ذهب نبي جاء نبي آخر, وإن الله جعلني خاتم الأنبياء والمرسلين ) .

    في هذا الخبر إشارة إلى أن الله جل وعلا يبعث الرسل لحكمة سياسة الناس, وبيان الخير من الشر, وهذا هو المقصود من بعث الأنبياء على سبيل الإجمال.

    وإذا أردنا أن نعلم أسباب نزول آي القرآن فيجب علينا أن نعلم سبب نزول القرآن بالكلية على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وهذا أعظم وأسمى وأعلى سبب نزول في تاريخ البشرية، ذلك أن الله جل وعلا إنما أنزل كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لدفع الضلال والشرك.

    إدراك العموم الأعظم في الخطاب القرآني والمقصد منه

    وأعظم شيء في أبواب أسباب النزول هو أن يعرف الإنسان العام من الخاص مما نزل, وأعظم عموم في كلام الله جل وعلا هو عمومه لسائر البشرية والجن, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] . وقال الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28] . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158] .

    فالله جل وعلا أرسل رسوله إلى الناس كافة, وقد جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد و أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من نبي إلا أرسله الله إلى قومه خاصة, وإن الله أرسلني إلى الناس كافة ), ولهذا كان خطاب القرآن عاماً لسائر الناس, فسبب نزوله هو إصلاح البشرية في هذه الأرض كافة, بل تعدى ذلك إلى الجن, فهو رسالة إلى الثقلين, ولهذا خاطب الله سبحانه وتعالى الجن والإنس على سبيل العموم, وناداهم على سبيل الخصوص.

    فجاءت صيغ النداء بالعموم، مثل قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21] , وجاءت بصيغة العموم إلى الثقلين: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأنعام:130] , وجاءت أيضاً على سبيل التخصيص لكل جنس, فنادى الله جل وعلا النساء, ونادى الله جل وعلا الذكور, ونادى الله جل وعلا الذين آمنوا, ونادى الله جل وعلا الذين كفروا, ونادى الله جل وعلا أهل الكتاب.

    فكانت النداءات من الله سبحانه وتعالى إشارة إلى الاهتمام, وليس نزعاً للعموم المتضمن لأصل الرسالة, فلما كانت الرسالة عامة وجه الله سبحانه وتعالى الخطاب إلى الناس كافة, ويدخل في ذلك سائر الخلق، الجليل والحقير؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر وهو عموم الخطاب, كما جاء في الصحيح من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ) .

    يعني: أن الله جل وعلا يخاطب المؤمنين بخطاب المرسلين, ويخاطب المرسلين بخطاب المؤمنين, ولا دليل على الاختصاص إلا بدلالة صريحة, كأن يبين الله جل وعلا الخصوصية في لفظ من ألفاظ الآي, كقول الله جل وعلا: خَالِصَةً لَكَ [الأحزاب:50]، وهذا فيه إشارة إلى أن هذه الآية هي من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى حينئذ معرفة حكمها تديناً وعبادة, والتلفظ بذلك أيضاً من أعظم العبادة، وهي المقصودة من ورود ذلك اللفظ في القرآن وتضمنه له إلى قيام الساعة.

    وكذلك ما يتضمن من علل ليست بمخصوصة من قياس تلك المعاني على علل أرادها الله جل وعلا وحكم وغايات لا يدركها الإنسان من تباين أحكام البشر لاختلاف تكوينهم وتركيبهم بقدرة الله سبحانه وتعالى, ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الخلق يتباينون من جهة القدرة والقوة, فللأنبياء عامة ولنبينا قدرة, وكذلك للأجناس قدرة, فللذكر والأنثى قدرة مخصوصة, خص الله جل وعلا كل واحد منهما بخصيصة تختلف عن الآخر.

    ويجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد جعل كتابه عاماً, فإذا كان الله جعل لنبينا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما بعثت بجوامع الكلم ).

    والمراد من ذلك: أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم للواحد ككلامه للجماعة, فإذا خاطب زيداً فإنه يريد الخلق, سواء في أدنى الأرض أو في أقصاها, وإذا خاطب الرجال فيدخل في ذلك النساء.

    وإذا كان هذا لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لكلام الله جل وعلا من باب أولى, فينبغي أن يعلم أن عموم الرسالة هذا هو الأصل من تنزيل الكتاب على رسولنا عليه الصلاة والسلام.

    إذا عرفنا ذلك وجب علينا أن ندرك العموم الذي أطلقه العلماء من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

    وهذه قاعدة يتكلم عليها العلماء عند الاستدلال بالنصوص الشرعية, أن العموم في هذه الآية هو شامل لسائر المخاطبين, وأن ذلك إذا كان في هذه الآية فهو من جهة الأصل شامل لسائر التشريع, فالقرآن هو دستور لسائر الخلق الذين خاطبهم الله جل وعلا بالتكليف فأمرهم ونهاهم.

    وإذا أدرك ذلك أدرك أنه ما من آية من آي القرآن إلا وسبب نزولها إنما يورد لإدراك المعنى, المعنى المتضمن وليس لسبب التخصيص, وبه نعلم أن أهمية معرفة أسباب النزول تقي الإنسان من الوقوع في الانحراف عن المعاني المقصودة من مراد الشارع, من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088800956

    عدد مرات الحفظ

    779126648