إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [2]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العبد في سيره إلى الله يكون بين المحبة والخوف والرجاء، وأعظم الثلاثة المحبة، ومن أعظم المحاب محبة رسول الله، لأنه المخبر عن الله سبحانه والسبب في إيمان الخلق، وهذه المحبة منها ما يتعلق بذاته صلى الله عليه وسلم أو قوله أو فعله أو صفته، وهي محبة واجبة، وقد يوجد منها ما هو مستحب، ومن المحاب العظيمة أيضاً محبة المؤمنين، وتكون بحسب الإيمان، ومن تحققت فيه هذه المحاب ذاق حلاوة الإيمان كما أخبر ذلك صلى الله عليه وسلم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد: فاللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.

    قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمنا الله وإياه: [ باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان].

    شرح حديث أبي هريرة: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)

    قال رحمه الله: [ حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ) ].

    في قول المصنف رحمه الله: (باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان) الحب تقدم الكلام عليه، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الحب على الإطلاق؛ وذلك لتعلق العبادة بالمخبر عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن رب العالمين، فإذا نقص قدر المحبة فيه نقص قدر بلاغه للناس، وكذلك اتباعه، والله جل وعلا قد أمرنا باتباعه عليه الصلاة والسلام والاقتداء به، وكذلك توقي ما توقاه عليه الصلاة والسلام، ولا تتحقق الطاعة مع قصور المحبة، وتتحقق مع كمالها.

    يقول العلماء عليهم رحمة الله: إن المحبة التي شرعها الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على نوعين: محبة واجبة، أي: ما يكون فيها الإتيان بالتكليف الواجب، فما أمر الله سبحانه وتعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه لعباده فهذه لا بد أن تنشأ عن محبة واجبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما يلزم معه الإتيان بالواجبات واجتناب المحرمات. النوع الثاني: المحبة المستحبة: وهي التي ينشأ عنها فعل محبوبات يحبها المحبوب، مثل السنن، والنوافل وكثير من القربات، فإن الإنسان لا بد أن ينشأ فعله ذلك عن محبة في قلبه، وهذه المحبة تترد بين تلك المحبتين، ومن أطاع غيره من غير محبة فلا بد أن يكون أطاعه لسبب آخر وهو الخوف منه أو الرجاء فيه مع البغض له، وأعلى مراتب الطاعات هي الطاعات الناشئة عن محبة، وأما الطاعة الناشئة عن خوف والناشئة عن رجاء فإنها زائلة بزوال قوة الذي يخاف منه، وكذلك بزوال قدرته على الإنعام.

    فالإنسان يتقلب في طاعة الله سبحانه وتعالى بين ثلاثة أمور، فيركب أمراً وله جناحان، يركب المحبة على سبيل الدوام، والجناح الأيمن جناح الخوف، والثاني: هو جناح الرجاء، فيخاف من الله عز وجل ويرجوه، وأما المحبة فهي ملازمة له على الدوام؛ ولهذا يقول العلماء: إن الإنسان بين الخوف والرجاء كحال الطائر بالنسبة للجناحين، فإذ اختل أحدهما اختل جانب العبادة معه، وإذا فقدت المحبة فإنه لا يتحقق له حياة على الإطلاق، فتكون المحبة كحال قلبه، والخوف والرجاء كحال الجناحين، ومن عبد الله جل وعلا بالمحبة مجردة من غير خوف ولا رجاء فهذه عقائد الزنادقة، ومن عبد الله جل وعلا بالخوف مجرداً فهذه عبادة الحرورية الخوارج، ومن عبد الله بالرجاء مجرداً فقد عبد الله على طريقة المرجئة.

    فالإنسان يتوسط بين هذين، فيلتزم المحبة ويتوسط بين الرجاء والخوف، ولا يغلب جانباً على جانب إلا في حالين:

    الحالة الأولى: يقدم فيها الخوف على الرجاء، وذلك في حال ورود المتشابهات، والدليل على ذلك حديث النعمان بن بشير، كما جاء في الصحيحين وغيرهما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام )، فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغليب جانب الحيطة، وهي الخوف في حال وورد الشبهة، فإذا أراد الإنسان أن يقدم على شيء من الأعمال المترددة بين الحل والتحريم فعليه أن يغلب جانب التحريم، وهو تقديم الخوف على الرجاء، والذي يقدم الرجاء على الإطلاق في كل متشابهات لا بد أن يقع في الحرام ويفرط.

    وأما الحالة الثانية: وهي تقديم الرجاء على الخوف، وهذا يكون في حال عجز الإنسان عن العمل، بأن يكون الإنسان قد حضره الموت، أو أصابه الله جل وعلا بعاهة تمنعه من العمل، كحال الإنسان المقعد الذي لا يستطيع الحج ولا الجهاد ولا الإتيان بالصلاة قائماً، فمخاطبته بفرضية الصلاة وفرضية الجهاد هذا مما لا يشرع، بل يجعله يقنط من رحمة الله، والأفضل في ذلك أن تبين له رحمة الله سبحانه وتعالى، فيغلب هنا جانب الرجاء بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان العاجز لا يمكن أن يعمل، وتعليم العمل للعاجز يدفعه إلى العمل وهو لا يستطيع، وهذا يحمله على القنوط؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يفرغ ما في باطنه من هم لذلك المأمور به إلا بالعمل، فإذا لم يفرغه بالعمل انعكس عليه وأورثه ذلك قنوطاً، لهذا لا يعلم ولا يخوف العاجز عن العمل؛ لأن الإنسان يمتثل أمر المأمور باتقاء عقابه، ورجاء ما عنده بذلك العمل، وإذا علم أنه عاجز عن العمل حمله ذلك على القنوط.

    ومن أعظم أنواع المحبة الموصلة إلى الله هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ناقل الوحي وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، فكل محبة واجبة لمؤمن وجب أن تكون للنبي عليه الصلاة والسلام أكثر منها، وذلك أنه سبب محبة أهل الإيمان، وإن تقسم الإيمان في العباد فإنه مجتمع في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب على هذين الوجهين أن يحب عليه الصلاة والسلام أكثر من غيره، وقد جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له عمر بن الخطاب : ( يا رسول الله! إني لأحبك أكثر من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال: يا رسول الله! إنك لأحب إلي حتى من نفسي، فقال: الآن يا عمر ! ) يعني: أن الإنسان لا يمكن أن يتحقق فيه الإيمان حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أهله وولده ونفسه.

    وقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فوالذي نفسي بيده )، وهذا إقسام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عادة لا يقسم إلا على أمر عظيم مهم، وتقدم معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام بين محبة العبد لأخيه، وقال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) من غير قسم، ولما كان الأمر يتعلق بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القسم فيه؛ لأهميته وجلالة قدره، وتقدمه كذلك على أنواع المحبوبات.

    ومحبة رسول الله صلى الله وعليه وسلم على أقسام منها: محبة متعلقة بذاته، ومحبة متعلقة بعمله، ومحبة متعلقة بوصفه عليه الصلاة والسلام، سواء كان ذاتياً وهي الصفات الخلقية، أو مكتسباً بالصفات الخلقية التي رباه الله جل وعلا وعلمه إياها، وهذه فرع عن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقسمها العلماء إلى أفعال عبادة، وأفعال جبلة، وأفعال عادة، ومنها ما يستوجب الامتثال مما يكون على سبيل الاستحباب، وهذا في أفعال العبادة، ومنها ما يكون فيه الاقتداء لحب الفاعل، ويؤجر الإنسان على حب الفاعل لها لا على ذات العمل، بخلاف أفعال العبادة فإن الإنسان يؤجر على محبته للمقتدى به وهو النبي عليه الصلاة والسلام، ولمحبته أيضاً لذلك الفعل، ولهذا نقول: إن الإنسان ينافق إذا كره فعل العبادة، ولا ينافق إذا كره فعل الجبلة؛ لأن الإنسان قد يكره شيئاً من الأمور التي يجبل عليها، فلا يكون ذلك دافعاً إلى اتهامه بالنفاق؛ لأن الإنسان يجبل على هذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد يحب طعاماً من الأطعمة، كالدباء، فكراهة الإنسان لهذا الطعام مع كون النبي عليه الصلاة والسلام يحبه ليس هذا أمارة على النفاق، ولكن إذا كره عبادة أتى بها النبي عليه الصلاة والسلام فهذا من أمارات النفاق، ولهذا يفرق بين الأشياء المكتسبة والأشياء التي يفطر عليها الإنسان، والخطاب هنا في مسألة المحبة هي المحبة الشرعية المكتسبة، والأمور الشرعية المكتسبة، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .

    وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ) هذا لا يخرج نفس الإنسان، ولكن لما ذكر الوالد والولد دل اجتماع هذه الأشياء التي يفديها الإنسان بنفسه وماله على أن نفسه كذلك من باب أولى، لهذا ربما يزهد الإنسان بفرد من أفراد أهله ولكنه لا يزهد بمجموعهم، فلما ذكر المجموعة دل على دخول النفس من باب أولى كما أفاده حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.

    ونفي الإيمان هنا هل هو نفي صحة أو نفي كمال؟ بالنسبة لهذا النفي هو نفي صحة، فإذا قال الإنسان: أنا أحب أبي وأمي أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم من ذلك تقديم طاعة الوالدين على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم معنا الإشارة فيما يتعلق بمحبة الإنسان، وأن معنى قوله: ( يحب لأخيه ما يحب لنفسه )، أنها المحبة القلبية، وليس التساوي بأمر الظاهر، بل هو في العمل الباطن، والدليل على هذا ما جاء في الصحيح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا إلا وماله أحب إليه من مال وارثه )، وهذا دليل على الإقرار، فلما كانت الأمور حسية كان ثمة افتراق، ولكن في الأمور القلبية يجب أن يكون ثمة تساوي، فأحب لك أن تكتسب مثلما أكتسب، ولكن مقاسمة المال على السوية هذا أمر زائد عن ذلك؛ لهذا الإنسان ماله أحب إليه من مال وارثه، فإذا كان هذا في مال وارثه فإنه في غير مال وارثه من الأجانب عنه من باب أولى، وهذه هي المحبة القاصرة وهي محبة الآخرين.

    وقوله: ( لأخيه ) يدخل في ذلك أهل الإيمان، ويخرج من ذلك غيرهم.

    وقوله: ( حتى أكون أحب إليه من والده وولده ) يدخل في الوالد: الأب والأم، وذلك على سبيل الإجمال، وإن كان الوالد يسمى والداً، والوالدة تسمى والدة، وأما في الأولاد فيدخل في ذلك الأبناء والبنات؛ ولهذا أوصانا الله عز وجل بأولادنا فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فيدخل في ذلك الذكر والأنثى، وهذا على سبيل التغليب، فلما كان الأب ينسب إليه الإنسان، ويتكسب من جهته، وينفق عليه، فهو وليه، وغلب ذلك على الأم لا من جهة الاستحقاق فإن الأم تقدم على الأب من جهة الحق، ولكن الغلبة في الاصطلاح والحادث في أمر الدنيا، وهذا أمر معلوم، كما في قولهم: الأسودان، وكذلك القمران بالنسبة للشمس والقمر، وللتمر واللبن.

    شرح حديث أنس: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)

    قال رحمه الله: [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ح، وحدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) ].

    النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك هذا ذكر زيادة على حديث أبي هريرة وهي قوله: ( الناس أجمعين ) فيدخلون فيه من باب أولى، ويدخل في هذا من كان لا يتصل الإنسان به نسباً، كالزوجة أو الأقربين من ذوي الأرحام وغيرهم، وذلك دفعاً لحظ النفس المتعلق بشيء من لذائذ الدنيا ومتاعها، فينبغي للإنسان ألا يقدم ذلك على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر ( الناس أجمعين )؛ لأنه يدخل تبعاً في أمر الناس وما يتعلق بأموالهم، وأحوالهم من وجاهة، وما يلحق أيضاً به من سبب ونسب، فإن ذلك ينبغي أن يدخل فيه، وذلك أيضاً فيه دفع للتوهم؛ لأنه ربما يظن بعض الناس أن ثمة أحد من المعظمين ممن يختص بخصيصة، كأهل الفضل من أهل العلم، وكذلك أهل الطاعة وأهل الديانة أنهم يقدمون على الوالدين أو الوالد ونحو ذلك، هذا دفع للتوهم أن يدخل في ذلك سائر الناس مهما كان فضله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088798618

    عدد مرات الحفظ

    779108266