إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [4]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعتبر المعاصي من الكفر الأصغر، وهي من أمور الجاهلية التي تضعف الإيمان، لكنها لا تذهبه، ومنها على سبيل المثال الاقتتال بين أهل الإيمان، وإنما الذي يذهب الإيمان هو الشرك بالله سبحانه، وكذلك النفاق الاعتقادي، أما النفاق العملي فهو يضعف الإيمان، كإخلاف الوعد أو الكذب أو خيانة الأمانة وغيرها، ويقابل ذلك أمور هي من الإيمان وتزيده كذلك، كالجهاد والاعتكاف والصلاة والزكاة وصيام رمضان وغير ذلك.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد: فاللهم إنا نسألك الفقه في الدين وعلم التأويل.

    قال الإمام البخاري رحمنا الله وإياه: [ باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية )، وقول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48].

    حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة، عن واصل الأحدب، عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك، فقال: ( إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال: لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) ].

    قول المصنف رحمه الله: (باب المعاصي من أمر الجاهلية)، الجاهلية إنما سميت جاهلية لغلبة مخالفة أمر الله عز وجل عليها، والله سبحانه وتعالى قد ذكر من يعمل سوء بجهالة يعني: يعصي الله سبحانه وتعالى، فمن عصى الله جل وعلا بعلم أو عن غير علم فقد وقع في الجاهلية ولهذا الجاهليون أكثرهم أصحاب الجهل المنافي للعلم من غير مكابرة، وإنما وجدوا آباءهم هكذا، فسميت تلك جاهلية، فمن خالف أمر الله سبحانه وتعالى متعمداً فهو عاصي، ويأثم بفعله ذلك، وإذا لم يكن عالماً فإنه قد يأثم وقد لا يأثم، إذا لم يكن عالماً وقصر في الحصول على العلم أثم في هذا، وإذا لم يقصر في تحصيل العلم بما وقع فيه فإنه لا يأثم، وهذا ظاهر في قول النبي عليه الصلاة والسلام، كما جاء في صحيح الإمام مسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار )، يعني: أنه بمجرد السماع والتقصير في تتبع ذلك الحق جعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك موجباً لدخول النار، وفي قوله عليه رحمه الله: (باب المعاصي من أمر الجاهلية) يعني: أن فيها شعبة من شعب الجاهلية، وكما أن للإيمان شعب فكذلك للكفر شعب، وكما أنا للعلم شعب كذلك أيضا فإن للجهل والجاهلية شعب.

    وفي قوله هنا: (لا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك) المعاصي التي يقع فيها الإنسان تنقص من أجره شيئاً فشيئاً، وتوجد شيئاً من شعب الكفر فيه إلا أن صاحبها لا يكفر إلا بوجود الشرك فيه، والمؤمن لا يكفر إلا بشي بين، ويكفر بوجود المكفر فيه باطناً وظاهراً، باطناً: بعمل القلب، وظاهراً: بقول اللسان وعمل الجوارح، وإذا توفرت فيه شعبة واحدة من شعب الكفر الأكبر توفر فيه الكفر كله، وإذا وجدت شعبة من شعب الإيمان لا يتحقق فيه الإيمان حتى توجد فيه شعب الإيمان، وينتفي في ذلك ضدها.

    وفي قوله: (لا يكفر صاحبها) يعني: يحال بينه وبين الإسلام، وكأنه غطى بينه وبين الإسلام، فجعله حائلاً.

    وفي قوله: (إلا بالشرك) المراد بذلك: هو الشرك الأكبر المخرج من الملة، وهو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ[المائدة:5]، وفي قوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء:48]؛ ولهذا ذكرها المصنف رحمه الله تعالى بعد ذكر قوله: ( إنك امرؤ فيك جاهلية )، وإنما هنا ذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه ذكره في الخبر، وذلك لأن التراجم أمارات ودلالات على معانٍ فيها، فربما جمع زبدة ما يريد ذكره في الباب وجعله في الترجمة، وإنما قال: (لا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بشرك)، يقول: (ارتكابها) ارتكاب الذنب يعني: ركوبه، والركوب لا يكون إلا على الدابة، ارتكب فلان معصية كذا فكأنه امتطاها كما يمتطي الإنسان الدابة، وهذا لا يكون إلا عن قصد وعمد.

    وهنا في قوله: (لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، قال: وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه) المراد بالسب: الذم والقدح والتعيير، سواء كان ذلك بحق أو بباطل، وفي قوله: (عيرته بأمه) إشارة إلى شيء من بقايا الجاهلية من تعيير الناس بأحسابهم وكذلك بأنسابهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال له: ( يا أبا ذر أعيرته بأمه ) فيما يظهر والله أعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يكون سمع ذلك منه مباشرة، أو أن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وعادة العرب أنهم ينتقصون الموالي، وليس عندهم لأعراضهم حرمة، فيقذفونهم، ويقعون أيضاً عليهم بالضرب، وربما سلبوهم ما كان من حقهم.

    وفي قوله: ( يا أبا ذر أعيرته بأمه ) النبي عليه الصلاة والسلام نادى أبا ذر بكنيته مع أنه يحاسبه، ويريد أن يلومه على ما هو فيه؛ وذلك لأنه ربما قد وقع في خطأ من غير قصد، أو جرى على ما جرى عليه الناس، وهذا من الرحمة واللطف والشفقة بالمخالفين، وفي قوله: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) أي: لم تقع في الجاهلية، وإنما وقعت في شيء أو شعبة من شعبها.

    وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم ) جعل النبي عليه الصلاة والسلام العبيد والإماء من الإخوان؛ وذلك لأخوة الإيمان، وأن كونهم تحت أيديهم لا يعني ذلك أن الإنسان يتسلط عليهم بأخذ شيء من حقوقهم ولو قل، والله جل وعلا قد خول هؤلاء الأسياد ما كان من أمرهم ونهيهم.

    وقوله: ( خولكم ) يعني: أن الله جل وعلا جعل أمرهم تخويلاً لكم بالأمر والنهي، وقد جعله الله عز وجل تحت أيديكم، وهذا على سبيل المعنى، أي: أنكم تأمرونهم وتنهونهم، وربما أنزلتم عليهم شيئاً من العقوبة، إشارة إلى انخفاض حالهم عنكم، وذلك بأخذ الأمر والنهي، والإنسان إذا كان يأمر غيره فإنه في الغالب لا يحب المشاكلة له باللباس والمركب، وكذلك المسكن، فهو يحب أن تكون منزلته دونه؛ ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك بين السيد وبين عبده، وإنما يلبسه كما يلبس، ويركبه كما يركب، إذا كان لديه فضل مال، وهذا بالنسبة للعبد.

    أما إذا كان مثلاً أجيراً له فإن إجارته أن يعطيه حقه فيما قدره له، سواء كان ذلك مقيداً بزمن، أو كان ذلك مقيداً بعمل محدود، فيعطيه أجره، وما عاد ذلك فإنه حر يملك أمره، يستطيع أن يذهب ويجيء، وأما بالنسبة للعبد فإنه لا يملك حيلة، ولا يهتدي سبيلاً، وهو تحت سيده لا يملك لنفسه إعتاقاً ولا حرية، وإنما هو رقيق، وأمره بيد سيده، فلما كانت العبودية في ذلك تامة وجب عليه أن يعوضه شيئاً مما فقده من اختياره.

    وفي قوله: ( فليطعمه مما يأكل ) النبي عليه الصلاة والسلام قال -كما جاء في الخبر وهو في الصحيح-: ( إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فإن لم يجلسه فليعطه اللقمة واللقمتين )، يعني: إذا لم تستطع أن تجلسه معك لوجود حرج في ذلك، كأن يكون الطعام قليلاً، ودعوت ضيفاً لا يكفيه، أو ضيفين أو نحو ذلك، فعليك أن تعطيه ما يدفع شيئاً في نفسه، وهذه السياسة من رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسة عالية ونبوية جليلة القدر، وذلك أن الخادم وكذلك العبد إذا حمل في نفسه على سيده ربما دفعه ذلك إلى الانتقام منه، وكذلك حمل الغل والحقد عليه، وربما دفعه ذلك إلى الحرام، فإذا لم يجد ما يلبس ربما دفعه ذلك إلى التكثر من سيده بغير حق، فأخذ من ماله من غير إذن منه.

    كذلك أيضاً في أمر من كان تحت يدك ولو كان قاصراً، فإذا لم تعطه حقه، ولم تمنع عنه ما منعه الله عز وجل من الاحتقار، أو سلبته ما يتنعم به من لباس أو نحو ذلك، وكان بإمكانك، فإن هذا ربما يدفعه إلى أذيتك، وكذلك ربما دفعه ذلك إلى الغل والحقد، وهذا أمر محرم.

    ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام قال كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا )، والنبي عليه الصلاة والسلام يريد بذلك ألا تأخذوا بأسباب التحاسد والتباغض، والتباغض هو: المنازعة على شيء من أمر الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما منع أبا ذر من تعييره ذلك كأنه أشار إلى أن سبب الخصومة التي أوقعتك فيه هو أنه ربما أحب شيئاً من المشاكلة بينك وبينه، وهذا حق له؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام ذكر شيئاً من حقه زائداً عن المنع والعصمة له في دمه، فذكر النبي عليه الصلاة والسلام الإطعام، وكذلك الإلباس، ونحو ذلك، وهذا قدر زائد عن مسألة الضرب، أي: أنه ينبغي لك أن تعطيه حقه من الطعام واللباس زيادة عن كف الأذى الذي يقع منك إليه.

    وفي قوله: ( ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم )، إما أن تعينه بنفسك، وإما أن تعينه بآخر مثله، إما أن يكون من العبيد، أو يكون من الأجراء؛ ولهذا جاء عن عائشة عليها رضوان الله أنها قالت: ( ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً، وما ضرب امرأة )، وهذا إشارة إلى سعة كرمه عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضاً قال أنس بن مالك: ( خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيء فعلته لم فعلته، أو لشيء لم أفعله لم لم تفعله )، وهذا مع أن أنس بن مالك كان شاباً صغيراً، وأول ما خدم النبي عليه الصلاة والسلام كان عمره عشر سنين، ويبعد بل يحال أنه لم يخطئ أو ينس أو يتجاهل وهو صبي في مثل هذا السن، فربما أمره النبي عليه الصلاة والسلام بأمر فتجاوزه إلى غيره، ومع ذلك لم يعنف عليه الصلاة والسلام، ولم يعتدي، ولم يقبح، وهذا غاية في الرحمة بالخلق، وكذلك إعانتهم على أنفسهم، وهذا ما يسمى بالتغافل، وهو الإعراض عن خطأ المخطئ حتى يدرك، والعلماء يفرقون بين التغافل والغفلة، فالغفلة: هي التي لا يشعر بها الإنسان، وتشترك مع التغافل بالأثر، فالإنسان يغفل عن شيء ولا يكون له أثر عليه، وأما التغافل فهذا شطر العافية؛ ولهذا يقول العلماء: التغافل شطر العافية. وكذلك أيضاً هو من آثار العقلاء في تصرفاتهم، وذلك أن الإنسان يعلم ويرى الخطأ ثم يسكت عنه، ويكون حاضراً في ذهنه، ثم يجمع إليه غيره وغيره وغيره وهكذا حتى يتخذ أمراً بعد ذلك، وأما الغفلة: فهي الإعراض عن خطأ المخطئ حتى يفسد على الإنسان نفسه، أو يفسد عليه دينه، أو يفسد عليه ماله وولده وعرضه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088794892

    عدد مرات الحفظ

    779088588