إسلام ويب

شرح كتاب العلم من صحيح البخاري [3]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن منزلة العلم عظيمة، وضدها الجهل وما يترتب عليه من فشو الفتن والهرج، ولا يقع الجهل إلا بقبض العلماء؛ لهذا حث العلماء على طلب العلم، والرحلة في سبيله، وكتابته، وحفظه مع فهمه، والسؤال عما يشكل منه، ومن انشغل عن العلم تناوب مع رفيقه، ولا بد من تبليغ العلم ونشره وتعليمه الناس وإجابتهم عما يسألون عنه على أي حالٍ، قائماً كان أو قاعداً أو بالإشارة، ومن نشر العلم وتعليمه تعليم النساء بأن يخصص لهن يوماً ليعظهن ويفقههن.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

    قال الإمام البخاري: [ باب رفع العلم وظهور الجهل، وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه.

    حدثنا عمران بن ميسرة، قال: حدثنا عبد الوارث، عن أبي التياح، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا ).

    حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) ].

    قوله رحمه الله: (باب رفع العلم وظهور الجهل) وثمة تلازم بينهما، إذا رفع العلم فإنه يظهر الجهل، وإذا انقبض الجهل فإن هذا أمارة على وجود العلم، والعلم يكون بقبض العلماء، فميزان خيرية الأمة هو بوجود العلماء لا بوجود المال؛ لأن الناس إذا كانوا على مال بلا علم اقتتلوا وافتتنوا، وبالعلم فإنهم يأنسون ويتآلفون ولو كانوا على فقر؛ ولهذا يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله كما روى ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها: لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم. يعني: الخيرية تكون في الأمة مع وجود العلماء، وتنقص تلك الخيرية بنقصان العلماء؛ ولهذا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه )، والمراد بذلك هو ذهاب العلماء، والبلد التي فيها علماء بمقدار أدائهم لرسالتهم فإن الأمة أمة مرحومة.

    قول ربيعة: (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه)، وذلك أن صاحب العلم إذا ضيع نفسه بعدم البلاغ، أو بعدم الاستزادة من العلم، أو ابتذال النفس فيما دون العلم فذلك من الهدر؛ لأن الإنسان إذا كان جاهلاً بنفسه فغيره أجهل به من نفسه؛ فلهذا ينبغي للإنسان ألا يأخذه ما يسمى بالورع البارد، وألا يأخذه أيضاً في المقابل الجسارة على العلم إذا كان جاهلاً فيجعل في نفسه من العلم ما ليس فيها، بل يعطيها قدرها من جهة البلاغ ومن جهة الأخذ والاستزادة.

    شرح حديث أنس: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم...)

    وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ) ] تقدم معنا في حديث ابن العاص وهو في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ضلوا بأنفسهم، وأضلوا غيرهم، الله عز وجل هو الذي يرفع العلماء، والجاهل يرفعه الناس؛ ولهذا قال: ( اتخذ الناس رءوساً جهالاً )، أما العالم يرفعه الله يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11]، لهذا العالم لا يمكن أن يوضع، والجاهل لا يمكن أن يرفع؛ وذلك أنه إذا زال رافعه رجع إلى موضعه الذي هو فيه، أما العالم فالله عز وجل هو الذي رفعه بالعلم، ويضعه الله عز وجل إذا زل عن مكانه الذي هو عليه؛ لهذا كم من الناس يحاولون أن يطفئوا شمس عالم بعينه فيعجزون عن ذلك؛ لأن الله عز وجل هو الذي رفعه، وكم من الناس الجهال يحاولون أن يبرزوا جاهلاً، ويأبى الناس أن يدخل قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، والقبول منه سبحانه وتعالى.

    وفي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم )، أي: أن الناس كلما تأخر الزمن في ذلك قبض العلم منهم، وظهر بذلك الجهل، وثمة تلازم بين قبض العلم وظهور الفتن، فأصل وجود الفتن هو قبض العلم، يعني: أن الناس إذا كانوا لا يعلمون حكم القتل تقاتلوا حمية، أو تقاتلوا لأجل القبيلة، أو تقاتلوا على المال، فما هو الذي يعيد الأمور إلى نصابها؟ العلم من الكتاب والسنة، والعدل والإنصاف؛ لأن الله عز وجل أرسل أنبياءه لإقامة العبادة، ولإقامة العدل في أمور الناس في دنياهم؛ لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[الحديد:25]، لهذا العالم من رسالته أن يقوم بالعدل في جانب العبادة والدين، وفي جانب الدنيا؛ وكلما انعزل العالم عن مجتمع الناس والعدل فيهم في أمور الدنيا، وقضاء حوائجهم، والإنصاف في أمورهم، فإن رسالته في ذلك فيها نقص.

    النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء بالأمور التعبدية فقط، بل جاء ليحفظ الحقوق أيضاً، ينتصر للمظلوم من ظالمه، ومن المبغي عليه من الباغي وهكذا؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من ربه سبحانه وتعالى بالعدل كله؛ ولهذا نجد أنبياء الله عز وجل حاربوا الظلم في الأخلاق، الظلم في الأموال، الظلم في أمور الدين، فشعيب عليه السلام أرسله الله عز وجل لأجل ألا يطفف الناس المكيال والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، يعني: في أمور البيع والشراء، وكذلك أخذ المكوس، وهي: العشر من أموال الناس من غير حق، فهذا من الظلم، فأرسله الله بالعدل في هذا.

    ولوط عليه السلام أرسله الله عز وجل لمحاربة الانحراف في الأخلاق، وأنبياء الله عز وجل بعثهم أيضاً لإقامة حق الله عز وجل وتوحيده في الناس؛ لهذا نقول: إن الأحاديث التي تأتي في رفع العلم يتبعها ظهور الجهل، وكذلك لوازم ذلك من الفتن.

    شرح حديث أنس: (من أشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل)

    والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في حديث أنس بن مالك الآخر: ( يقل العلم ويظهر الجهل )، ثم ماذا يظهر؟ الزنا، لا يظهر زنا في أمة إلا مع وجود الجهل، ولكن قد يقول شخص: يوجد العالم الفلاني، العالم الفلاني، نقول: هذا ما أدى رسالته، فحاله كحال كتاب لم يفتح، أدى الرسالة أو ما أداها؟ ما أدى تلك الرسالة، إذاً: التقصير من قبله، والعقوبة إذا نزلت على أمة وفيها عالم ولم يكن فيها مصلح أول ما يبدأ بالعالم؛ لأنه لم يتمعر وجهه لحرمات الله؛ ولهذا نقول: إن ظهور الجهل وقبض العلم أمارة على وجود الفتن والاضطراب.

    قال صلى الله عليه وسلم: ( يظهر الزنا وتكثر النساء)، لماذا؟ ما هو اللازم لكثرة النساء وقلة الرجال مع ظهور الزنا؟

    الأمراض التي تهلك الناس، وقد جاء في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن كثرة الزنا هلاك للأمة بكثرة الأمراض؛ ولهذا إذا انتشرت الفاحشة في قوم سلط الله عز وجل عليهم من الأمراض ما لم يكن في أسلافهم فيموتون، كما ينتشر في الأزمنة المتأخرة من الأمراض والأوبئة ما لم تسمع به الأمم من قبل؛ ولهذا يزولون بالقتل، ومن دواعي القتل القتال، لكن لماذا يتقاتلون؟ يتقاتلون على الثروات، على الأموال، على القبلية، على الحزبية، على غير ذلك، يتقاتلون؛ لعدم وجود العلم، يتقاتلون ثم يبيد بعضهم بعضاً، إذاً: هذا لازم لعدم وجود العلم أم لا؟ لازم لعدم وجود العلم، فإذا وجد العلم فالأمة حينئذٍ مرحومة، وإذا ارتفع العلم جاءت لوازم كثيرة، من ذلك: انتشار الفواحش، وما يتبع ذلك من أمراض، وكذلك أيضاً تقاتل الناس على الثروات وغير ذلك، حتى يبقى النساء ويكثرن، ويقل في ذلك الرجال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088795336

    عدد مرات الحفظ

    779090995