إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري [3]للشيخ : عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الناس يتفاضلون في الإيمان، فمنهم من يكون إيمانه في أعلا المقامات، وهؤلاء هم أشد الناس حياءً، وأسرعهم مبادرة إلى الأعمال الصالحة، ومنهم من يضعف إيمانه حتى يكون كالذرة، وذلك بسبب إقباله على الذنوب والمعاصي، وهؤلاء يحفزون حتى يسارعوا في العمل سواء بالعطاء أو بغيره، وهناك طائفة ليست من أهل الإيمان، فهؤلاء يقاتلون عليه حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد: فاللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.

    قال الإمام البخاري رحمنا الله وإياه: [ باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار ) ].

    قول المصنف رحمه الله: (باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان)، هذا الحديث تقدم معنا في باب حلاوة الإيمان، وذكرنا مسألة كره الإنسان أن يعود إلى الكفر، وأشرنا إلى شيء من معنى الكره والمحبة، وأن الكره والمحبة على معنيين: كره فطري، أي: موجود في الإنسان، وكره مكتسب يمكن أن يكتسبه الإنسان، وذلك كالكره الذي يتدين به الإنسان ويتعبد به، وربما يلتزم الإنسان ذلك الكره مع طول مراسه، حتى يستروح ذلك الكره ويصبح كالكره الفطري، وإنما ذكر العودة في الكفر إشارة إلى أن الإنسان كان على الكفر، وهذا إنما خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة أصحابه؛ لأنهم كانوا على جاهلية وكفر، ثم أنقذهم الله عز وجل منها.

    وفي هذا فائدة ومسألة وهي: أن الإنسان إذا كان عارفاً بالجاهلية، ثم جاء إلى الحق، فإن رجوعه إلى الجاهلية أخطر وأعظم ممن لم يعرف الجاهلية، وقد جاء عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى أنه قال: إنما يضل في الإسلام من عرف الإسلام ولم يعرف الجاهلية، وجاء بمعنى هذا أيضاً عنه، لكن بغير هذا اللفظ.

    والمراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شدد الوعيد على من كان على باطل، ثم بعد أن عرف الباطل انتقل إلى الحق، ثم أراد أن يرجع إلى الباطل الذي كان عليه، فإن عقابه في ذلك أعظم، وهذه في الغالب أنها لا تكون إلا لمن في قلبه جذوة من النفاق؛ ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى حال أولئك فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا[النساء:137]، أي: أن تقلب الإنسان بين الحق والباطل والكفر والإيمان لا يكون إلا من منافق، وهذا متوعد بالعقوبة الشديدة التي تختلف عن غيره، وهذا يرجعنا إلى أصله، وهو أنه كلما قامت الحجة على الإنسان واتضحت كان العقاب عليه أشر، وإذا ضعفت الحجة كان العقاب عليه أقل، وهذا ربما يكون مقتضى قول الله جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[الإسراء:15]، والمراد بذلك أن العذاب يلحق الإنسان بقدر وضوح الحجة وبيانها وخلوصها لديه، ويعظم هذا الأمر في الإنسان إذا عرف الشيء بضده.

    وتقدمت الإشارة معنا إلى أن حقائق الأشياء تعرف بجهتين: الجهة الأولى: بمعرفتها بذاتها، الجهة الثانية: بمعرفة ضدها، وأكمل هذه الوجوه أن يعرف الإنسان الجهتين، وأما إذا عرف جهة وقصر في الجهة المقابلة، فقد أصبح علمه قاصراً بحسب جهله بأجزاء ما يقابل ذلك العلم، وهذا في سائر العلوم سواء ما كان من العلوم الشرعية وغير الشرعية، أو ما كان من العلوم المحسوسة وأيضاً من غير المحسوسة.

    وفي قوله: (من الإيمان)، أي: أن الإنسان يثاب على هذا الكره القلبي ولو لم يتلبس بشيء؛ لأن هذا ينعقد عليه عمل القلب، وعمل القلب يثاب عليه الإنسان مجرداً ولو لم يتلبس بشيء من القول والعمل؛ وذلك أن الإيمان قول وعمل في القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، وإذا وجد العمل في أحد هذه الأشياء يؤجر الإنسان على ذلك، وعمل القلب لا يلزم منه عمل الجوارح، وعمل الجوارح يلزم منه عمل القلب، والإنسان إذا توطنت جوارحه على عمل الحق بعد طول مراس، فيثاب على عمل الظاهر ولو لم يصاحبه باطن، شريطة ألا يوجد باطن ينافي ذلك الظاهر، وهذا مثاله: أن الإنسان ربما يلهم التسبيح ويكثر من التسبيح والتهليل والاستغفار في قيامه وقعوده، وربما يراه الناس يسبح وهو لا يشعر، وذلك لكثرة تسبيحه، فيثاب على عمله ولو لم تصاحبه نية؛ لأن هذه المرحلة ما وصلت إلا بعد طول مراس وقوة إخلاص، ومداومة على هذا؛ ولهذا أظهر الله جل وعلا منته على أهل الجنة بأنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وإظهار المنة في ذلك إشارة إلى التعبد ومدح تلك الحال، وإنما نشترط: عدم وجود المنافي؛ لأن عمل القلب أقوى من عمل الجوارح، فهو يلغيها.

    وأما عمل الجوارح فلا يلغي عمل القلب، بل إن السيئة ربما تقع من الإنسان وتنقلب حسنة لعمل القلب؛ وذلك أن الإنسان ربما يتعبد لله جل وعلا بعمل لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في دائرة البدعة، لكنه إذا لم يقصر في تمحيص تلك البدعة، التي هي في ذاتها مخالفة ومعصية، ولكن صاحبها عمل خالص في قلبه، وإخلاص لله جل وعلا انقلب ذلك أجراً، وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ[آل عمران:195]، وهذا فيه إشارة إلى أن الله عز وجل لا يضيع عمل العاملين.

    ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الصحيح في حديث حكيم بن حزام لما دخل في الإسلام، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، إني كنت أتحنث وأتعبد في الجاهلية فهل لي في ذلك من أجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير )، أي: أن الله عز وجل يتقبل من الإنسان عمله السابق ولو عمله في حال شركه إذا دخل في الإسلام، وأخلص النية بعد ذلك، فعمل حكيم بن حزام أصبح معلقاً حتى يصح عمل الباطل، فلما صح عمل الباطل تبع عمل الظاهر عمل الباطن، وأما بالنسبة لعمل الباطن فإنه لا يتعلق حتى يصح عمل الظاهر؛ وذلك أن الظاهر يتبع الباطن، والباطن لا يتبع الظاهر على الدوام، وإن كان بينهما تلازم.

    قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ) تقدمت الإشارة إلى هذا، والكره الذي يجده الإنسان في قلبه للعمل، وكذلك المحبة في الغالب هي التي يدور عليها تعظيم العمل، وهو على جهتين تقدمت الإشارة إليهما، والإنسان يصح منه العمل ولو كرهه في قلبه، وكذلك أيضاً يقبل منه الترك فيما أمر الله عز وجل بتركه ولو أحب العمل؛ ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إني أريد أن أسلم، فقال: أسلم، قال: وأنا كاره؟ قال: أسلم، وإن كنت كارهاً )، يعني: أن الإنسان ربما يرغب في قبول الحق كاليهودي، أو الوثني، أو النصراني، أو البوذي، أو الملحد، ويريد أن يدخل في الإسلام فيقول: ولكني منقبض من هذه الشريعة، فقل: ادخل ولو كنت منقبضاً، فإنك على الحق. وهذا الانقباض هو شيء من بقايا الفطرة المنقلبة، وهذه الفطرة المنقلبة تجعل الإنسان لا يتقبل الحق حتى يتوطن عليه.

    وهذا كحال الإنسان الذي يكون مثلاً في جو انحراف أو انحلال ونحو ذلك، فينكمش من بيئة الفضيلة حتى يدخل فيها ثم يلين قلبه، وكذلك جسده بعد ذلك، وهذا يشبه الإنسان الذي يعيش في برودة فإذا دخل في جو اعتدال يجد في ذلك حرارة، فيقال: ادخل معنا، فيقول: إني أجد حرارة وعرق، يقال: ادخل معنى ثم بعد ذلك تلين وتتوطن نفسك، كذلك الإنسان الذي يكون عند نار حامية، فإذا قيل له: ادخل إلى مثل هذا الجو، فإنه سيقول: إني أجد برودة، نقول: ادخل ولو وجدت البرودة ستتوطن بعد ذلك، كذلك أيضاً نقول: إن هذا الكره قد يجده الإنسان في بدنه أو في قلبه من قبول الحق، وكذلك أيضاً في أبواب الباطل، وهنا ذكر ما تقدم الإشارة إليه في هذا الحديث، وإنما كرر البخاري رحمه الله هذا الحديث لأنه ترجمه في البداية على حلاوة الإيمان، وهنا ذكر أنه من الإيمان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088800325

    عدد مرات الحفظ

    779121858