نسألك اللهم أن تجعل موتنا شهادة، ودماءنا مسكاً، وخير الأعمال خواتيمها، وخير الأيام يوم لقائك، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم اجعلني في عيني صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً، ألق علينا محبة منك، واصنعنا على عينك، واصطنعنا لنفسك، وأنت الغني، إن نظرت إلى ذنوبنا وخطيئاتنا فإنا مخطئون، ولكن رحمتك أوسع، ومغفرتك أعظم، فاغفر لنا وارحمنا، واجعل قبورنا وقبور المسلمين روضة من رياض الجنة، أمدنا فيها بالرَوْح والريحان، والنور والإيمان، ولا تسلط علينا من شياطين الإنس والجن من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اغفر لي ولإخواني هؤلاء، واجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، ولا تجعل من بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل بلدنا هذا وبلاد المسلمين أمناً وإيماناً، سخاءً ورخاءً، ووحِّد صفوفنا، اجمع كلمتنا، يا أرحم الراحمين! اللهم من كان من المسلمين على حق فثبته، ومن كان منهم على خطأ وهو يظن أنه على حق، فرده إلى الحق رداً جميلاً، نسألك اللهم أن ترينا في أعدائك وأعدائنا عجائب قدرتك، أرنا في اليهود والصليبيين والشيوعيين والماكرين عجائب قدرتك، أحصهم عدداً، ومزقهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعلهم في الأرض أحاديث، وجمد الدماء في عروقهم، وأخرجهم إلى الطرقات كالمجانين، وارزقنا صلاة في الأقصى طيبة يا أرحم الراحمين! يا رب العالمين! فقد طال ليل الظالمين واحلولكت ظلماته، فنسألك اللهم فجر الإيمان، وصبح النصر .. إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.
أيها الأحبة الكرام: ومع درس العقيدة بعد التفسير، ووعدتكم أن نتطرق في درسنا هذا إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ، فالناس يوم القيامة يتمايزون بالعقائد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى باليهود، فيقال لهم: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر عزيراً ابن الله، فيتبرأ منهم العزير ويؤمر بهم إلى النار، ويؤتى بأمة النصارى: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر المسيح ابن الله -عقيدة التثليث- فيتبرأ منهم المسيح، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117] فيؤمر بهم إلى النار، وتبقى أمة محمد فيها منافقوها).
إلى هذه اللحظة يختلط المنافقون بالصادقين حتى تزداد الحسرات، ويطوف الخجل والخوف والرعب؛ لأن الذي ينتظر العذاب أشد عذاباً ممن مر بالعذاب، فدائماً الخوف والوجل مما هو آت، والحزن على ما فات، لا يدرون ماذا سيفعل الله بهم، يلتفتون يميناً وشمالاً يرون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وأمهات المؤمنين، وكذلك يرون معهم الذين يسبون الصحابة ويكفرونهم، ويتهمون أمهات المؤمنين، ويلعنون الشيخين، فيتعجبون! كيف يجمع هذا الخلف؟!
عند ذلك يأتي الله، (فيقول لهم: ماذا تنتظرون؟ -نفس السؤال- فيقولون: ننتظر ربنا، يأتيهم بغير ما يعرفون) الله يعرفونه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا التي علموا معناها في كتابه وما وصفه نبيه بأن له آية، يكشف الساق بكيف لا يعلمه إلا هو، لكن الآية لم تظهر، والوعد لم يحقق، والسؤال يطرح، ماذا تنتظرون؟
ننتظر ربنا.
أنا ربكم.
يقولون: لا. حتى تظهر الآية التي بيننا وبينه، نعوذ بالله منك، أيُّ ثبات تربت عليه هذه الأمة، وأهل هذه العقيدة، هذا موقف عظيم، وموقف كبير، وموقف عسير، إن كان هناك فيه شيء يمدح فهو ثبات أهل العقيدة على العقيدة، يقول الله لهم: أنا ربكم، ولم يظهر الآية والعلامة التي اتفقوا عليها في الوحي في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] وفي الحديث النبوي الذي هو هذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، واعتقدته أمته من بعده.
عند ذلك تظهر الآية، فيخرون لله ساجدين، ويحاول المنافقون السجود فلا يستطيعون، إذ يحول الله ظهورهم طبقاً من حديد؛ لأن قلوبهم قاسية كقسوة الحديد، باردة كبرود الحديد، لم تدخلها حرارة الإيمان، ولا تعرف لين الأخوة، ولا رحمة الأخوة، إنما فيها الظاظة والغلظة والمكر والخبث، فكما كانت قلوبهم في دنياهم كذلك حول الله قوالبهم يوم القيامة كالقلوب، فصار القالب كالقلب، يريد بقالبه أن يسجد، فلا يستطيع القالب أن يسجد؛ لأن القلب في الدنيا لم يسجد لله، الجزاء من جنس العمل.
الجسد قد يسجد عبد الله بن أبي ابن سلول سجد خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهد معه، وأنفق معه، وزكَّى معه، وصلَّى معه، ودفنه النبي ببردته الشريفة، أعطاه قميصه، ووقف على قبره، كل ذلك لا ينفعنه؛ لأن القلب لم يسجد، سجد الجسد والقلب لم يسجد، لماذا لم يسجد؟
لأن عقيدته تختلف عن عقيدة محمد، هنا المصيبة، عندما أقول: يوم القيامة يتمايز الناس بالعقائد هنا تظهر النتائج، يحيل الله ظهورهم طبقاً من حديد.
إن كان الكفار من اليهود والنصارى والأمم غيرهم، أمر بهم إلى النار، هؤلاء الذين أُخروا يؤمر بهم إلى الدرك الأسفل من النار، والنار فيها دركات، والجنة فيها درجات، الدرك الأسفل أي: قاع جهنم، وهو أشد مواطن النار عذاباً ولهيباً الذي فيه الصديد والقيح والحميم والغساق، وأهوال عظيمة؛ لأن كل هذه الأمور تستقر وتنزل وهم فيها.
الحي القيوم هذان الاسمان وردا في أعظم آية في كتاب الله، وهي آية الكرسي، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحفظونها كلهم، ويحفِّظونها الأطفال والنساء، لما فيها من بركة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بها، وقد ثبت ذلك في الصحيح، سأل أحدهم: (أي آية أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضربه على صدره -ضرب التشجيع- قال: ليهنك العلم، ليهنك العلم)، أي: هنيئاً لك هذا العلم العظيم عندما علمت أنها أعظم آية.
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم) في سورة البقرة، نفى عن نفسه السنة والنوم، فنفي ذلك دليل على كمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى، لأنك لا تستطيع أن تقول: إن المخلوق أو الإنسان الذي ينام أو تأخذه السنة أو النعاس حياته كاملة.
الحياة الكاملة بالحياة الدائمة، والإنسان عندما ينام وينعس يتجلى عجزه وضعفه ونقصه، وأشد ما تعاني منه الجنود في لحظات الانتصار والزحوف عند لقاء الأعداء في الخنادق، أو المعارك هي هذه المصيبة العظيمة، مصيبة النوم، قبل الانتصار بيوم، قبل الانتصار بيومين يأتي النوم، لهم خمسة أيام، ستة أيام يقاتلون، بعد ذلك فجأة تجد الجندي في المعركة يهتز يهتز يهتز، ثم يلقي السلاح، ثم يطيح على وجهه، ينام، والقنابل والمدافع عند أذنيه تنفجر فلا يسمع.
ويروى أن بني إسرائيل سألوا موسى عن حياة الله وقيوميته، فأوحى الله أن خذ زجاجتين وقارورتين في الليل، فأخذهما ووقف، فلما مر معظم الليل جثا، ولم يستحمل الوقوف!
وموسى من أولى العزم، قوي، وكز أحد الناس وكزة، فكسر ضلوعه ومات من قوته، حمل صخرة ضخمة، وسقى لابنتي شعيب، ومع هذا لم يستطع أن يقاوم النوم، فلما جاءته السنَة وهي النومة الخفيفة (النعسة) خرت الزجاجتان فانكسرتا، فأخبره الله أنه لو أخذته سنَةٌ، لتكسرت السماوات والأرض كما تكسرت هاتان الزجاجتان، فالله هو الذي يمسكهما أن تزولا، أو تقعا على الأرض.
فذكر الحي القيوم وبعده الكتاب المنزل بالحق وهو القرآن، هذا يعطينا لفتة خاصة؛ لأننا إذا أردنا حياة الخلود، أنت خلقت لتبقى، ولم تخلق لتفنى، انتبه، الفناء فناء مرحلي وليس أبدياً، إنما هو انتقال من حياة دنيا إلى حياة عليا اسمها موت وفناء، لكن الموت والفناء للحياة السالفة لا للحياة الآتية.
انتبه! إنما أعمارك أربعة كلما مات عمرٌ بدلت عمراً خيراً منه وأطول، العمر الأول عمر الدنيا كتب عليه الموت، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] فإذا تم الموت لعمر الدنيا، دخلت في عمر جديد وهو عمر البرزخ، وهو أطول، لكن الله بالنسبة للمؤمنين يخففه، فيجعله في برزخه كصلاة ظهر أو كصلاة عصر، أما غير المؤمنين يمتد طويلاً في حفرة من حفر النيران، وهذا القصر نابع من تحول القبر إلى روضة من رياض الجنة، فالإنسان عندما يخرج إلى البر في فصل الربيع، ويجلس بعد العصر في روضة من رياض الربيع، والزهور والعصافير والطيور، والأولاد وأم الأولاد فرحون يلعبون من العصر إلى المغرب كأنها خمس دقائق، كل لحظة تنظر إلى الساعة، وتغيب الشمس ما شبعنا، لا يوجد أحد يقول شبعان، يا ليت الوقت يطول لكي نفرح ونستأنس، لأنها لحظات أنس.
وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى أنه مر كلمح البصر |
لكن ليالي الهم والحزن والعذاب والمرض والألم طويلة، الزمن هو الزمن، الدقيقة هي الدقيقة، والساعة هي الساعة، لم قصرت هذه؟ ولمَ طالت هذه؟
قصرت هذه؛ لأن القبر روضة من رياض الجنة، كيف يحس الإنسان بالعمر المديد في البرزخ وهو ينظر إلى الحور والأنهار والقصور لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، يأتيه من روحها ومن ريحانها، والقبر مد البصر فكيف يحس بالزمن؟
لو قيل له: تمضي في برزخك مليون أو مليار سنة، لقال: يا ليت، لما هو فيه من أنس، لكن الذي يراه أمامه يشوقه إلى ما هو أعظم؛ فيستعجل، فيقول: رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! يستعجل، ومدة حياته في قبره عشر دقائق كصلاة ظهر أو كصلاة عصر، يستعجل! رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! وهو في غاية الأنس واللذة، وهذا الذي عمره مديد في حفرة من حفر النيران يطلب ويقول: رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة! انظر الفرق الهائل بين النعيم وبين العذاب.
من آثارهما: الهداية النازلة من الله سبحانه وتعالى المنبثقة في قلوب العباد التي تلقت كلام الله سبحانه وتعالى، ولولا هذه القلوب النابضة بالحياة ما تلقت كلام الله، لهذا قال: نُورٌ عَلَى نُورٍ النور:35] نور الفطرة الحي الذي لم يلوث، تلقى نور الله، وهو كلامه، فصار نوراً على نور يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، لهذا نحن في الدعاء نقول: اللهم اهدنا فيمن هديت.
وعنت الوجوه للحي القيوم يوم القيامة، وهذا أعظم، فيوم القيامة تعنو إليه كل الوجوه يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً الإسراء:52] .. وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:25-26]، هذا هو القنوت يرفع يديه ووجهه بالدعاء إلى الله، منظر مهيب في الحقيقة، تصور كل الخلائق من الإنس والجن تهبط في أرض المحشر، أرض جديدة يخلقها الله للحساب اسمها أرض المحشر تستوعب الإنس والجن والملائكة، وتأتي النار لها سبعون ألف زمام على كل زمام سبعون ألف ملك، والأعمال تجسم سجلات على مد البصر، تعنو الوجوه إلى الله، ومن لهم غير الله في هذا الموقف؟
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:111]، بأي وجه سيعنو إلى مولاه والظلم على ظهره، المرأة التي لم تلبس الحجاب إلى الآن، والصحوة الإسلامية لها خمسة عشر سنة في الكويت حتى الآن منذ خمس عشرة سنة وهي تسمع الأشرطة وما تحجبت، أي وجه تعنو به إلى الله يوم القيامة؟
الذي يأكل الربا منذ خمسة عشرة سنة، الناس كانت غافلة، دين تقليدي، وهو الآن ليس ديناً تقليدياً، الآن دين عبادة وليس عادة، بعد انتشار الخطب والدعوة والسنن والأشرطة فهم الناس، علموا أن الربا حرام، الذي يأكل ربا منذ خمس عشرة سنة يتعامل مع الربا، بأي وجه يعنو إلى الله يوم القيامة؟ بأي وجه أو يد ستمتد إلى محمد صلى الله عليه وسلم عند الحوض لكي يقول: اسقني منه شربة هنيئة لا أظمأ بعدها أبداً؟
يعنو وجهك في الدنيا إلى دينار أو دولار تفضله على ربك ومولاك! وهو الذي خلقك في بطن أمك يغذوك طوراً من بعد طور في ظلمات ثلاث، وصورك وعدلك وكملك، تحاربه بدينار! فمن عنت وجوههم لمولاهم في دنياهم يقبل الله إقبال وجوههم عليه في أخراهم، ومن صد بوجهه عن مولاه، أعرض الله عنه يوم أن يلقاه.
حي فتوكل عليه، أما الميت فلا تتوكل عليه؛ لأنه من توكل على الأموات خاب، فقد شهدنا وسمعنا الذين توكلوا على زعمائهم ورؤسائهم مات توكلهم بموت الزعيم أو الرئيس، ما سمعتم من قال: نقلته جميع الأقمار الصناعية، الرئيس مات، الرئيس مات، الرئيس مات، ثلاث مرات، لماذا يقول ذلك بأسى؟ لأنه توكل على من يموت، ولم يتوكل على الحي الذي لا يموت، وهذا المفهوم الخطير هو الذي أكده أبو بكر الصديق للصحابة رضي الله عنهم أئمة المتوكلين، وظل القرآن يعالجه في نفوسهم سنين طويلة بالوحي، ويخبرهم بأن يحذروا كل الحذر من أن يتوكلوا على محمد في حياته صلى الله عليه وسلم، بل محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يتوكل على الحي الذي لا يموت، فإن الداعية يأتي ويذهب، ويحيا ويموت، ويثبت ويفتن، ويسحر ويمرض ويجوع، وظل القرآن يعالج فيهم هذه القضية معالجة عملية.
فجاء أبو بكر، وقبله بين عينيه، وغطى وجهه، وقال: [ما أطيبك يا رسول الله حياً وميتاً] انظر كيف كان أبو بكر يربي نفسه، ويؤكد هذه الحقيقة، وهو يقبله بين عينيه، ذقنا طيبك حياً، وذقنا طيبك ميتاً، فنحن ما نستغني عن طيبك لا حياً ولا ميتاً صلى الله عليه وسلم، أما الله فهو حي لا يموت، وذهب وصعد المنبر، وقال: [من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات]، أليست هذه جرأة من أبي بكر أن يخاطب جيل الصحابة، الجيل القرآني الفريد، لكن أبا بكر معذور أن يقول ذلك؛ لأن معظم الموجودين من الصحابة في هذه اللحظة هم الذين دخلوا في دين الله أفواجاً بعد الفتح، المهاجرون والأنصار قلة، والكثرة هم الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، لم يتربوا على المعاني الحقيقية في عقيدة الحي القيوم بعد! منهم من أسلم رغبة، ومنهم من أسلم رهبة، ومنهم من أسلم إعجاباً بالرسول، فلما مات ارتدوا، أو وقفوا على أبواب الارتداد في رجة، هذه الرجة جعلت أبا بكر يقول: [من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت].
وتجلى أثر اسم الله الحي في تثبيت أمة محمد على لسان أبي بكر ، وهي أفضلية لـأبي بكر الصديق إذ بذكره اسم الله الحي ثبتت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تلى عليهم قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ آل عمران:144] فقال الفاروق : [أهي آية في كتاب الله يا أبا بكر ! قال: نعم. قال: لكأني أسمعها الآن] وألقى السيف، وجثا على ركبتيه وبكى.
وأحسوا وهم يدفنونه بنقص الإيمان، وفاطمة تنعى أباها النبي الرسول صلى الله عليه وسلم: [إلى جبريل ننعاه] وإذا بالصحابة يتفاعلون بهذا الحزن، فقالوا: ليتنا متنا قبله ولم نمت بعده، وما شهدنا موته، فقال لهم معن بن عدي رضي الله عنه وأرضاه: [أما أنا فما أحببت أن أموت قبله] فقالوا: ولم؟ قال: [لكي أصدقه ميتاً كما صدقته حياً] هذه فتوح من الله يقذفها على من يشاء من خلقه، لتثبيت أمته، أصدقه حياً وأصدقه ميتاً.
مصعب بن عمير في كتاب الاستيعاب لـابن عبد البر، وهو يترجم لـمصعب بن عمير في معركة أحد ، وهو يحمل الراية قطعوا يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقال له الكافر، وهو يضربه بالسيف: قتل محمد، فقال مصعب: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، فأنزلها الله قرءاناً كما قالها مصعب، قبل النزول، ثم نزل القرآن بها بعد أن قالها مصعب رضي الله عنه.
اليهود أخذوا القدس وفلسطين واحداً وتسعين عاماً، لكن عقيدة الحي القيوم ظلت في قلوب المسلمين يثقون بها، فبعثها الله بعد أجيال، لأنه لم يمت، فهو يراقب الصليب والصليبيين، والمذابح والمجازر، خلق لها صلاح الدين رحمة الله عليه، فحررها بإذن الحي القيوم.
وهذا يدعوننا إلى أن نثق بالحي القيوم مهما ظل اليهود في فلسطين ، اليهود يموتون، والزعامات تموت، والخونة يموتون، والعملاء يموتون، وأملنا ليس بهم، وتوكلنا ليس عليهم، وثقتنا ليست فيهم، إنما في الحي الذي لا يموت.
ويوم أن تتزلزل هذه العقيدة نستسلم، والله ذكر صفة في كتابه الكريم لهذا الجندي المتماسك، وهذا المثل ضربه الله عند إشاعة قتل محمد صلى الله عليه وسلم قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148]، حي قيوم ما زالوا يدعونه.
وكلكم قرأتم وشاهدتم نهايات الجبابرة والطواغيت: الإسكندر الأكبر المقدوني الوثني، فتح الدنيا وهو في عز شبابه، جحافله وجيوشه اعتقدت أنه مخلد، لا يدخل بيتاً، ولا يقابل جيشاً إلا ويطويه وكأن الأرض تطوى له من مشرقها إلى مغربها، وهو غير ذي القرنين المذكور في سورة الكهف، ذو القرنين هذا مسلم مؤمن موحد من عباد الله الصالحين، لكن الإسكندر هذا مشرك، فلما وصل إلى قمة عزه، الحسناوات عن يمينه وعن شماله، صبايا الدنيا بين يديه، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه، وما رفع الله شيئاً إلا خفضه فهو الرافع الخافض، المعز المذل، الحي القيوم.
ويرسل له فيروساً ومرضاً فلا يمكن أن يرى بالعين المجردة، فصار كالمجنون؛ يشرب خمراً، والفيروس يفتك فيه، ولا تنسَ أن الإنسان حين يكون في عز قوته وشبابه وانتصاراته يظن أنه هو الإله، وإذا جرثومة صغيرة تهزمه، ويموت سكراناً، وتصحو قياداته العليا العسكرية من سكرتها التي كانت فيها، وتدرك بأن هذا بشر وليس إلهاً، وأن كل الأصنام والتماثيل التي صنعت له، وصوره التي صكت على النقد، واعتبر إلهاً من الآلهة كلها أصبحت كخيط العنكبوت تتداعى أمامهم، فماذا فعلت قيادات الإسكندر الأكبر جروا سيوفهم وخناجرهم وتقاتلوا وتقاسموا الجيش والدول، ومزق الله دولته الكبرى بطرفة عين كما يقول الله عن سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19]، هكذا: أحاديث في الأرض، وتمزيق كل ممزق، وصار الإسكندر رواية وحكاية، ومن بقي بعد الإسكندر؟
بقي الحي الذي لا يموت!
هتلر ، موسوليني قادة سادوا ثم بادوا، فعندما تقرءون هذين الاسمين لتتداعى تلك الأفكار، وتتجلى في النهاية عظمة الله وبقاء الله.
ما أتعس الناس، خذ إنجليزياً أو أمريكياً من الشارع، وقل له: أنت ماذا تعتقد في اليوم الآخر والموت؟ يقول: ماذا تقول أنت؟ وإذا سألته عن الموت فإنه يظل يفكر لحظة، ثم يقول: تجربة ما خضتها.
رئيس فرقة الخنافس أول ما طلعت في الستينات عبد من دون الله، حتى ترك الناس شعرهم ليكونوا مثله، ولبسوا مثله، وغنوا مثله، ورقصوا مثله، وبعد أن وصل عمره إلى خمسة وأربعين سنة، أو أربعين سنة أجرى التلفزيون معه مقابلة، وطلعت المقابلة على الشاشة، سبحان الله! ويقدر الله سبحانه وتعالى أن الذي سأله قال له: ما تقول في الموت؟ التفت هكذا التفاتةً عجيبة، ما توقع أن يطرح عليه مثل هذا السؤال، فقال: تجربة لم أذقها، أتدرون ماذا حدث له؟ ما تقرءون الصحف من ثلاث أو أربع سنوات، نشروا هذا في الصحف، قال: تجربة لم أذقها، وبعد ذلك انتهت المقابلة، كانت على الهواء، وخرج من مبنى التلفزيون بعد التصوير، دخل (الأصنصير) رجل معه مسدس من الهواة، هاوي يحب الشهرة، فسمعه يقول: تجربة لم أذقها، قال عجيب، أنا أجعلك تذوقها، ذهب له وهو في (الأصنصير) صاعد أو نازل، فلما دخل عليه، قال له: هاي، الموت تجربة ما ذقتها، قال: نعم. فأطلق عليه رصاصة فأذاقه الموت، هذه هي نهاية وعلم وفهم عقيدة النصارى والشيوعيين ومعظم من في الدنيا من الكافرين، أهذه حياة؟!
الحياة حياتك أنت يوم أن تعتقد أنك ستلقى الحي القيوم.
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] وقال سبحانه وتعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65] التسبيح تنزيه الله، والتحميد الثناء على الله، التسبيح لغةً: التنزيه لله من المعايب والنقائص، الحمد لغةً: المدح والثناء لله، لكن الآية التي بعدها هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر:65]، أعطانا معنى جديداً غير معنى تنزيه الله والثناء على الله في الآية الثالثة، هذا يعطينا معنى جديداً بحيث أنك عند اعتقادك أنه حي يجب أن تشهد له بالوحدانية، فقال: (هو الحي) وقال بعدها مباشرةً: (لا إله إلا هو) كثير من الناس يعتقد أن الله حي، لكن لا يشهد له بالوحدانية في الشرائع القانونية، نقول له: تعال أنت يا مشرع يا مقنن، يا من تأتي بقانون إنجلترا وفرنسا، وتضع المادة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والعاشرة، فلا تقطع السارق، ولا ترجم الزاني المحصن، ولا تجلد الزاني البكر، ولا، ولا.. إلى آخره، هل تعتقد أن الله حي؟ يقول: نعم. قيوم؟ يقول: نعم. لا إله إلا هو؟ هنا إذا كان عنده وعي وعنده عقل يقف قليلاً؛ لأنه لو اعتقد أن لا إله إلا هو لما جاء بشرع غير شرعه، والسبب بديهي: الأرض أرض الله، والعباد خلق الله، فلا يصلحهم إلا نظام الله وشرع الله، هذه مقدمة ونتيجة يفهمها الكبير والصغير والعالم والجاهل.
وهذا السر الذي جعل ابن عمر في التشهد الأخير، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يقول بعدها: أشهد أن محمداً رسول الله، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والسر في ذلك أن كثيراً من الناس يشهد أن لا إله إلا الله، لكن مفهوم (وحده لا شريك له) ليس واضحاً عنده، فيأخذ تشريعاً عويراً والذي لا خير فيه، ولا يمحص الحاكمية لله.إذاً.. ما هذا التناقض؟
فقال الله هو الحي، إذاً أستمد منه شعائري التعبدية، شرائعي القانونية، أنظمتي الاقتصادية، أساليبي التعليمية التربوية، أوامري العسكرية، أخلاقي السلوكية الاجتماعية؛ لأنه حي، لا إله إلا هو، لا يوجد بديل؛ لأنه ما مات، السلطان إذا مات لا يأتون بولي عهد؟ وقد يقدم ويؤخر.
لما مات ماركس، وقد وضع الفلسفة الماركسية الاقتصادية، وعلق في النهاية أن نظريتي هذه غير قابلة للتبديل والتحويل، وكل البشرية يحتاجون إليها الآن، وفي المستقبل جاء لينين واستالين وخرتشوف وبرجنيف وأندربوف وجورباتشوف وآخر تقليعة وصيحة في النظرية الماركسية اليوم هو قيام الرئيس الحالي بتصفية الحزب المتعصب لنظرية ماركس جسدياً، الآن يسجن ويقتل ويعذب فيهم، وبدأ الآن ينفتح قليلاً قليلاً على التقارب مع النظرية الرأسمالية ، لأن الذي وضع هذه النظريات ليس حياً، وليس قيوماً، فمن صفات مبدأ الله الثبات: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] مثل ضربه الله لدينه.
انتهى الوقت، ولم نكمل موضوع الحي القيوم، وإن شاء الله في درس العقيدة القادم نكمل الموضوع.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والصدق والإخلاص، واليقين والمعافاة. إن أصبنا فمن الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر