إسلام ويب

نظرة في تاريخ العقيدة [1]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إنّ تاريخ هذا الدين وهذه العقيدة الإسلامية الحقّة تاريخ قديم قِدَم خلق الإنسان، وهذا الأمر أمر واضح جلي في الكتاب والسنة، ولا يجادل في ذلك إلّا جاهل أو مكابر أو طاعن، وبداية تلك العقيدة وتفاصيلها، وكيفية خلق الإنسان وبداية ذلك أمر غيبي لا يعرف إلّا من قِبل من يعرف الغيب، فلا ندع ذلك ونذهب نتخبط يميناً وشمالاً بحثاً عن تلك الحقائق التي نشأت قبل دهور طويلة، وقبل أزمنة مديدة، فإن ذلك مدعاة للتخبط والتخرص والقول القاصر والحدس، فتمسَّك أيها المسلم! بكتاب ربك، وسنة نبيك تنجُ وتفلح.

    1.   

    تاريخ نشوء العقيدة والرد على المخالفين في ذلك

    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الموضوع الذي سنتناوله اليوم هو موضوع النظر إلى تاريخ العقيدة الإسلامية، خاصة وأن هذه المسألة مع وضوحها كالشمس، لكن نجد في الناس من يخلط في هذه القضية المهمة. فبعض الناس يزعم أن العقيدة لم يعرفها الإنسان على ما هي عليه مرة واحدة، وإنما ترقت العقيدة وتطورت خلال قرون سحيقة، وأطلقوا عليها عصور ما قبل التاريخ، أو العصور الحجرية، حيث يزعمون أن الإنسان الذي يسمونه البدائي أو الحجري لم يكن يعرف له رباً ولا معبوداً، ثم نشأت عنده بعد ذلك عاطفة التدين؛ بسبب أنه رأى الحيوانات تخشى القوى الخفية، فتخاف من البرق والرعد، فظل الإنسان يبحث عن معبود يشعر نحوه بالولاء والتقديس، مهما كانت صورة هذا المعبود. وهذا فيه عملية إضفاء نوع من العذر والاعتذار عن هذه الجريمة التي تعتبر أكبر جريمة وقعت في الوجود، وهي الشرك بالله سبحانه وتعالى. فكأن الإنسان الأول كان حائراً يبحث عن إله يأوي إليه ويحبه، وانظر إلى هذه العاطفة، فكأن الخبثاء يريدون أن يقولوا: إن الدين نبع من الأرض ولم ينزل من السماء، وإن الدين اختراع بشري، وإن الإنسان هو الذي توصل إليه واكتشفه؛ وبالتالي فإن هذه الأديان تستوي؛ لأنها صنع بشري، فلكل إنسان أن يختار الدين الذي يرتاح إليه، فانكمش هذا المعبود في الشمس وفي القمر وفي الكواكب، حتى في الأشجار وفي الحيوانات. ثم قالوا: إنه تطور من وثنية إلى وثنية إلى أن اكتشف التوحيد من تلقاء نفسه، فعند هؤلاء أنّ الإنسان هو الذي اكتشف التوحيد. فخلاصة الكلام أن الدين في زعم هؤلاء الناس هو نتاج العقل البشري واختراعه.

    زعم الأفّاكين: أن الإنسان الأول كان شبيهاً بالحيوان

    من جملة مزاعم القوم في هذا الباب: أن الإنسان الأول كان أقرب إلى الحيوانات، لذلك نجد كتب العلوم والأحياء وغيرها من الكتب تحاول دائماً أن تصور وتحفر في ذاكرة الطلبة أن هذه حقيقة لا مناص منها، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]، فهم يرجمون بالغيب، ويحاولون أن يطبعوا في أذهان الشباب هذه الصورة، أعني: صورة أنّ الإنسان مترقي من الشمبانزي وهذا نوع من القرود، وكيف أنه كان يترقى بانحناءته، وطريقته في المشي، وزوال الشعر عن جسده، إلى أن وصل إلى الإنسان الحجري، فهذه هي الصورة التي يحفظونها الأبناء.

    ولن نناقش اليوم قضية الترقي والتطور في البنية البشرية، أعني: بنية الجسد؛ لأن هذا موضوع آخر نرجو أن نتكلم عليه في فرصة أخرى، وإن كنا قد تكلمنا عليه منذ سنوات ولكن بَعُد العهد به جداً.

    فنرجو أن يتيسر لنا الكلام على نظرية دارون ، هذه النظرية الفاشلة التي تستعمل لحرف العقيدة، وتشكيك الشباب في عقيدتهم ودينهم، مع أنها نظرية فاشلة بكل المقاييس، وليس ذلك فقط من الناحية الدينية، فهي حتى من النواحي العلمية نظرية فاشلة، وقد انهارت، ومع ذلك يصرون على تدريسها في بلادنا في أحرج سنوات العمر، وهي: فترة الثانوية العامة، ويركزون عليها وكأنها أمر ثابت، وهي كذب وتزوير كما سنبينه إن جاءت فرصة إن شاء الله تعالى.

    فتصويرهم لهذا الإنسان بهذه الصورة، وتعليمهم ذلك للشباب يجعل الشاب يشعر في نفسه بتناقض: فنحن نؤمن بالقرآن وبالوحي وفيها: أن آدم أول البشر، فهل كان عليه السلام بهذه الصورة؟ وهل كان آدم عليه السلام أقرب ما يكون لمنظر الشمبنزي والقرد الذي يزعمون أنه ابن عم الإنسان؟! فإنهم يقولون: إن الإنسان والشمبنزي انحدرا من أصل واحد، فعلى هذا: فهذا الأصل إذاً غير معروف، وهذه هي الحلقة المفقودة، وليس هناك دليل أبداً يسد هذه الحلقة، فهي مجرد افتراض وهمي.

    فهل كان آدم عليه السلام بالصورة التي نتلقاها من القرآن والسنة، أو أنّه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان: من حيث التخلف العقلي، والبدائية أي: أنه منحني في مشيته، والشعر على جسده مثل فروة الغوريلا أو الشمبنزي وغيرها من القرود، وأنه أقرب ما يكون للأبله الذي لا عقل له؟!!

    فهم يصورون هذا الإنسان الذي يسمونه: بالإنسان الأول على أنه كان أقرب ما يكون إلى الحيوان، وأنه خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة، كما تزعم ذلك النظرية الدروانية الفاشلة كما ذكرنا، وأنه كائن تطور عن غيره، وعلى هذا الأساس فلا يكون هناك أي معنى لاستخلاف هذا الإنسان وتكليفه في هذه الأرض.

    زعم الأفاكين: أنّ الأصل في الإنسان الشرك

    الأمر الثاني من هذه المزاعم الكاذبة: أن الإنسان كان مشركاً بطبيعته، ففطرته ملوثة بالشرك، وأول ما يبحث فإنه يبحث عن عبادة الأحجار والأقمار والأشجار والكواكب إلى غير ذلك، فيصورونه على أن الأصل في فطرته هو الشرك والوثنية، وبناءً على ذلك زعموا أن الأصل في عقيدة البشر هي العقيدة الفاسدة، ثم طرأ التوحيد بعد ذلك، لكن الأصل أن الإنسان ملوث بالشرك، ميال بطبعه وفطرته إلى الشرك والوثنية، ثم إن التوحيد شرع بعد ذلك، حيث إن الدين الداعي إلى التوحيد جاء متأخراً عن وجود الإنسان على ظهر الأرض في زعمهم.

    فدين التوحيد هذا لم ينزل، بل إنّ الإنسان هو الذي اكتشف أن أفضل شيء هو التوحيد، فبعد مضي أجيال طويلة اخترعت البشرية عقيدة التوحيد!

    زعم الأفاكين: أنّ الإنسان تطور بأفكاره حتى اكتشف الدين بنفسه

    الأمر الثالث من هذه المزاعم: أن الإنسان سعى بجهده وعقله في البحث عن معبود، وأن أفكاره تطورت ذاتياً، بناءً على تجاربه، وذلك دون توجيه رباني يهديه ويرشده، إلى أن اكتشف الدين بنفسه دون معلم يعلمه، وأنه كما ترقى في العلوم والصناعات، ترقى كذلك في معرفة الله تبارك وتعالى.

    زعم الأفاكين: أن قروناً طويلة مرّت على الإنسان دون أن يعرف فيها رباً ولا معبوداً

    الأمر الرابع من هذه المزاعم: أن قروناً طويلة مرت على البشرية وهي لا تعرف لها رباً ولا معبوداً، لكن كلما تقدمت البشرية فإنها تترقى وتتطور في فهمها للدين، وعلى ذلك فكل من جاء بعد آدم من القرون البشرية كانوا على دين أكمل من دين آدم، لأن آدم كان هو الإنسان الأول، وكان متخلفاً عقلياً ولم يكن مؤهلاً لتلقي هذه الحقيقة العظمى، وهي حقيقة التوحيد، فمن أتى بعده فهو أكمل منه عليه السلام، وكلما تأخرنا تكون القرون المتأخرة أقرب للفهم الصحيح من الأمم المتقدمة! وعلى هذه المزاعم صنفوا تواريخ الأمم التي سبقت بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. بما في ذلك تاريخ أوروبا على أنه تاريخ وثني جاهلي محض، لا أثر فيه لوجود الله ولا لدين طلب الله من البشرية أن تعتنقه، ولا لنظام ولا لشرع رباني طلب الله من بني آدم أن يُخضعوا حياتهم له، ولا وجود لرسل من قِبَل الله عز وجل يطلبون من الناس عبادة الله وحده لا شريك له. ويفهم مما سبق انتفاء التكليف الإلهي للبشر، بل إذا أقروا بوجود خالق لهذا الكون، فإنهم يقولون: خلقه ثم حرّكه، ثم تركه، أي: أنه خلق الكون وحركة فالشمس تجري، والأرض تدور، والأقمار تسبح في الفضاء، ثم ترك العالم على هذا الأساس بلا تكليف ولا أمر ولا نهي.

    خطر الدسائس التاريخية والغزو الثقافي على الأمة الإسلامية

    إذا تأملنا كيفية معالجة المستشرقين لتاريخ مصر والعراق وبلاد الشام والجزيرة العربية منذ أقدم الدهور، فهم عندما درسوا تاريخ هذه البلاد في القرون القديمة فإنهم يحذفون من حساباتهم ذكر الإسلام تماماً، ويهملون ذكر دعوات الرسل في حياة هذه الأمم التي سكنت تلك البلاد، وبهذا أصبحت جميع الأمم بلا استثناء تنظر إلى هذا الفترة من تاريخها على أنها خلقت وتركت هملاً، فلم تكن تعرف لها رباً ولا ترتضي لنفسها ديناً، بل أخذوا يرددون بأن الأصل في عقيدة أهل تلك الأقطار هي الوثنية، وأنهم تطوروا في الوثنية من التعدد إلى التوحيد، وأن أول الموحدين وذلك من تلقاء نفسه في التاريخ هو الفرعون أخناتون ، أو أمنحتب الرابع ، ويفخرون بـأخناتون فخراً عجيباً جداً، فتجدهم في الأناشيد والأشعار والكتب يمدحونه على أنه أول مخترع للتوحيد، رغم أنه لم يكن توحيداً، بل كان شركاً نجساً خبيثاً. إنّ أخناتون هذا هو أول من إلى التوحيد بين آلهة ثلاثة في إله واحد، وقد أخذ النصارى عن قدماء المصريين أفكارهم الشركية أيضاً. فكان أمنحتب الرابع أو أخناتون يعبد القوة الكامنة وراء إله الشمس آتون، ويعتقد أن عبادته هي الحقيقة، وأنها هي الدين الصحيح، وأن هذه الفكرة انتقلت من مصر إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، أي: أن الإسلام ليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى. فهذه من الدسائس التي تسمم قلوب الشباب والأجيال، فتتخرج أجيال بعد أجيال على هذه العقائد التي يُلحّ إلحاحاً في تحفيظهم إياها على أنها حقائق مسلمة، فلا شك أنه بذلك تنقطع رابطة هؤلاء الشباب بالإسلام. فالغزو في الحقيقة من كل جانب، فقد سمعتُ مؤخراً عن أشياء تُعرض في القنوات الفضائية مخالفة للشريعة، وقد يستهين بها كثير من الناس، وهناك أشياء كثيرة نستهين بها وهي تؤثر على نفسيات الأطفال أكثر، فالأشياء التي نستهين بها هي من أخطر الأشياء، فكثير من الناس يتهاونون مع ما يسمى بأفلام الكرتون، ويقولون: إن هذه تسلية للأطفال، وليس فيها رقص ولا غناء ولا أي منكرات! فأقول: كلا، بل فيها كثير من المنكرات، وهذا أنموذج من هذه النماذج سمعت عنه، فقد أتوا بقصة فيها: أن أباً وأماً وأولاداً خرجوا في رحلة جميلة، وكانوا في مركب في البحر، فجاءت عاصفة شديدة كادوا أن يغرقوا ويهلكوا بسببها، فأخرج الأب الذي هو رب الأسرة جهازاً لاسلكياً، واتصل بإله البحر؛ حتى يأتي وينقذه، فأتى هذا الإله وأنقذه من الغرق في الحال. وفي مناسبة أخرى تكررت نفس القصة، فقد وقع الولد في نفس الورطة وأشرف على الغرق، فماذا فعل الطفل الصغير؟ أخرج الجهاز اللاسلكي، واتصل بابن إله البحر، أي: الإله الصغير، فأتى ابن إله البحر وأنقذه. وأنا ما رأيتها، ولكني سمعت ذلك. فلا شك أنّ هذه رسالة من خلال أفلام الكرتون لإفساد العقيدة، وتهيئة الأولاد لقبول فكرة أنّ هناك إلهاً كبيراً وأن له ابناً، وأن كليهما قادر على أن ينقذك في الضراء وفي الكربات. إذاً: فمثل هذه الأشياء لا شك أنها تترك آثاراً خطيرة جداً، وخاصة أنها لا تقترن بما ينفر منها، بل العكس فإنها تقترن بما يرغب فيها من المحسنات والمزينات، فمثل هذه الحقائق كثير من المسلمين الجهلة ليس عندهم خبر بها، وما يشعرون بخطر التساهل في مثل هذه العقائد، فانظر إلى ما يدرسونه أبناءنا في التاريخ، يدرسونهم أن التوحيد أول من اخترعه هو: أمنحتب ، أو أخناتون ، ونفرتيتي ، فإنهما عملا مع آتون شركة، ووحدوا هذه الآلهة الثلاثة في إله واحد وهو إله الشمس، فهذا أول اكتشاف بشري للتوحيد. ثم بعد ذلك انتقلت عقيدة التوحيد هذه إلى بلاد العراق، حيث أقام إبراهيم دينه، فانظر إلى هذا الربط في قولهم: حيث أقام إبراهيم دينه، فما معنى ذلك؟! معنى ذلك: أنّ أبا الأنبياء وخليل الرحمن سبحانه وتعالى وإمام الحنفاء -الذي أَمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون على ملته، والذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [آل عمران:95] - اقتبس هذا التوحيد من مصر أم الدنيا، فهي التي نقلت التوحيد إلى إبراهيم الخليل، وعلى هذا الأساس أقام إبراهيم دينه، أي: أنّ الدين تأسيس بشري وليس له أصل إلهي. وتأكيداً على هذه المزاعم، فقد حرص علماء الآثار من المستشرقين على طمس أي قرينة أثرية، أو ملامح تاريخية تؤكد أن الله سبحانه وتعالى فطر البشرية على الإسلام، وارتضاه لها ديناً، وبعث به الرسل، وعندما تظهر قرينة رغماً عنهم تؤكد أصالة خط التوحيد في حياة البشر، فإنهم يعزونها إلى تطور الفكر البشري، فهم يزعمون أن الإنسان قد تطور في معتقده كما تطور في صناعته. فهؤلاء كما يسميهم كثير من الفضلاء: أصحاب منهج التجاهل والتجهيل، فهم يتجاهلون الحقائق، ويريدون أن يخرجوا جيلاً يتجاهل أيضاً هذه الحقائق، فهم متجاهلون ومجَّهلون لهذه الأجيال، ولا يستندون إلى أي دليل في هذه الفكرة الخطيرة سوى الجهل، والجهل لا يصلح أن يكون دليلاً.

    طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها

    ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين. وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول. فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول . أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم. فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني. وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم. وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة. إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع. يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه:99] إلى آخر الآيات. فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي. ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب. وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية. فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه. وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]. فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية. ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون. وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار. وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران. وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين. إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس. ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم. فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة. فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً. وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ويقول: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51].

    1.   

    الطرق العلمية الصحيحة في معرفة الأمور

    فإذا كنا من خلال هذا التقديم قد رأينا أن مسالكهم التي يسمونها علمية لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، فإنّ العلم هو أن تصل إلى حقائق الأشياء على ما هي عليه في واقع الحقيقة، وعلى هذا الأساس فالحقائق الموجودة في الوجود لا تنحصر في الأمور المحسوسة.

    المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور المحسوسة

    فالأمور المحسوسة تعرف عن طريق المنهج العلمي المادي المعروف، وهو ما يسمونه بالمنهج التجربي، وهذه الطريقة تعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج، فهذا محصور في دائرة الأمور الحسية فقط.

    فهذا ما يتعلق بالأمور التجريبية، فهي تخضع للحواس مثل: الذوق والشم النظر اللمس وهكذا، فمن خلالها نصل إلى الحقائق الحسية، وهذا الجانب من العلم تركه الله سبحانه وتعالى للبشر يجتهدون في استخراجه، واستنباطه، وإعمال عقولهم فيه، مع هدايته سبحانه وتعالى لهم.

    المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة والماضية والآتية

    أما القسم الآخر وهو الأخطر فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك. فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: (اكتب). وعرفنا أن أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش. وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد. وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه. وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى نعمة الوحي. كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال ، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها. وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي. وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم. وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً، وهو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق. فإذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب والنفس عن ديانة الإنسان الأول. فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد.

    المنهج العلمي الصحيح في معرفة الأمور الغيبية الموجودة أو التي مضت أو التي ستأتي

    أما القسم الآخر وهو الأخطر: فهو العلم بحقائق موجودة، أو قد وجدت من قبل، أو ستوجد في المستقبل، فهو علم بلا حدود، وهذا لا سبيل على الإطلاق للوصول إلى العلم به، وإدراك حقائقه على ما هي عليه إلا من خلال نافذة الوحي فقط؛ لأن الذي خلق هذه الأشياء هو الذي يخبرنا بذلك، وأما غيره فلا يمكن أن يخبرنا بحقائق ذلك.

    فلذلك عرفنا ما جرى في هذا الوجود قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، حينما أمر الله القلم فقال له: اكتب.

    وعرفنا أول مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وهو العرش.

    وعرفنا أن الجن كانوا يعيشون في الأرض قبلنا، وأنهم أكثروا فيها الفساد.

    وعرفنا قصة خلق آدم بالتفصيل، وإخراجه من الجنة، وسبب ذلك، وتوبة الله عليه.

    وعرفنا قصص جميع الأنبياء عن طريق هذه النعمة العظمى: نعمة الوحي.

    كذلك نعرف ونجزم قطعاً بأحداث مستقبلية ستقع، لا لأننا نعلم الغيب، ولكن لأنه أخبرنا من يخبر عمن يعلم الغيب: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    فأخبرنا عن أشراط الساعة، وما سيحصل في آخر الزمان بتفاصيل دقيقة، فذكر فتنة الدجال، وأشراط الساعة الصغرى والكبرى بكل تفاصيلها، وما يعصمنا منها، وأيضاً هذا من العلم بالحقائق على ما هي عليه، وعلى ما ستكون عليه، ولا سبيل إلى ذلك إلّا عن طريق نعمة الوحي.

    وكذلك نعرف أن الجنة موجودة الآن، وأن النار موجودة الآن، وما صفتها وما عدد أبوابها، وتفاصيل أحوال أهل الدارين، وما سيحصل في يوم القيامة إلى آخر كل هذه التفاصيل، فهذا علم، بل هو أرقى وأشرف العلوم على الإطلاق.

    وعرفنا صفات الله سبحانه وتعالى، وأفعاله، وما يتعلق بتوحيده عن طريق الوحي أيضاً.

    إذاً: لا سبيل لإدراك هذه الحقائق إلا عن طريق الوحي، فالقوم في مناقشتهم وبحثهم في هذا الأمر، ووسائلهم في ذلك، لا يمكن أبداً أن تقدم جواباً شافياً يطمئن إليه القلب، وتدخل إليه النفس عن ديانة الإنسان الأول.

    فالمصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله أن نستشرف هذا الغيب، وأن نقف على وجه الصواب فيه، هو الوحي الإلهي الذي يطلعنا على حقائق الماضي والحاضر والمستقبل التي تغيب عن عقولنا وحواسنا، إنه القرآن الكريم كلام الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلاً من عزيز حميد.

    وحيث أنّا قد وصلنا إلى هذه النقطة فلنزدها إيضاحاً، وهي: أن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية:

    أولاً: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلا سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها.

    وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علم التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني.

    السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف.

    وأقرب دليل على ذلك: أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة، أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة.

    فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية.

    أما السبب الثالث: فهو أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة، لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض .

    فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى.

    1.   

    ضرورة استمداد الحقائق التاريخية من القرآن الكريم

    إن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع. وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية: الأول: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلاف سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها. وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علمُ التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني. السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف. وأقرب دليل على ذلك أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه، لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة. فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية. السبب الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء ، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض . فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى. إذاً: فالذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيق لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فلنتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى، ولنأخذ هذه الحقائق بطريقة علمية موضوعية. أول هذه الحقائق التي نستنبطها من القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، فآدم عليه السلام لم يتطور من غيره، وقد حطمت العلوم الحديثة فكرة التطور تماماً، فصارت الآن هذه الفكرة خرافة، خاصة بعد تطور علم الوراثة وعلم الجينات، فقد انهارت تماماً نظرية دارون الدجلية من أصلها. فنحن نؤمن من خلال القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم منذ أول لحظة خلقاً كاملاً سوياً مستقلاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده، وأنه عليه السلام خلق مؤهلاً لذلك، فقد كانت عنده أهلية كأكمل ما تكون عليه الأهلية؛ حتى يخاطب بتكليف الله سبحانه وتعالى، ولم يكن أبله، وكذلك لم يكن متخلفاً عقلياً أو شبيهاً بالوحوش وقرود الشمبانزي والغوريلا، بل خلق آدم عليه السلام في أكمل صورة، والدليل على أنها كانت أكمل وأجمل صورة، أن أهل الجنة يدخلون الجنة على صورة أبيهم آدم. إذاً: فآدم عليه السلام خلق مؤهلاً للخطاب الإلهي، ولم يتركه سبحانه وتعالى لفكره كي يتعرف على ربه بطريقة التفكير والتأمل، بل عرفه سبحانه وتعالى على نفسه منذ البداية، فآدم عليه السلام منذ أول لحظة كان يعرف ربه، فالله سبحانه وتعالى عرفه على نفسه، ولم يترك له فرصة أن يتأمل ويتدبر في السماوات والأرض وفي المخلوقات؛ حتى يهتدي إلى التوحيد عن طريق التفكر والتأمل. فقد دلت آيات القرآن المجيد على أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، فتميز آدم على الملائكة بهذا العلم الذي علمه الله إياه، ثم أسكنه الله تعالى الجنة هو وزوجه، يقول عز وجل: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35]، فقول الله عز وجل: ( يَا آدَمُ اسْكُنْ ) هذا تكليف، وقوله ( وَلا تَقْرَبَا ) أي: لا تفعلا، فهذا يدل على أنه مؤهل لأن يخاطب. فهل يخطر في بال عاقل أن يكون هذا المخلوق المكرم المعلم بالأسماء كلها لم يعرف الله سبحانه وتعالى؟! وآدم عليه السلام يرى الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ولا يفترون عن ذكره، مع أن الله سبحانه وتعالى أمره وزوْجه بسكنى الجنة، والأكل من حيث شاءا إلا شجرة واحدة نهاهما عنها وحذرهما من قربها. وقد أخبر الله تعالى آدم عليه السلام بعدوه وعدو زوجه إبليس لعنه الله، وأن مغبة طاعة إبليس خروجهما من الجنة، وحصول الشقاء لآدم فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117] فهذا تعليم وتحذير. وآدم عليه السلام لم يعصِ الله سبحانه وتعالى متعمداً، يقول عز وجل: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن فعل إبليس: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. وقد جاء في كتب التفسير: أنّ آدم عليه السلام صدق إبليس قوله: (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف لهما: ( إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) . قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120]، فكان أبونا آدم يحب أن يبقى في الجنة، فأتاه إبليس من باب الحرص، وقال له: ( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) فحلف لهما أنه صادق، فلم يتخيل آدم وحواء عليهما السلام أبداً ولم يرد على خاطرهما أن مخلوقاً يحلف ويقسم بالله ويكون كاذباً، فهذا غير وارد عندهما؛ ولذلك صدقاه، ولم يتذكرا تحذير الله سبحانه وتعالى لهما من قبل. قال تعالى: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف:22]. وجاء في الحديث الصحيح: (أن آدم عليه السلام لما سقطت الثياب عنه وبدت له سوأته، ظل يجري ويتوارى، فقال الله سبحانه وتعالى له: تفر مني، فقال آدم -كما في معنى الحديث-: رب إني استحييت!) أي: أنه استحيا من الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا أنه كان مدركاً، وكل ذلك يدل على أن الإنسان الأول كان في أكمل درجات الوعي والإدراك والأهلية للتكليف بالتوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى. وبعد ما حصل من مخالفة آدم وحواء عليهما السلام قال تعالى: فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]، أي: أدرك آدم وحواء بعد وقوعهما في المنهي عنه أثر المعصية وشؤمها، فندما على ما حصل منهما، وتوجها إلى الله تعالى طالبين مغفرته ورحمته، معترفين بالذنب وبظلم النفس، قال عز وجل عنهما: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. فهل هذا كلام من يعرف ربه، أم أنه كلام من يمشي كالغوريلا والشمبانزي، ويفكر مثلهما؟! إنّه كلام موحّد يعرف ربه كأكمل ما تكون المعرفة، فهو نبي عليه السلام. وقال عز وجل في الآية الأخرى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37].

    1.   

    ما جاء في التوراة من تزوير وتحريف في قصة آدم وحواء عليهما السلام

    إن ما وجد في التوراة من قصص تتعلق بهذه الأحداث، فكلها تزوير وكذب وافتراء على الله سبحانه وتعالى، وهم ينسبون الخطيئة إلى حواء فقط؛ لأن حواء هي التي أغرت آدم بتلك الخطيئة، ولذلك يقولون: إنّ المرأة مصيبة وهي وراء كل شر وبلية، إلى آخر ما ينسبونه إلى المرأة، وأعداء الإسلام والمنافقون هنا في بلادنا يعزفون على نفس الوتر، فيقولون: الأديان كلها تعادي المرأة وتحتقرها وذلك انطلاقاً منهم من أن حواء هي سبب الخطيئة، فعليها أن تغطي رأسها عاراً؛ لأنها سبب العار والأذية للبشر، وسبب إخراجهم من الجنة، فعندهم أن الأديان تحتقر المرأة، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، وسببه التأثر بقصص هذه الكتب المحرفة. فهم حرفوا هذه الكتب، وزعموا أن آدم عليه السلام لما ارتكب هذه الخطيئة طرده الله من الجنة وغضب عليه، والسبب كما هو في كتبهم أن الله سبحانه وتعالى نهاه عن شجرة معينة، وهي: شجرة المعرفة والعلم والبصيرة، فهم دائماً عندهم تصوُّر أن الدين ضد العلم، وأن الإله يكره أن يكون عند العباد علم ومعرفة، لذلك فتصوُّر اليهود والنصارى لهذه القضية يعكس كذبهم على الله سبحانه وتعالى، فهم يقولون: إن هذه الشجرة هي شجرة العلم والمعرفة، ولو أكل منها آدم عليه السلام فإنه سيحصل على علم وبصيرة، فالله تعالى يخاف معاذ الله من الإنسان أن يتفتح عقله فيدرك الأمور على حقائقها؛ فلذلك نهاه أن يأكل منها. فالذي ألف هذه القصة انطلق مما في ذهنه من العداوة بين الإله وبين العلم والمعرفة، فلذلك لما خالف آدم عليه السلام هذا النهي وأكل من الشجرة تحصل على العلم والبصيرة؛ لأنه أكل من شجرة المعرفة، فعاقبه الله وغضب عليه وطرده من الجنة، وليس هذا فحسب، بل هم لا يذكرون أبداً أن آدم عليه السلام تاب، ولا أن الله سامحه وعفا عنه، ولا يعتقدون هذا، بل يعتقدون أن البشرية كلها تولد ومعها الخطيئة الأصلية، فكل مولود يولد عندهم ملوثاً بخطيئة آدم الأصلية، ولا يولد على الفطرة كما أخبرنا سيد البشر عليه الصلاة والسلام. فكلنا نرث هذه الخطيئة من آدم، ونصير مستحقين للخلود في جهنم، بل يقولون: إن البشرية منذ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض إلى الصلب المزعوم -للمسيح عليه السلام -كانت ملوثة بخطيئة آدم، وأن جميع الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم، وهذا في كتبهم المحرفة أيضاً. فهذا يعني أنّ موسى وهارون ونوحاً وكل الأنبياء قبل عيسى إذا ماتوا فإنهم يدخلون جهنم؛ بسبب خطيئة آدم، وأنه ليس هناك طريقة كي يعفو الله عن البشرية، أو يكفر عنها خطيئة آدم إلا أن ينفصل جزء عن الإله فيحل في رحم امرأة، ويبقى هناك تسعة أشهر ثم يخرج ويكبر .. إلى آخره، وفي آخر الأمر يصلب ويكون ضحية؛ كي تذهب هذه الخطيئة، ومع ذلك فهي لم تذهب، فهم يعتقدون أن كل مولود يكون ملوثاً بخطيئة آدم حتى بعد عملية الصلب المزعومة المكذوبة، وقد ذكرنا أنّ بعض الكنائس لها أراضٍ موقوفة لدفن النصارى، فإذا مات الشخص وكان أبواه نصرانيين، ولم يكن قد عمد قبل موته، فإنهم لا يسمحون بدفنه في وسط النصارى؛ لأنه لم يدخل في دين النصرانية، فهو مازال ملوثاً بالخطيئة. إنّ النبي صلى الله عليه وسلم يبشرنا في كثير من الأعمال الصالحة بمغفرة الذنوب، وأننا نرجع كالطفل الذي ولدته أمه نقياً وطاهراً منها، فيقول: (من حج ولم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فيضرب المثل بنقاء الطفل وطهارته من الذنوب فهذه أكبر منّة من الله سبحانه وتعالى أن يعود الإنسان طاهراً تماماً من الذنوب كالطفل، وحتى قبل التكليف فالإنسان يكون طاهراً، فلو بلغ إنسان وكلّف في سن الثالثة عشرة مثلاً فقبلها لم يُكتب عليه شيء من الأوزار، لكن انظر الحديث كيف خصّ المولود بالذكر : (كيوم ولدته أمه) وذلك مبالغة في طهارته من كسب أي ذنب.

    1.   

    سبب الصدام الذي حصل بين العلوم الحديثة وما كانت تثبته الكنائس وسلامة ديننا من ذلك

    إن عند النصارى أشياء تصادم الفطرة أصلاً، ولهذا لما ظهرت الثورة العلمية في الغرب صار كثير من العلماء والناس يعلمون كثيراً من الحقائق العلمية والتجريبية، ثم أخذت تلك العلوم بالتقدم والتطور، فبدأ الناس هناك يشعرون بالتصادم بين كثير من الحقائق العلمية وبين كثير من تلك العقائد الفاسدة التي كانت تبثها الكنائس، فكيف تقبل بمثل هذه العقيدة أن الله لا يتوب عليك إلا إذا فضحت نفسك، وذهبت إلى القسيس وجلست على كرسي الاعتراف، فتحكي له جميع تفاصيل الفاحشة، ثم يتوسط القسيس بينك وبين الله، فهذه العقيدة ترفضها الفطرة، ثم يعطونهم صكوك الغفران، ويقطعون لهم إقطاعات في الجنة، ويدعون لهم، ثم فوق هذا كله فقد مارست الكنيسة القهر والحرب الشديدين ضد أي عالم يكتشف نظرية جديدة، فقد قامت بحرقهم أو إعدامهم كما فعلوا مع نيوتن ومع جاليللوا وغيرهما، فهناك حوادث كثيرة جداً من الصدام، ولذلك رفض الغرب هذا الدين، وأما ديننا الإسلامي فلم يحصل في يوم من الأيام صدام بين الإسلام وبين العلم، ولا يمكن أن يقع، ونحل هذه المعادلة ببساطة وسهولة شديدة فنقول: إن الذي أنزل القرآن والوحي هو الله، والذي خلق حقائق الكون هو الله، فلا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية مع آية أو حديث؛ لأن هذه مصدرها هو الله تعالى، فهو الذي خلق وهو الذي أنزل القرآن، لكن قد يحصل تعارض نتيجة خطأ في فهم الآية أو النص، أو يكون الحديث نفسه ضعيفاً وغير ثابت مثلاً، أو تكون القضية العلمية التي تتكلم عنها ما زالت نظرية، ولم تصل بعدُ إلى مرتبة الحقائق.

    1.   

    توبة آدم وحواء عليهما السلام إلى الله تعالى

    إن تلك الكلمات التي تضرع بها آدم عليه السلام إلى الله تبارك وتعالى توبة وإنابة لا تكون إلا بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. فآدم عليه السلام توسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وهذا هو طريق الدعاء والمناجاة، وكان هذا قبل أن يهبطه الله تعالى إلى الأرض كما هو رأي بعض العلماء. فبعد أن أهبطه الله إلى الأرض ذكّره ثانية بعداوة إبليس له، وأنه مصدر شر له، وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا نجاة لك يا آدم ولا لذريتك إلا بأن تتبعوا الوحي الإلهي. فهذه بكل سهولة حقائق هذا الوجود، يقول تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122]. إذاً: فقضية خطيئة آدم قد انتهت، والله تعالى يقول: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم:38-40]، وهذا في صحف إبراهيم وموسى، أي: أنه كلام في الكتب السابقة. فخطيئة آدم عليه السلام انتهت، فقد تاب الله عليه بعدما تاب هو إليه سبحانه وتعالى. ولكن هذه المصيبة وهذه المعصية كانت سبباً في إنزال آدم إلى الأرض، لكن هل معنى ذلك أن الله لم يغفر لآدم؟ كلا، فقد انتهت خطيئة آدم تماماً، أما عملية التوريث وأن البشرية تورث هذه الخطيئة، ولا توجد طريقة تطهر الإنسان منها غير التعميد والتغطيس، فهذه الخرافات والأساطير أخذوها من الهنود وقدماء المصريين، فهذه العقيدة بكل تفاصيلها موجودة في المراجع الوثنية القديمة وفي أديان كثيرة، وهناك كتاب رائع في هذا الباب اسمه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية). فإنه يأتي بكل جذور الشرك التي أُخذت منها هذه العقيدة الخبيثة. فالشاهد قوله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:122-124]. وقال عز وجل حاكياً عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]. إذاً: فهذه هي الحقيقة الأولى في تصحيح هذه المزاعم التي ذكرناها وهي: أنّ الله عز وجل خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، وأنه بيّن له وظيفة محددة وهي: عبادته وحده لا شريك له، وأن آدم عليه السلام كان مؤهلاً لذلك، وأنه عرَّفه على نفسه منذ البداية، ولم يتركه ليتعرف عليه بطريقة التفكير والتأمل.

    1.   

    كل مولود يولد على فطرة التوحيد والإسلام

    معنى الفطرة لغة واصطلاحاً

    الفطرة في اللغة: مأخوذة من فطر الشيء يفطره، إذا شقه، فشقّ الشيء معناه فطره، وتفطر يعني: تشقق، والفطر هو الشق، وجمعه فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا نبت. وقال عز وجل: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، أي: انشقت، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كما في البخاري : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) يعني: تتشقق. والفَطر هو الابتداء والاختراع، قال الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، يعني: خالقهما ومبتدئهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما : أنا فطرت البئر، فهي بئري، يعني: أنا بدأتها. ففهم معنى الفطر من قول الأعرابي، فهذا من حيث اللغة. أما من حيث الاصطلاح، فالفطرة هي دين الإسلام. كما في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]. إن الحقيقة التي نستنبطها من القرآن في هذه القضية: هي أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، فقد دلتنا قصة آدم عليه السلام على أنه كان على عقيدة التوحيد، ودل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن هذا لم يكن خاصاً بالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، وإنما هو عام في كل مولود. يقول سبحانه وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]. قال ابن كثير : أي: سدد وجهك واستمر واثبت على هذا الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية السمحة، ملة إبراهيم عليه السلام التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الإكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فقد فطر الله تعالى العباد على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وقوله: (حَنِيفًا ) يعني: مائلاً عن الأديان إلى الإسلام. وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) فقال بعض العلماء: إنها خبر بمعنى الطلب، كما تقول في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلفظه لفظ الخبر، لكن المقصود به الأمر أو النهي ، أي: لا تضر غيرك سواء ابتداء أو على سبيل المقابلة. وكذلك مثل قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فلفظه لفظ الخبر، والمراد به الطلب والتكليف، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، بدليل أن الناس قد يرتكبون مثل هذا، فدل على أنه أمر شرعي إرادي، وليس أمراً كونياً قدرياً. إذاً: فقوله: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) خبر بمعنى الطلب، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تحرفوا الناس عن فطرتهم. القول الثاني: أنها خبر على بابه، وليس المقصود بها الأمر أو التكليف، لكن المعنى أن الله سبحانه وتعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، فلا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، فكل الناس يستوون في أنهم يفطرون على الفطرة المستقيمة السوية. لقد فسر البخاري قوله تعالى: ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) قال: لدين الله، واستشهد أن قوله تعالى: خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] يعني دين الأولين، ثم قال: الفطرة الإسلام. وقال سبحانه وتعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، وزادها إيضاحاً في قوله: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:19]. فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الدين الحنيف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأن ذلك هو الدين القيم الذي كان الناس عليه قبل أن يختلفوا. قال العلماء في تفسير قوله تعالى: (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً )) أي: أن الناس بقوا عشرة قرون على الدين الحق، وذلك قبل حدوث التغيير وظهور الشرك، فبقي الإسلام والتوحيد ولم يطرأ شرك إلا بعد ألف سنة من وجود البشرية في هذه الأرض، ثم طرأ الشرك بعد ذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] رواه البخاري ومسلم . يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( ما من مولود ) يعني: ليس هناك مولود من بني آدم. قوله: ( إلا ويولد على الفطرة ) ، أي: على الدين الإسلامي، وذلك كما في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وهذه الفطرة كما قال العلماء: هي الإيمان المعهود الذي أخذ الله عليه الميثاق من بني آدم، وذلك لما ضرب صلب آدم واستخرج منه كل ذريته عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر، وقال لهم: : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، فكل إنسان أخذ عليه هذا الميثاق، وقد يقول قائل: نحن الآن لا نذكر هذا الميثاق، فنقول: يكفي أن يخبرنا الوحي بوقوعه، فنؤمن بوقوعه كسائر أخبار الغيب التي أخبرنا الله عنها، فنصدقها وإن نسينا هذا الميثاق، ثم إنك تشعر في نفسك بهذا الميثاق وهذه الفطرة، فأنت تشعر أن قضية وجود الله سبحانه وتعالى مثلاً لا تحتاج إلى دليل بالنسبة للمؤمن السليم الفطرة، فلا تجد عنده جدلاً في قضية وجود الله، وإنما تجد الجدل في ذلك عند من تلوث بالشبهات والوساوس الشيطانية، ممن استمع لأهل الإلحاد والانحراف وأشباههم. فتجد أنّ أقوى دليل عند الإنسان على وجود الله هو الفطرة، وهذه مسألة غير قابلة للنقاش عنده؛ لأنّ هذه الفطرة مغروسة في الأعماق، فهذا أقوى دليل على أن الله خلقنا بفطرة، فنحس بالانجذاب إلى التوحيد، والإقرار بألوهيته تبارك وتعالى. وقال بعض العلماء في قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ) أي: اثبت على إيمانك القديم الواقع منك في عالم الذر. وهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول بالعقائد الصحيحة. وتفسير الفطرة في الحديث وفي الآيات بالإسلام تدل عليه أشياء كثيرة وتؤيده وتثبت صحته، فالروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني والتي يفسر بعضها بعضاً تؤيد هذا، مثل رواية: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) كما في الرواية التي ذكرناها، وهناك رواية أخرى: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، أي: الملة الإسلامية الحنيفية، كما في (صحيح مسلم ). أيضاً: مما يؤيد تفسير الفطرة بالإسلام قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بعدما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) إلى آخر الحديث، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ). فقد فسر أبو هريرة الحديث بالآية. وحكى أبو عمر بن عبد البر إجماع العلماء على أن المراد بالفطرة في هذه الآية هو الإسلام. وأيضاً: فتوى أبي هريرة رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه عن رجل عليه كفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ فقال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة. فاستدل أبو هريرة بالحديث السابق على أن هذه رقبة مؤمنة. وقال ابن شهاب الزهري : يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية. يعني: من ولد الزنا؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام فهو لا ذنب له، وإن كان أتى عن طريق الخطيئة فإنه يولد مبرأ من كل وزر. وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة مؤمنة أن يعتق رضيعاً؛ لأنه ولد على الفطرة. وقال الإمام أحمد : من مات أبواه وهما كافران، حكم بإسلامه، واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة ). وأيضاً: قوله: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه )، فقد ذكر الانحرافات التي تطرأ على الفطرة، وذكر أنواعها، وذكر تغيير الفطرة إلى ملل الكفر، ولم يذكر الإسلام، فلم يقل: أو يمسلمانه، ولكن قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه )، فعُلم أنه يتحول عن الإسلام إلى غيره بفعل الأبوين أو غيرهما. وأيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهذه إشارة إلى مثال أنتم ترونه في حياتكم وواقعكم، فالبهيمة خُلقت سليمة، ثم جُدعت بعد ذلك، أي: أنها تقطع أذنها، فهل تولد وهي مقطوعة الأذن؟ الجواب: الأصل أن البهائم تولد سليمة، وقطع الأذن شيء طارئ. فالتغيير هو الانحراف والنقل عن الأصل، فلذلك قال بعده: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) إشارة إلى أن البهيمة خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن يقابله العيب الذي طرأ على الدين وهو الكفر. فهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة.

    قصة تتعلق بالفطرة

    وأذكر أني سمعت شريطاً لأحد الإخوة كان نصرانياً وأسلم، وذكر في قصة إسلامه السبب الذي فجر قضية الإسلام في ذهنه، وظلت في ذاكرته إلى أن نضج وكبر، ثم انتهى الأمر ولله الحمد إلى إسلامه، وهو من الدعاة إلى الإسلام الآن. قال هذا الأخ: إن أباه تأخر جداً في اصطحابه إلى القسيس كي يقوم بعملية التعميد أو التغطيس، ومعروف أن التعميد لا يكون إلّا بأن يتجرد الإنسان من ثيابه تماماً سواء كان رجلاً أو امرأة، ولو كان ابن عشرين أو ثلاثين سنة ولم يعمد بعدُ، فيحمله القسيس وأعوانه ويغطسونه في ماء خاص، والله أعلم ماذا في هذا الماء، ويقولون: إن فيه بركة وأشياء من الزيوت ونحوها، والله أعلم. المهم أن هذا الأخ لما اصطحبه أبوه كان عمره اثنتي عشرة سنة، ولم يكن قد عُمَّد بعد، فذهب مع أبيه إلى هذا القسيس لكي يعمدوه، فصرخ القسيس في وجه أبيه وقال له: صار الآن اثنتا عشرة سنة ولم تعمده بعدُ؟! أما تعلم أنه حتى الآن ما زال مسلماً؟! كيف تأخرت إلى الآن في تعليمه؟! فحفر هذا الكلام في ذاكرة الولد، فلما كبر سُّنه ظلت تلك الكلمات تحزّ في نفسه، فقال لنفسه لما أدرك ونضج: لو كان الله سبحانه وتعالى يعرف ديناً أفضل من دين الإسلام لفطرني عليه. فكانت كلمة هذا القسيس سبب إسلامه.

    حقيقة الإسلام وعدم مصادمته للحقائق العلمية

    إإن حقيقة الإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فيا سبحان الله! لو أنّ عاقلاً تأمل في حقائق هذا الدين، واعتبر نفسه محايداً لا علاقة له بالأديان، فتأمل وبحث عن صورة لعقيدة صحيحة، وأحكام كاملة، وقيم مثالية، ونظافة وطهارة، وكمال في كل شيء، فإنه لا يجد إلا الإسلام، فلا يمكن أن تكون هناك صورة أخرى للدين الصحيح في غير هذا الدين، وهذا كله يدرك بالعقل حتى دون الخوض في الأدلة الشرعية، فكل سؤال له في ديننا جوابه العلمي المنطقي الذي يقتنع به الإنسان. فلا يصادم الدين الإسلامي الحقائق العلمية أبداً، فهو الفطرة السليمة، وهو قيم وأخلاق ومُثُل عليا. فهذا هو معنى لا إله إلا الله، فالقلوب مفطورة على الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، ولو استرجع الإنسان من فترات طفولته المبكرة، لشعر أن قلبه في حالة افتقار إلى الله عز وجل. إنّ هذه القلوب لا تقنع أبداً، ولا تطمئن إلى أي محبوب سوى الله عز وجل، وكلما أحبت غير الله فإنها لا تقنع به، بل تنتقل عنه كما قال ابن القيم : لقد كان يسبي القلب في كل ليلة ثمانون بل تسعون نفساً وأرجحُ يهيم بهذا ثم يعشق غيره ويسلوهم من فوره حين يصبح فلما دعا قلبي هواك أجابه فليس أراه عن خبائك يبرحُ إلى آخرها، وهي قصيدة جميلة في أوائل كتاب (طريق الهجرتين) للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. فالقلب لا يسكن ولا يطمئن إلا إذا عُمَّر بمحبة الله، وأما إذا عمَّر بغير ذلك فلا يمكن أن يجد سكينة أو راحة، بل قضى الله سبحانه وتعالى قضاء مبرماً لا يرد ولا ينقض أنّ من أحب غيره عذب به ولابد. فإذا أحبت القلوب الله سبحانه وتعالى ووحدته سكنت واطمأنت واستقرت الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    موانع الانتفاع بالفطرة السليمة

    إنّ مثَل الفطرة مع الحق كبصر العين مع الشمس، فكل ذي عين مبصرة لو تركت عينه بغير حجاب عليها فإنه يرى الشمس، فالعقائد الباطلة كاليهودية والنصرانية والمجوسية مثل الحجاب على العين، فهي تحول بين البصر وبين رؤية الشمس.

    كما أن كل ذي حس سليم يحب الحلو إلّا أن يعرض في طبيعته فساد يجعل الحلو في فمه مراً، فيقول: أنا أشرب العسل فأجد أنه مر، فنقول له: أنت فيك فساد في حاسة الذوق في لسانك، فالأجزاء الحسية في اللسان فيها آفة، أو عندك سبب آخر، فالأذى فيك أنت، وأما العسل فهو هو، فكذلك العين السليمة يستطيع الإنسان أن يرى بها الشمس، لكن قد تأتي الحجب فتحول دون رؤيتها، والعين نفسها مستعدة لتتقبل ضوء الشمس وتعترف به، لكن الحواجز الموجودة تحجب الرؤية، كما يقول الشاعر:

    ومن يكن ذا مرّ فم مريض يجد مراً به الماء الزلالا

    فتجد بعض الناس يصيبه مرض، فيقول: الماء مر، وأنا أشرب بمراراة، فهذا آفته في نفسه، وليست في هذا الماء الزلال.

    حقيقة الفطرة التي يولد عليها المولود

    ماذا نعني بقولنا: إن المولود يولد على الفطرة؟ هل معنى ذلك أننا ندعي -لأننا قلنا: إن الفطرة هي الإسلام- أنّ هذا الطفل الذي يرضع وعمره سويعات قليلة يعرف أسماء الله وصفاته، ويعقل الرسالة وأدلتها، والصلاة، والزكاة؟!

    الجواب: لا، نحن لا ندعي ذلك، وإنما نعني سلامة القلب، وإرادته للحق الذي هو الإسلام، بحيث إن هذا الطفل لو ترك في نموّه الطبيعي من غير أن يخضع لمؤثر خارجي من الشياطين، أو من الوالدين، أو نحو ذلك لما كان إلا موحداً مسلماً.

    فهذه القوة العلمية والعملية تقتضي الإسلام مالم يمنعها مانع كمؤثرات البيئة، وتقليد الأبوين، فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها.

    فعند نمّو الطفل رويداً رويداً تبدأ هذه الفطرة تتحرك في أعماقه، ومع النمو تبدأ فطرة هذا الطفل تستيقظ وتتنبأ، وتجذبه بكل قوة نحو الحقيقة العظمى، ومن ثَم نلاحظ أنه في مرحلة معينة يبدأ الطفل بالسؤال عن بعض الأمور، وكلما كان الطفل نبيهاً وذكياً ستجد أنّ هذه الأسئلة تظهر مبكراً.

    فيبدأ بإلقاء أسئلة لا تكاد تنتهي، فيسأل والديه عما يحيط به: من رفع السماء؟ ولماذا هي زرقاء؟ وأين تذهب الشمس ليلاً؟ ولماذا لا تظهر الشمس في الليل؟ وأين يذهب النور حين يحل الظلام؟ ولماذا تتلألأ النجوم؟ وأين تنتهي الأرض؟ ولماذا تفوح الروائح العطرة من بعض الأزهار دون البعض الآخر؟ ومن أين أتيتُ؟ وأين كنت قبل أن آتي إلى هذه الدنيا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي كلنا نحفظها وكلنا يعرفها

    فهذه الأسئلة كلها أمارات تدل على أن الفطرة بدأت تستيقظ، ولذلك فالله سبحانه وتعالى من حكمته أنه ما يكلف الإنسان قبل سن البلوغ؛ لأن البلوغ يعبر عن ترجمة للنمو والنضج البدني، ويقارنه ماذا النضج العقلي الذهني والفكري، فهو في هذه السن يصبح مكلفاً، ويجري عليه قلم التكليف بمجرد البلوغ؛ ؟ لأنه الآن صار مهيئاً ومؤهلاً، فعليه أن يتفكر ويدرك.

    فما الذي يدفع هؤلاء الأطفال إلى إلقاء هذه الأسئلة؟ إنها الفطرة المغروسة في أعماق نفوسهم تبدأ في الاستيقاظ والتحرك والتعرف على خالق الكون وما في هذا الكون، وكلما نمت ملكاته وزاد علمه كلما اطمئن قلبه للإيمان بالله وحده لا شريك له.

    فموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره، ومحبته، والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره.

    كما أنه يولد على محبة ما يلاءم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).

    فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟!

    موجبات الفطرة ومقتضياتها

    إن موجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئاً فشيئاً بحسب كمال هذه الفطرة واستعدادها، وبحسب سلامتها من المعارض، فكل مولود يولد على الإقرار لفاطره ومحبته والإذعان له بالعبودية، فلو ترك بلا معارض ولا حجاب لم يعدل عن ذلك إلى غيره. كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، كما قال عز وجل: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). فهل هذا الطفل درس ميكانيكة عملية الرضاع؟! فنحن لو تأملنا في الميكانيكة التي يتم فيها عملية الرضاع لوجدنا هذا الطفل وكأنه درسها دراسة متقنة، فمن علمه؟! لقد علمه (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) وهذه هي الهداية العامة التي تكلمنا عليها في القضاء والقدر، وهي المرتبة الأولى من مراتب الهداية الأربع. فهذه النملة، اعمل معها مرة عملية مطاردة، وحاول أن تقتلها فماذا ستفعل؟ إنّها تحاول أن تهرب، فمن الذي هداها إلى هذا؟ إنّها هداية الله سبحانه وتعالى. ادرس مملكة النحل وما فيها من العجائب، من أين للنحل هذه العلوم كلها؟! إنّ هذه من آيات الله العظام، فهذه حشرة أو طائر بسيط، من الذي يلهمه البحث عما ينفعه، والحرص عليه، والاجتهاد في دفع ما يضره؟ إنّه الله سبحانه وتعالى الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وكذلك الفيروسات والبكتيريا، من الذي يهديها إلى هذه الهدايات التي نعرفها؟ إنّه الله سبحانه وتعالى. فكما أننا نعترف أن الطفل عنده أنواع معينة من الهدايات، يغرسها الله سبحانه وتعالى في نفسه ويفطره عليها، فكذلك فيما يتلقى بفطرة التوحيد، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتدياً إلى حب ما ينفعه وجلْبهِ، وبغض ما يضره ودفْعِه، ثم هذا الحب والبغض يحصلان فيه شيئاً فشيئاً حسب حاجته، لكن قد يعرض لبعض الأبدان ما يُفسد ما خلق عليه من الطبيعة السليمة، والعادة المستقيمة. وهكذا ما ولد عليه الإنسان من الفطرة، فقد يطرأ عليها ما يصيبها، ولهذا شبهت الفطرة باللبن، بل كانت نفسها هي اللبن، وذلك في تأويل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين عُرض عليه ليلة الإسراء اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل له: (أصبت الفطرة، أو هديت للفطرة). فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه به دون غيره كمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها، فكما أن هذا الطفل الذي يولد غذاؤه الوحيد هو اللبن، وصلاح بدنه لا يكون إلا باللبن، ولو أتيت له بأفخم المطعومات وأغلاها وأثمنها كاللحوم وغيرها فإنها تضره، وقد تهلكه؛ لأن البدن في هذه المرحلة لا يستطيع تحمل ولا هضم هذه الأطعمة، فالشيء الوحيد الذي يصلح له هو هذا اللبن، فالفطرة بالنسبة لقلبك وصلاحه كاللبن بالنسبة لبدنك. فلذلك ربط في الحديث بين الفطرة وبين اللبن، وهذا يتعلق بمن تسلم فطرته وتنجو من مؤثرات البيئة من حوله. أما الذي تفسد فطرته بعوامل البيئة المحيطة به، فإنه ينشأ على عقائد منحرفة أجنبية عن فطرته السوية، فأي انحراف عن الإسلام فهو خلاف الأصل، فالأصل هو التوحيد، والشرك طارئ، لا كما يزعم الجهلة الكذابون الدجالون من أن الشرك هو الأصل، وأن الإنسان بطبيعته مشرك، كلا، بل الإنسان بفطرته موحّد كما بينا. يقول الله تبارك وتعالى في المنافقين: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]، فجعل الهدى هو رأس المال الحاصل عندهم، إلا أنهم عرّضوه للزوال فخسروه، وذلك حين بدلوا هذه الفطرة المستقيمة القريبة منهم، واشتروا بها الضلالة البعيدة عنهم، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين. إذاً: فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين الذين اشتروا الضلالة بالهدى؟ إنّه الفطرة.

    الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد

    فما هو الهدى الذي كان عند المنافقين أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى [البقرة:16]؟ إنّه الفطرة.

    إن ذلك الحديث الشريف الذي سبق ذكره وفيه: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه .. ) يؤكد أن الأصل في عقيدة الإنسان هو التوحيد، وأنه يولد مهيئاً للعقيدة الصحيحة في فاطره وخالقه سبحانه وتعالى.

    وأما الشرك، فهو انحراف يطرأ على هذا الأصل فيفسد الفطرة، وذلك بتأثير البيئة المحيطة به، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فأبواه يهودانه ) ، أي: يجعلانه يهودياً إذا كانا يهوديين، (أو ينصرانه) أي: يجعلانه نصرانياً إن كانا نصرانيين، (أو يمجسانه) أي: يجعلانه مجوسياً إن كانا مجوسيين، والشاهد من الحديث أن الضلال عن فطرة الإسلام ليس من المولود، بل هو من مؤثر خارجي.

    فإن بلغ الحلم، وبقي منحرفاً عن دين الفطرة، بقي معه ضلاله، وإذا أسلم وجهه لله عز وجل انتفى عنه، وعاد إلى الفطرة الإسلامية.

    ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً يؤكد معنى الحديث فقال: (كما تنسج البهمية) يعني: كما تلد البهيمة (بهيمة جمعاء) أي: تامة الأعضاء، وسميت جمعاء؛ لاجتماع أعضاءها، فالمولود يولد على الفطرة مثل نتاج البهيمة، فإنها تولد سليمة الأعضاء كاملتها، (هل تحسون فيها) أي: هل تبصرون فيها (من جدعاء) يعني: مقطوعة الأذن، أو الأطراف أو الأنف، وإنما يطرأ عليها قطع الأعضاء بعد ولادتها سلمية.

    فكذلك الأبوان الكافران يغيران فطرة ولدهما، ويزينان له العقيدة الباطلة.

    وهذا الذي دل عليه الحديث النبوي الشريف قد دل عليه الحديث القدسي الذي وراه عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته حاكياً عن الله عز وجل أنه قال: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت عليهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).

    فقوله تعالى في الحديث السابق: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي: جمع حنيف، وهو الذي يميل إلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحنف في الرجل، وهو ميلها إلى خارجها في القدم، فلا يقدر الأحنف أن يرد حنفه، والمقصود بالحنيف هنا: الذي يميل عن الأديان إلى الإسلام، فهذا الحديث يدل على أن الأصل في الآدميين هو الفطرة والتوحيد، وأن الشرك عارض طارئ.

    فهذا ما تيسر من الكلام في شرح قوله صلى الله عيله وآله وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ).

    ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ) إلى آخر الآية، وهذا الحديث رواه الشيخان كما بينا.

    وللحديث إن شاء الله شيء من البقية، فهناك حقائق أخرى نصاً من القرآن في الرد على هذه المزاعم فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لدين الإسلام، ولفطرة التوحيد.

    1.   

    الأسئلة

    شبهة والجواب عنها

    السؤال: احتج القائلون بالتطوير على زعمهم بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو : {كان خلق آدم ستون ذراعاً في السماء، ثم تناقص الخلق حتى وصل إلى هذه الحالة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما الرد الصريح على هذه الشبهة؟

    الجواب: طول الإنسان الآن يقرب من متر ونصف أو أكثر، فهل في هذا تصحيح لنظرية التطور الكذابة؟!فقد عكسوا كل شيء، فقالوا: إنّ الأصل في الإنسان هو الشرك، ونحن نؤمن أن الأصل في الإنسان هو التوحيد، وكذلك هنا في مسألة البنية والجسم، فالذي حصل هو عملية انحطاط في الجانبين: في العقدية، وفي البنية، ففي العقيدة الأصل هو التوحيد، ثم طرأ الشرك، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا [البقرة:213]، فالشرك طارئ كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً، وأما في بنية البدن نفسه، فهذا الحديث يثبت أن آدم عليه السلام كان في أكمل وأقوى وأجمل صورة: ستون ذراعاً في السماء، يصل تقريباً إلى ارتفاع عمارة مكونة من أربعة عشر دوراً ، فهذه خلقة آدم، فلا يزال طول الخلق ينقص إلى اليوم، فهذا يدل على أن بنية الإنسان أيضاً حصل فيها عملية انحدار ونقصان، لا تطور كما تزعم نظرية التطور.

    وصلى الله على عبد ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754714742