إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب [5 - 6]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله تعالى حكم التبني، وأن الإسلام جاء بإبطال التبني، وأمر بأن ينسب الولد إلى أبيه، وبين سبحانه أن هذا هو العدل والقسط والبر، وبين سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً رحيماً بالمؤمنين؛ فلذلك جعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم.

    1.   

    الأحكام المتعلقة بالتبني

    أضرار التبني

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:5-6].

    قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ [الأحزاب:4] فيه دلالة على النهي عن التبني، وكذلك قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5] فيحرم على المسلم أن يتبنى إنساناً وينسبه لنفسه، ويلزمه أن ينسبه إلى أبيه الحقيقي إذا علم هذا الأمر.

    فإن لم يعلم فلا يجوز له أن ينسبه إلى نفسه وإن أخذه ورباه، فيقول: فلان أخي في الله، أو هذا مولاي، فنسبتهم لآبائهم هو الأعدل عند الله سبحانه، وهو الحق الذي أمر الله عز وجل به.

    فالإنسان الذي ربيته ليس ابناً لك ويكون هذا معروفاً بين الناس، ولا يتكلم الإنسان بعقله في مثل هذا الشيء، وما أكثر ما يقول الإنسان: الله أعلم، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    والصبي الصغير عندما يكبر سيقول للذي رباه: هذا أبي وهذه أمي، وهما ليسا بأبيه ولا أمه، والله أعلم به سبحانه وتعالى.

    وهذا الإنسان اليتيم قد جعل الله له أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتيماً، وتربى صلى الله عليه وسلم وهو يتيم، وماتت أمه وهو صغير عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك صار سيد الخلق وهو يتيم.

    أضرار التبني على الفرد والمجتمع

    ليس عيباً أن يكون الإنسان يتيماً ليس له أب، ولكن العيب أن يترك الإنسان ما يقوله الله سبحانه، ثم يحكم هواه، ويكون فعل الإنسان طاعة لله والخير له في الدنيا وفي الآخرة حين يلتزم بشرع الله تبارك وتعالى، فتكون له البركة من وراء ذلك.

    فمن ربى اليتيم أو كفله فإنه يؤجر عند الله سبحانه، فإذا نسبه إلى نفسه وجد شؤم ذلك يوماً من الأيام في الدنيا وفي الآخرة، فهو عاص لله تبارك وتعالى.

    عندما يكبر هذا اليتيم وهو يدعى لفلان قد تتبين له الحقيقة في يوم من الأيام، فيقول: لماذا كذبتم علي في ذلك؟ والكذب خيبة للإنسان، ولا يقود الإنسان إلا إلى الشر، فالإنسان إذا ربى شخصاً ثم نسبه إلى نفسه فقال إنه ابنه، فإنه في يوم من الأيام يرثه وليس له أن يرث هذا الإنسان.

    أو يموت هذا الذي تبناه ثم يرثه المتبني وليس من حقه ذلك.

    أو لعل هذا الذي تبنى يتزوج ينجب ثم يظن المتبنى أنه أخ لهذه الفتاة وليس أخاً لها، أو أخ لهذا الغلام وليس أخاً له، ويشاركه في الميراث وليس من حقه ذلك، ويظن أنه محرم لها وليس كذلك.

    فيتبدل أمر الله سبحانه في هذه الصورة، لذلك يخبرنا ربنا أنه لا يحل هذا التبني، حتى لا تتغير أحكام شرع الله، فيستحل ما حرم الله.

    معنى قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)

    وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5] فإذا أخطأ الإنسان في شيء فلا جناح عليه، إنما الجناح في التعمد في ذلك، كأن يعرف شرع الله في كذا ثم يتعمد مخالفته.

    والخطأ مرفوع عن الإنسان، فإذا جهل حكماً شرعياً فأخطأ فيه، فلما تبين له الحكم عمل بما قاله الله سبحانه فهذا معذور، والإنسان إذا اجتهد في الشيء فأخطأ فيه يرفع عنه الوزر، فإذا كان من أهل الاجتهاد فإنه يؤجر على خطئه في اجتهاده.

    لكن إذا لم يكن من حقه أن يجتهد فليسأل أهل العلم؛ لقول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال).

    قال الله سبحانه: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5] فالله يغفر ما وقع فيه الإنسان من ذنب، إذا تاب إلى الله عز وجل، والله يرحم بتشريعه سبحانه، فيرفع الإثم عمن أخطأ أو سها أو نسي أو أجبر وأكره على شيء.

    التغليظ على من دعي لغير أبيه وهو يعلم

    جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عن التبني، فقال صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام).

    فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، ومن حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنهما.

    ففيه: (من ادعى إلى غير أبيه) أي: من نسب إلى شخص ليس أباً له، فرضي بذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فالجنة عليه حرام)، وهذا شائع عند بعض الناس، وفي بعض أوساط الناس، مثل ما يحصل لبعض الفنانين وغيرهم، فينتسب أحدهم إلى غير أبيه فيتسمى باسم فلان الذي اكتشف موهبته أو الذي عينه أو غير ذلك، فيصير اسمه على ذلك طول عمره، وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: ناداه الناس فلاناً بن فلان وهم يعلمون أن هذا ليس أباه، (فالجنة عليه حرام).

    فأمثال هؤلاء قد جمعوا من المآسي، بسبب ما وقعوا فيه من قول زور، ومن شهود فجور، ومن أفعال ماجنة تغضب رب العالمين، ومن تسم بغير أسمائهم الحقيقية، فجزاء كل جريمة من هذه الجرائم الدخول في النار، والحرمان من جنة رب العالمين، ثم يكونون هم الأسوة الحسنة للشباب يقتدون بهم ويحبونهم، فيأخذونهم إلى نار جهنم.

    أيضاً: حديث آخر له صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر وهو أيضاً في الصحيحين: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) يعني: يعلم أن أباه ليس هو الذي ادعاه ومع ذلك يسكت عن ذلك ويرضى بذلك إلا كفر.

    حكم من انتسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس منهم

    قال: (ومن ادعى لقوم ليس منهم فليتبوأ مقعده من النار) كأن يدعي أنه من بني فلان، أو من عائلة فلان وهو ليس من هؤلاء.

    وأشر من ذلك من انتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً فيقول: أنا من آل البيت، وليس هو من آل البيت، فيزعم أنه من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وليس منهم.

    فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى قوماً ليس هو منهم فليتبوأ مقعده من النار). يعني: يجهز نفسه لنار جهنم، والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...)

    يقول الله سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6].

    هذه الآية فيها عدد من الأحكام، يقول الله سبحانه: النَّبِيُّ [الأحزاب:6] وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6].

    معنى قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)

    والنبي عليه الصلاة والسلام جعله الله عز وجل لنا أسوة حسنة، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]

    فالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام أولى بنا من أنفسنا، وكلمة (أولى) من الولي، والولي بمعنى القرب، تقول: فلان يليني، أي: قريب مني، أو جنبي أو بعدي. فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى كل منا من نفسه، ورأيه لنا عليه الصلاة والسلام أفضل من آرائنا لأنفسنا، فيقول سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] فإذا اختار لنا شيئاً صلى الله عليه وسلم، نختار ما يختاره لنا صلوات الله وسلامه عليه سواء علمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نعلمها.

    والذي شهد بذلك هو ربنا سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فهو سبحانه أعلم بخلقه، أعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعلم بالمؤمنين، فجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا.

    وننظر إلى رحمته بنا وشفقته علينا عليه الصلاة والسلام، كيف يكون يوم القيامة؟ وهو الذي قد نجا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقف على جانب الصراط ويقول: (اللهم سلم سلم). فهذا دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وهم يمرون على الصراط، فهو أولى بهم من أنفسهم عليه الصلاة والسلام.

    لما ذبح كبشين في الأضحى، واحداً عن نفسه صلى الله عليه وسلم وعن أهل بيته، والآخر عمن لم يضح من أمته، فرفع عن أمته الحرج عليه الصلاة والسلام فلا تلزمهم الأضحية، فقد ضحى عنهم صلى الله عليه وسلم، وصارت الأضحية سنة على المسلمين وليست فريضة، فقد كفاهم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع عنهم الحرج في ذلك، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم صلوات الله وسلامه عليه.

    والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه ويدعو لأمته عليه الصلاة والسلام.

    فما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه، وما ترك من شر إلا وحذر الأمة منه عليه الصلاة والسلام، فبلغ رسالة الله سبحانه، ووضح وبين وذكر ووعظ الأمة، وقال لهم في النهاية: (ألا هل قد بلغت؟ فقالوا: نعم. فقال: اللهم فاشهد).

    فمدحه الله سبحانه بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

    معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم)

    ثم ذكر أزواجه عليه الصلاة والسلام ومدحهن وقال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )[الأحزاب:6].

    أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من هذه الأمة.

    والراجح أن المعنى هو أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لكل مؤمني الأمة رجالاً ونساءً؛ لأن العلماء اتفقوا على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لجميع رجال الأمة، ولكن هل هن أمهات أيضاً لنساء الأمة؟ الراجح: نعم؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين الرجال والنساء، قال: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6].

    والأمومة قسمين: أمومة في الحرمة وأمومة في المحرمية.

    فأمومة الحرمة أنه يحرم عليه أن ينكحها، أي: يتزوجها، فأمه في النسب محرمة عليه وهو محرم عليها.

    وأمومة المحرمية: أنه لا يحرم عليه أن يدخل عليها ويسافر معها.

    فنساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين في الحرمة، فيحرم على أي مؤمن أن يتزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده.

    فالتحريم رعاية للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وإكراماً له عليه الصلاة والسلام، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم، فالتي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها وخلا بها عليه الصلاة والسلام، فليس من حق أحد أن يتزوجها بعده إن طلقها أو مات عنها طالما أنه دخل بها عليه الصلاة والسلام.

    فهذا الحكم لا ينطبق على من لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه عقد بامرأة ثم طلقها صلى الله عليه وسلم قبل الدخول لم تكن أماً للمؤمنين، إنما أمهات المؤمنين من تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بهن.

    قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا [الأحزاب:53] فهذه حرمة دائمة. ونساء النبي صلى الله عليه وسلم له فقط، وليس من حق أحد أن يتزوجهن بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه.

    ويجوز للمؤمنين أن يذهبوا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونهن من وراء حجاب عن مسائل الشرع ومسائل الدين، وعن أحكام القرآن وأحكام سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستعيروا منهن متاعاً من أمتعة الدنيا على وجه العارية.

    وقد شرف الله سبحانه نساء النبي بهذه المنزلة العظيمة، وأمرهن بتبليغ دين الله سبحانه فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34] فنساء النبي صلى الله عليه وسلم مطالبات بذكر وتبليغ كل ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة.

    الحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

    وإذا كانت امرأة واحدة لا تقدر أن تقوم بذلك، ولا امرأتان، فكم من النساء يبلغن هذا الدين العظيم والأحداث التي تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وينزل بسببها القرآن أو السنة، فلذلك جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء ولم يحد له كما حد للمؤمنين، قال: قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [الأحزاب:50]، فيجوز للمسلم أن ينكح أربع نسوة.

    أما النبي صلى الله عليه وسلم فترك الله سبحانه تبارك وتعالى له أن يتزوج ما يشاء فجمع بين تسع نسوة في وقت واحد صلوات الله وسلامه عليه.

    والغرض من ذلك: الدعوة إلى الله سبحانه والتبليغ للأحكام الشرعية، فالواحدة أو الأربع لا يكفين لتبليغ كل هذا الدين العظيم، فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج فكان يأتي كل امرأة، فمرة يدور عليهن صلوات الله وسلامه عليه في غسل واحد، وكان يقسم لكل امرأة ليلة، فعندها قد تنزل آيات أو أحكام أو يحدث شيء فيحتاج الناس لمعرفة هذا الحكم، فتبلغ المرأة ما حدث في بيتها، أو من جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأل وشهدت ذلك، فتبلغ أحكام الشريعة التي أمر الله عز وجل بتبليغها.

    أزواج النبي أمهات للمؤمنين وهو أب لهم

    قال الله سبحانه: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6] فإذا كانت زوجات النبي أمهات للمؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهذه الأمة، وكل نبي أب لقومه، هذا حكم من الله سبحانه، ولذلك فإن سيدنا لوطاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول لقومه: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78] وما كان عنده إلا بنتان، فالمقصود بالبنات بنات قومه فهن أطهر لهم، فكان قوم لوط يأتون الرجال - والعياذ بالله - فقال لهم: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود:78] أي: تزوجوا من النساء، واحذروا هذه الفاحشة، التي كانت سبباً في إهلاكهم.

    وقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أب للمؤمنين، وقرئت في الشواذ في قراءة أبي وابن عباس رضي الله عنهما: ( وهو أب لهم ) وليست قراءة، والراجح أنها تفسير، أو كانت قراءة ونسخ ذلك فصارت تفسيراً، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للأمة، ولذلك يقول للأمة عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم) فيعلمهم الآداب الشرعية.

    ولذلك فإن اليهود يحسدون هذه الأمة على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون: ما ترك شيئاً إلا علمكم حتى الخراءة، أي: حتى أدب الخلاء فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد) يعني: لا تستحيوا أن تسألوا في أحكام الطهارة وغيرها من الأحكام، فأنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، أي: بمنزلة الوالد في الشفقة والتعليم والتأديب والتهذيب صلوات الله وسلامه عليه.

    قضاء النبي دين من مات ولم يترك قضاء

    أيضاً في قوله سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:6] لما نزلت هذه الآية كان فيها فرج من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وكان قبل نزولها كلما جيء النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يسأل، هل عليه دين؟ فإذا قالوا عليه دين، فيسأل هل ترك له وفاءً؟ فإذا قالوا: نعم، صلى عليه، وإذا قالوا: لا، لم يصل عليه، وقال: (صلوا على صاحبكم)، فلما نزلت هذه الآية: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] وفتح الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم فتوحاً، كان بعد ذلك يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته).

    وفي رواية: (فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه). فانظروا إلى شفقته عليه الصلاة والسلام، فكان من يموت بعد ذلك من أصحابه وعليه دين يتكرم ويسدد عنه هذا الدين.

    فإذا توفي إنسان وترك مالاً، لم يأخذ منه صلى الله عليه وسلم ليقضي دينه، ولكنه كان يترك المال للورثة، فالذي يموت ويترك ديناً أو ضياعاً، أي: عيالاً يضيعون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم، ويقضي دين هذا الميت عملاً بما في هذه الآية، ففيها بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، وأنه أولى بالمؤمنين من الأمة، فاستحق المنزلة العظيمة عند الله، واستحق أن يصلي عليه المؤمنون في كل وقت، صلوات الله وسلامه عليه.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756299715