إسلام ويب

تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [9 - 10]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سميت غزوة الأحزاب بذلك لتجمع الأحزاب على استئصال المسلمين، وتسمى بالخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفره عندما أشار عليه سلمان الفارسي به، وفي هذه الغزوة ظهر للمسلمين الحقد الدفين عند اليهود عندما خانوا العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين، كما ظهر أيضاً موقف المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولقد نفذ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى مع أصحابه في هذه الغزوة.

    1.   

    مواقف من غزوة الأحزاب

    سبب تسمية غزوة الأحزاب

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:9-12].

    ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما حدث في غزوة الأحزاب -الخندق- التي كانت في العام الخامس من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت غزوة عظيمة جداً، وفيها معجزات وكرامات، وكانت من أشد الأيام على المسلمين.

    أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم المسلمين أن النصر إنما هو بيد الله سبحانه وليس بيد الخلق، فإن نصر المؤمنون دين الله عز وجل نصرهم من حيث لا يحتسبون.

    ولقد اجتمع الناس على المسلمين من كل مكان، فجاءت قريش بحدها وحديدها ومعهم غطفان واليهود ليحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن استشار المؤمنين ما الذي يصنع مع هؤلاء؟ فأشاروا عليه بآرائهم، وأشار سلمان برأي عظيم، وهو أن يُصْنَعَ خندق بينهم وبين الكفار، فسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق لحفرهم خندقاً بينهم وبين الكفار؛ فإنهم لا يقدرون على محاربة الكفار، لأن عدد الكفار عشرة آلاف أو يزيد، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، والكفار جاءوا مستعدين من كل مكان، فكان الحل في ذلك هو ما أشار به سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يحفروا خندقاً بينهم وبين الكفار.

    ونزل الكفار إلى جانب جبل أحد، ونزل المسلمون إلى جانب جبل سلع من المدينة، وبدأ الكفار يستعدون لقتال المسلمين، ففوجئوا بهذا الخندق الذي بينهم وبين المسلمين، فلا يقدرون أن يعبروا إلى المسلمين.

    خيانة اليهود وغدرهم

    ذهب رجل من بني النضير وهو حيي بن أخطب ومعه مجموعة من اليهود إلى المشركين من أهل مكة فقالوا لهم: تعالوا إلى عز الدهر، تعالوا لقتال محمد ونحن معكم، فاستجاب الكفار لذلك.

    ثم ذهبوا إلى غطفان وقالوا لهم مثل ذلك فاستجابوا لهم، واجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم واليهود معهم.

    ثم ذهب هذا الرجل اليهودي إلى سيد بني قريظة وهو كعب بن أسد ودعاه وقال له: جئتك بعز الدهر، فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه -يعني: أتيتني بسحاب ليس فيه مطر- فقال حيي : اسمع مني ما أقول، ثم بعد ذلك ترى رأيك، فلم يزل يكلمه ويعده ويغره حتى تعاقدا على نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كعب بن أسد وقد قال في أول كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض العهد ولا يغدر، وإني عاهدت النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، فكيف أغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم؟!

    ولكن اليهود في طبيعتهم الغدر حتى ولو رأوا الإحسان والجميل، ومهما رأوا من آية من آيات الله سبحانه وتعالى سرعان ما ينقلبون عليها.

    فالإحسان يكافئونه بالإساءة العظيمة البالغة، فلقد رأوا من الله صنيعه الجميل بهم، حيث أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا في غاية الذل، وكانوا مقهورين مغلوبين، فإذا بهم يعبدون العجل من دون الله سبحانه وتعالى، يرون من موسى عليه الصلاة والسلام النصح لهم، ويرون منه الآيات والمعجزات، ويعلمون أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فمجرد ما ذهب للقاء ربه تبارك وتعالى إذا بهم يقولون عن العجل هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]، أي: موسى لا يعرف إلهه فإنه ذهب ليبحث عنه، فعبدوا عجلاً من دون الله تبارك وتعالى.

    ويأمرهم الله سبحانه أن يدخلوا الباب سجداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58]، فإذا بهم يستهينون ويستهزئون فدخلوا الباب ولم يسجدوا، ومشوا على مقاعدهم وقالوا: (حنطة) استهزاءً بدينهم، فبدل ما يقولون: (حطة) أي: يا ربنا حط عنا خطايانا، يقومون بتحريف الكلمة من حطة إلى حنطة، أي حبة من شعير.

    فهؤلاء لا أمان لهم أبداً؛ لأنه إذا كان هذا حالهم مع ربهم سبحانه وتعالى، ومع موسى نبيهم عليه الصلاة والسلام، فكيف بهم مع غيرهما، وها هو صنيعهم، فإنهم انقلبوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه وغدروا به وراسلوا الكفار وصاروا معهم.

    أصبح المؤمنون كما قال الله سبحانه وتعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10].

    أي: أن الكفار أتوا من الشرق ومن الغرب، فبقي المسلمون محصورين لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً.

    وزَاغَتِ الأَبْصَارُ [الأحزاب:10] أي: أبصار المؤمنين.

    وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10] أي: من شدة الرعب، وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10].

    استيقان النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود

    ولما بلغت هذه الخيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مع المؤمنين أرسل إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما، وكانوا حلفاء اليهود في الجاهلية، فأرسلهما إلى اليهود لينظرا حقيقة الأمر دون أن يعلم بذلك أحد.

    وهذا من ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على المؤمنين، فلو علموا أن اليهود قد غدروا بهم لأثر ذلك على قلوبهم ومعنوياتهم، لذلك قال لهذين الرجلين: انطلقا إلى بني قريظة، أرسل معهما أيضاً عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير ، قال: (فإن كان ما قيل حقاً فالحنوا لي لحناً ولا تفتوا في أعضاد الناس)، أي: فإذا كانوا قد غدروا فلا تنشروا الخبر في وسط الناس، مع أن الخبر قد وصل إليهم، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو استيقنوا الخبر لفت في أعضاءهم، وألقوا بأيديهم ويئسوا.

    وقوله لهم: الحنوا لي لحناً، يعني: قولوا كلاماً آخر أفهمه أنا والناس لا يفهمون منه شيئاً.

    قال: (وإذا كان الكلام كذباً فاجهروا للناس).

    وفعلاً ذهب السيدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير إلى اليهود فوجدوهم على أخبث ما يكون، فقد غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وانقلبوا وشتموهما.

    ورجع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما، وكان سعد بن معاذ أشد المسلمين على اليهود فشتمهم وسبهم وشتموه أيضاً، فقال سعد بن عبادة : دع عنك شتمهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من ذلك، ثم أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: عضل والقارة، وهنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفهم الناس شيئاً.

    وعضل والقارة قبيلتان من العرب، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أن ابعث لنا من يعلمنا القرآن، فأرسل إليهم ستة من قراء القرآن، فلما ذهبوا إليهم غدروا بهم وخانوهم وقتلوهم، فكأنهم يذكرونهم أن اليهود قد عملوا بمثل ما عمل به عضل والقارة بالقراء، فهذا هو اللحن الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم.

    فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم قال: (أبشروا يا معشر المسلمين).

    وقد كان الأمر كما ذكر الله سبحانه وتعالى بأنهم جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وكادوا يظنون بالله الظنونا، بل ظنوا بالله ظن السوء، بأنه لا ينصرهم وأنه تركهم.

    موقف المنافقين في غزوة الخندق

    وفي هذه الغزوة جاءت الفرصة التي أظهرت المنافقين في وقت ضعف المسلمين، وفي وقت مجيء أعداء المسلمين، فإن المنافقين يخافون من قوة المسلمين، فإذا كان المسلمون أقوياء فإن النفاق لا يظهر في هؤلاء، وإذا كانوا ضعفاء فإن نفاهم يظهر.

    وكان في المدينة منافقون ولم يكونوا في مكة؛ لأن الكفار أقوياء ظاهرون، والمسلمين ضعفاء مستضعفون، فكان المسلم في مكة يخفي إسلامه، أما المنافق فإن قلبه فيه كفر، فإذا كان في مكة أظهر الكفر معهم، وإذا كان في المدينة فإنه يخاف من المسلمين فيظهر لهم الإسلام، فإذا حدثت مصيبة كهذه المصيبة ظهر المنافقون وتكلموا.

    فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة فإذا وقفنا هنا بجانب جبل سلع والكفار عند جبل أحد فسوف يأتون إلى بيوتنا فيدخلونها. فيتركون النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذنونه ويرجعون إلى بيوتهم من خوفهم ورعبهم وتخذيلهم للمسلمين.

    ومنهم من قال: يعدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح كنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن على نفسه! وذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صخرة وحطمها بثلاث ضربات في كل ضربة وجد بشارة من الله عز وجل أن يفتح له بلاد الشام وبلاد الفرس وبلاد الروم وبلاد اليمن، فبشر المسلمين بذلك، فإذا بهؤلاء المنافقين يسخرون ويقولون: يعدنا أن نفتح بلاد قيصر وبلاد كسرى وبلاد اليمن ونحن محتارون في هؤلاء الكفار لا نستطيع أن نعمل شيئاً. فظهر ما في قلوبهم من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستحيون أن يظهروا هذا الشيء.

    فهم يظهرون إذا وجدوا المسلمين في ضعف، فأظهروا نفاقهم لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، يقول قائلهم: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، قال ذلك من المنافقين معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف، وممن قال إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13]، أوس بن قيظي.

    استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

    ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحصار بضعاً وعشرين ليلة، فغزوة الأحزاب ليس معناها أنها كانت يوماً واحداً، بل ظلت بضعاً وعشرين يوماً على هذا الرعب وهذا الخوف، والكفار كانوا مستعدين يبحثون عن مكان يدخلون منه على المسلمين، والمسلمون كانوا متحصنين بهذا الخندق، ومن ثم قد يخرج اليهود عليهم من الخلف، ولكن تحدث من الله عز وجل المعجزة والنصر للمؤمنين وهم على ذلك.

    وحصل بين الكفار والمسلمين مناوشات بالرماح والرمي بالأحجار، ولم يصل بعضهم إلى بعض بسبب الخندق، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البلاء قد اشتد على المسلمين وأصابهم الخوف، ومن ثم بدأ الشك في قلوبهم وذلك لخيانة اليهود أراد أن يذهب عنهم هذا الخوف، فلجأ إلى أن يعمل معاهدة بينه وبين بعض الكفار، أن يكفون عن القتال ويعطيهم شيئاً، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك لا خوفاً على نفسه عليه الصلاة والسلام، لكن خوفاً على المؤمنين الذين زاغت أعينهم واضطربت قلوبهم.

    فأرسل إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ويكفون عن الحرب.

    إذاً هنا نصف جيش الكفار سيرجع ويبقى خمسة آلاف وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، فالعدد يكون متكافئاً بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاور الأنصار، كان ليفعل شيئاً حتى يستشير أصحابه عليه الصلاة والسلام.

    فشاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على أن يعطيهم ثلث ثمر المدينة ويرجعوا عن الحرب.

    والمشاورة دائماً تكون مع كبار القوم أهل الحكمة وأهل العلم وأهل الإيمان، فلا يمكن أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيش عدده ثلاثة آلاف مقاتل ويستشيرهم واحداً واحداً، ولكن يشاور الكبار مثل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فالكبير دائماً عنده أدب وعنده رأي وحكمة، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنطيعه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أمر أصنعه بنفسي)، أي: لم يأمرني ربي ولا أريد هذا الشيء ولكن من أجل الخوف الذي ملأ قلوب الناس قلت لكم هذا الأمر.

    أو قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لقد كنا ونحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر رسول صلى الله عليه وسلم)، أي: فرح صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه لم يرد غير ذلك عليه الصلاة والسلام، وقال: (أنتم وذا، وقال للاثنين من رؤساء الكفار: انصرفا فليس لكم عندنا إلا السيف).

    موقف علي بن أبي طالب مع عمرو بن عبد ود

    وقبل نصر الله للمؤمنين حصل شيء من المناوشات، فالكفار ضاق بهم الأمر، فأخذوا يبحثون عن أضيق مكان في الخندق من أجل أن يعبروا إلى المسلمين من خلال هذا المكان، ففوارس قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا من فرسان قريش وشجعانهم.

    فأقبلوا حتى وقفوا على الخندق يبحثون عن مكان من أجل أن يعبروا إلى المسلمين، وأيضاً فإن فيهم شجاعة، حيث إنهم أربعة أو خمسة ويريدون أن يذهبوا لثلاثة آلاف رجل، فكانت شجاعتهم منقطعة النظير، من أجل أن نعرف أن المسلمين لم يجاهدوا أناساً ضعفاء أو أوباشاً لا يعرفون القتال، هؤلاء أناس أقوياء جداً وفي غاية الشجاعة والجرأة، بدليل أن أربعة يريدون أن يتعدوا الخندق من أجل أن يقاتلوا من وراء الخندق.

    وتوجهوا إلى مكان ضيق من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحمت بهم الخندق. أي: قفزت حتى وصلوا إلى المسلمين وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين جبل سلع الذي كان عنده المسلمون، فخرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه أقبلت الفرسان نحوه ومعه مجموعة من المسلمين.

    وعمرو بن عبد ود هذا كان في يوم بدر قد أثبتته الجراحة فلم يقاتل في يوم أحد بعد ذلك، وفي يوم الخندق أراد أن يري الناس شجاعته وأنه هو الرجل العظيم الشجاع الجريء، فلما وقف نادى في المسلمين: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى.

    وهنالك فرق كبير في السن بين علي بن أبي طالب وبين هذا الرجل، فقال له: يا عمرو ! إنك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنك لا تدعى إلى إحدى خصلتين أو خلتين إلا أخذت إحداهما، أي الأفضل منهما قال: نعم.

    فـعلي بن أبي طالب قبل أن يقاتله يدعوه للإسلام لأنه عاهد الله على ذلك، فقال له: يا عمرو بن عبد ود ! إني أدعوك إلى الله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، أي: لا أريد هذا الشيء، قال: فأدعوك إلى المبارزة فإنك على باب الموت، فقال الرجل: يا ابن أخي! والله ما أحب أن أقتلك!

    فهو مستعظم لنفسه أنه من كبار المشركين وعلي بن أبي طالب مثل ابنه الصغير، ففي ظنه أن علياً لا يقدر عليه، فقال لـعلي : لا أحب أن أقتلك، لأننا أقرباء وأنت من قريش فلا أريد أن أقتلك، فهل هناك أحد آخر غيرك من أجل أن أقتله فثقته بنفسه أنه سيقتل علياً ويقتل من معه.

    فقال علي بن أبي طالب أنا والله أحب أن أقتلك!

    فظهرت شجاعة علي رضي الله عنه كأنه يحمسه ويقول له: تعال إذاً قاتلني، فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه فعقره، من أجل إثبات الشجاعة والقوة في أنه ينزل عن فرسه، بل ويقتله من أجل ألا يقتله أحد ومن أجل أن يريهم أنه يقاتل على رجليه، وأقبل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنازلا وتجاولا وثار النقع -أي: الغبار- بينهما حتى حال دونهما الناس فلا يستطيعون أن ينظروا شيئاً لأن الغبار حولهما، فلما انجلى النقع إذا بـعلي على صدره وهو يذبحه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى أصحابه أن علياً قتل صاحبهم فروا منهزمين وهم من أشجع الكفار

    وقال علي رضي الله تبارك وتعالى شعراً جميلاً عن هذا الإنسان الكافر:

    نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب

    نازلته فتركته متجدلاً كالجذع بين دكادك وروابي

    وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي

    لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب

    هذا علي رضي الله عنه يقول: أنا قتلته، وأنا دافعت عن دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدافع عن الحجارة، وأنا دعوته إلى الله فأبى أن يسلم، وعففت عن أثوابه عندما قتلته، ولو أنني كنت المقتول لسلبني أثوابي وتركني عرياناً على الأرض.

    فهذا شرف المؤمنين في قتالهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقال حسان بن ثابت لما رأى عكرمة بن أبي جهل وهو يفر:

    فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل

    حسان بن ثابت يشنع به لما هرب وهو ابن أبي جهل الذي كان سيد قريش

    فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل

    ووليت تعدو كعدو الظليم ما أن يجور عن المعدل

    ولم تلو ظهرك مستأنساً كأن قفاك قفا فرعل

    أي: أن قفاه مثل قفا الضبع، فهذا من حسان وفيه قصة طويلة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756025716