إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد حطيبة
  5. شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان 1426ه
  6. شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - فضل الصيام ومن يجب عليه الصوم والقضاء

شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - فضل الصيام ومن يجب عليه الصوم والقضاءللشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله للصائمين شهر رمضان إيماناً واحتساباً أجراً عظيماً، وغفر لهم بذلك ما تقدم من ذنوبهم، ورهب المفطرين فيه عمداً وعدواناً، وتوعدهم بالعقاب الأليم؛ إذ قد هيأ لهم وللناس جميعاً أسباب القرب من الرحمن والبعد من الشيطان، ففتح أبواب الجنان، وأغلق أبواب النيران، وسلسل الشياطين، ولذلك استحق من بغى وتجبر في ذلك الشهر، العذاب الأليم. ومن رحمته سبحانه أنه لم يوجب الصيام على الجميع في كل حال، بل قد عذر أصحاب العذر، ولهم أحكام خاصة في الصيام.

    1.   

    فضل صوم رمضان إيماناً واحتساباً

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.

    جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصوم عموماً، وأحاديث أخرى في فضل صوم رمضان خاصة، ومن هذه الأحاديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي حديث آخر: (من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

    وذكرنا أن إيماناً معناها: أنه مصدق بأن هذا الصوم حق وفريضة فرضها الله سبحانه وتعالى، وأن يكون صومه ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى قاصداً فضيلة هذا الصوم. واحتساباً: أي: محتسباً الأجر عند الله، فيرجو الثواب من الله لا من غيره سبحانه وتعالى، ولا يقصد تسمية ولا يقصد أن يُري الناس أنه صائم، إذ لا رياء ولا سمعة في ذلك.

    ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر)، فهذه مكفرات جعلها الله عز وجل من فضله ورحمته تكفيراً لسيئات العبد، فجعل له مكفرات في اليوم، وفي الليلة، وفي العام، وغير ذلك من المكفرات.

    ومن ذلك الصلوات الخمس في اليوم، فمن الصلاة إلى الصلاة تكون صلاته التي صلاها كفارة لما وقع في مصائب وذنوب قبلها. وكذلك الجمعة إلى الجمعة، وكذلك رمضان إلى رمضان، فكل هذه من المكفرات لذنوب الإنسان المؤمن إذا أتى بهذه الأعمال على الوجه الذي يرضي به ربه سبحانه وتعالى.

    1.   

    الترهيب من عدم الإخلاص في صوم رمضان

    جاء في مستدرك الحاكم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احضروا المنبر) يعني: احضروا عند المنبر، قال: (فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين).

    وكانت درجات منبر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث درجات. يقول: (فلما نزل قلنا: يا رسول الله! لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه، قال: إن جبريل عرض لي فقال: بعد)، ومعناه: هلك هذا الإنسان وابتعد عن رحمة الله واستحق العذاب، (بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له! فقلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك! فقلت: آمين -عليه الصلاة والسلام-، قال: فلما رقيت الثالثة قال: بَعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة! فقلت: آمين)، فجبريل دعا على الإنسان الذي يصنع هذه الأشياء الممنوع منها، أو يترك الأشياء التي تقربه من الله سبحانه وتعالى المذكورة في الحديث، ومنها: من أدرك رمضان ولم يغفر الله عز وجل له، إما لكونه كان يفطر في رمضان، أو يفعل في رمضان ما يجعل صومه معدوماً من الأجر كما سيأتي في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)، فمثل هذا يصوم رمضان ولكنه يؤذي الخلق، ويستحق العقوبة، إذ لم يمنعه صومه ولا صلاته عن الفحشاء والمنكر فاستحق عقوبة الله سبحانه.

    فقوله: (بَعُد) أي: هلك واستحق العذاب، (من أدرك رمضان فلم يغفر له)، فلقد دعا جبريل وأمن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

    والدرجة الثانية قال فيها: (بَعُد من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك)، والنبي صلى الله عليه وسلم يرقى على المنبر وجبريل يقول ذلك فيدعو ويؤمن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم. يقول: (قال: فقلت: آمين، قال: فلما رقيت الثالثة قال: بَعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما) يعني: أدرك الكبر أبويه أو أحد أبويه: (فلم يدخلاه الجنة)، وهذا يدل على أن بر الوالدين يدخل العبد الجنة فضلاً عما يكون له من بركة في الدنيا ببر الوالدين في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة، فيعجل له الخير في الدنيا بصلة الرحم وبر الوالدين، ثم يكونان سبباً في دخوله الجنة عند الله عز وجل.

    1.   

    بيان ما يحدث عند دخول شهر رمضان

    روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، وكأنه احتفال في السماء لدخول شهر رمضان، فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فتحت أبواب السماء)، وكأنها تفتح للمباهاة بالصائمين عند الملائكة، وكأن الله يقول لهم: انظروا إلى عبادي يصلون ويصومون ويقومون.

    ويري الله عز وجل الملائكة رحمته في عباده. ونحن لا نرى أبواب السماء، ولكن إذا فتحت فإنه إما ينزل منها ملائكة وإما يعرج إليها ملائكة، وذلك بنزول وعروج أعمال صالحة للعباد إلى السماء، فالله عز وجل يفتح أبواب السماء ليتلقى من عباده الأعمال الصالحة، ويزين السماء فيباهي بعباده الملائكة. قال: (فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، فقوله: (غلقت أبواب جهنم)؛ وذلك ليري ربنا سبحانه عباده وملائكته سبحانه وتعالى أنه يغفر لعباده بسبب صيامهم وقيامهم في هذا الشهر فيغلق أبواب جهنم.

    وقوله: (وسلسلت الشياطين)، وفي حديث آخر: (سلسلت أو صفدت مردة الشياطين)، والحديث رواه الترمذي وفيه: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين) فصفدت أي: غلت بالأغلال وأوثقت بالأغلال.

    قال: (وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير! أقبل) أي: يا من يريد أن يهتدي! لتقبل على الطاعة وعلى العبادة في هذا الشهر العظيم حتى تعتاد عليها في باقي العام وباقي العمر، قال: (ويا باغي الشر! أقصر) أي: كف عن شرك، وكف عن مؤاذاة خلق الله، واكتف بذلك، وإلا كانت نهايتك النار والعياذ بالله. (ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، وهذا فضل الله العظيم.

    أيضاً روى هذا الحديث الإمام النسائي وفيه زيادة: (أتاكم رمضان شهر مبارك -شهر فيه البركة-، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم)، وهذه الليلة هي ليلة القدر، فهي ليلة خير من ألف شهر ليس فيها شهر رمضان ولا ليلة القدر.

    يقول الحليمي فيما ينقله الحافظ ابن حجر : (يحتمل في الحديث أن يكون المراد من الشياطين مسترقي السمع منهم) يعني: يريد أن يجمع بين أنه تغل الشياطين وتسلسل وتصفد، وبين أنه يحصل في رمضان معاصي كثيرة، فيقول: بأن الذي يغل ويصفد ويسلسل هم مردة الشياطين أو جنس منهم وهم من يسترقون السمع من السماء، يقول: (وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه)، يريد أن يقول: أنهم يسلسلون في الليل دون نهار رمضان، قال: (لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ.

    ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام) يعني: أن الشر الذي يكون في غير رمضان قد يكون شراً بدرجة عظيمة جداً، فإذا غلت الشياطين يقل الشر، وليس معناه أنه يزول وإنما يقل. فالإنسان الذي يصوم ويحسن صومه، ويتقي الله، فهو وإن كان فيه شر، إلا أن هذا الشر كبت بسبب أن الله غل عنه الشياطين أو بعض الشياطين وهذا معنى حسن.

    يقول: (لاشتغال الصائمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر) وقال غيره المراد بالشياطين أي: بعض الشياطين، يقول هذا من أجل أن يجمع بين كون الناس يعصون ربنا سبحانه وتعالى في رمضان في نهاره وليلة، والمقصد أن بعض الشياطين يصفدون، وهم الذين يؤذون المؤمنين ويوسوسون لهم، فالله يغلهم بفضل صيام هؤلاء وقيامهم وطاعتهم لله سبحانه وتعالى.

    قوله: (صفدت الشياطين) بمعنى: شدت بالأصفاد، والأصفاد: الأغلال، والأغلال: القيود التي تربط الأيدي بالأعناق، وهذا معنى سلسلت أيضاً.

    يقول القاضي عياض : يحتمل الحديث أنه على ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أيضاً في المعنى أنه إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين، ولا مانع من أن يُحمل على حقيقته.

    يقول الطيبي : (فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين) أي: أن الله عز وجل يري الملائكة أنه يحمد للصائمين هذا الذي يصنعونه، ويشكر لهم عبادتهم، ويثيبهم بهذا الذي يريهم إياه.

    قال: (وأنه من الله بمنزلة عظيمة -يعني: الصوم أو الصائم-، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق صلوات الله وسلامه عليه ما يزيد في نشاطه ويتلقاه بأريحية).

    يقول القرطبي : (فإن قيل: كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرة فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟) يعني: كأنه يقول: هذا سؤال متوقع من الآخرين. يقول: (والجواب أنها إنما تغل -يعني: تصفد- الشياطين الذين يريدون إغواء الصائمين، فمن كان منهم كذلك حيث صام الصائم وأراد أن يغويه فإن الله سبحانه وتعالى يمنع هذا الشيطان من الوسوسة لهذا الصائم أو التمكن منه بتصفيد الشيطان وسلسلته).

    كأن مردة الشياطين أو البعض من الشياطين الذين يغوون المؤمنين، يقول: (إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه) بمعنى: أنه ليس أي صوم تغل فيه الشياطين، بل لا تغل إلا في الصوم الصحيح المتقن، بأن يصوم ابتغاء وجه الله سبحانه، فلا يرائي بصيامه ولا يسمع به، ويكون محافظاً على آداب الصيام، أما الصائم الذي يكون في صومه متعصباً غضبان، يريد أن يتعارك مع الناس بسبب أنه صائم، فليس هذا بالصوم الذي تصفد عن مثله الشياطين، وإنما يكون عن الإنسان المؤمن الذي يصوم صوماً يرضي به ربه سبحانه وتعالى، صوماً قد حوفظ فيه على شروطه وروعيت آدابه.

    قال: (أو المصفد بعض الشياطين كما في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور).

    وقال غير القرطبي : في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر مكلف، كأنه يقال له: قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم) يعني: الصيام يزيدك من البركة، ويزيدك من القرب من الله عز وجل، فعندما تقع في معصية لا تتعلل وتقول: الشيطان هو الذي أغواني، وإن كان الإنسان إذا تاب يقول كما قال تعالى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].

    فالإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه، أما أنه يقع في المعاصي ويترك الصيام ويقول: الشيطان أغواني. فإن الله عز وجل يقول له: قد غلت عنك الشياطين، وقدرة الشيطان عليك في رمضان ضعيفة، ولكن شهوتك وأذاك في الخلق هو الذي جعلك تصنع ذلك، والله أعلم.

    1.   

    ذكر بعض أسباب دخول الجنة والعتق من النار

    روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة) أي: عتقاء يعتقهم الله عز وجل من النار، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عتقائه من النار.

    وروى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبة، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟)، أي: أن الفرائض التي فرضها الله عز وجل لو أن العبد أتى بها على الوجه الذي ينبغي فهل يمكن أن يدخل الجنة بالفرائض فقط من غير نوافل معها؟ يقول: (أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات) أي: صليت الخمس الصلوات وواظبت عليها كما أمر الله سبحانه، (وصمت رمضان) أي: على الوجه الذي يرضي به الله سبحانه وتعالى، (وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً) يعني: ما قال عنه الله: حرام بعدت عنه، وما قال عنه: حلال فعلته، فهل بإتيان الفرائض وترك الحرام ندخل الجنة؟ (قال: نعم، قال الرجل: والله لا أزيد على ذلك شيئاً).

    وفي الحديث الآخر وهو حديث جميل وعظيم، وقد رواه ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته)، ويلاحظ هنا أنه ذكر أربعة أركان من أركان الإسلام، وكأن الرجل لم يبلغه فريضة الحج، أو أن الحج ليس على كل إنسان، وإنما على القادر فقط، فذكر في كلامه هذا أربعة أركان هي قوله: (أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله)، الركن الأول، والثاني قوله: (صليت الصلوات الخمس)، والثالث: (أديت الزكاة)، والرابع: (وصمت رمضان وقمته) وقوله: قمته أي: صليت التراويح فيه، قال: (فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء)، وهذا فضل واسع، وكرم عظيم من الله سبحانه وتعالى أن يجعل العبد بتأديته الفرائض من الصديقين والشهداء، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.

    1.   

    جزاء المفطرين عمداً في رمضان

    روى النسائي في السنن الكبرى التي اختصرها في المجتبي وهو ما يسمى بالسنن الصغرى عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً) أي: أخذا بذراعي النبي صلى الله عليه وسلم وخرجا به عليه الصلاة والسلام، قال: (وأتيا بي جبلاً وعراً -أي: صعب المرتقى- فقالا لي: اصعد فقلت: إني لا أطيقه)؛ لأنه جبل صعب جداً. قال: (فقالا: إنا سنسهله لك، قال: فصعدت، حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هذه الأصوات؟!) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صراخاً وهو على الجبل، وكان هذا في رؤيا منامية رآها صلى الله عليه وسلم، قال: (فقالا: هذا عواء أهل النار) أي: عواء كعواء الذئاب والكلاب والعياذ بالله.

    (قال: ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً)، وهؤلاء أناس معلقون بأرجلهم من عراقيبهم، شفاههم مشققة الأشداق، (تسيل أشداقهم دماً) أي: يسيل الدم من أفواههم، قال: (قلت: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) أي: هذا حال الذين يفطرون في رمضان قبل غروب الشمس، لا لعلة أو عذر، بل لهوى متبع، واستخفافاً بحرمة ذلك اليوم، فأمثال هؤلاء يكون حالهم يوم القيامة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً)، وأيضاً يعوون وهم في نار جهنم والعياذ بالله.

    1.   

    بيان من يجب عليهم الصوم والقضاء

    يجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم، والمسلمة كذلك مع شرط الطهارة من الحيض والنفاس.

    والصيام: هو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس بنية التقرب إلى الله.

    فأما الكافر فإنه إن كان أصلياً لم يطالب به، لوجود المانع من القبول وهو: الكفر، ولأن من شروط قبول الصيام توافر الشروط وانتفاء الموانع، فمن موانعه الكفر، ومن شروطه وهو أهمها أن يأتي الصائم بركن الإسلام وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38].

    إذاً: هذا الإنسان إذا كان كافراً ومكث عمراً من عمره على ذلك، ثم أسلم فإن الله عز وجل يغفر له ما قد سلف، ولا يطالب بقضاء الأيام والشهور التي فاتته، ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيراً عن الإسلام، وهذه علة صحيحة، وحكمة عظيمة، فلو أن كافراً يبلغ من العمر خمسين سنة وأسلم، فعلى القول بإيجاب القضاء عليه سنطالبه بخمسة وثلاثين أو ستة وثلاثين شهراً وهذا صعب جداً.

    ولو قيل لإنسان ذلك لنفر عن الدين، ولكن الله عز وجل برحمته العظيمة الواسعة قال له: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، والإسلام يجب ما قبله.

    والأصل أن العبادة التي يأتي بها في حال كفره لا تقبل منه، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء في الصدقة والعتق، حيث من تصدق بشيء وأسلم، فقد أسلم على ما أسلف من خير، وتكتب له حسنات هذا الذي أنفق، أما الصيام فهو عبادة بدنية يشترط لقبوله أن يكون الصائم مسلماً، وكذلك باقي العبادات.

    روى البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أرأيت أشياء كنت أتحنث -أي: أتعبد- بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر؟)، فهذا حكيم بن حزام يصل الرحم، ويعطيهم الهدايا، وينفق عليهم، وكان يتعبد بذلك في جاهليته، وكان في ذلك الوقت كافراً، إذ كان إسلامه متأخراً، قال: (أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير) يعني: من هذه النفقات، فالصدقة نفقة، وعتق العبيد بأن تجعلهم أحراراً وصلة رحم بالإنفاق عليهم وغيره صدقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أسلمت على ما أسلفت من خير)، فهذا هو الحال في الكافر الأصلي.

    أما المرتد -وهو من كان مسلماً ثم ارتد وكفر- فإنه إذا رجع للإسلام بعد ذلك هل يلزمه قضاء ما فاته في ذلك؟ الراجح أنه لا يلزمه ذلك، وإن كان الأولى أن يقضيه؛ لأن العلة هي التي ذكرناها في الكافر الأصلي، إذ لعل هذا المرتد تمر عليه سنون وهو في ردته كعشر سنوات أو عشرين سنة ثم يسلم بعد ذلك، فلو قيل له صم عشرين شهراً! لكان هذا الأمر صعباً عليه، ولعله ينفر ولا يرجع إلى الإسلام بسبب ذلك، ولذلك نقول: الإسلام يهدم ما قبله، وأمره إلى الله عز وجل.

    وعليه فالمرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء الصوم، ولا يطالب بأدائه في حال ردته؛ لأنه لو صام وهو مرتد لم يقبل منه.

    وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد ، وقال الشافعي : يلزمه قضاؤه، ويناقش هذه المسألة ابن العربي في أحكام القرآن فيقول: (إذا أسلم المرتد وقد فاتته صلوات وأصاب جنايات)، والصلوات حق لله، والجنايات حق للآدمي، قال: (فإن الشافعي قال: يلزمه كل حق لله وللآدمي)، ووجهة نظر الإمام الشافعي أنه طالما ستلزمه بعض الحقوق فإذاً يلزمه جميع الحقوق، فيلزمه إذا أتلف لآدمي شيئاً وهو في حال ردته إصلاح ما أفسد، أو دفع ثمن ما أتلفه على الآدمي، فطالما أننا نلزم المرتد بذلك فنلزمه أيضاً بحقوق الله عز وجل كالصيام وغيره. وقال أبو حنيفة : (ما كان لله يسقط وما كان للآدمي يلزمه)، يعني: يفرق بين حق الله وبين حق الآدمي، فإن الآدمي لا يتنازل عن حقه بل يطلبه، أما الله عز وجل فإنه هو الغفور الرحيم سبحانه وتعالى، يقول ابن العربي : (وبه قال علماؤنا) يعني: المالكية. قلنا: وكذلك هو مذهب أحمد رحمه الله تعالى.

    يقول: (ودليلهم عموم قول الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما كان قبله)، هذا الحديث في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهو عام في الحقوق التي تتعلق بالله كلها.

    فإن قيل: المراد بذلك الكفر الأصلي) يعني: يريد أن يقول في المناقشة مع الإمام الشافعي رحمه الله، إذا قال قائل منهم: هذا في الكفر الأصلي وليس في المرتد، بدليل أن حقوق الآدميين تلزم المرتد، يعني: كأنه يفرق بين الكافر الأصلي إذا كان مع الكفار وهاجموا المسلمين، ثم أتلفوا في المسلمين، وبعد ذلك تاب ودخل في دين الله عز وجل فلا يطالب بشيء، أما المرتد، فإن أتلف ثم رجع إلى الإسلام طولب بضمان هذه الأشياء التي أتلفها. يقول: (بدليل أن حقوق الآدميين تلزم المرتد ولا تلزم الإنسان الكافر الأصلي، فوجب أن تلزم المرتد حقوق الله تبارك وتعالى، فالجواب: أنه لا يجوز اعتبار حقوق الآدميين بحقوق الله)، أي: لا يجوز قياس الآدمي على ربه سبحانه وتعالى، ولا اعتبار حق الآدمي بحق الله عز وجل، ولا حقوق الله بحقوق الآدميين في الإيجاب والإسقاط، يقول: (لأن حق الله يستغني عنه) أي: أن الله يستغني عن حقه سبحانه ويعفو ويتجاوز سبحانه، والإسلام يهدم ما قبله، أما حق الآدمي فهو مفتقر إلى حقه، ويطالب به. يقول: (ألا ترى أن حقوق الله لا تجب على الصبي) وهذا قياس آخر أجمل وأقوى، حيث إن الصبي لا تجب عليه حقوق الله سبحانه وتعالى، فلو تكلم بما يوقع الكبير في الكفر فإنه لا يطالب بحق الله عز وجل في ذلك، أما حقوق الآدمي فتلزمه، فلو أن هذا الصبي الصغير أتلف مالاً لآدمي لزمه حق هذا في ماله أو مما عنده من مال. يقول: (فرق بين حق الله وحق الآدمي، فإن الله عز وجل يعفو ويتجاوز، والآدمي يطلب حقه).

    حكم صوم الصبي

    الصبي لا يجب عليه صوم رمضان ولا قضاء ما فات قبل البلوغ، لكن المميز وهو الذي بلغ سبع سنوات، أو كان يميز ويدرك الصواب من الخطأ ويميز العورات، فهذا إذا صام يؤجر على هذا الصيام، وإذا لم يصم فليس عليه إثم في ذلك؛ لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل) فإذاً: قلم التكليف وهو كتابة الإثم على العبد أنه آثم أو أنه يعاقب على كذا قد رفع عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، فالإنسان النائم لو تكلم في نومه بكلام هذا الكلام لو تكلم به وهو يقظ لأثم، أما وهو نائم فلا شيء عليه، وكذلك إذا جاء وقت الصلاة على الإنسان وهو نائم فلم يسمع أذاناً، ولم ينتبه من نومه، فخرج وقت الصلاة فلا شيء عليه، فإذا استيقظ من نومه لزمه أن يصلي، أما ما ضاع من وقت نومه فلا يأثم على تضييعه طالما أنه ليس مفرطاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس في النوم تفريط).

    قال: (وعن الصبي حتى يحتلم) أي: وعن الصبي حتى يبلغ.

    قال: (وعن المجنون حتى يعقل) أي: لا إثم على هؤلاء، لكن إذا أصبح الصبي والصبية مميزان وهما عند الحنابلة من جاوزا السبع سنوات أو ثمان سنوات، وعند الشافعية من كان يُدرك الصواب من الخطأ ويفرق بين العورات، ومن إذا سئل عن شيء أجاب، فهو يفهم السؤال ويفطن لرد الجواب.

    فهذان المميزان على الولي أن يأمرهما بالصوم لسبع، ويضربهما على تركه لعشر قياساً على الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك في الصلاة، وقال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فقوله: (مروا) أي: بالكلام، (واضربوهم عليها لعشر)، ولكن لاحظ أنه لم يقل ذلك في الصوم، ولذلك ينظر في الصوم إذا كان الصبي قد أفاق بأن كان مميزاً يطيق الصوم، فهذا يؤمر به لسبع ويضرب عليه لعشر قياساً على الصلاة، أما إذا كان لا يطيق الصوم فيؤمر ولو بعضاً من الوقت؛ ليتمرن عليه، حتى لو وصل سنه إلى عشر سنوات وهو أيضاً لا يطيق، فإذا كان الكبير قد جعل الله عز وجل له عذراً فالصبي من باب أولى، وعلى ذلك لا يضرب على الصوم من كان سنه في العشر سنوات طالما أنه لا يقدر أو يشق عليه.

    ويلاحظ هنا أن الأمر في الصلاة أشد حيث قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فالصلاة سهلة إذ سيصلي الصبي صلاة الظهر أربع ركعات وهذا أمر سهل عليه، أما الصوم فهو الإمساك عن الطعام والشراب من طلوع الفجر حتى غروب الشمس وهذا صعب.

    قال النووي في المجموع: (الصواب في حقيقة الصبي المميز أنه الذي يفهم الخطاب، ويحسن رد الجواب، ومقاصد الكلام ونحو ذلك، ولا يضبط بسن مخصوص، بل يختلف باختلاف الأفهام) وهذا قيد جميل أيضاً، فهو يريد أن يقول: إذا كان سن صبي تسع سنوات مثلاً وهو لا يفهم كأن تقول له: الصلاة، فلا يفهم الصلاة، فهذا غير مميز، إذ ليس القيد بالسن، فإذا جاوز هذا السن وهو لا يفهم ما صلاة وما صوم فعنده تخلف في الإدراك عن غيره ممن هم في سنه، وعند ذلك يصبر عليه حتى يفهم.

    قال ابن قدامة: (واعتباره بالعشر الأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالضرب على الصلاة عندها، واعتبار الصوم بالصلاة أحسن؛ لقرب إحدى العبادتين من الأخرى، واجتماعهما في أنهما عبادتان بدنيتان من أركان الإسلام، إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة) وهذا كلام جيد، حيث قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصوم، فمن عنده عشر سنوات قد يطيق الصلاة ولا يطيق الصوم.

    إذاً: عند الجمهور أنه يقاس على الصلاة وإن كان الخلاف في المميز وغير المميز، أما عند المالكية فإن الصوم لا يجب على الصبيان، بل ولا يستحب! وهذا فيه نظر، إذ كيف لا يستحب وقد جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يمرنون أولادهم على الصيام، ففي الصحيحين عن رُبيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم)، فقوله: (من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه) أي: بالصوم وليس بالفطر.

    قالت الرُّبيع رضي الله عنها: فكنا نصومه بعد، ونصوم صبياننا.

    فهذا يدل على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك، ويستحيل عليهم فعل شيء ثم نقول نحن: لا يستحب ذلك، فهم فعلوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان ممنوعاً لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فتقول رضي الله عنها: (ونجعل لهم اللعبة من العهن) يعني: نعمل لهم لعباً من العهن: وهو الصوف المصبوغ، تقول: (فإذا بكى أحدهم على الطعام) أي: لا نأتي له باللعبة من أول النهار، بل نحبس عنه اللعبة حتى يجوع ويبكي ثم نعطيه اللعبة يتسلى بها عن جوعه.

    قالت رضي الله عنها: (حتى إذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار)، وفي لفظ لـمسلم : (ونصنع له اللعبة من العهن فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم)، فهذا تمرين جميل، وفيه المكافأة على الشيء الحسن الذي يفعله الصبي.

    حكم صوم المجنون

    لا يلزم المجنون الصوم في الحال. والمجنون يدخل تحته أصناف كثيرة منها: من يجن حيناً ويفيق حيناً، بأن تكون به نوبة صرع، والمجنون فاقد العقل، وغيرهما. وعليه فإن المجنون لا يلزمه الصوم في الحال؛ لحديث علي الذي تقدم وفيه: (وعن المجنون حتى يفيق) وهذا مجمع عليه.

    وإذا أفاق المجنون لم يلزمه قضاء ما فاته بالجنون. وذلك المجنون إذا كانت أياماً تامة كاملة، وسواء قل أو كثر، وسواء أفاق بعد رمضان أو في أثنائه، كأن جن شخص من بداية شهر رمضان إلى يوم عشرة رمضان، ثم بعد ذلك أفاق، فنقول: هو الآن مكلف، وكان في خلال العشرة الأيام الأولى ليس مكلفاً فلا يلزمه القضاء؛ لأنه غير مكلف؛ ولأنه صوم فات في حال سقط فيه التكليف؛ لنقص في الأهلية، فلم يجب قضاؤه كما لو فات في حال الصغر.

    الصورة الثانية: إذا وجد الجنون في جزء من النهار كمن نوى من الليل وأصبح بالنهار صائماً، ثم بين الظهر والعصر ذهب عقله، بأن حدث له صرع أو ما شابه، وسواء كان الصرع الذي جاء له أوقعه على الأرض وأغمى عليه ثم ذهب بعقله، أو أن عقله ذاهب وهو مفيق، فتراه يتكلم ولكنه في غياب عن الوعي والإدراك، حتى وإن كان جالساً، وهذا يحدث عند البعض وخاصة كبار السن، حيث تراه يجلس ثم يذهب في غيبوبة ولا يدري بشيء أبداً، ويأتي عليه وقت الصلاة فينبه لها فلا يفهم شيئاً، ويمكن أن يرفع يده ويكبر ثم يذهب ولا يدري بشيء، فهذا عقله ذاهب الآن، وهو غير مكلف في هذه الحالة، ولكن يستمر ساعة أو ساعتين ثم يرجع له عقله مرة ثانية.

    فمثل هذه الصورة نقول فيها: هذا الجزء الذي ذهب فيه عقله لم يكن مكلفاً فيه فلا ينقض صومه، بل لا زال صائماً، حتى لو كان في هذا الجزء أكل أو شرب أو فعل شيئاً مما ينقض صيام غيره؛ لأنه ذاهب العقل غير مكلف في هذا الجزء.

    ومثله في الحكم من جن وذهب عقله فجاء إنسان ووضع له دواءً في فمه؛ ليفيق من جنونه. فهذا الرجل مكره على هذا الشيء وهو ذاهب عقله فلا شيء عليه، وإذا أفاق فصومه صحيح؛ لأنه أكره على ذلك.

    ولذلك نقول: إذا وجد الجنون في جزء من النهار لم يفسد الصوم، أما إذا وجد في جميع النهار فلا ينفع الصوم هنا، وذلك كمن جن من الفجر حتى غروب الشمس، فلا يصح صومه، وليس عليه القضاء. قال الشافعي رحمه الله: (إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم؛ لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه كالحيض)، وهذه هي وجهة نظر الشافعي حيث قاس الصوم على الحيض، فالمرأة إذا كانت صائمة ثم نزل عليها الحيض فسد صومها ولزمها القضاء، والجنون مثلها أيضاً في الإفساد.

    يقول ابن قدامة راداً على ذلك: لنا أنه زوال عقل في بعض النهار فلم يمنع صحة الصوم قياساً على الإغماء، أي: هناك فرق كبير بين الجنون وبين الحيض، فالمرأة الحائض إنسانة مفيقة عاقلة، أما المجنون فقد ذهب عقله، وأقرب أصل لهذا هو المغمى عليه، والمغمى عليه أجمعوا على أن صومه صحيح، إن كان الإغماء في بعض النهار لا كله، فنقيس المجنون على المغمى عليه في صحة الصوم بالشرط المذكور.

    يقول: (لم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم، ويفارق الحيض، فإن الحيض لا يمنع الوجوب) يعني: أن الحيض لم يمنع وجوب الصوم، بل يجب عليها الصوم، ولكن لا يصح منها لوجود المانع، ولذلك فهي ملزمة بقضاء أيام حيضها.

    فإن الحيض لا يمنع الوجوب، وإنما يجوز تأخير الصوم، ويحرم فعله، ويوجب الغسل، ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء، فلا يصح قياس الجنون عليه؛ لوجود فروق كثيرة بين هذا وذاك؛ لذلك فهذا قياس مع الفارق.

    يقول: (وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوب قضائه وهو الصواب)، أي: وهو الصواب أنه لا يجب قضاء من جن في بعض اليوم؛ لأنه غير مكلف في هذا الجزء، بل مكلف في الباقي، واجتمعت النية مع الإمساك في باقي اليوم فصيامه صحيح. يقول: (وإن سلمنا، فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة) يقول: بفرض التنزل، فالذي نقوله: إن المجنون في بعض اليوم فاقد للإدراك، لكنه قد أدرك بعض وقت العبادة فيلزمه القضاء كالصبي إذا بلغ.

    والصواب أن الصبي إذا بلغ لا يلزمه القضاء طالما أنه أمسك باقي الجزء من اليوم الذي بلغ فيه، وكذلك الكافر إذا أسلم في بعض النهار، وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة، فهذا يذكره ابن قدامة تنزلاً منه.

    حكم صوم المغمى عليه ووجوب القضاء عليه

    يقول: (متى أغمي على الصائم جميع النهار فلم يفق في شيء منه لم يصح صومه)، إذاً: هنا الإغماء كان جميع النهار، ونحن نقول: الصيام عبارة عن إمساك مع نية، إذ لابد ولو في جزء من النهار أن يكون ممسكاً ويحس، فالنائم مثلاً يستشعر الجوع، ولو أيقظه أحد لاستيقظ، أما المغمى عليه فإنه وإن ضرب فلا يحس بشيء، فإذا كان الإغماء من أول الفجر حتى غروب الشمس فإنه وإن كان ممسكاً، إلا أنه لا نية عنده، فهو لم يفق بحيث يستشعر هذا الجوع؛ ولأنه لا يحس بشيء فيها، فعلى ذلك إذا أغمي عليه بعض النهار أو أكثره وأفاق في بعضه فصومه صحيح، أما لو أغمي عليه جميع النهار فلا يصح منه هذا الصوم. يقول لنا: (فلم يفق في شيء منه لم يصح صومه، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : يصح)، وكأن أبا حنيفة يقيس ذلك على النوم، وإن كان هنا فارق بين النوم وبين الإغماء، فالنائم يستشعر الجوع وهو نائم، وكذلك النائم لو أيقظته استيقظ، لكن المغمى عليه لا يستشعر بجوع ولا بشيء، ولو أيقظته لم يستيقظ، إذ لو كان يستيقظ لنفعه صوم بعض النهار فصح باقيه.

    قال أبو حنيفة : (يصح؛ لأن النية قد صحت، وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم)، وكأنه يريد أن يكتفي بالنية إذا صحت بالليل.

    قال مالك : (إن كان أغمي عليه من أول النهار إلى الليل رأيت أن يقضي يوماً مكانه، وإن أغمي عليه وقد قضى أكثر النهار أجزأه ذلك)، يريد أن يقول: إن الإغماء إذا كان له أكثر النهار فعليه أن يقضي يوماً مكانه، أما إذا كان الإغماء أقل النهار فلا قضاء عليه، وكأنه يفرق بين القليل والكثير. والراجح فيه أنه إذا أفاق بعض النهار وكان قد جمع بين النية مع الإمساك فصومه صحيح ولا يلزمه القضاء، أما إذا أغمي عليه النهار كله فهذا يبطل صومه ويلزمه القضاء؛ لقوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

    والإغماء يلحق بالمرض وليس بالجنون، فالمجنون إنسان ذاهب العقل غير مكلف، والمغمى عليه مريض، فعلى ذلك يلزمه أنه يقضي يوماً مكانه.

    فالجنون نقص في الأهلية، أما هذا فهو مريض، ولهذا لا يجوز الجنون على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ويجوز عليهم الإغماء.

    والدليل على ما رجحناه قول الله عز وجل في الحديث: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي)، فهذا الجزء من الحديث فيه الشاهد على أن الواجب في الصيام هو الترك مع النية، ولو كان الترك كأن أغمي عليه في الباقي فيصح منه ذلك، أما إذا أغمي عليه اليوم كله فلا يضاف الإمساك إليه.

    أما النوم فلا يؤثر في الصوم سواء وجد في جميع النهار أو بعضه؛ لأن النوم عادة يجري على جميع الخلق، ولا يزيل إحساس الإنسان بالكلية، ومتى نبه النائم استيقظ، أما الإغماء فعارض يزيل العقل فأشبه الجنون.

    ومن زال عقله بمرض أو بشرب دواء شربه لحاجة فهو ملحق بالجنون في حكمه، كأن أصابه صرع أو ما شابه، أما من كان مريضاً فأغمي عليه بسبب المرض كمن أصابته حمى فأغمي عليه في الحمى، فهذا مريض الآن، وحكمه حكم المريض، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] أي: عليه قضاء تلك الأيام التي أفطر فيها.

    إذاً: نفرق بين من حالته الجنون فهو غير مكلف في هذا الوقت، وفيه التفصيل الذي تقدم، وبين من كان في مرض فأغمي عليه بسبب المرض، كأن يكون مريضاً بالحمى أو أغمي عليه بسبب أنه مريض الكبد أو الكلى أو غير ذلك، فيلزم هذا الإنسان قضاء الصوم دون الصلاة؛ لمشقة التكليف بقضاء الصلاة دون الصوم. وهو غير آثم لترك الصيام في تلك الأيام؛ لأن زوال عقله كان بعذر صحيح، أما إذا زال عقله بمحرم، كأن يشرب مسكراً، من حشيش، وخمر، وغيرهما، فهذا يلزمه القضاء، وهو آثم بالترك في هذه الحال.

    حكم من بلغ أو أسلم في نهار رمضان

    إذا نوى الصبي الصوم من الليل فبلغ في أثناء النهار أتم صومه ولا قضاء عليه، وكان أول صومه نافلة وآخره فريضة. ولا يلزمه القضاء على الراجح في ذلك؛ لأن نية الصوم حصلت لهذا الإنسان ليلاً فيجزئه كالبالغ، ولا يمتنع أن يكون أول الصوم نافلة وباقيه فرضاً كما لو شرع في صوم يوم تطوعاً ثم نذر إتمامه، وصورة هذا النذر أن يكون أول النهار صائماً بنية النفل، ثم قال: اليوم الذي سيقدم فيه فلان لله علي نذر أني أصومه، فقدم صاحبه في نفس اليوم، فيصير اليوم الذي بدأه بصوم النافلة فريضة عليه بسبب نذرهن أما ما مضى من الشهر قبل بلوغه فلا قضاء عليه.

    وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل، فيلزمه صوم بقية الشهر، أما اليوم الذي أسلم فيه فإنه إن كان إسلامه عند صلاة الظهر فقد وجب عليه الصوم في ذلك الوقت، فإن صام من ذلك الوقت فالراجح أن صومه هذا يكفيه كصوم عاشورا من قبل الصحابة، حيث أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإمساك بقية اليوم، ولا يلزمه شيء أكثر من ذلك، فإن صام يوماً مكان هذا اليوم فهو أفضل احتياطاً للخلاف الذي في هذه المسألة.

    وهذا قول الإمام أحمد ، وبه قال إسحاق ، لكن قال مالك وأبو ثور وابن المنذر: لا قضاء عليه، ولو لم يصم ذلك اليوم أيضاً فلا قضاء عليه؛ لأنه لم يدرك يوماً كاملاً في إسلامه.

    وهذا مروي أيضاً عن أحمد رحمه الله.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755979794