إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (27)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنة الله عز وجل في خلقه أنه يبتلي عباده بالبأساء والضراء، فإن هم تضرعوا لربهم أوشك أن يبدلهم مكان الضر الذي كانوا فيه النعمة والمعافاة، حتى يقول بعضهم إن الضر والبأساء قد أصاب من قبلنا من الآباء والأجداد، فلا يخافون من ذلك ولا يعتبرون، حتى يأخذهم الله بغتة وهم لا يشعرون، لكن لو حققوا الإيمان والتقوى فإن الله يفتح عليهم بركات السماء والأرض.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأحد من يوم السبت- والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه ألفاً وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وهي تعالج أسمى العقيدة وأعلاها، تعالج التوحيد وتقرره، فلا يستحق أن يعبد في الكون إلا الله، وهو معنى لا إله إلا الله.

    ثانياً: تقرير النبوة المحمدية، وأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ونبيه.

    ثالثاً: عقيدة البعث الآخر والجزاء فيه على كسب هذه الحياة، إما في النعيم المقيم أو بالعذاب الأليم.

    رابعاً: تقرر أنه لا حق لكائن أن يشرع أو يقنن إلا الله، وذلك لعلمه وحكمته، وغيره لعجزه وجهله وضعفه، وشيء آخر: أن الله يخلق الناس ويرزقهم ويربيهم ويكملهم، وأنت تشرع لهم بأي حق؟ أعوذ بالله! ما هناك ظلم أعظم من هذا الظلم والعياذ بالله، هذه السورة كالمكيات يعالجن هذه الحقيقة.

    وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نستمع إليها في أدب واحترام تتلى على مسامعنا مرتلة مجودة ثم نأخذ في تدبرها وفهم معناها وما أراد الله بذلك.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:94-96].

    عظم نعمة سماع كلام الله تعالى

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات معطوفة على ما سبقها من الآيات الحاوية لذلك القصص الذي درسناه ووقفنا على معالمه وآثاره، قصة نوح، قصة هود، قصة صالح، قصة شعيب، ووقفنا على ما أصابهم وحل بساحتهم، وعرفنا علة ذلك ألا وهي الكفر والجحود والانتكاس والانغماس في الشهوات والباطل والشر والفساد.

    وهنا أستطرد فأقول: احمدوا الله، كيف جاءنا كلام الله نسمعه ونفهم معناه؟! من نحن وما نحن لولا إفضال الله وإنعامه علينا؟ كلام الله خالقنا ورازقنا وموجد هذه الكائنات ومدبر أمرها يأتينا ونسمعه! فالحمد لله.

    بلايين البشر ما سمعوا كلام الله ولا عرفوه ولا آمنوا به، هذه نعمة أم لا؟ والله! لمن أجل النعم وأعظمها، وقد سمعتم الحديث السابق، فالآن يذكرنا الله بين الملائكة في الملكوت الأعلى، فما نحن ومن نحن حتى نذكر في ذلك الملأ العظيم لولا إفضال الله وإنعامه علينا باجتماعنا في بيته وتلاوتنا لكتابه وتدارسنا له؟! والله! لذلك خير من الدنيا وما فيها.

    اختصاص الرجال بالنبوة وكينونتها في الحواضر

    يقول جل ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ [الأعراف:94]، القرية في عرف القرآن واصطلاح السنة النبوية: المدينة الكبرى، العاصمة، الحاضرة، وليست كما هي في اصطلاح الجغرافيين الماديين اليوم، واللفظ مشتق من التقري الذي هو التجمع، تقريت الماء في الحوض: جمعته.

    وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ [الأعراف:94] من القرى، وهو العالم الإنساني في أي وقت من الأوقات، مِنْ نَبِيٍّ [الأعراف:94] والنبي يصطفيه الله ويحفظه وهو في رحم أمه حتى لا يتلوث بالأدران والأوساخ، فيطهر ويصفو ويصبح أهلاً لأن يوحي الله إليه وأن ينزل عليه ملكه ويبلغه رسالة ربه، ولا يكون إلا رجلاً، أما المرأة فلا يوحى إليها، لماذا؟ لأنها لا تبلغ دعوة الله، أما الرجل الفحل فهو الذي يخالط الرجال ويدعو إلى الله ويجاهد، فالمرأة ليست تتعلق بالوحي فلا يوحى إليها، وإن شرف الله امرأة كالعذراء مريم وهتف بها هاتف فهذا من باب التشريف فقط والإكرام لها، أما النبوة فلن تكون في غير الرجال، والعلة واضحة، فهم الذين يبلغون الدعوة ويجاهدون في نشرها، والمرأة ليست أهلاً لهذا حسب فطرتها التي فطرها الله تعالى عليها.

    وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ [الأعراف:94] من الأنبياء، أبيض أو أسود، في أي زمان في أي مكان إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا [الأعراف:94] أي: أهل تلك القرية والمدينة الكبرى، وهذه سنة أيضاً لا ننساها، ما يرسل الله رسولاً ولا ينبئ نبياً إلا في المدن والحواضر؛ لأن المدن الصغيرة تابعة للكبيرة، فما هناك حاجة إلى أن ينبأ فيها، ينبئه في العاصمة في المدينة، والأخريات تابعة لها.

    أخذ أهل القرى بالشدائد ليتضرعوا إلى ربهم

    وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا [الأعراف:94] أي: أهل تلك المدينة بِالْبَأْسَاءِ [الأعراف:94]، والبأساء: الحالة القبيحة من البؤس، الفقر، المرض، الحرب، الفناء، ما يبئسهم، وَالضَّرَّاءِ [الأعراف:94] ما يضرهم ويؤلمهم كالحروب، كالفقر، كالمرض.

    وعلل لذلك فقال: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] من أجل أن نعدهم للضراعة؛ لأنا نريد أن يطرحوا بين أيدينا باكين ضارعين سائلين خائفين، هذه هي العلة، وقد تكون قبل أن يرسل الرسل إليهم وبعده أو وهو معهم، لأن هذه الجملة حالية صالحة للقبل وللبعد.

    إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا [الأعراف:94] من المتكلم؟ الله، ليس إلا هو الأخاذ القوي القدير، بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف:94] لعلة ماذا؟ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94]، وهل الله يحب أن يتضرع إليه عبيده؟ أي نعم، والتضرع هو سؤال الله والدموع تذرف والقلب يرتجف وأنت بين يديه، هذه العبادة أشرف عبادة عرفها الناس.

    لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] لأنهم طغوا، تكبروا، تجبروا، نسوا الله عز وجل وشغلتهم شهواتهم ودنياهم وأهواؤهم، وما بقي من يبكي بين يدي الله ولا يسأله ولا يطلب حاجة منه؛ لأنهم في غنى كامل، إذاً: فيأخذهم بالبأساء وبالضراء رجاء أن يضرعوا.

    في الحرب العالمية الأولى يذكر لنا الشيخ رشيد رضا في مناره: أنهم لما اشتد بهم الكرب وعظم البلاء والبؤس والفناء والحروب تأكلهم أصبحت الكنائس مكتظة بالنساء والرجال طول العام، وصدق الله العظيم، تضرعوا، وليس ببعيد، ومن سنيات كنا في باريس فأصاب فرنسا جدب وانقطع المطر، فطلبوا من المسلمين أن يستسقوا الله لهم، وصلينا الاستسقاء وسقاهم الله.

    إذاً: لم ما تتضرعون إلى الله ليرفع ما بنا من البلاء والشقاء والفتن؟ من صرف قلوبنا عن الله؟ هذه آية من آيات الله، أيما بلد، أيما إقليم، أيما جماعة أصابهم سراء أصابتهم ضراء فليعرفوا أن الله فعل بهم هذا ليضرعوا إليه ويطرحوا بين يديه، فيطرحون باكين سائلين ضارعين الأيام والليالي حتى يفرج الله ما بهم، أما أن ينزل البلاء، القحط، الجدب، الحرب، الفتن ونزيد في ضلالنا وطغياننا فهذا معناه الانتحار.

    اسمعوا كلام الله: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94]، والتضرع ما هو بالعنترية، انظر إلى العنز وهي ترضع ولدها أيام الولادة كيف تفعل؟ كيف يفعل الجدي؟ له نغم خاص ويرتعد، وهي تتطامن بنفسها عليه، ذلكم هو التضرع، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] ما هي بالعنترية.

    فالله تعالى يفعل ذلك لعلهم يتضرعون، والمسلمون اليوم في الشرق والغرب في بلاء ومحنة والبلاء يجتاحهم بلداً بعد بلد ولا تضرع ولا خوف ولا بكاء بين يدي الله، كأننا أموات، ونتضرع يومين أو ثلاثة بين يدي الله وما هي بضراعة كاملة، ومع ذلك يسقينا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3088792192

    عدد مرات الحفظ

    779074183