إسلام ويب

تفسير سورة الإسراء (11)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من الأحكام التي يلزم المسلم التقيد بها حفظ مال اليتيم من أن يؤكل أو يتلف أو يهمل، وكذلك حفظ العهود والوفاء بالعقود؛ لأنها مما يسأل العبد عنه يوم القيامة، وكذلك إيفاء الموازين والقسط في الموازين، وحفظ اللسان عن الخوض في كل شيء، خاصة ما ليس عنده فيه علم، والحذر من العجب والخيلاء والتكبر على الناس؛ لأن الله عز وجل يكره ذلك كله ويمقت صاحبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ما زلنا مع سورة الإسراء، فهيا بنا نصغي لتلاوة هذه الآيات المباركة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس.

    وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:34-39].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    قول ربنا جل ذكره: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:34]، هذه اللام لام النهي، والخطاب وإن كان موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمته تابعة له.

    وجوب حفظ مال اليتيم

    ما من مؤمن ولا مؤمنة إلا ويعلم أن الله نهاه عن قرب مال اليتيم، ما قال: ولا تأكلوا مال اليتيم، قال: (وَلا تَقْرَبُوا)، كما عرفنا عند قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، أي: الأسباب والعوامل التي توصل إليه لا تقربها، كذلك: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الإسراء:34]، لا تكن ولياً عليه وكفيلاً إلا إذا احتجت إلى ذلك واضطررت، فإذا أصبحت كفيلاً لذلك اليتيم وولياً يجب أن تحافظ على ماله، وذلك يقتضي: أنك لا يحل لك أن تأكل منه، ولا يحل لك أن تبذره أو تتصرف فيه تصرفاً غير حسن، وإنما يجب أن تحفظه، وتحافظ عليه، وأن تنميه إن أمكن في تجارة أو زراعة.. أو ما إلى ذلك، ذي في عهدتك، ما دام اليتيم في حجرك وأنت وليه واحتاجوا إليك في هذا الباب إذاً: فحافظ على مال اليتيم.

    فقط في سورة النساء أذن الله لولي اليتيم إذا كان محتاجاً مضطراً وهو مشغول بالعمل لليتيم أن يأخذ بقدر حاجته الضرورية، ويأكل من ذلك المال الذي ينميه، ويحافظ عليه بقدر الحاجة؛ لأنه متفرغ للعمل في هذا المال، أما إن كان له دخل من جهة ثانية، وهو في غنى؛ فليعمل ليل نهار لمال اليتيم ولا يصح أن يأكل منه فلساً ولا ديناراً.

    واليتيم من أخذ الله والده وتركه، فمن يليه؟ لا بد وأن يليه أحد الصالحين، والأقرباء أولى بذلك، فعلى الذين تولوا أمر مال اليتيم أن يحافظوا عليه وأن ينمونه، ولا يتركوه تأتي عليه الزكاة كل عام فلا يبقى منه شيء، بل ينمونه في تجارة في صناعة في فلاحة، وإذا حصل أن خسر تلك التجارة ليسوا بمسئولين. الأمر لله، زرعوا زراعة ما أنتجت كذلك، المهم أن تجعل مال اليتيم خيراً من مالك، وأن تحافظ عليه أكثر مما تحافظ على مالك.

    وفي هذه الحكمة يقول تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الإسراء:34]، اللهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:34]، بالحال التي هي أحسن لمال اليتيم، فإذا كنت عاجزاً عن تنميته وإصلاحه فلا تقربه ولا تتولاه؛ فإن كنت قادراً فلك أجر عظيم على شرط أن لا تضيعه ولا تبذره وأن لا تفسده بحال من الأحوال، وتنميه بأسباب الإنماء: تجارة أو صناعة أو فلاحة مثلاً.

    مسألة أخرى: إذا كان هذا الولي يعمل ليل نهار في مال هؤلاء اليتامى، وليس عنده دخل من أية جهة، أذن الله له أن يأكل بقدر حاجته، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6]، بقدر جهده وطاقته، هذا هو القرآن الكريم وما يحمل من هذه الأحكام الإلهية.

    وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الإسراء:34]، أي: يبلغ سن التكليف الخامسة عشرة، أو السادسة عشرة، وأقصاها الثامنة عشرة.

    ثانياً: أن يكون راشداً ليس بسفيه، وإذا دفعت إليه ماله أولاً: امتحنه، أعطه يشتري، أعطه يبيع، وأنت تراقب سلوكه؛ فإن رأيته رشيداً قدمت له ماله على يد القاضي والشهود، وإن كان لا يحسن ذلك بل يتصرف تصرف الجهلاء أو غير العقلاء ما زال في حكمك وفي عهدتك.

    وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء:34]، اليتيم ذكراً كان أو أنثى كحدٍ سواء، واحد أو اثنين أو عشرة كلهم واحد، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الإسراء:34]، أي: البلوغ الشرعي المعروف، إما أن ينبت الشعر في عانته، أو يحتلم فيفرز المني، أو يبلغ الثامنة عشرة، بعد بلوغ رشده تمتحنه يومين.. ثلاثة.. عام وتختبره، تعطيه ليشتري وتنظر كيف يشتري، تعطيه ليبيع وتنظر كيف يبيع؛ فإن وجدته ذا رشد أعطه ماله، وهذه عبادة من أفضل العبادات.

    وجوب الوفاء بالعهد

    sمن هذه الحكم الإلهية: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34]، العهد والعقد بمعنى واحد، العقود كالعهود، أول عهد يجب أن نوفي به: هو عهدنا لله بأن لا نعبد سواه؛ إذ كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله قد أعطى عهده وميثاقه لله بأن لا يعبد إلا الله، ولا يمشي إلا وراء رسول الله.

    أول عهد هو هذا: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91]، ثم سائر العهود، بينك وبين حتى اليهود والنصارى، المؤمن لا يخلف وعده ولا يخون عهده، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] كل العقود: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الشراء، عقد البيع، كل العقود هي في الظاهر عقود وعهود، وواجب المؤمن: أن لا يخونها، أن لا ينقضها، أن لا ينكثها؛ لهذا الأمر الإلهي.

    وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34]، أي: عنه، العهود يسأل الله تعالى عنها يوم القيامة، لم خنت؟ لم أخلفت؟ لم نكثت؟ لم نقضت؟ يسألون عنها يوم القيامة، ويعاقبون على ذلك.

    ومعنى هذا أيها المؤمنون ويا أيتها المؤمنات! نحاذر طول الحياة أن لا نخلف وعداً ولا عهداً إلا في حال الضرورة والعجز: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولهذا إذا أسند إلى مؤمن شيء وتعهد بحفظه يبذل دمه في سبيل المحافظة عليه ولا يخون بحال من الأحوال، وإذا عقد عقداً من بيع أو شراء أو إيجار أو كذا ما يخلفه ولا ينكثه ولا ينقضه، بل يفي بذلك تمام الوفاء.

    وعهد الله أولاً، ما هو عهد الله؟ أن لا نعبد سواه، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91]، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [البقرة:177]، ثم بعد ذلك شهدت أن محمداً رسول الله وأعلنت عن ذلك إذاً فامش وراءه، اتبعه لا تتبع غيره، ما سنه لك مشيت فيه، ما أعرض عنه تعرض عنه أنت، هذا سبيل النجاة وطريق السعادة.

    وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34] عنه يوم القيامة، والآن أيضاً إذا خنت وأخلفت المحكمة تقضي عليك أيضاً، تبيع وبعد تنقص؟ فتسأل عنه في الدنيا والآخرة، بل يلومك المسلمون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأوفوا الكيل إذا كلتم ...)

    قال الله تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ [الإسراء:35]، من كال لأخيه كيلاً براً أو شعيراً أو تمراً أو غير ذلك فعليه أن يفي الكيل ولا ينتقص من آلة الكيل، وذاك الصاع الذي يكيل به، يجب أن يوفيه سواء كان المشتري حاضراً أو غائباً.

    من وزن أيضاً لأن الآلات الكيل والميزان، أداة الكيل وأداة الميزان، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ [الإسراء:35]، وقرئ: (بالقُسطاس)، هذه الكلمة ليست عربية، ولكن ساحت في ميادين العرب فأصبحت عربية، مركبة من القسط والطاس، وهي كفة الميزان، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].

    يقول أحد الصحابة رضوان الله عليهم: كنا نحن أهل المدينة أسوأ الناس كيلاً ووزناً، أقبح الناس، ما إن نزلت فينا هذه الآية: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1]، حتى أصبحنا أعدل الناس وزناً وكيلاً. وهو كذلك إلى الآن، وإنما الآن أكثر العمال ما هم أهل لهذا، تسند إليه عملاً في دكان قد لا يحسنه، لكن لو كلت أنت بيدك لكان أفضل، ومع هذا لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يبخس أو ينقص كيلاً أو وزناً ولو تمرة.

    وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ [الإسراء:35]، أي: الكيل والوزن، خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء:35]، خير يعني: بركة، فالذين يحسنون الكيل والوزن والله ليباركن الله لهم في أموالهم، بهذا النص في هذه الآية الكريمة، وأحسن عاقبة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فيبذل الإنسان جهده في الميزان حتى يستقيم، وفي الكيل حتى يوفيه، وإن عجز وما استطاع معفو عنه؛ إذ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، يبذل ما استطاع في أن يكيل الكيل الحقيقي، وأن يزن الوزن الحقيقي، فإذا عجز فلا حرج عليه، والله يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

    إذاً: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ [الإسراء:35] أولاً، وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء:35]، أي: عاقبة، فهو خير في الدنيا وبركات، وفي الآخرة أجور ومثوبات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ...)

    قال الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، لا تقل ما لم تسمع، ولا تدع أنك رأيت وأنت لم تبصر، ولا تقل وأنت لا تعلم، سوى بيننا من علم شيئاً وأيقنه أو غلب على ظنه يقول به، من رأى بعينه رؤيا حقيقية في حالة من الحالات لا بأس أن يقول، من سمع بأذنه يقول، أما ما سمع من صاحب القضية ويسمع من فلان وفلان لا يحل هذا أبداً، أو يدعي أنه رأى وأبصر وهو ما رأى ولا أبصر، فهذا الموقف من أخطر المواقف، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يقول بدون علم أبداً، ما علمته قلته، وما لم تعلم قل: الله أعلم.

    ثانياً: لا تقل: أنك سمعت وأنت ما سمعت، فلان قال كذا أو فلانة فعلت كذا، ولا تقل: رأيت كذا أو فعل فلان كذا وأنت ما رأيت ولا أبصرت. هذا هو المجتمع الرباني؛ لا غيبة ولا نميمة ولا إشاعات باطلة ولا كذب ولا افتراءات، كلهم على علم وصدق، كأكمل الناس، وكان هذا هدي سلفنا الصالح.

    وَلا تَقْفُ [الإسراء:36]، أي: لا تتبع، مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، ليس عندك علم في قضية لا تخض فيها، فلان فعل، أو فلانة فعلت، أو فلان جاء، أو قال كذا، أو فلان قال كذا، ما ينبغي هذا عندنا أبداً، إن رأيت بعينيك فلا بأس، سمعت بأذنيك قلت، فهمت بقلبك وأيقنت قل على علمك الصادق.

    وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36] القلب، كُلُّ أُوْلَئِكَ [الإسراء:36] المذكورون، عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] يوم القيامة، وتسأل الجوارح: لم يا عين رأيت كذا وكذا وما رأيت؟ لم يا لسان قلت كذا وهو ما كذا؟ يا قلب! لم اعتقدت كذا وهو ما هو معتقد؟

    كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] فيثاب ويعاقب بحسب ما قال أو رأى أو أبصر.

    والخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أمته تابعة له، وَلا تَقْفُ [الإسراء:36] يا عبد الله! مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فكثير من الشائعات والأباطيل والترهات والخرافات كلها ينقلها ناس بأسماعهم: سمعنا، فينتشر الفساد والباطل في البلاد، كثير من الأشياء.. مئات المسائل ما يعرف حقيقتها عن الله، ويقول بدون علم، فالفساد هذا سببه، ولهذا أغلق الله علينا باب الفساد، وَلا تَقْفُ [الإسراء:36] يا عبد الله ويا أمة الله مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] حقيقي يقيني في قلبك، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ [الإسراء:36]، كل هؤلاء كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحاً ...)

    قال الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، المرح: الخيلاء والتبختر، إذا مشيت يا عبد الله وإن لبست الجميل، واحتذيت بالحذاء الهائل الكبير، مشيتك يجب أن تكون مشية المتواضعين، ليس فيها رائحة تكبر.

    وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، وتضرب الأرض بالاختيال والفخر.

    وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [الإسراء:37]، لما تضرب برجليك تتعنتر تخرق الأرض؟ ما تخرق، ولما تترفع وتتعالى تصل إلى الجبال؟ إذاً: تلطف أحسن لك، تطامن في مشيتك، ولا تضرب الأرض برجليك؛ لأنك عبد الله؛ خشية أن تصاب بالكبر، وصاحب الكبر لن يدخل الجنة: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، فالكبر قد يكون خلقاً يتخلقه الجاهلون، فيجب أن ينتزعوه من نفوسهم.

    التواضع في المشية في القول في العمل في الحركة، دائماً تمثل صورة التواضع واللين لا العنترية والتعالي والتكبر، هذا تربية إلهية أو لا؟

    وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [الإسراء:37] برجليك، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] بطولك، مهما تعاليت تصل الجبل؟ ما تصل، إذاً: تطامن وانخفض، وخاصة مع إخوانك المؤمنين، لِن جانبك لهم، وسبحان الله العظيم كيف سيصبح المجتمع الذي يطبق هذه؟!

    وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، أي: خيلاء وكبراً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ [الإسراء:37] برجليك، ولن تعلو إلى الجبل، وتصبح عالٍ من الجبل.

    إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] في طولها وعلوها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً ...)

    قال الله تعالى: (كل ذلك كان سيئة) قراءة الجمهور: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ [الإسراء:38] قراءة حفص .

    كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38] ما هذا الكل؟ خمسة وعشرون أمراً ونهياً من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ ... [الإسراء:23] إلى هذه الآية، ابتدأها بالتوحيد وختمها بالتنفير من الشرك، خمسة وعشرون حكمة إلهية، اشتملت عليها سبعة عشر آية:

    أولها: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، ونهايتها: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:39]، يلوم نفسه في النار، والدحر مدحور عن الجنة مبعد عن الرحمة، وهو في العذاب والشقاء، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، والذي يكرهه الله تحبه أنت يا عبده؟! وتبقى عبد الله عز وجل؟! أيحب شيئاً وتكره؟! أيكره شيئاً وتحبه؟! هذه هي العداوة.

    من هم أولياء الله، من هم أعداء الله؟

    أولياء الله: الذين يحبون ما أحب، ويكرهون ما كره، وأعداؤه: المخالفون له، من يحبون ما يكره الله ويكرهون ما يحب الله، فالولاء والولاية تتم بهذا، فلهذا ذكر لنا هذه الأحكام أو الحكم، والآيات سبعة عشر فقط.

    كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، وأما طيبه وحسنه كان عند الله محبوباً، إذ هناك أوامر ونواهي.

    ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39]، والحكمة مأخوذة من حكمة الدابة التي تجعل في فمها حتى تجذبها وما تتركها تمشي كما تحب هي، فالحكمة قول أو فعل يحكم صاحبه عن أن يقع في السوء أو يقع في الخطأ أو يقع في الظلم والفساد والشر، وهذه خمسة وعشرون حكمة.

    نقرأ لنا الآيات: وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23]، وتأملوا هذه الحكم!

    وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:23-39].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات:

    أولاً: حرمة مال اليتيم أكلاً أو إفساداً أو تضييعاً وإهمالاً ].

    (حرمة -أكل- مال اليتيم أكلاً أو إفساداً أو تضييعاً أو إهمالاً)، دل على هذا من الآيات: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الإسراء:34]، ثانياً؟

    [ ثانياً: وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود ].

    (وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود)، كما بينت لكم، حتى عقد الإيجار يجب الوفاء، وهذا شأن المؤمنين الصادقين؛ لقوله تعالى، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء:34].

    [ ثالثاً: وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن ].

    وجوب الوفاء وحرمة البخس والنقص، فمن أصبح يبيع أو يشتري بكيل أو بميزان يجب أن يراعي هذا وأن يفي كيله ووزنه وإلا خرج عن تعاليم الله ووصاياه.

    [ رابعاً: حصول البركة لمن يتمثل أمر الله في كيله ووزنه ].

    من أين فهمنا هذا؟ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ [الإسراء:35]، عاقبة، الذي يفي كيله ووزنه البركة والأجر يوم القيامة.

    [ خامساً: حرمة القول أو العمل بدون علم؛ لما يفضي إليه ذلك من المفاسد، ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة ].

    (حرمة القول أو العمل بدون علم)، ما علمت لا يحل لك أن تقول أبداً، الذين يغرقون الناس في الجهل، يفتون بدون علم لا يحل هذا أبداً، مفسدته كبيرة.

    (وذلك لما يفضي إليه ذلك من المفاسد)، مفاسد كثيرة نتجت عن هذا، القول بدون علم.

    (ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة)، يسأل العين لم نظرت؟ اللسان لما قلت؟ اليد لم فعلت؟ الرجل لما مشيت؟ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، الآية.

    [ سادساً: حرمة الكبر ومقت المتكبرين ].

    من أين أخذنا هذا؟ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [الإسراء:37]، فهمتم المرح أو لا؟ يضرب الأرض برجليه يتعنتر بنعله الجديد.

    يقول السائل: المشي في الأرض مرحاً، هل يشمل السيارة أيضاً؟ والذي يركب الدابة أو البعير أو الفرس كيف يضرب الأرض برجليه؟

    على كل حال نحن نقول: على السائق ألا يتجاوز الحد المعلوم للسواقة.

    أولاً: يجب أن يكون ذا علم بالسواقة، ويشهد له الخبراء بأنه سائق.

    ثانياً: لا يزيد على المسافات أحياناً بسبعين كيلو، أحياناً مائة، أحياناً مائة وثلاثين، لا يحل أن يزيد عليها، وإذا فعل وهلك فهو ظالم لنفسه.

    يقول السائل: بعض الشبان يفحطون في الشوارع، حرام عليهم، والله لا يجوز، وعلى أوليائهم أن يؤدبوهم، وعلى الشرطة أيضاً أن تؤدبهم، فساد هذا. إذا كان المشي ما سمح الله لنا التخيل والاختيال فكيف بالسيارة قد تقتل أفراداً، وتميت أناساً.

    [ سابعاً: انتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها ].

    إي والله، خمس وعشرون حكمة هي أمر ونهي، العلم بها وتطبيقها والله خير من الدنيا وما فيها.

    [ انتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة ].

    إي نعم، التفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948752