إسلام ويب

يا رب! أمتي أمتيللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث شيخنا -حفظه الله- عن الشفاعة كحَدَث عظيم يوم القيامة، مبيناً أن أبانا آدم وأولي العزم من الرسل يهابون الوقوف للشفاعة الكبرى؛ فتصل إلى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها؛ وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه! ثم تكلم عن هول ذلك اليوم، مذكراً الأمة بوجوب توقير وتعظيم النبي الكريم، وأن التمسك بسنته عزة، وتركها ذلة يضربها الله على الأمة كما هو حالها اليوم.

    1.   

    من مشاهد يوم القيامة والشفاعة العظمى

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله, أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته, وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء والإخوة الأحباب الكرام الأعزاء.

    وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً, وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته, إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق, وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهادف، منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات, وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليعجلوا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون؛ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.

    وهذا هو لقاؤنا الحادي عشر من لقاءات هذه السلسلة المباركة الكريمة, وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي مع الناس وهم في أرض المحشر وقد اشتد بهم الهول والغم والكرب، فالزحام يكاد وحده أن يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس بمقدار ميل, والناس غرقى في عرقهم كل بحسب عمله وقربه من الملك الجليل, وفي هذا المشهد الرهيب العصيب يزداد الهم والغم والكرب بمجيء جهنم -أعاذنا الله من حرها- قال تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26] .

    وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها), فإذا ما رأت النار الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منهم لغضب الملك الجبار جل جلاله، وحينئذٍ تجثو جميع الأمم على الركب، قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28].

    وهنا تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وتطير قلوب المجرمين هرباً وخوفاً وفزعاً ورهبة من النار, بل ويعضُّ صنف كثير من الناس في أرض المحشر على يديه يتأسف ويتحسر ويتندم على ما قدم في هذه الحياة الدنيا، ولكن يوم لا ينفع الندم قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:26-29].

    وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي [الفرقان:27] ولكن متى؟! ضاع وقت التحسر, وفات وقت الندم يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

    في هذا الكرب ينطلق بعض الناس ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ وما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ليقضي بينكم ولا نقف هذا الموقف العصيب الرهيب؟!

    وهناك يقول كل نبي: نفسي نفسي .. ويقول المصطفى: (أنا لها), فلا يتقدم للشفاعة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوعنا اليوم معكم أيها الأحبة الكرام, وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا معكم في العناصر التالية:

    أولاً: الشفاعة العظمى.

    ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    ثالثاً: مجيء الرب جل جلاله.

    فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب- والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يستر علينا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه على كل شيء قدير.

    الشفاعة العظمى واختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم

    روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم قال: هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من الرءوس؛ فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم, فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة بالسجود لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) -اللهم إنا نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بنا غضبك أو يحل علينا سخطك, لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين-.

    يقول أبو البشرية آدم وهو نبي من أنبياء الله: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي ..) -اللهم سلّم سلّم يا أرحم الراحمين-.

    يا أخي! بالله عليك عش بقلبك مع هذه الكلمات, آدم أبو البشر يقول: (نفسي نفسي نفسي .. اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟) -نوح أول رسل الله في الأرض, ذلكم العملاق الذي ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً, ذلكم النبي الكريم الذي دعا القوم في السر والعلانية، في الليل والنهار رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:5-9] ما ترك هذا النبي الكريم سبيلاً إلا وسلكه، ألف سنة إلا خمسين سنة لم ينم ولم يهدأ، ولم يقر له قرار- فيقول نوح: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي .. اذهبوا إلى غيري) لقد دعا نبي الله نوح دعوته، فلكل نبي دعوة مستجابة، كل نبي تعجل بها في الدنيا إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم, كما في صحيح مسلم : (لكل نبي دعوة مستجابة، وكل نبي قد تعجل دعوته إلا أنا فقد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً) اللهم ارزقنا التوحيد وتوفنا عليه يا أرحم الراحمين.

    نوح دعا على قومه فقال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27], لذا يقول: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل والحليم الأواه وحبيب الله بلا نزاع, إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. (فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وأنت خليل الله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته, ثم يقول: نفسي نفسي نفسي .. اذهبوا إلى غيري).

    وهل كذب إبراهيم؟!

    والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى فقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]) متى قال إبراهيم هذه العبارة؟ يوم كان شاباً صغيراً نشأ في قوم يعبدون الأصنام, ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين.

    وأما الثانية فقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] وذلك عندما حطم الأصنام وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة, فلما عادوا قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59], فرد البعض بلغة التحقير التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:60-61], ثم وجهوا له هذا السؤال: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:62-63].

    وأما الكذبة الثالثة: فهي يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنـزل مصر ، وكان في مصر في ذاك الزمان جبار من الجبابرة -أسأل الله أن يطهر مصر من الجبابرة في كل زمان وأوان- فلما مر بـسارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: إن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس. فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة، فجاءت لإبراهيم فأخذوه إلى الجبار، فقال له: من هذه؟ فقال إبراهيم: إنها أختي. ولم يقل إنها زوجتي؛ فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها, فقال: إنها أختي. ثم عاد إبراهيم فقال لها: يا سارة ! لقد سألني هذا الرجل عنك فقلت له: إنها أختي؛ فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا, فإن سألك فصدقيني ولا تكذبيني.

    ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها, فلما دخلت عليه ونظر إليها قام إليها ليلمسها بيده، فشلّ الله يده -والحديث في صحيح البخاري - ووقف فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلق الله يده, فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشلّ الله يده, فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلقت يده, فنادى على بعض حجبته وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان وإنما أتيتموني بشيطان، اخرجوا بها وأخدموها هاجر , فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد بذلك.

    فعادت سارة بـهاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا, فلما انصرف من صلاته قال: مهيم -أي: ماذا فعل الله بك؟- فقالت سارة : رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر ، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي.

    وهكذا صان الله عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام, هذه كذبات إبراهيم على هامش الحديث الذي نحن بصدده، أرجع إلى حديث الصحيحين ، يقول إبراهيم: (نفسي نفسي نفسي.. -وذكر كذباته التي ذكرت الآن- اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى) إنه الكليم والمصطفى بالرسالة، والمجتبى بالكلام، والمصنوع على عين الله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39] اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على جميع الخلق.

    فيأتون موسى فيقولون: (يا موسى! أنت كليم الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي .. اذهبوا إلى غيري -حتى الكليم يقول: اذهبوا إلى غيري!- اذهبوا إلى عيسى -يقول الحبيب محمد:- فيأتون عيسى عليه السلام ويقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, اذهبوا إلى غيري، نفسي نفسي نفسي .. اذهبوا إلى محمد بن عبد الله).

    فهو والله التجارة الرابحة من سار على دربه نجا في دنياه وأخراه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم ذنباً من الذنوب، فيقول الحبيب المصطفى: (فيأتوني فيقولون: يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول المصطفى: أنا لها .. أنا لها .. -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لا يقول ولا يجيب إلا الحبيب- يقول: فأقوم فأخر ساجداً لربي تحت العرش، ثم ينادي عليه الملك جل جلاله ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع, فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي) هو الحليم الأواه صاحب القلب الكبير والرحيم, الذي قال الله في حقه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    قرأ يوماً قول الله في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وقرأ قول الله في عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فبكى وقال: (يا رب! أمتي.. أمتي.. فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام وقال: يا جبريل! سل محمداً ما الذي يبكيه؟ وهو أعلم, فنزل جبريل فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: أمتي أمتي.. يا جبريل! فصعد جبريل إلى الملك الجليل وقال: يبكي على أمته. والله أعلم, فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).

    وفي حديث الصور الطويل الذي رواه الطبري والطبراني والبيهقي وأبو يعلى الموصلي وأورده السيوطي واستشهد به ابن أبي العز الحنفي , وللأمانة العلمية التي عاهدنا الله عليها فإن الحديث بطوله ضعيف, ففيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف كما قال أهل الجرح والتعديل, وفيه محمد بن زياد وهو مجهول, وفيه ما يتفق مع سياق حديث أبي هريرة الذي ذكرت آنفاً، يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: (فأخر ساجداً تحت العرش، فيقال لي: ما شأنك؟ وهو أعلم، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم, فيقول الله جل وعلا: قد شفعتك أنا آتيكم لأقضي بينكم, فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فأرجع لأقف مع الناس في أرض المحشر) وتنتظر البشرية كلها مجيء الملك جل جلاله، مجيئاً يليق بكماله وجلاله, فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فصفة النـزول والمجيء والإتيان والغضب صفات لله جل وعلا نثبتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.

    قال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال علماؤنا: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال, فلا العرش يحمله ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته الكل محمول بلطف قدرته .. مقهور بجلال قبضته؛ فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

    سأل رجل إسحاق بن راهويه : كيف تؤمنون بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا؟ فقال له إسحاق : يا هذا ! إن كنت لا تؤمن به فإننا نؤمن بإله يتنزل كل ليلة من عرشه إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه عرشه. لا نعُطل ولا نكيف ولا نمثل ولا نشبه، جل ربنا عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].

    من كان منا يتصور أن النمل يتكلم؟ وما عرف ذلك وفهمه إلا يوم أن قرأ في القرآن: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].

    فمن منا كان يتصور أن هناك شيئاً لا يمشي على رجليه، إنما يمشي على بطنه، حتى رأيت الحية وما شاكلها؟

    وهكذا ! فإن من كلف عقله أن يصل إلى كيفية ذات الله جل وعلا فهو واهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] جل جلال الله، لا ند ولا كفء ولا شبيه ولا نظير ولا مثيل له, قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

    المقام المحمود وفضله صلى الله عليه وسلم

    أقول: لم يشفع في البشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى، ولم يرد الملك جل جلاله إلا على محمد بن عبد الله.

    أيها الموحدون: والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله, إن قدر رسول الله عند الله لعظيم, وإن كرامة النبي عند الله لكبيرة, فهو المصطفى والمجتبى، فلقد اصطفى الله من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً ففضله على جميع خلقه, شرح له صدره، ورفع له ذكره, ووضع عنه وزره, وزكاه في كل شيء؛ زكاه في عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2], وزكاه في صدقه فقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3], وزكاه في صدره فقال سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1], وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]، وزكاه في ذكره فقال سبحانه: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، وزكاه في ظهره فقال سبحانه: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]، وزكاه في علمه فقال سبحانه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]، وزكاه في حلمه فقال سبحانه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، وزكاه كله فقال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] بأبي هو وأمي، هو صلى الله عليه وسلم رجل الساعة ونبي الملحمة وصاحب المقام المحمود، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه كل نبي في أرض المحشر, الذي وعد الله به نبينا في قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79].

    فهذا هو المقام المحمود كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأنا أول من ينشق عنه القبر, وأنا أول شافع وأول مشفع).

    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة كذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه, فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ -أي: ليكتمل جمال البنيان وجلاله، يقول المصطفى- فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين).

    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم -فهو البليغ الفصيح- ونصرت بالرعب -وفي لفظ البخاري : مسيرة شهر- وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً, وختم بي النبيون, وأرسلت إلى الناس كافة) هذه مكانة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

    وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه

    بل أنزل الله قرآناً ليربي وليعلم الصحابة كيف يعظمون رسول الله، ويوقرونه ويتأدبون حتى في ندائه صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لم تعرف قدر نبيها ولم تعظم رسولها, بل لقد أساءت الأمة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهجرت شريعته، ونحَّت سنته، ولم تعد تجيد إلا أن تتغنى برسول الله في ليلة هجرته وفي ليلة مولده وفي ليلة النصف من شعبان، فالأمة الآن لا تجيد إلا الرقص والغناء؛ لأنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة.

    أمة تدعي الحب لرسول الله وتتغنى بحب رسول الله في المناسبات والأعياد الوطنية في الوقت الذي نحَّت فيه شريعته وهجرت فيه سنته, بل وخرج من أبناء هذه الأمة المتمردة من يقول في حق القرآن الذي أنزله الله على قلب رسوله, والذي جعل الله فيه الهدى في الدنيا والآخرة قال هذا المجرم المرتد: إن القرآن منتج ثقافي ليس من عند الله. وقال خبيث آخر: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الإلتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم. وقال خبيث ثالث: إن مصيبة الشرق في التمسك بما يسمى بالأديان.

    الأمة هجرت شريعة رسول الله, ونحَّت الأمة سنة رسول الله, أين الشريعة المغيرة .. المبدلة .. المضيعة ..؟!

    فهذا ورب الكعبة هو أعظم منكر على وجه الأرض, وهذا هو الذي يجب أن تجيش له كل الطاقات والإمكانيات حتى تظلل شريعة المصطفى سماء هذه الأمة, اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.

    سبب رد أقوام عن حوضه صلى الله عليه وسلم

    اسمع! وانتبه! فإن كل منتسب لأمة النبي مغرور ومخدوع يقول: إن لم أدخل الجنة أنا أيدخلها بطرس .. شلودة .. أنا الذي سأدخل الجنة, اسمع! لتعلم أن كل من غير وبدل وابتدع وانحرف عن هدي رسول الله سيحال بينه وبين حوض رسول الله في أرض المحشر, لن يعرفه النبي ولن يتقدم إليه النبي, حوض المصطفى في أرض المحشر الناس في حاجة إليه شديدة, الزحام يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس كلها في أرض واحدة من لدن آدم في هذا الظرف الرهيب، المصطفى واقف على حوضه, والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك, كيزانه بعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك في الجنة, اللهم اسقنا شربة هنيئة مريئة, لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً برحمتك يا أرحم الراحمين.

    وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض -أي: سأسبقكم- يوم القيامة لأقف على الحوض فمن مر عليّ شرب, ومن شرب لا يظمأ أبداً, لَيَرِدَنّ عليّ الحوض قوم أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم -وفي لفظ في الصحيح : ثم يختلجون -أي: يمنعون ويصدون- فيقول المصطفى: إنهم من أمتي .. إنهم من أمتي .. فيقال للحبيب: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول المصطفى: سحقا سحقاً -أي: بعداً بعداً لكل من غير بعدي-).

    الاتباع امتثال الأمر والنهي للحبيب محمد. هذا هو سبيل الفوز والنجاة.

    معاذ بن جبل ينام على فراش الموت ويدخل عليه الليل فيشتد به الألم والوجع فينظر إلى أصحابه ويقول: [هل أصبح النهار؟ فيقولون: لا لم يصبح بعد, فيبكي معاذ بن جبل -حبيب رسول الله الذي قال له: والله يا معاذ إني لأحبك- ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار] يخشى معاذ بن جبل أن يكون من أهل النار.

    وهذا هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه ينام على فراش الموت، فيدخل عليه ابن عباس ليذكره وليثني عليه الخير كله, فيقول له عمر : [والله إن المغرور من غررتموه, والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه] ثم قال عمر : [وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ] .

    وهذه هي عائشة تسأل عن قول الله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32], فتقول عائشة : [يا بني! أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة, وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر النبي حتى ماتوا على ذلك, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك] فجعلت عائشة نفسها معنا .. جعلت نفسها من الظالمين لأنفسهم.

    وهذا سفيان الثوري إمام الدنيا في الحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد : أبشر يا أبا عبد الله ! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين, فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار.

    ونحن جميعاً نقول: من منا لن يدخل الجنة؟ من منا لن يشفع له رسول الله؟ هاهو الحديث في البخاري يبين لنا فيه الحبيب النبي أنه سيحال بينه وبين أقوام من هؤلاء الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا عن سنته صلى الله عليه وسلم؟

    1.   

    أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم

    أحببت أن أكمل الفائدة بهذا العنصر الثاني في هيئة هذا السؤال: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟

    وهذا العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء لتكتمل الفائدة في باب الشفاعة، فإنه من أنفس أبواب العلم, ومن أسعد الناس بشفاعة الحبيب, ليحاسب اليوم كل واحد منا نفسه: أين هو من الحبيب؟

    من يدعي حب النبي ولم يفـد     من هديه فسفاهة وهراء

    فالحب أول شرطه وفروضـه     إن كان صدقاً طاعة ووفاء

    قال سبحانه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] هل امتثلت أمره؟ واجتنبت نهيه؟ هل وقفت عند الحدود التي حدها لك المصطفى؟ سؤال أو أسئلة يجب أن يسألها كل مسلم صادق لنفسه؛ ليحدد موقعه من منهج وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    من أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة؟

    والجواب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو صاحب هذا السؤال الجليل, قال أبو هريرة : (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى: لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث يا أبا هريرة -منقبة من رسول الله لـأبي هريرة - أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه), وفي رواية ابن حبان : (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه), وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً), هذا هو الشرط, وهو أسعد الناس بشفاعة الحبيب من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، وحقق التوحيد لله.

    لابد من إخلاص التوحيد ومطابقة القول للعمل

    من الناس الآن من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، لم يصدق قلبه هذه الكلمة, ولم يخلص العبادة لله جل وعلا, بل ذهب ليصرف العبادة لغير الله، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى.

    ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما وضعه المهازيل من خلق الله.

    ومن الناس من ردد بلسانه: لا إله إلا الله، وهو لم يحقق لله الولاء ولا البراء.

    ومن الناس من ردد بلسانه كلمة: لا إله إلا الله، وقد ترك الصلاة وضيعها, وضيع الزكاة والحج مع قدرته واستطاعته, وأكل الربا, وشرب الخمر, وباشر الزنا, وأكل أموال اليتامى, يسمع الأمر فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه, ويسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه.

    فلا بد من إخلاص التوحيد، فكلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، لا. بل إن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان. ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.

    وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل), وفي رواية عتبان بن مالك : (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله), إنه إخلاص التوحيد.

    عزة الأمة بتحقيق توحيد الله

    يا من رددت بلسانك: لا إله إلا الله! هل صدق قلبك وامتثلت جوارحك مقتضيات هذه الشهادة, فإن التوحيد أمره عظيم, إن شأن التوحيد عظيم وثقيل, إنها الأمانة العظيمة، ووالله ما ضاعت الأمة وذلت إلا يوم أن فرغت محتوى لا إله إلا الله من مضمونها كله, فإن الجذر الحقيقي لهذه الأمة هو التوحيد, ويوم أن فرغ الجذر وأصبح قشرة هشة تحركها الرياح من هنا ومن هنالك ذلت الأمة ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود, فإن مصدر سعادة الأمة هو التوحيد, ما أعز الله الأمة إلا بالتوحيد، وإن لبنة الأساس في صرح الإسلام هي التوحيد, وإن أول خطوة على طريق العز والكرامة هي التوحيد، ولا عزة للأمة إلا إذا حققت وأخلصت وجردت التوحيد لله من جديد, فمن أبناء الأمة الآن من يذبح، ومن يقدم النذر لغير الله, ومن أبناء الأمة الآن من يتهم شريعة الله المطهرة بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وعدم قدرة هذه الشريعة على مسايرة مدنية القرن الحادي والعشرين.

    فلا كرامة للأمة إلا إذا أخلصت التوحيد, فأسعد الناس بشفاعة محرر العبيد من أخلص التوحيد للعزيز الحميد جل وعلا, من مات لا يشرك بالله شيئاً.

    فوحد الله -أيها الحبيب- وأخلص التوحيد لله, وأخلص الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة), إنه التوحيد وفضل الإيمان بالله جل وعلا.

    فأسعد الناس بشفاعة المصطفى من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.

    أيها الأخيار! فكلمة التوحيد قد قُيدت بشروط ثقال: بالعلم واليقين والإخلاص والقبول والمحبة .. إلى آخر هذه الشروط التي فصلناها في دروس الاعتقاد قبل ذلك.

    فلا بد أن تحققوا وتخلصوا وتجردوا التوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة إلا إن أَذن الله عز وجل له، ولا يشفع إلا لمن وحد الله وأخلص له كلمة لا إله إلا الله.

    أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوحيد, وأن يختم لي ولكم بالتوحيد, وأن يرزقنا شفاعة النبي بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير.

    بقي لنا أن نتحدث عن مجيء الرب جل وعلا، ولكن أرى الوقت قد أزف وسرقنا، لذا سأرجئ الحديث عن هذا العنصر الهام إلى اللقاء المقبل إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء.

    وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال, اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض, اللهم ارزقنا شفاعة حبيبك المصطفى, اللهم وكما آمنا به ولم نره لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله, اللهم وأوردنا حوضه الأصفى, واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً, اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب, اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين.

    اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته, ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته, ولا ميتاً لنا إلا رحمته, ولا عاصياً إلا هديته, ولا طائعاً إلا زدته وثبته, ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين.

    اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.

    اللهم إنا نسألك لإخواننا وأبنائنا الطلاب التوفيق والسداد, اللهم يسر لهم الأسباب, اللهم ذلل لهم الصعاب, اللهم فَتِّح لهم الأبواب, اللهم ذكرهم في الامتحانات ما نسوا, وعلمهم في الامتحانات ما جهلوا, اللهم يسر لهم بمنك وكرمك يا رب العالمين.

    اللهم اجعل أبناءنا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.

    هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده, وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756424074