إسلام ويب

فقه الأسرة - حقوق الأبناءللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للأبناء حقوقاً يجهلها كثير من الآباء، وهذه الحقوق قد جاء بيانها في الكتاب والسنة، ولهذه الحقوق أهمية عظمى يترتب عليها صلاح الذرية، وبالتالي صلاح المجتمع الإسلامي، فينبغي الاعتناء بهذه الحقوق والقيام بها.

    1.   

    حقوق الأولاد وأقسامها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصبحه أجمعين.

    أما بعد:

    فسيكون حديثنا اليوم عن حقوق الأولاد.. إن نعمة الولد نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده، ولا تكون نعمةً حقيقية إلا إذا قام الوالدان بحقها وحقوقها وأحسنا في رعايتها، وقد جاءت نصوص كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تُبيّن المنهج الأكمل والطريق الأمثل في تربية الأولاد.

    الأولاد نعمةٌ من نعم الله عز وجل، هذه النعمة رُفعت الأكف إلى الله بالضراعة أن يكرم أصحابها بها، فقال الله عن نبيٍّ من أنبيائه: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وقال الله عن عباده الأخيار: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]. الأولاد والذرية تَقَر بهم العيون، وتبتهج بهم النفوس، وتطمئن إليهم القلوب، إذا طابوا وقام الوالدان على رعاية الأولاد والعناية بهم وأداء حقوقهم كاملةً على الوجه الذي يرضي الله عز وجل، وحقوق الأولاد قسّمها العلماء إلى قسمين:

    القسم الأول: ما يسبق وجود الولد.

    والقسم الثاني: ما يكون بعد وجوده، فالله حمّل الوالدين المسئولية عن الولد قبل وجود الولد، وحملهم المسئولية عن تربيته ورعايته، والقيام بحقوقه بعد وجوده.

    1.   

    حقوق الأولاد قبل وجودهم

    حسن اختيار الزوجة والزوج

    فأما مسئولية الوالدين عن الولد قبل وجوده، فإنه يجب على الوالد ويجب على الوالدة أن يحسنا الاختيار، فيختارُ الأب لأولاده أماً صالحة ترعى حقوقهم وتقوم على شئونهم، أماً أمينة تحفظ ولا تُضيع، وعلى الأم أيضاً أن تختار زوجاً صالحاً يحفظ أولادها، ويقوم على تربيتهم، فاختيار الزوج والزوجة حقٌ من حقوق الولد؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لدينها وجمالها ومالها وحسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).

    اظفر بذات الدين حتى ترعى الذرية، وتقوم على إصلاحها وتربيتها على نهج ربها، اظفر بذات الدين فإنها غنيمة وفوز، وكذلك المرأة تختار الزوج الصالح الذي ترضى دينه وأمانته وخلقه، وإذا أساء الرجل اختيار زوجته، ونظر إلى حظه العاجل من جمالٍ ومال، ونسي حقوق أولاده فإن الله سيحاسبه حتى ذكر بعض العلماء: أن الزوج لو اختار الزوجة وعلم أنها لا تحسن إلى ذريته من بعده فإن الله يحمِّلهُ الإثم والوزر لما يكون منها من إساءةٍ إلى ولده، وكذلك المرأة إذا لم تحسن الاختيار لزوجها، وعلمتْ أنه زوجٌ يُضيع حقوق أولاده، ففرطت وتساهلت وضيعت، فإن الله يحاسبها عما يكون من إثم ذلك الزوج وأذيته لأولادها.

    فحقٌ على الوالدين أن يحسنا الاختيار، وأن يكون المنبت الطيب هو الذي يبحث عنه الإنسان، فالناس معادن، كما أخبر سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فيهم المعدن الكريم الذي طابت أصوله، وإذا طابت الأصول طابت الفروع.

    إن الأصول الطيبات لها فروعٌ زاكيـة

    والله تعالى يقول: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، فإذا كان معدن المرأة كريماً من بيت علمٍ أو دين أو عُرِفَ بالصلاح والاستقامة فإنه نِعم المعدن، ونِعْمَ الأمينة التي ستحفظ الأولاد والذُرية في الغالب، وكذلك الرجل إذا كان مَعدنُه طيباً فإنه سيكون حافظاً لأولاده، ولا يعني هذا: أن المرأة إذا ابتليت بزوجٍ مقصِّر، أنها تيأس بل ينبغي عليها أن تحاول، وأن تستعين بالله في إصلاح ذريتها وأولادها؛ فإن الله عز وجل يقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95] فربما يكون الزوج غير صالح، ولكن الله يخرج منه ذريةً صالحة، وقد يكون الزوج صالحاً ويخرج الله منه ذريةً غير صالحة، فقد أخرج الله من أبي جهل عكرمة ، وهو من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقائدٌ من قوّاد المسلمين، وعَظُمَ بلاؤه في الدين، وقد يخرج الميت من الحي كما في ولد نوح عليه السلام.

    التسمية عند الجماع من الزوج

    فالمقصود أن الأصل والغالب: أنه إذا طاب معدِنُ المرأة؛ أن يطيب منها ما يكون من ذرية، هذا هو الحق الأول، وإذا اختار الإنسان الزوجة فمن حقوق ولده أن يسمي عند إصابة أهله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر التسمية عند الجماع أنها حرزٌ وحفظٌ من الله للولد من الشيطان الرجيم، قال العلماء: وهذا حق من حقوق الولد على والده، إذا أراد أن يُصيب الأهل، وإذا كتب الله بخروج الذرية، فليكن أول ما يكون من الزوج والزوجة شكر الله عز وجل.

    من أراد أن يبارك الله له في نعمةٍ من نعمه، فليشكر الله حق شكره؛ لأن النعم لا يُتأذن بالمزيد فيها والبركة إلا إذا شُكرت، وإذا نظر الله إلى عبده شاكراً لنعمه، بارك له فيما وهب، وأحسن له العاقبة فيما أسدى إليه من الخير.

    وأوّل ما ينبغي على الوالد والوالدة إذا رأيا الولد أن يحمدا الله على هذه النعمة، وأن يتذكرا العقيم الذي لا ذريةَ له، وأن يسألا الله خير هذا الولد وخير ما فيه، فكم من ولد أشقى والديه، وكم من ولدٍ أسعد والديه، فيسأل الله خيره وخير ما فيه، ويستعيذ به من شره، ويعوذ بالله من ذرية السوء.

    1.   

    حقوق الأولاد بعد وجودهم

    ثم إذا كتب الله ولادة الولد، فهناك حقوق أجملها العلماء منها:

    اختيار الاسم الحسن للولد

    حق التسمية، أن يختار له أفضل الأسماء وأكرمها، لأن الأسماء تشحذ الهِمم على التأسي بالقدوة؛ ولذلك قال بعض العلماء خير ما يُختار الأسماء الصالحة، وأسماء الأنبياء والعلماء والفضلاء؛ لأنها تشحذ هِمّة المسمّى إلى أن يقتدي وأن يأتسي، قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : (وُلِدَ لي الليلة ابناً سمّيته على اسم أبي إبراهيم)، فسمّى إبراهيم على اسم أبيه؛ ولذلك قالوا: إنه يراعى في الاسم أن يكون اسماً صالحاً، ولا يجوز للوالدين أن يختارا الاسم المحرم، وهو الاسم الذي يكون بالعبودية لغير الله كعبد العزى، ونحو ذلك من الأسماء كعبد النبي، وعبد الحسين، ونحو ذلك من الأسماء المحرمة، التي يُعبّد فيها البشر للبشر، وإنما ينبغي أن يُعبّد العباد لله جل جلاله.

    كذلك ينبغي أن يجنب الولد الأسماء القبيحة، والأسماء المذمومة، والممقوتة، والمستوحش منها، حتى لا يكون في ذلك إساءة من الوالدين للولد، قالوا: من حقه أن يُختار له أفضل الأسماء، وأحب الأسماء إلى الله ما كان بالعبودية لله كعبد الله، وعبد الرحمن..، ونحو ذلك من الأسماء التي تكون مُصدّرة بالعبودية لله عز وجل.

    وينبغي أن يُجنبه كذلك ما ذكره العلماء من الأسماء المكروهة، التي فيها شيء من الدّلال والميُوعة التي لا تتناسب مع خشونة الرجل، والعكس أيضاً فإن البنت يُختار لها الاسم الذي يتناسب معها دون أن يكون فيه تشبه بالرجال، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمّى بنته: عاصية، كما ذكر أبو داود -الإمام الحافظ-، وغيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمها إلى جميلة، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه غيّر الأسماء القبيحة، فمن حق الولد على والديه إحسان الاسم ويكون اختيار ذلك للوالد، ولا حرج أن تختار الأم لابنها وابنتها، لا حرج في ذلك ولا بأس إذا اصطلحا بالمعروف.

    أن يعق الأب عن الولد

    ومن حقوق الولد على والده أن يُعَقّ عنه، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديثٍ الحسن عن سمرة أنه ذكر العقيقة فقال: (كل غلام مرهونٌ بعقيقته تُذبح عنه يوم سابعه ويسمّى).

    قال بعض العلماء: تُستحب التسمية في السابع، ولكن الجواز يجوز في أول يوم لحديث البخاري : (ولد لي الليلة ابنٌ سميته على اسم أبي إبراهيم)؛ فهذا يدل على مشروعية التسمية في أول يوم، ولا حرج في ذلك والأمر واسع، كذلك من حقه أن يُختن، أن يَختِن الولد سواءً كان ذكراً أو أنثى، فالختان مشروعٌ للذكور ومشروعٌ للإناث، وهذه المسألة ليست محل نقاش حتى يُسأل فيها غير العلماء، أو يرجع فيها إلى آراء الناس وأهوائِهم، وإنما يُنظر فيها إلى الشرع يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغُسل)، فالذي يقول: ليس في الشريعة دليل يدل على مشروعية ختان الإناث فهو جاهل لا يعرف ما ورد في نصوص السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال: (إذا التقى الختانان..)، فبين صلوات الله وسلامه عليه أن المرأة تُخْتَن كما يُختَنُ الرجل، قال العلماء: إن هذا يُخفف من حدة الشهوة عند المرأة وعلى هذا فمن حقها أن تُخْتَن ويراعى خِتانُها، وكذلك الذكر يُختن، هذا إذا كان في صغره.

    حسن تربية الولد ورعايته

    كذلك أيضاً من أعظم الحقوق وأَجلّها حسْن التربية والرعاية للابن والبنت، ولقد رغب رسول صلى الله عليه وسلم في هذا العمل الصالح حتى ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات، فرباهُن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كنّ له ستراً أو حجاباً من النار)، فهذا يدل على فضيلة تربية الابن وتربية البنت على الخصوص على طاعة الله، قال العلماء: إنما ذكر البنت لأنها هي المربية غداً لأبنائها وبناتها، والقائمة على حقوق بعلها وبيت زوجها؛ فلذلك ذكر رعاية البنات، وإلا فالفضيلة موجودة أيضاً لمن رعى الأبناء وقام عليهم وأدبهم فأحسن تأديبهم، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام -يُبيّن حسن العاقبة لمن أنعم الله عليه بهذه النعمة، وهي تربية الولد تربيةً صالحة، ذكر حسن العاقبة فقال-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)، قال العلماء: إن الله عز وجل يحسن المكافأة لعبده على ما كان منه من رعايته لولده، فكما أحسن إلى ولده في الصغر، يجعلُ الله إحسانه نعمةً عليه حتى بعد موته، بل إن الذي يربي في الصغر، ويحسن تربية أولاده يرى بأم عينيه قبل أن يموت حسن العاقبة في ولده، ولهذا تجد من ربى ابنه على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، وعلى ما يُرضي الله عز وجل إذا كبِر فرق عظمه، ووهن وأصابه المشيب والكبر، وجد ابنه بجواره يساعده ويقوم على شأنه، ويحفظ أمواله ويكون أميناً، راعياً، حافظاً، على أتم الوجوه وأحسنها، وهذه هي ثمرة العمل الصالح، وثمرة من ربى وتعب على تربية أبنائه. والعكس.. فمن ضيع أبناءه فإن الله يريه في الحياة قبل الموت شؤم ما كان منه من التقصير، فيصيبه الكبر ويرق عظمه، ويجد من تعب الحياة وشظفها، فيأتي أبناؤه ليكيدوا له ويؤذوه ويذلوه ويروه سوء العذاب في الدنيا قبل الآخرة، وهذا كله من عواقب سوء التربية، نسأل الله السلامة والعافية.

    فلذلك رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العمل الصالح، وهو تربية الأبناء، رغّب فيه لعلمه حب الله لهذا العمل، وحبه سبحانه لمن قام به على أتم الوجوه وأكملها.

    وخير ما يُربى عليه الأبناء، وآكد وأوجب ما يُرعى من تربية الأبناء: التربية الإيمانية، فأول ما يغرس الوالدان في قلب الولد الإيمان بالله عز وجل الذي من أجله خلق الله خلقه وأوجدهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    فأول ما يُعتنى به: غرس الإيمان، وغرس العقيدة، فلا إله إلا الله. يجب أن تغرس في قلب الصَّبي، فيعتقدها جنانه ويقر بها وينطقُ بها لسانه وتعمل بها وبلوازمها جوارحه وأركانه، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فأول ما ابتدأ به وأول ما دله عليه في وعظه ونصحه وتوجيهه، أن ذكرهُ بحق الله جل جلاله، وبين له أن ضياع هذا الحق هو الظلم العظيم؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وليس هناك أعظم من أن يصرف حق الله جل وعلا في عبادته لغيره كائناً من كان ذلك الغير، ولهذا وعظ لقمان وابتدأ موعظته بهذا الأصل العظيم، فأول ما ينبغي على الوالدين أن يغرسا في قلب الصبي الإيمان بالله عز وجل، فأطيب وأكمل وأعظم ما يكون من الأدب أن يغرس الأب وتغرس الأم في قلب الولد الإيمان بالله عز وجل، وهو فاتحةُ الخير، وأساس كل طاعةٍ وبر، لا ينظر الله إلى عمل العامل أو قوله حتى يحقق هذا الأصل ويرعاه على أتم الوجوه وأكملها.

    ولذلك لما ركب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير السّن، اختار عليه الصلاة والسلام أن يأخذ بمجامع قلبه وهو في صِغَره إلى توحيد الله جل جلاله: (يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)، وانظر إلى الأسلوب، (يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن)، ينفعك الله بها نفع الدين والدنيا والآخرة: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف).

    فالرسول صلى الله عليه وسلم ملأ قلبه بالله ملأ قلبه بالإيمان والعبودية والتوحيد وإخلاص التوجه لله سبحانه وتعالى: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك) فأخذ بكليته إلى الله، وكأنه يقول: اجعل الله نصب عينيك، إذا سألت فكنت في فاقة وضيقٍ وشدة فاسأل الله، وإذا ألمت بك الأمور، ونزلت بك الخطوب والشدائد فاستعن بالله، ثم بعد ذلك ينفض يديه من الخلق: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك)، ولذلك ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله في قلب الولد، يقول بعض أهل العلم رحمةُ الله عليهم: إن الوالد مع ولده يستطيع في كل لحظة أن يغرس الإيمان في قلبه، فالمواقف التي تمر على الوالد مع ولده ويكون الولد بجواره يذكره فيها بالله، ويذكره فيها بوحدانية الله: وأن الله: قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وأنه وحده بديع السماوات والأرض، خالق الكون، ومدبر الوجود، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه سبحانه، فإذا نشأ هذا القلب على الفطرة، ونشأ هذا القلب على التوحيد، نشأ على الأصل العظيم الذي فيه سعادته، وصلاح دينه ودنياه وآخرته: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فتأتي هذه الكلمات النيرات، والمواعظ المباركة إلى قلب ذلك الصَّبي، وهو على الفطرة، وهو على الإيمان، لم تشبهُ شائبة كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولدٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، فيغرس هذا الإيمان على تلك الفطرة فتكون نوراً على نور: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]؛ وعلى هذا ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله عز وجل في أبنائهم.

    ومن التربية الإيمانية: الأمر بالصلاة، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه:132]، وقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فمن حق الولد على والديه الأمر بالصلاة، أن يأمراه بالصلاة في مواقيتها. قال العلماء: يجب على الوالد وعلى الوالدة أن يعلما الولد كيفية الوضوء، وكيفية الطهارة، واستقبال القبلة، وصفة الصلاة، والهدي الذي ينبغي أن تؤدى به هذه العبادة. والله ما علَّمت ابنك الوضوء فصب الماء على جسده إلا كان لك مثل أجره، ولا حفظته الفاتحة أو شيئاً من كتاب الله فلفظ لسانه بحرفٍ مما علمته، إلا كنت شريكاً له في الأجر حتى يتوفاه الله عز وجل، ولو علّم ذريته فأنت شريك له في الأجر، فمن دعا إلى الهدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً. وما علّمته الصلاة فقام في ظلمة ليلٍ أو ضياءِ نهارٍ بين يدي الله، إلا أُجرت على قيامه، وكان لك مثل أجره وثوابه، فخيرٌ كثير وفضلٌ عظيم حين يتاجر فيه الوالد مع الله عز وجل، وما قيمة الأولاد إذا لم يُرَبّوا على طاعة الله عز وجل، ويُرَبّوا على منهج الله، وتنشأ تلك النفوس على محبة الله، ومرضاة الله، والقيام بحقوق الله، فلا خير في الولد إذا تنكّر لحق الله، وإذا ضيع الولد حق الله فسيضيع حقوق من سواه من باب أولى وأحرى، فينشئه على إقام الصلاة ويعوده أنه إذا أذن المؤذن ينطلق إلى بيت الله عز وجل فيعمره بذكره، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الصبي الصلاة لسبع الصلاة منذ نعومته وصغر سنه، حتى إذا كبر ألف ذلك الشيء واعتاده.

    كذلك أيضاً.. هذه التربية الإيمانية تستلزم التربية على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يكون من الإنسان في معاملته مع الناس: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17-19].

    يقول بعض العلماء: إن هذه الآيات التي تضمنت وصايا لقمان، منهج كامل في التربية، فهو يجمع بين حق الله وحق عباده، بل حتى حظ النفس، فقد أمره بما فيه قوام النفس واستقامتها حتى في أخلاقها مع الناس؛ حيث قال له: لا تصعر خدك للناس، تكبراً وخيلاء، ولا تمش في الأرض مرحاً، فالإنسان إذا أراد أن يربي ولده، يربيه على مكارم الأخلاق، فكمال العبد في كمال خلقه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً)يعوده الصدق في الحديث، وينهاه عن الكذب، يعوده حفظ اللسان، وينهاه عن أن يرتع لسانه في أعراض المسلمين بالغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يعد المسلم فلوّه وصغيره ثم لا يفي له؛ لأن الابن إذا رأى من والديه التقصير بالكذب في الوعد نشأ كاذباً والعياذ بالله؛ فالولد يتأثر بوالديه، فإن رأى منهما خيراً سار على ذلك الخير، وأحبه، وإن رأى منهم الشر -والعياذ بالله- والسوء سار على ذلك الشر وأحبه والتزمه، حتى يصعب أن ينفك عنه عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية.

    فلذلك ينبغي أن يُعوّد على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، في قوله وعمله وقلبه، يقولون: أن يغرس الوالد في قلب الابن حب المسلمين، فلا يغرس في قلبه الحقد عليهم، ولا يغرس في قلبه الحسد، ولا يغرس في قلبه البغضاء، وإنما يغرس في قلبه حبّ المؤمنين، صغاراً وكباراً، حب المسلمين خاصةً صالحيهم وعلمائهم ودعاتهم يُنشِّئه على حبهم، ولو أخذه معه إلى مجالس الذكر حتى ينشأ على حب العلماء، والاتصال بهم والارتياح لهم، كل ذلك من الأمور المطلوبة من الوالد حتى يقيم قلب الصبي على طاعة الله، كذلك ينشئه على حفظ لسانه من أن يقع في أعراض المسلمين، فإذا تكلم الابن يعرف أين يضع لسانه، وإذا تحدث يعرف ما الذي يقول، وهذا يستلزم جانبين ذكرهما العلماء: الجانب الأول: التزام الأدب الإسلامي، من توقي المحرمات الحاصلة من الألسن، وتعويدها على أصلح ما يكون في طاعة الله، من ذكر الله عز وجل: كالتسبيح، والاستغفار، ونحو ذلك من الأذكار، ويحبب إلى قلبه تلاوة القرآن، هذا بالنسبة للجانب الديني.

    الجانب الثاني: الجانب الدنيوي، فعلى الوالد أن يعود ولده على الحياء والخجل، فلا يكون صفيق الوجه سليط اللسان، بل يقول بعضهم: جرئ ولدك على الكلام، هذا لا ينبغي؛ إنما ينبغي أن يعود الحياء أولاً؛ ثم إذا كان جريئاً أن تكون جرأته منضبطة بالحياء، (كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها) ويقولون: الولد ما يصبح رجلاً إلا إذا كان جريئاً، فتجد الولد يتكلم أمام من هو أكبر منه سناً، وتجد الولد يتكلم حتى بقبائح الأمور فيتبسم الوالد، ويقول: هكذا الابن وإلا فلا! لا والله، لا ينشأ الابن على السوء فيكون كاملاً مهما كان، ولو كانت الناس تظن أن هذا كمال فإنه نقص، ولذلك لما جاء حويصة يتكلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّر، كَبّر)، فعلمه الأدب وهو كبير: قال له: (كبّر، كبرّ)، فإذا جلس بين الكبار لا يتكلم، وإنما يكف لسانه، ويجلس حيياً، متحلياً بالحياء الذي يتجمل به أمام عباد الله عز وجل، أما أن يعود الجرأة على الكلام.. الجرأة على الحديث، فهذا مما لا تحمد عقباه، فإذا تعود الجرأة في صغره ألفها في كبره، ولكن يعوَّد الحياء. يعود السكوت والإنصات لكبار السن، ولا يتكلم بحضرتهم إلا بقدر، فإذا كبر، وعقل الأمور، تكلم عند موجب الكلام، وصدر عن انضباط، وحفظ لسانه، لأنه اعتاد ذلك وألفه وربي عليه.

    إذا خاطب من هو أكبر منه؛ أُمِرَ بأن يخاطبه بالإجلال والإكبار والتقدير، فلا يرضى الوالد لولده أن يخاطب كبير سنٍ باسمه، وإنما يقول له: خاطبه بـ: يا عم.. أو نحو ذلك من الكلمات، التي فيها إجلال وتوقير، حتى ينشأ الصغير على توقير الكبير، وتلك سنة الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منّا من لم يوقر كبيرنا، ولا يرحم صغيرنا)، فلا بد من تعويد الابن على توقير الكبير واحترامه وتقديره وإجلاله، وإذا وفق الله عز وجل الوالدين لحُسن التربية، تربية الولد التربية الصالحة، فليعلما أن ذلك لا يكون إلا بأمورٍ مهمة، إذا أراد الوالد والوالدة أن يقوم على تربية الولد؛ فهناك أسباب تعين على التربية الصالحة، أولها وأعظمها وأجلها الدعاء، فعلى الوالدين أن يكثرا من الدعاء للولد، ويسألا الله عز وجل أن يكون الولد صالحاً كما قال تعالى: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ [الأحقاف:15]، تُكثر من الدعاء لولدك فلعلك أن توافق باباً في السماء مفتوحاً فيُستجاب لك.

    الله أعلم كم من أم وكم من أبٍ دعا لولده دعوةً أسعدته في الدنيا والآخرة، فهذه أم سليم رضي الله عنها جاءت بـأنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! خويدمك أنس ادع الله له، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة) .

    فتسببت له في ذلك الخير رضي الله عنها وأرضاها، فيحرص الوالد على كثرة الدعاء في أن الله يصلح ذريته، والله تعالى يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ولا يسأم ولا يمل ولا ييأس من رحمة الله، ولا يقنط من روح الله؛ وإنما عليه أن يحسن الظن بالله عز وجل.

    كذلك أيضاً الأمر الثاني -وهو من الأهمية بمكان، مما يعين على التربية الصالحة-: القدوة الحسنة، فالأولاد -الأبناء والبنات- لا ينتظرون الكلام بمثل انتظارهم للعمل والتطبيق، فإذا نشأ الابن وهو يرى أباه على أكمل ما يكون عليه الأب، ويرى أمه على أكمل ما تكون عليه الأم فإنه يتأثر، وأصبح متصفاً بهذه الأخلاق الحميدة، والآداب الكريمة، حتى تصبح سجية له وفطرة، لا يتكلفها، ولا يستطيع أن يتركها؛ كذلك البنت إذا نشأت وقد رأت من أبيها الصلاح والاستقامة على الخير، ورأت من أمها الصلاح والاستقامة على الخير أحبت الخير وألفته.

    كيف يكون الابن صادقاً وهو ينشأ في بيتٍ يسمع فيه أباه -والعياذ بالله- يكذب؟ فلربما طرق عليه الضيف فيقول له: اذهب وقل له: ليس بموجود! كيف ينشأ الابن صادقاً في قوله إذا كان والده يعلمه من خلال سلوكه وتصرفاته سيئ العادات والعياذ بالله؟! وكيف تكون البنت على صلاح واستقامة، وهي ترى من أمها التقصير في الصلوات والطاعات، نائمةً عن فرض الله عز وجل، ومضيعة لحق الله في قولها وفعلها؟! فأهم ما ينبغي في التربية الصالحة، القدوة الحسنة، وإذا كان الإنسان قدوةً للغير تأثر الغير بكلامه، وجعل الله لمواعظه وكلماته وتوجيهاته أثراً في النفوس، وانتفع الناس وانتفع أولاده بما يقول، نسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

    العدل بين الأبناء

    كذلك أيضاً من الأمور المهمة وهي من حقوق الأولاد، التي ينبغي رعايتها، ونختم بها هذا المجلس، حق العدل بين الأولاد.

    وهذا الحق أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، فلا يجوز تفضيل الإناث على الذكور، كما لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث، كان أهل الجاهلية يفضلون الذكر على الأنثى، وكانوا يغضبون إذا بشروا بولادة الأنثى، كما أخبر الله عز وجل في كتابه حيث قال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58]، فإذا بُشّر بالإناث تمعّر وجهه وتغير، وكأنه يُبشر بسوء، نسأل الله السلامة والعافية؛ فلذلك أدب الله عز وجل المسلمين على الرضا بقسمة الله عز وجل، يرضى الإنسان بالولد ذكراً كان أو أنثى، إذاً كما قلنا: لا يفضل الإناث على الذكور ولا الذكور على الإناث، وإنما يعدل بين الجميع.

    كان السلف رحمهم الله يعدلون بين الأولاد حتى في القُبلة، فلو قبل هذا: رجع وقبل هذا، حتى لا ينشأ الأولاد وبينهم الحقد؛ ولذلك قالوا: إن التفضيل يؤدي إلى مفاسد، أولها: أن يكون ضرر التفضيل على الوالد نفسه؛ فإنه ينشأ الأولاد على حقد وكراهية للوالد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله في الحديث الصحيح لـبشير بن سعد الأنصاري والد النعمان بن بشير: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.) أي إذا كنت تريدهم أن يكونوا لك في البر سواء فاعدل بينهم، وكن منصفاً فيما تسدي إليهم.

    كذلك أيضاً من المفاسد التي تترتب على عدم العدل بين الأولاد هي: أنها توغر صدور بعضهم على بعض؛ ولذلك حصل ما حصل بين يوسف وإخوته؛ لأنهم قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8]؛ ولذلك لا ينبغي أن يكون الوالد أو الوالدة في التصرفات والأعمال على تفضيل ولدٍ على ولد، وإنما يكون كلٌ منهما على تقوى الله عز وجل، فيجب أن يحسنوا إلى الجميع، سواءً كان ذلك التفضيل من الجانب المعنوي، أو الجانب الحسي المادي، فإذا أعطى الابن شيئاً، يعطي الأنثى كذلك، واختلف العلماء في كيفية العدل بين الذكر والأنثى، ولهم قولان مشهوران، قال بعض العلماء: المال الذي يعطيه للذكر، يعطيه مثله قدراً للأنثى سواءً بسواء، فإن أعطى هذا ديناراً يعطي هذه ديناراً، وقال جمعٌ من العلماء: إن العدل بين الأولاد أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا هو الصحيح؛ لأنه قسمة الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وقال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، فإن الولد يخرج ويحتك بالناس، وتنتابه من المصاريف أكثر من الأنثى؛ ولذلك قالوا: يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا هو مذهب طائفة من أهل العلم وهو الصحيح؛ لأنه قسمة الله عز وجل ولا أعدل من الله بين خلقه، فالله عز وجل عدل بين عباده، ففضل الذكر على الأنثى من هذا الوجه، وليس في ذلك غضاضة على الأنثى ولا منقصة لها.

    وقد تكون هناك موجبات خاصة استثناها بعض العلماء من العدل، فقالوا: إذا كان أحد الأولاد يتعلم أو يقوم على أمر من الأمور المختصة به، يحتاجها لصلاح دينه أو دنياه، فلا بأس أن يخص بالعطية، إذا كان عنده عمل ومحتاج إليه، قالوا: لأنه من العدل أنه عندما يتفرغ للعلم أن يعان على تعلمه؛ لأنه تفرغ لهذا العلم الذي فيه نفعه، ونفع العباد، وهكذا إذا تفرغ لكي يتعلم حدادةً أو صناعةً أو نحو ذلك؛ فإن والده إذا أراد أن يعطيه من أجل هذا التعلم فله أن ينفق عليه على قدر حاجته، ولا يلزم بإعطاء الأنثى مثل ما يعطيه أو نصف ما يعطيه؛ لأن الأنثى لا تعمل كعمله، فلو أعطى الأنثى مثل ما يعطيك؛ فإنه في هذه الحالة قد ظلم الذكر؛ لأن الأنثى أخذت من دون وجه ومن دون استحقاق، وعلى هذا فإن الواجب على الوالدين، أو من حق الأولاد على الوالدين العدل، سواءً كان ذلك في الجانب المعنوي، أو الجانب المادي، وكان بعض العلماء يقول: ينبغي على الوالد والوالدة أن يراعيا أحاسيس ومشاعر أولادهم، فلا يحاول الوالد أن يميل إلى ولدٍ أكثر من الآخر أثناء الحديث، أو يمازحه ويباسطهُ أكثر من الآخر، وإنما يراعي العدل في جميع ما يكون منه من التصرفات لمكان الغيرة.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، إنه المرجو والأمل والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم ضرب الأبناء للتأديب وضوابطه

    السؤال: أثابكم الله وبارك الله فيكم، ونفع الله الجميع بما قلتم، هذا سائل يقول: هل يجوز ضرب الأبناء لتأديبهم وهل هناك ضوابط معينة في هذا الأمر؟

    الجواب: باسم الله.. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.

    أما بعد:

    فضرب الأولاد لتأديبهم عند الحاجة مشروع؛ ولكن لا يكون الضرب إلا بعد التوجيه، ولذلك قال الحكماء: إن أفضل ما تكون التربية بالضرب والزجر إذا سبقه نذير؛ فأول ما يبتدئ الوالد والوالدة أن يأمرا الصَّبي أو الصَّبية أو ينهياهما عن الشيء، فإذا لم ينته الولد أو البنت بيّنا لهما سوء العاقبة، وقالوا له: هذا يضركما لا خير فيه؛ حتى يصبح امتناعهما عن تعقل من ذاتهما، لا يعود الولد بمجرد ما يُخطئ يُضرب، إنما أول ما يبتدئ أن يحذر الصَّبي ويقول له: لا تفعل كذا، فإذا انكف الحمد لله، فإذا فعل ثانية، يقول له: لا تفعل، هذا فيه كذا، فحينئذٍ إذا لم يمتنع من جهة أمر أبيه أو أمه، فإنه قد يمتنع من جهة الضرر الموجود في الشيء الذي يفعله. فإذا لم يمتنع يقول له: لا تفعل، فإن فعلت سأضربك، فإذا قال له: إن فعلت سأضربك، ووعده أنه يضربه؛ فإنه إذا فعل يضربه ولا يتأخر؛ لأنه إذا وعده أن يضربه فجاء يريد أن يضربه فتعلق به، وقال: لا أعود فأخذته العاطفة فإن الولد سيفعل هذا ثانية، ويتكل على العاطفة، فقالوا: بمجرد أن يحذره بالضرب فإنه يضربه، فإذا ضربه أحس الابن أنه بمجرد تحذير الوالد أو الوالدة بالضرب بأنه سيقع ما وعدا به من العقوبة، لكن بعض العلماء يقول: لا ينبغي أن يبادر الوالدان بهذا الأسلوب؛ لأنه يعود الولد على اليأس والقنوط من رحمة الوالدين، بل ينبغي عليهما أن تكون عندهم مرونة، تختلف بحسب الأحوال، وما يكون من الصبي من الأخطاء، وأحوال الصبية والصبيان، فهذا صعب لا نستطيع أن نضع ضابطاً فيه؛ ولكن الأمر يرجع إلى اجتهاد الوالدين.

    أما الجواز فيجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الضرب وسيلة للتربية، فقال عليه الصلاة والسلام: (واضربوهم عليها لعشر)، لكن ننبه على مسألة مهمة وهي:

    ضرب الصغار وهم في سنٍ مبكرة، بحيث يكون الضرب قبل أن يكون عندهم نوع من التمييز؛ وهذا لا يجوز، ولذلك جعل الشرع الضرب بعد التمييز، وإنما يكون الضرب إذا أخطأ الصبي أو الصبية وكان عندهما شيء من التمييز؛ لأن الصبيان يختلفون، يقول بعض العلماء: ربما ميز الصبي وهو في الخمس سنوات، وقد يميز وهو ابن ست سنوات، وهذا يرجع إلى قوة الذكاء وعلى حسب طبيعة الصّبي وقد يتأخر تمييزه إلى العاشرة؛ ولذلك إذا كنت تفهم أنه ميّز، وأنه لا بد من زجره، وأنه مسترسل في هذا السوء، أو في هذا الخطأ، فحينئذٍ يضرب الإنسان بقدر، وإنما هو اجتهاد ومرده إلى الوالد والوالدة، فليتق الله كلٌ منهما في هذه الطريقة.

    وننبه -أيضاً- على أمرٍ وهو الخطأ في استعمال الضرب، فبعض الآباء تكون فيه عصبية شديدة فتراه يضرب أولاده بشدة، فهو يضرب ضرباً مبرحاً قوياً وهذا لا يجوز، إنما يكون الضرب بقدر؛ لأن الضرب شُرِعَ لحاجة، والقاعدة: أن ما شرع لحاجة يقدر بقدرها. فإذا كان الوالد عصبياً فالأفضل أن يترك الأمر للوالدة إذا كانت حكيمةً عاقلة، إذا كان لا يأمن من نفسه أن يضرب أولاده برفق وبقدر، لكونه إذا ضرب أوجع وبالغ فيه، فحينئذٍ ينزع يديه؛ لأن مثله لا يصلح للتربية بهذا الأسلوب-أعني الضرب-، وهذا ينبه العلماء عليه في باب اتخاذ الأسباب؛ لأنه إذا كان منهياً عن ظلم ولده وضربه بالضرب المبرح الذي لا يتحمله، فلا يجوز له أن يتعاطى أسباب ذلك، فإذا غلط الولد وكل إلى أمه التربية، فيحاول أن يترك الأمر للوالدة هي التي تضرب إذا كانت حكيمة عاقلة. كذلك أيضاً الوالدة إذا كانت سيئة في أسلوب التربية، وتضرب بشدة، وتبالغ في استخدام هذا الأسلوب، هنا ينبغي على الوالد أن يتدخل، وأن يكف يدها، وأن يمنعها ويزجرها ويخوفها بالله عز وجل.

    قال أحد الصحابة: (يا رسول الله! إن لي موالي آمرهم فيعصونني، وأنهاهم فيخالفونني، فأضربهم وأسبهم فماذا تأمرني: قال: إذا كان يوم القيامة نظر في أمرك وعصيانهم، وضربك لهم، ثم اقتص منك ومنهم، فتولى يبكي وقال: أشهدك يا رسول الله: أنهم أحرارٌ لوجه الله).

    فما دام الأمر فيه قصاصاً، وفيه مسئولية وفيه محاسبة؛ (أشهدكَ أنهم أحرار لوجه الله) ؛ ولذلك لما مر عليه الصلاة والسلام على بعض أصحابه رضي الله عنهم، وهو يضرب مولىً من مواليه، قال: فإذا بي أسمع صوتاً وراء ظهري فقال: (اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أشهدك أنه حرٌ لوجه الله) .

    فليعلم العبد أن الله يحاسبه عن هذه الذرية التي وصفها الله بأنها ذرية ضعيفة، فهذا رجل مولى قوي ويستطيع أن يصبر ويتحمل ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربه، فكيف بالأبناء والبنات الضعفاء؟! يقول بعض الحكماء: إن الإغراق في الضرب يجعل عند الصبي شيء من الجنون؛ لأنه لا يستطيع أن يركز، قد تكون عنده شهوة قوية وقد يكون عنده فضول، وقد يكون عنده شيء من التوجه النفسي الذي لا يُحسن فهمه، فينظر على أنه مجرم وأنه عاصٍ، فيعاقبُ فيصبح في تيه، يرى شدة العقوبة، ويرى نفسه تبعثه لا شعورياً إلى الشيء، فيصبح في تيه، وقد يتولد عنده شيء من النفاق بحيث إذا وجدت العقوبة امتنع، وإذا زالت العقوبة فعل، فالأمر يحتاج إلى شيءٍ من بعد النظر، يحتاج إلى شيءٍ من تقوى الله، ويحتاج إلى شيءٍ من الأخذ بالأسباب، ولا نستطيع أن نضع ضابطاً في ذلك، حتى الذين يقومون على وضع برامج للتربية تحار عقولهم في مثل هذا، الناس يختلفون، والأوضاع تختلف، والبيئات تختلف، ولذلك من الصعوبة أن يوضع شيءٌ معين، أما كون الضرب وسيلة، نعم وسيلة، ليعلم أن هناك حساباً وهناك مسئولية، وينبغي على الإنسان إذا أراد أن يستخدمه أن يتقي الله عز وجل وأن يسدد ويقارب، والله تعالى أعلم.

    حكم تزويج الوالد لولده أو العكس

    السؤال: فضيلة الشيخ! هل من حق الوالد على ولده تزويجه إذا كان مستطيعاً أو العكس؟

    الجواب: أما بالنسبة للولد فالأصل أنه إذا بلغ وقدر على السعي فإنه يقوم على نفسه، ويزوج نفسه هذا هو الأصل، لأنه مطالب بالقيام على نفسه إذا بلغ، وجزى الله الوالدين خيراً إذ قاما عليه حتى وصل إلى هذه السن؛ ولذلك لا يجب على الوالد أن يزوج ولده، ولا يجب عليه أن ينفق عليه حتى يزوجه، ليس بواجب؛ إنما هذا من مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، ومن فضائل الآباء على أبنائهم، إذا رزق الله الولد والداً فزوجه، فليجعل على نفسه لوالده ديناً بعد دين، على هذا الفضل العظيم الذي قدمه له؛ فإذا أصبح الابن في حاجة ماسة؛ فإنه جرى العرف أن الوالد يحسن إليه، ويساعده على قدر الاستطاعة، أما أنه يجب فلا، ليس ذلك بواجبٍ على الوالد.

    واختلف العلماء إذا احتاج الوالد للزواج، هل يعينه الابن أو لا؟ فقال بعض العلماء: يعينه الابن، لكن بشرط أن لا تعلم الأم؛ لأنه يخشى أن يقع في عقوق الأم؛ ولذلك إذا أراد الزواج فإنه يساعده، وقال بعض العلماء: إذا كان الوالد فقيراً وخشي عليه الوقوع في الحرام، وكان الابن قادراً، فإنه يجب عليه؛ لأنه إذا أصبح الوالد يخاف الزنا وجب عليه الزواج؛ فإذا كان فقيراً تعينت هذه النفقة على الولد، فأصبحت نفقة تابعةً للنفقة الأصلية؛ لكن بالشرط الذي ذكرناه والله تعالى أعلم.

    عدم اصطحاب الأولاد عند زيارة الأقارب بحجة فساد أبناء الأقارب

    السؤال: فضيلة الشيخ أثابكم الله، إذا كان الشخص يخاف على أولاده عند زيارة الأقارب، وذلك لسوء تربية أولادهم أو غير ذلك، فهل يعذر بعدم اصطحابهم وهل في ذلك قطيعةٌ للأرحام؟

    الجواب: إذا لم تكن هذه قطيعة فلا أعلم أي شيء هي القطيعة، المشكلة أننا في بعض الأحيان نكبر الأمور أكثر مما تستحق، إذا زرت الرحم وخفت على الأولاد، اجعل أولادك بجوارك، وتقول للولد لا تذهب من جواري، تأخذ بالأسباب، أما أن تفتي نفسك بأن تقطع الرحم، وتمنع أولادك من المجيء معك حتى لا يتعلمون صلة أرحامهم، فهذا أمرٌ غير جائز؛ لأن الأبناء ينشئون لا يعرفون من هم أبناء عمهم، وقد تجد الأخوين لا يعرف الواحد منهما أولاد أخيه، بسبب ماذا؟ بسبب القطيعة، وقد تجد بعض الأخيار يفعل هذا، ومعلوم أن الخيِّر وطالب العلم، والديِّن والمستقيم قدوة، فلا ينبغي أن يكون متخلقاً بقطيعة الرحم، فلا بأس أن تأخذ أولادك وتعودهم على أن يكونوا بجوارك وأن يجلسوا معك إن كان هناك خوف عليهم، فإذا رأيتهم تفلتوا منك، وخشيت أن يتأثروا فاجلس بقدر، بحيث لا يتأثرون بأخلاق أبناء الأرحام السيئة، كأن تزورهم قبل أذان المغرب بقليل فإذا أذن اصطحبت أبناءك، واعتذرت حتى لا يشعر الرحم أنك تريد القطيعة، أو أنك متوجس من زيارته، وتتخذ الأساليب الحكيمة، ولذلك ينبغي علينا أن ننتبه لأمرين:

    الأمر الأول: مرضاة الله عز وجل في القيام بالحقوق.

    الأمر الثاني: كسب الناس، فإنه ينبغي على الإنسان أن يهيئ كل الأسباب للقيام بحقوق الله، وكذلك كسب الناس للخير، فأنت إذا وصلت العم، أو العمة، أو الخال، وأتيت بأبنائك فسلموا على عمك، وعرفتهم بعمك، وعودتهم على حبه وإجلاله، كم لها في النفس من وقع وكم لها من أثر وهل ترضى أن أولاد أخيك لا يزورونك؟ وهل ترضى إذا كنت عماً أو خالاً أن تُعق ولا تزار، بحجة ما يكون في بيتك؟ نعم قد يكون في البيت إساءة؛ لكن تأتي بالأولاد إلى المجلس، وتعودهم على أن يكونوا بجوارك، تبذل كل ما تستطيع من الأسباب التي تحفظ أولادك، وإذا كنت تخشى أن الأولاد يتأثرون، بالإمكان أن تأمر أولادك أن يأتوا معك للسلام، ثم تأمرهم أن ينسلوا ويذهبوا خفية إلى السيارة، تتصرف، ومن أراد أن يتقي الله هيأ الله له الأسباب وسهلها عليه، لكن أن يقال: لا تجوز الزيارة، ولا يجوز أن تأخذهم معك، الله يأمر بالصلة والبر، ويقال: هذا لا يجوز! أو يجتهد الإنسان فيمنع أولاده من زيارة قرابته على هذه الصفة، حتى ينشأ أولاده لا يعرفون من هم القرابة إذا أرادوا أن يزوروا قرابتهم ليعرفوا من هم ومنعوا، فإنهم لن يتعرفوا عليهم. وهناك حل ثانٍ ذكره بعض العلماء، كان بعض العلماء يوصي في مثل هذه المسائل، بقوله: إذا أعيتك الحيلة عند زيارتك الرحم أن تحفظ حدود الله، وغلب على ظنك وقوع المحظور، فعليك أن تقوم بدعوة الرحم لزيارتك، فإذا دعوتهم لزيارتك فبيتك خالٍ من المنكرات، وحينئذٍ تستطيع أن تحقق صلتهم وبرهم، مع أمنك من الآثار والأضرار التي تخشاها، على العموم ينبغي على الوالد والوالدة، أن يحرصا على امتثال أمر الله بالصلة، أما الطريقة والكيفية فيجتهدان قدر الاستطاعة بتحقيق ما أمر الله به من الصلة، وحفظ الأولاد ورعايتهم عن الوقوع فيما حرم الله، والله تعالى أعلم.

    العقيقة عند الكبر

    السؤال: فضيلة الشيخ! إذا لم يُعِق الأب عن ابنه فهل يعق الابن عن نفسه إذا كبر؟

    الجواب: مسألة العقيقة قال بعض العلماء إن حديث: (كل غلامٍ مرتهن بعقيقته)، قالوا: إن هذا يدل على أنه مرتهن بالعقيقة، وحينئذٍ قالوا: لا تتقيد بوقت، بحيث إذا لم يُعق عنه في الصغر، يجوز أن يعق عن نفسه في الكبر، وهذا القول فيه نظر؛ لأنه لا يخفى أن الصحابة رضوان الله عليهم، لم يؤمروا بعد إسلامهم أن يعقوا؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن كونه مرتهن بالعقيقة، المراد به العقيقة التي جرى العرف بها بالزمان المؤقت، وهي العقيقة التي تكون في صغر المولود، إما في سابعه أو في الرابع عشر، أو الحادي والعشرين، على ظاهر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ وأما بعد ذلك فقالوا: إنها تفوت، كما أن الأضحية إذا فات وقتها؛ فهي صدقةٌ من الصدقات، ولكن إذا أراد أن يعق على نفسه على القول الأول الذي ذكرناه فحسن، لا حرج ولا بأس أن يعق على نفسه، ولكن أن يُفتى باللزوم فإنه محل نظر.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755945069