إسلام ويب

مقدمة الدورة العلمية الثالثةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العلم هو سر تقدم الشعوب ونهضة الأمم والمجتمعات، وقد حث الإسلام عليه في القرآن الكريم وعلى لسان نبينا عليه الصلاة والسلام، وحاجة الأمة إلى العلم حاجة ماسة وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الشبهات التي تحارب الدين وتسعى إلى تدميره.

    1.   

    بيان فضل ومنزلة طلب العلم

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة،وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    إن الله خلق الخلق لمهمة عظيمة وشأن جسيم، خلق الخلق لعبادته، قال جل في علاه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فأشرف ما يمكن أن ينشغل به المخلوق هو عبادة الله جل في علاه، ولن تستقيم عبادة امرئ ولن يستقيم دين امرئ إلا بالعلم، فقد قال الله تعالى مقدماً العلم على العبادة: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ [محمد:19]، فثنى بالعبادة ولم يقدمها على العلم.

    وقد قال علماؤنا: إن طلب العلم هو أشرف ما يمكن للمرء أن يتقدم به بين يدي عبادته، وإن العلم قد ذهب بشرف الدنيا والآخرة.

    قال الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة: هذا العلم الشريف من أراد به الدنيا أخذها، ومن أراد به الآخرة أخذها.

    ونقل أبو الوليد الباجي: عن إمام الأئمة أمير المؤمنين في الحديث الإمام الثوري أنه كان يقول: طلب العلم شرف في الدنيا وشرف في الآخرة.

    إن الله جل في علاه شرف خلقه الذين ورثوا عن نبيه صلى الله عليه وسلم هذا العلم ورفعهم رفعة ليس بعدها رفعة، قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، فأشهد الملائكة على أشرف مشهود في هذه الدنيا ألا وهو توحيد الله جل في علاه، والعلماء جعلهم الله جل في علاه في مرتبة الملائكة في هذا الإشهاد، وهذا الذي جر كثير من علمائنا أن يقولوا: إن العلماء تفوقوا على الشهداء بمرتبتين؛ ولذلك نقل عن الحسن البصري أنه قال: مداد العلماء يوم القيامة يوزن بدماء الشهداء.

    إن العالم شهيد وزيادة، فإن الله جل في علاه رفع العلماء منزلة تأتي خلف منزلة النبوة، قال الله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، الإجابة لا تحتاج لدقة نظر، فالإجابة: لا والله! لا يستوون.

    إن الله جل في علاه أمر نبيه بأمر عظيم جسيم، أمره أن يستزيد من العلم، وهذه سنة وفقه عال يعلمه كل فقيه وأريب لبيب عرف كيف يتعامل مع من فوق العرش.

    إن الله جل في علاه جواد كريم سبحانه، وطالب العلم المجد المتقن المتفقه بكيفية التعامل مع الله جل في علاه، يطمع كثيراً فيما عند الله، فإن خزائن الله ملأى لا تنفد أبداً، فرسول الله ما أصبح بهذه المنزلة إلا بمحض فضل ومنة من الله جل في علاه، قال تعالى: وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص:86]. وأبو بكر ما اعتلى عرش سيادة الصحابة وتقدم عليهم إلا بفضل ورحمة من الله جل في علاه، فقد قال الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] سبحانه جل في علاه، فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يستزيد من شيء قط إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وتأولها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فقام من الليل يصلي بسورة طه ثم يأتي إلى هذه الآية وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فيقف طويلاً ويقول: رب زني علماً، رب زني علماً، رب زني علماً.

    ولكم في شيخ الإسلام أسوة حسنة، كان قلما تشرق عليه الشمس إلا وهو في مكان مهجور يمرغ جبينه في التراب ويدعو الله مبتهلاً متذللاً متمسكناً خاضعاً، ويعلم أن ما يريد هو بيد الله جل في علاه، فيقول: اللهم يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني.

    إن طلب العلم هو أشرف ما يمكن للمرء أن تشرئب عنقه له، وقد أناط النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية بطلب العلم كما في الصحيحين-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فأناط الخيرية وجمعها وعلقها بطلب العلم، وهذه هي الجائزة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عندما قام من الليل وقدم له وضوءه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بدعوة عظيمة فقال: (اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فحاز بهذه الدعوة على الشرف في الدنيا والمرتبة الراقية في الآخرة.

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنهض الأمة بأسرها إلى أن يتعلموا العلم ويبلغوه.

    وورد عن عيسى أنه قال: من تعلم العلم وعمل به ونشره يدعى في ملكوت السماوات عظيماً، أرأيتم عظمة مثل هذه العظمة؟!

    وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه العلم سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فطريق الجنات بالعلم، وطريق التعبد لا يكون إلا بالعلم، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه ويبين لهم تفاوت المكانات بين الناس، فالناس منهم البر ومنهم الصالح، منهم العابد ومنهم العالم المجاهد، فيقول: (فضل العالم على العابد كفضلي -أنا- على أدناكم)، وفي رواية في السنن أنه قال (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، يالها من رفعة!

    إن المرء يسعد سعادة عظيمة إذا وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم من الأحكام، إذا طلب الحديث فلم يجده فاجتهد رأيه فوافق رأيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من توفيق الله جل في علاه ليبين الفرق بين العالم المتقن أو طالب العلم المجتهد الذي له النظر في الأدلة وبين المقلد، قال الله جل في علاه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ [النساء:83] أي: العلماء، والسياق يبين أن المقصود في الآية هم العلماء، قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

    وسأضرب لكم مثلاً رائعاً يبين لكم فرحة العالم بموافقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا من التعبد لله جل في علاه.

    سئل ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في مسألة، فقيل له: امرأة عقد عليها رجل ولم يبن بها فمات؟ فقال: لها المهر كاملاً، وعليها العدة، فقام رجل فقال لـابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بنت واشق بذلك. ففرح فرحاً شديداً، وخر ساجداً، وسعد سعادة كبير جداً عظيمة؛ لأنه وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إن منزلة العلماء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة راقية جداً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفاوت بين أصحابه ويميز العالم من غيره، ليتقدم العالم فيعلم الناس، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).

    إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً رضي الله عنه وأرضاه يعلم الناس في اليمن؛ لأن معاذاً كان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وورد في الحديث أنه: (يأتي يوم القيامة يتقدم على العلماء برمية حجر)، رضي الله عنه وأرضاه.

    فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستنهض أصحابه والأمة من بعد الأصحاب على الجد والاجتهاد في طلب العلم، فقد جاء إلى أبي بن كعب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! ما هي أعظم آية في كتاب الله؟ فقال له: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره ضربة وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر! ليهنك العلم أبا المنذر!).

    والعلماء موجودون الآن في عصورنا بذكرهم الحسن أمامنا الآن، فما زلنا ليلاً ونهاراً نتحدث عن البخاري وما الذي بوأ البخاري هذه المنزلة؟ وما الذي جعل ذكر البخاري لا ينقطع إلى يوم الدين.

    إن البخاري بطلبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقه الغالي والنفيس من أجل أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الله ذكره فهو في أسمى المنازل وأرقى المراتب، وما زال الناس في أماكن من صعيد مصر يقسمون بكتاب البخاري كأنه المصحف، وذلك لجلالة قدره!

    البخاري هو أمير المؤمنين في الحديث، وجبل الحفظ، وعلم من أعلام الأمة، وطبيب العلل، إني أمتلئ شرفاً عندما يذكر لساني اسم هذا الرجل، ويمتلئ الناس شرفاً عندما يتكلمون عن البخاري أو يذبون عن كتاب البخاري ، دعوكم من السفل الرعاع الذين يتهجمون على البخاري أو يتكلمون بما لا يعرفون، فإن البخاري تبوأ منزلة من أرقى المنازل؛ لطلبه للعلم وتعظيمه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    و أحمد بن حنبل قال فيه إسحاق : إن الله ثبت هذا الدين بـأبي بكر في الردة، وبـأحمد في فتنة خلق القرآن.

    و الشافعي قال فيه أحمد نفسه: الشافعي للناس كالشمس للدنيا والعافية للبدن، والذي أعلى شأن الشافعي وجعل الناس الآن جموعاً كثيرة يتعلمون مذهب الشافعي أو مذهب مالك العلم الذي رفع هؤلاء الرجال فوق رءوس الناس.

    و عمر بن الخطاب عندما سأل عن والي مكة: من وليتم على مكة ؟ قالوا: فلاناً، وكان مولى من الموالي، قال: تجعلون مولى من الموالي رأساً على الناس، قال: إنه يحفظ القرآن ويعلم المواريث، قال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويخفض به آخرين)، فإن العلم يعلي شأن من يجد ويجتهد ويطلب هذا العلم ليتعلم ويرفع الجهل عن نفسه ويرفع الجهل عن الآخرين، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).

    1.   

    الطريق الذي يصل به المرء إلى العلم

    نتكلم الآن عن أمرين اثنين:

    الأمر الأول: إن كان العلم بهذه المنزلة الراقية وهذه المكانة الرفيعة فلا بد من معرفة المنهج الأسمى والطريق الذي يصل به المرء إلى هذا العلم.

    إنه طريق واحد ليصل المرء كما وصل البخاري وغير البخاري ، أصل هذا الطريق وركنه الركين وأساسه أن تعرف لأهل الفضل فضلهم، وأن تعرف لأهل العلم قدرهم، وأن تجل العلماء حتى تجل بعد ذلك، واعلم أن الله جل في علاه يغار على أوليائه، وأنه ليس لله أولياء غير العلماء كما قال الشافعي : لا أعلم أولياء لله غير العلماء، فأنت إن علمت قدر منزلة العلماء وأنزلتهم منازلهم، وأعطيت لكل صاحب فضل فضله، كان هذا هو الطريق الذي يمكن أن تصل به إلى الرقي وإلى رضا الله جل في علاه.

    وفضل العلماء ينبثق من قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    يروى أنه دخل علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم -يلتفت- لأي مكان يجلس فيه علي ، فوسع أبو بكر له وقال: هاهنا يا أبا الحسن ، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لـأبي بكر وقال : (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).

    وفي مقدمة صحيح مسلم عن عائشة قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم).

    وكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعرف لأهل الفضل فضلهم؛ ولذلك أصبح علماً في الناس والناس يرجعون إليه، وكان حبر الأمة وبحر العلوم رضي الله عنه وأرضاه، وإذا تصفحت في تاريخ طلبه للعلم علمت أنه كان يعرف لكل صاحب فضل فضله، فكان ينام على عتبات أبواب بيوت صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذات مرة أخذ بخطام ناقة زيد بن ثابت وكان من أجل شيوخه وعلمائه فقال له زيد : يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة، فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال: يا ابن عم رسول الله! اترك الناقة وهو يقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فينزل زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه فيأخذ بيده ويقبلها ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يجل أبي بن كعب إجلالاً عظيماً ويقول: أبي سيد المسلمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في المسند- : (وأقرؤهم أبي)، وكان يجمع الناس عليه.

    و عمر بن الخطاب له هيبته وجلالة قدره ومكانته، فكان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقول: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر سؤالاً ولم أستطع من هيبته ومن إجلال قدر عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    وهذا في سلفنا كثير، فـأحمد بن حنبل كان يوقر الشافعي ، فقد كان أولاً ينهى الناس عن الشافعي ، وكان يحسب أن الشافعي كان ينشغل بالقياس والرأي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعدما علم الشافعي وجلالة قدر الشافعي كان يسير خلف بغلة الشافعي ، فينكر الناس عليه ويقولون: أنت تنهى الناس عن الشافعي وتمشي خلف البغلة! قال: اسكتوا، والذي نفسي بيده! لو مشيت خلف البغلة لتعلمت من الشافعي علماً، يجل قدره.

    وفي السير أن الشافعي لما نزل في بلد أحمد كان بيته مقابلاً لبيت أحمد ، فكان لا يمد رجله إلى مقابل هذا البيت الذي يسكنه الشافعي ؛ أدباً وإجلالاً لقدر الشافعي ، فكانوا يعرفون أقدار بعضهم.

    وهذا يحيى بن معين علم من أعلام الأمة، رجل ترتعد فرائص المحدثين بوجوده؛ لأنه يكتب الجرح والتعديل، وعلي بن المديني كان يقف بجانب يحيى وإمام أهل السنة والجماعة يقفون الثلاثة وكان يجلس يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن المهدي ، قال العلماء: إن وثق ابن القطان وابن مهدي أحداً فعضوا عليه بالنواجذ، فكان يقف أحمد ويقف يحيى بن معين وعلي بن المديني وهؤلاء أعلام الأمة يقفون أمام ابن القطان كالأطفال لا يتجرأ أحد منهم أن يسأل ابن القطان.

    ودخل ابن المبارك على المعتمر بن سليمان وكان يحدث الناس فسكت، فقام الطلبة فقالوا: أكمل حديثك، فقال: نحن لا نتحدث عند كبرائنا.

    وكان الثوري جالساً في مجلس التحديث فدخل عليه أبو حنيفة فقام الثوري فقال الطلبة: لم تفعل ذلك؟ فقال: إن لم أقم لعلمه قمت لسنه؛ احتراماً لأهل العلم وتوقيراً لجلالة قدر العلماء، فطالب العلم -ورب السموات- لن يصل إلى العلم إلا بإجلال العلم وإجلال العلم لا يكون إلا بإجلال حملة هذه الشريعة.

    قال بعض السلف: اجعل أدبك دقيقاً، واجعل علمك ملحاً، فلابد لطلبة العلم أن يتصفحوا التاريخ وينظروا في سير العلماء وكيف كانوا يوقرون العالم؛ ويعرفون منزلته وفضله.

    1.   

    التحذير من تعظيم أحد وتقديمه على رسول الله

    لو سألت أحد طلاب العلم: هل تقدم أي شيء على النبي صلى الله عليه وسلم؟ سيجيب: والله ما أفعل، ولا أستطيع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المسلمين، ولا أقدم أحداً عليه، ولكن قد يقدم العالم الفلاني عليه دون أن يشعر!

    دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه على الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فقرأ عليه: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فقال: والله! ما عبدناهم من دون الله، أي: لم نسجد ولم نركع لهم، ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليزيل هذه الدهشة فقال له : (أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم في ذلك، فتلك عبادتكم لهم)، فإذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، وشيخك قال كذا، فلا تقدم قول الشيخ على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليك أن تخالف قول شيخك إذا كان مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فرسول الله يقدم على أي أحد، وهذا دأب علمائنا، ونحن كلنا على ذلك.

    1.   

    أمثلة تبين تعظيم السلف للرسول وللعلماء

    إليكم الأمثلة التي تبين أن السلف كانوا يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجلون قدر العلماء تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هذا زيد بن ثابت عالم الأمة وفرضي هذه الأمة، الذي كان متقناً في كل شيء، في الفرائض وفي الحلال وفي الحرام، كان ابن عباس ذليلاً بين يدي زيد بن ثابت كما قدمنا، وكان يتعلم عليه العلم، وابن عباس خالف زيد في مسألة من المواريث فـزيد كان يقول بأن الجد يشارك الإخوة، وابن عباس يرى أن الجد ينزل منزلة الأب، فقالوا له: كيف تقول بذلك وشيخك زيد يقول بغير قولك؟! قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: ألا يتق الله زيد؟! أما علم أن الله جل في علاه قال: مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ [يوسف:38]؟! فيوسف سمى إبراهيم أباً له وهو يعتبر جداً له فأنزله منزلة الأب.

    و عائشة رضي الله عنه وأرضاها خالفت كثيراً من الصحابة بل استدركت على كثير من الصحابة، وهذا لم يوجد الشحناء بينهم بحال من الأحوال.

    وكثير من أهل العلم خولفوا من طلابهم، فهذا الشافعي تعلم على يد مالك ومالك هو الذي نصحه وأعطاه ومنحه العلم ومع ذلك لما نزل مصر أظهر كتاباً كاملاً اسمه اختلاف مالك ، وهذا لم يؤثر في مكانة الشافعي ولم يؤثر في مكانة مالك ، وما زال الناس يتبعون الإمام مالك وما زال الناس يتبعون الشافعي ، يعظمون هذا ويعظمون هذا.

    والإمام أحمد خالف شيخه الشافعي الذي قال فيه: الشافعي للناس كالعافية للبدن والشمس للدنيا، ومع ذلك خالف الإمام الشافعي .

    وهذا الإمام العلم الإمام النووي ، قالوا عنه: لا يخرج عن الشافعية بحال من الأحوال، لكنه عندما يرى الدليل خلاف مذهب الشافعية يخرج عن الشافعية، فقد خرج عن الشافعية في أكثر من مسألة، ومن هذه المسائل:

    الوضوء من لحم الجزور وهي مسألة خلافية عريضة بين العلماء، فالإمام الشافعي والجمهور يرون أن حديث جابر ناسخ فلا وضوء من لحم الجزور، والإمام أحمد يرى الوضوء من لحم الجزور، فخرج النووي عن الشافعية من أجل الأثر والدليل، وما أحد عاب عليه ذلك ولا ذمه في ذلك.

    فيجب علينا أن نتعبد لله جل في علاه بتوقير علمائنا ومعرفة جلالة قدرهم، ونعرف لهم حقهم، لكننا نعرف أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقه، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم حقه، والمرء الذي من الله عليه بالطلب إذا قلد فقد ازدرى نعمة الله عليه.

    إن الإمام ابن دقيق العيد كان على فراش الموت فكتب كتاباً، قالوا: إن هذه وصية لابد أن تنفذ، فبعد ما مات ابن دقيق العيد أخذوا هذا المكتوب فنظروا فيه فوجدوه يؤلف رسالة في تحريم التقليد، فهؤلاء العلماء يخرجون كثيراً عن أصل المذهب إذا رأوا الدليل إلى ذلك.

    و ابن عبد البر لا يخفى على أمثالكم فقد كان مالكياً يشرح كتب الإمام مالك وابن عبد البر أخذ بحديث البيعان بالخيار وهو لا يأخذ به الإمام مالك ، فخالف مالكاً ووافق الجمهور في هذه المسألة.

    حتى شيخ الإسلام احتار فيه بعض العلماء هل هو حنبلي أم مجتهد اجتهاداً مطلقاً؟ والغرض المقصود أنه خالف الإمام أحمد، وخرج عن المذهب في مسائل شتى، وكان يعظم كثيراً الدليل، فخرج عن الإمام أحمد في مسألة استلحاق ولد الزنا، فلو أن رجلاً زنى بامرأة وبعد ما زنى بها تاب وتابت وهي حامل فأراد الزواج منها، فالصحيح أنه لا يتزوجها إلا بشرطين اثنين: بعد التوبة وبعد العدة أي: بعد أن تضع، فقال الإمام أحمد: له أن يستلحق هذا الولد، يعني: ينسب له، وهذا مخالف لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عموماً ومطلقاً: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فلا ينسب له، وقد خالف ابن تيمية الإمام أحمد؛ لأنه رأى أن هذا الدليل هو الدليل الأثري الصحيح الذي يوافق النظر.

    و ابن القيم كان يعظم شيخ الإسلام تعظيماً كبيراً ومع ذلك خالف شيخ الإسلام في مسألة الاستعانة بالجني المسلم على إخراج الجن، وشيخ الإسلام ابن تيمية اشتهرت عنه هذه المسألة وتابعه عليها الشيخ صالح بن عثيمين من المعاصرين رحمة الله عليه رحمة واسعة، فقد كان يقول بصحة الاستعانة بالجني المسلم، ويحتج على ذلك بحديث عن أبي موسى الأشعري ليس هذا مجال التفصيل فيه.

    والغرض المقصود أن ابن القيم خالف شيخه وبين عدم جواز الاستعانة بالجن؛ لأنه غائب، ولا بد أن يكون حياً حاضراً.

    و محمد بن الحسن من أعلم الناس ومن أنجب تلاميذ الإمام أبي حنيفة وخالف أبا حنيفة مسائل كثيرة وجد أن النظر أقوى مما تبناه أبو حنيفة .

    و ابن عثيمين أفتى في مسألة مهمة جداً تشغل جميع طلبة العلم وهي مسألة هل كل مكة حرم أم المسجد الحرام فقط؟ فالشيخ ابن باز يرجح قول الجمهور بأن كل مكة حرم، وله أدلة كثيرة لست بصدد الكلام على هذه المسألة الفقهية، فهو يرى أن كل مكة حرم، فمن صلى في مسجد يبعد أميالاً عن المسجد الحرام وهو في الحرم فإن صلاته بمائة ألف صلاة، وأما الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فيرى أن مائة ألف صلاة لا تكون إلا في المسجد الحرام، ودليله ما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة في مسجد الكعبة بمائة ألف صلاة) قال: فقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالكعبة، لكن هذا فرد من أفراد العموم لا يخصص، فخالف شيخه ابن باز؛ لأنه رأى أن الدليل والأثر مع قوله مع إجلاله واحترامه لهذا الشيخ.

    1.   

    حاجة الأمة إلى العلم

    أختم بحاجة الأمة إلى العلم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وأكثر المبتدعة في هذه الآونات من الظهور في المرئيات والسمعيات، وكثر الكلام عن الأصول والثوابت الراسخات، ومن ذلك الطعن في حديث رضاع الكبير والجدل في ذلك ونحوه.

    فهذا كله يحدوا بأمثالنا أن نطلب العلم ونجد في الطلب حتى نقف راسخين أمام الشبهات التي يخر صريعاً أمامها كثير من طلبة العلم، فكثير من الشبهات التي خرجت علينا يجب على أهل العلم أن يردوها ما استطاعوا، وأن يجيبوا عنها.

    أسأل الله جل في علاه أن ينفعنا ويرفعنا وييسر علينا الطلب، وأن يثبتنا على هذا الطريق القويم.

    وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756037135