وبعد:
يحتاج المسلم وهو يسير في هذه الحياة ويقطع مراحلها ويشهد تقلباتها .. يحتاج إلى غذاء وزاد، وما هذه الجلسات الإيمانية والدروس العلمية التي يحرص عليها المؤمن إلا زاداً يزيد المسلم والمؤمن قوة، ويمده بتأييد وعون حتى يستطيع مواصلة السير في ثبات وقوة وأمان واستقرار؛ لأن العوائق والموانع كثيرة، والمثبطات والمؤثرات كثيرة جداً، وما لم يتولاك الله برعايته ويحميك بعنايته بعد أن تقبل عليه، وتبحث عن أسباب النجاة بين يديه، وتعود وتعاود، وتكرر الجلوس في بيوته، وإلا فإن الإنسان عرضة للانزلاق وللخطر والهلاك في هذا الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بغربة الدين في آخر الزمان، ولكن بالمداومة على مجالس الذكر وبسماع العلم ينشط القلب ويستمر في السير؛ ولذا فإن من أهم ومن ضروريات حياة المؤمن أن يحرص على هذه المجالس، وهي لا تشكل مشكلة من فضل الله، وما هي إلا وقت بسيط ويسير بين المغرب والعشاء مرة أو مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع، لو قست ساعات الجلوس فيها على ساعات الأسبوع كاملة لكانت النسبة ضئيلة، ولكن فيها بركة وخير تستطيع بها -إن شاء الله- أن تثبت على الطريق وأن تسير على خطا قوية ثابتة تعرف كيف تعبد الله وتسير إلى إليه وتتجنب المخاطر والمعاطب والمعوقات حتى تصل إلى الله بسلام.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يثبتنا وإياكم على السير في هذا الطريق، وأن يحمينا وإياكم من المعوقات حتى نلقاه وهو راض عنا إنه على كل شيء قدير.
وهذه العوالم ما كان منها في عالم الغيب أو عالم الشهادة فإنها في حركة دائبة لا تتوقف ولا تهدأ، وستبقى على هذا الحال في حركتها إلى أن يأتي اليوم الذي يأذن الله تبارك وتعالى بفناء العالم وهلاك من على وجه الأرض حين يقول: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27] ويقول عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] وهذا الحدث سيكون عندما يأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فتنتهي الحياة في الأرض وفي السماء .. وتنتهي جميع عوالم الأرض والسماء المشاهدة وغير المشاهدة، يقول عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:68-70].
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:72] نعوذ بالله جميعاً من هذا المصير!
وأما أهل الإيمان -جعلنا الله منهم- فيقول الله تعالى فيهم: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73] أي: مجموعات، لتبدو رحمة الله عليهم..؛ الشهداء مع الشهداء، والنبيون مع النبيين، والصالحون مع الصالحين، الأولياء مع الأولياء، وأهل الصيام مع أهل الصيام، وأهل الزكاة المتخصصون الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله سواء مع بعضهم؛ ليعرف الواحد أنه ليس لوحده في هذا المجال وليس لوحده في هذا الطريق، بل معه المجموعة الكبيرة من عباد الله، فيأنس ويفرح إن كان من هؤلاء الناجين -نسأل الله وإياكم من فضله-.
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر:73] الأمن والطمأنينة والسلام عليكم؛ لأنكم سلمتم من عذاب الله، فقد سالمتم الله في الدنيا، وما تعرضتم لمساخط الله، ولا اجترأتم على حرمات الله .. عشتم في الدنيا في سلام ومتم في سلام وبعثتم في سلام، فالسلام والأمن عليكم، طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]؛ لأنكم كنتم طيبين في الدنيا، طابت أعمالكم، وأخلاقكم، وسلوككم، وعقائدكم، وعبادتكم، وحياتكم، وبيوتكم، وأسماعكم، وأبصاركم، وفروجكم .. كنتم طيبين لا تقعون إلا في الطيب (طِبْتُمْ) أي: في الدنيا، نسأل الله من فضله.. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ [الزمر:74] يقول أهل الجنة هذه الكلمة بعد أن يبشروا بالجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ [الزمر:74]؛ لأن المؤمن معه وعد من الله إلى الآن ولا يدري ماذا عليه، لا يدري هل يحقق الله له وعده بدخوله الجنة إذا سلم من الآفات، أم يردَّ عمله عليه بسبب منه وإن الله لا يظلم أحداً! الله لا يظلمك ذرة .. لكن قد يكون المانع منك أنت، فقد تعمل عملاً وتفسده، وقد تعمل عملاً تظن أنه صالحاً وهو غير صالح، ليس لوجه الله، ولكن اعمل واجتهد واجتنب أمرين: الشرك، وهو الرياء، فهو الذي يحبط العمل، والمخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واجعل عملك خالصاً وصواباً، وثق بأن الله لن يضيع عملك؛ لأن الله تعالى يقول: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195].
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74]* وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:75]، نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم وآباءنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا وجميع إخواننا المسلمين من هذه الزمر الناجية التي تساق إلى الجنان سوق التكريم والتشريف مع عباد الله الصالحين، إنه على ذلك قدير.
وفي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً)والليت: هو الرقبة؛ صفحة العنق. وأصغى، أي: أمال، فأنت عندما تريد أن تسمع كلاماً كثيراً تميل رأسك وتركز من أجل سماع الصوت، فما يسمع هذه النفخة أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله)أي: ينظف الحوض الذي تشرب فيه الإبل، فقال: (فيصعق ويصعق الناس من بعده)
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد فقال: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه) أي: شخص يشتري ثوباً فينشر الثوب لكي يراه وهو بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه من سرعة الأمر.. (ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه) أي: أخذ اللبن من الناقة فلا يذهب به إلى بيته ليطعمه.. (ولتقومن الساعة وهو يلوط حوض إبله فلا يسقيها، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها) والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه.
الصور في لغة العرب: القرن، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ففسره بما يعرف العرب من كلامهم، وفي سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة ومسند أحمد ومستدرك الحاكم ، وقال الحاكم : هذا الحديث صحيح الإسناد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي سأله: (ما الصور؟ قال: الصور قرن ينفخ فيه، وهو حاوٍ لجميع أرواح العباد) هذا الصور ما من روح تخرج من جسد إلا وتذهب إلى هذا الصور، لها محل تستقر فيه إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه النفخة الثانية، أما النفخة الأولى فهي نفخة الصعق، والناس لا يخرجون مع النفخة الأولى، إنما يخرجون مع النفخة الثانية، قال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
والنافخ في الصور المشهور عند أهل العلم أنه ملك من الملائكة العظام وهو إسرافيل عليه السلام، وقد وقع التصريح باسمه في أحاديث، منها: حديث أبي هريرة في حديث الصور الطويل الذي صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
وإسرافيل ملك عظيم، والملائكة كلهم ضخام غلاظ، يعني: لهم خلقة تختلف عن خلقة البشر، وما البشر بالنسبة لهم إلا كالذر بل أصغر من الذر؛ إذا كان الواحد من حملة العرش يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم والحديث ذكره الإمام السيوطي في صحيح الجامع ، يقول: (أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) وفي بعض روايات الحديث: (خفق الطير) أي: سرعة الطير، هذه رقبته التي هي عندنا تساوي (5سم) أو أربع أصابع .. رقبتي ورقبتك! أما الملك فطول رقبته مسيرة سبعمائة عام، وفي الأحاديث الصحيحة حينما وصف النبي صلى الله عليه وسلم جبريل شديد القوى؛ أخبر أن له ستمائة جناح، وأنه فرد اثنين منهما حين جاء بالوحي فسدَّ ما بين الخافقين، أي: ما بين المشرق والمغرب انحجب باثنين من الأجنحة، وبقي خمسمائة وثمانية وتسعون جناحاً، وأن جبريل حينما أرسله الله لتعذيب وتدمير قرى قوم لوط غرس جناحه فدخل في الأرض إلى أن استقر في الأرض السابعة، ثم حملها بقراهم ومدنهم وبكل ما معهم حتى الكلاب والقطط، إلى أن بلغ بهم عنان السماء على جناحه ثم قلبها عليهم! قال الله تعالى: مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ [التحريم:6] وورد في بعض الآثار صفة إسرافيل هذا: (أن رجليه تحت تخوم الأرض السابعة، وركبتيه في السماء السابعة، والعرش على كاهله، ورقبته ملوية تحت العرش، وقد قدم رجلاً وأخر أخرى، وعين في الرحمن وعين في الصور ينتظر الأمر من الله عز وجل بالنفخ في الصور) حتى ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه ليلة الإسراء والمعراج قال: (إني ظننت من تأهبه أني ما أبلغ الأرض حتى تقوم الساعة) وذلك لاستعداده، وقال في حديث آخر: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إسرافيل مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله عز وجل، ففي مستدرك الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن طرف صاحب الصور منذ خلق مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان) العين مثل الكوكب الدري، وهو النجم الكبير! إذاً كيف الرأس؟ وكيف الجسم؟! مهما تتصور فلن تقدر على تصوره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنه منذ خلقه الله ووكل بالنفخ في الصور وعينه في الله عز وجل؛ يخشى أن تغيب عينه طرفة واحدة فيؤمر بالنفخ) ولذا فهو مستعد دائماً، والحديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وهذا الكلام يقوله النبي صلى الله عليه وسلم قبل (1400) سنة، وأما في زماننا هذا وبعد هذه السنين الطويلة الذي اقتربت فيه الساعة وحدثت فيه أشراطها وعلاماتها فقد أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور، فقد روى ابن المبارك، والترمذي، وأبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم -أي: كيف أستريح وأستقر- وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ! فقال الصحابة لما سمعوا الخبر: كيف نقول يا رسول الله؟) أي: إذا نفخ في الصور ونحن موجودون معك كيف نقول؟ لأنهم تصوروا أنه من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمكن أن ينفخ تلك الليلة أو غداً أو بعده -يعني: قريباً- قالوا: (كيف نقول يا رسول الله! قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله).
ولما كانت القيامة لا تقوم إلا يوم الجمعة فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جميع المخلوقات في كل يوم جمعة تكون خائفة مشفقة وجلة مصيخة مذعنة إلا الجن والإنس، وهما المعنيان بالقيامة، ولكن بالرغم من هذا فهم غافلون؛ لا يتنبهون ولا يتورعون، بل يجعلون يوم الجمعة يوم الفسحة والتمشية والنزول إلى البحر وضياع صلاة الجمعة، وللأكل والشرب واللعب والسهر، يسهرون طوال الليل إلى الفجر، وبعد ذلك ينامون من بعد الفجر إلى العصر، ولا يعرفون لله أمراً ولا نهياً في هذه النزهات إلا من رحم الله.
نحن لا نقول: لا يتنزه الناس، لكن لتكن النزهة في يوم الخميس، أما يوم الجمعة فيوم عبادة، وما أعطتك الدولة يوم الجمعة عطلة أسبوعية إلا لتتفرغ لعبادة الله، ولكي تبكر في يوم الجمعة من الصباح، فتغتسل وتتطهر وتتنظف وتتطيب وتلبس ملابسك وتأتي إلى الجمعة في الصفوف الأولى، وتقرأ سورة الكهف، ثم تصلي ما شاء الله لك من النوافل، ثم تقرأ العديد من الأجزاء، ثم إذا دخل الخطيب تنصت للخطبة، ثم تخرج من الصلاة وقد امتلأ قلبك إيماناً وعلماً وهداية ونوراً، فتسير في الأرض على ذكر الله، قال الله تعالى فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الجمعة:10] فقد أمر الله بذكره بعد الصلاة مع السير في الأرض، أما الذهاب وقضاء ليلة الجمعة ويومها في الغفلة فيمكن أن تقوم الساعة وأنت على معصية الله والعياذ بالله!
ورد الحديث في سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه هبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي موصخة -أي: منتظرة وخائفة ووجلة- يوم الجمعة من حين تطلع الشمس، حتى تغرب إشفاقاً من الساعة إلا الجن والإنس).
وجاءت الأحاديث النبوية الصحيحة مصرحة بالنفختين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا
وفي صحيح مسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثم ينفخ في الصور فلا يسمع أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، فتنفخ منه أجساد العباد -ينزل مطر بعد النفخة- ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون).
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: [ثم يقوم ملك بين السماء والأرض فينفخ في الصور -والصور قرن- فلا يبقى خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا ما شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون] وروى أوس بن أوس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه الصعقة، وفيه النفخة) فدل الحديث على أن النفخة شيء والصعقة شيء آخر، فالصعقة هي الأولى والنفخة هي الثانية، وقد رجح هذا الأمر معظم العلماء الذين استدلوا على ذلك بالآيات والأحاديث التي سقناها.
وذهب بعضهم إلى أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. ولكن الصحيح الذي تسنده الأدلة أنها نفختان؛ للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك.
اختلف العلماء فيهم ومن هم هؤلاء الذين قال الله فيهم: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] فذهب كثير منهم وهو رأي الإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية رحمهما الله إلى أن المراد بهم: الذين في الجنة من الحور العين والولدان، فإن هؤلاء لا يصعقون من ذلك، يقول ابن تيمية : وأما الاستثناء فهو يتناول ما في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، فالذين في الجنة من الحور العين والولدان المخلدين ليس فيها موت حتى يموتوا، ولذا يصعق كل من على وجه الأرض، أما الذين في الجنة فإنهم لا يموتون.
وقد ذهب بعض العلماء إلى مذاهب شتى في غيرهم، ولكن يقول بعض أهل العلم: الأولى بالمسلم التوقف في تعيين من استثناهم الله؛ لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على تقسيمهم، وإنما هي فقط اجتهادات من أهل العلم.
وقال بعضهم: إنهم إسرافيل وميكائيل وجبرائيل وعزرائيل ملك الموت، ثم يأمر الله عز وجل ملك الموت فيقبض روح إسرافيل ويقبض روح جبرائيل ويقبض روح ميكائيل، ثم يقول الله له: من بقي؟ فيقول: ما بقي إلا أنت الحي القيوم وبقي عبدك. أي: بقي هو الذي يقبض أرواح الناس، فيقول الله له: لتذق ما أذقت الناس، لتمت. فيموت .. فلا يبقى أحد! فيقول الله تعالى: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يرد عليه أحد، فيقول الله ويرد على نفسه: لله الواحد القهار. وبعدها يحيي الله عز وجل إسرافيل، ثم يأمره بالنفخ فيحيا من على وجه الأرض.
وهذه الأقوال وردت في كتب أهل العلم، ولكن الصحيح الذي يطمئن إليه القلب: أن يسلم المسلم ويتوقف في التعيين؛ لعدم وجود الدليل المصرح الذي ينص على المراد بهؤلاء الذين استثناهم الله.
هذه الأشياء هي كل ما يتعلق بالنفخ -نفخة الصور- وما بعده من الأهوال سيكون موضع -إن شاء الله- موضوع المحاضرات أو الدروس القادمة، ونكتفي بهذا.
ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يؤمننا وإياكم يوم الفزع الأكبر، وأن يجعلنا وإياكم ممن يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الجواب: هذه من الأمور التي حدثت في هذا الزمان وعمت وانتشرت وطمت، وقد صدرت الفتاوى من العلماء: بأن هذا الأمر غير جائز، وأنه منكر ومحرم، ولا ينبغي قبوله ولا السير مع الناس فيه، للأحاديث: روى الإمام أحمد في المسند حديثاً عن جرير بن عبد الله البجلي قال: [كنا نعد الجلوس للعزاء وصنع الطعام في بيت الميت جزءاً من النياحة] والنياحة هي: إظهار أي مظهر للتبرم والاعتراض على قضاء الله وقدره في الموت؛ إما بشق الجيوب، أو بلطم الخدود، أو بنتف الشعور، أو برفع الأصوات، أو بالتجمع وتعطيل الأعمال والجلوس؛ الجماعة كلهم يقعدون من أولهم إلى آخرهم، كل شخص يستأذن من عمله ويعطل دكانه ومزرعته ويجلس.. لماذا لم تداوم؟ قال: العزاء عند بيتي، كيف أدعهم وأذهب؟ فالجلوس هنا جزء من النياحة؛ لأن الناس في تجمهرهم وتجمعهم كأنهم يعترضون على قضاء الله وقدره، وهذا لا ينبغي، فكيف يعزى إذاً؟ قالوا: كان السلف يعزي بعضهم بعضاً في المقبرة وفي الطريق وفي المسجد وفي السوق، وحتى صاحب العزاء كان لا يجلس، بل كان يرجع من المقبرة ويذهب إلى مزرعته، ولا يقول: سوف أذهب فإن الناس سوف يأتوني، وإذا جاء أحد وسأل في البيت عن صاحب العزاء قيل له: هو في المزرعة، ثم يذهب ويعزيه في المزرعة.
ولكن ما يحدث الآن من نصب الخيام، وفرش الفُرُش، وإيقاد الأنوار، وتجمعات الناس .. وبعد ذلك توضع قائمة للأكل: الغداء خروفان، والعشاء خروفان، والفطور خروفان.. هذا لم يعد عزاءً! أصبح حفلاً! وليمة! لو بعث الميت من قبره وجاء ودخل البيت ورآهم في هذه الحفلة، سيتصور أن أحداً تزوج في بيته أو أن عنده شيئاً من الأفراح، فإذا قالوا له: لا والله. ما عندنا زواجاً؛ ولكن تجمعنا لنأكل الخرفان لأنك مت، نذبح خروفين غداء وخروفين عشاء على رأسك، فماذا سيقول هذا المسكين؟ سيقول: حسبي الله ونعم الوكيل، كنت أتصور أنكم إذا مت لن تأكلوا الطعام وإذا بكم فرحتم بموتي وذبحتم الأغنام فرحاً وعيداً بموتي.
فلا ينبغي هذا -يا أخي المسلم!- وإذا حصل هذا وجلسوا عندك فقل لهم: يا جماعة، لا يجوز لكم الجلوس، أنا أشكر لكم حرصكم ومواساتكم ورغبتكم في أن تقوموا باستقبال الضيوف أو المعزين، لكن سألت العلماء فقالوا: لا يجوز، فالآن أطلب من كلٍّ منكم أن يذهب إلى عمله. سوف يشكرونك ويقولون: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً، وكل شخص يريد الخروج، الكل يريد أن يذهب إلى عمله، لكن بعضهم يجلس خوفاً من العار، حتى أن شخصاً في قرية من القرى أخبرني أنه جاءه ضيوف في بيته وكان في العزاء فأرسلوا إليه الأولاد في العزاء قالوا: الضيوف في البيت. فأراد أن يأتي ليرحب بهم، فأتى إلى راعي العزاء وقال: جاءني ضيوف وأرسل إليَّ الأولاد، يقولون: الضيوف على الباب، هل أذهب أم لا؟ قال: والله لو تذهب خطوة واحدة فلن آتي إلى بيتك مدى الحياة.. والرجل مسكين، يقول: فخفت أن أقطعه وأعمل لي مشكلة فرجعت إلى أولادي وقلت لهم: قولوا لهم: الرجل في العزاء لن يأتي، وأنا والله كنت من الضيوف، ولم يأت الرجل، ثم ذهبنا.
وقد حصل هذا عند كثير من الناس، أخ من الإخوة لما توفي عمه وجاء إليه الناس والجيران وعزوه، قال لهم: جزاكم الله خيراً، وبارك الله فيكم، والله يحفظكم ولا يريكم مكروهاً، لكن اعلموا أنه لا يجوز الجلوس، لا أنا سأجلس ولا أنتم ستجلسون، تفضلوا في أمان الله. فقالوا: الله يبارك فيك ويريحك، والله إننا نحمل همها؛ لأنه دائماً قيام وقعود، أي: كلما دخل شخص قالوا: أهلا بمن جاء، ثم يقومون ويقعدون، وهكذا، وبعضهم لا يأتيه المغرب إلا وقد تعبت عظامه من النهوض والقعود، مع أنها ليست في ديننا مما يثاب عليه الإنسان؛ وإنما هي عادة سنها الشيطان ولا داعي لها.
فعليك إذا حصل عندك عزاء في بيتك أن تعتذر للناس، وإذا حصل عند جار لك أن تأتي إليه وتقول له: العزاء الذي عندك علي، وأنا أواسيك، وأسأل الله أن يغفر لميتك، وأنا لن أذهب لأداوم أو أذهب إلى عملي أو إلى مزرعتي من أجل أن أتركك، ولكنا سألنا العلماء عن الجلوس فقالوا: لا يجوز، فأرجو أن تعذرني وتعذر بقية الإخوان. فإن عذرك فالحمد لله، وإن أبى وقال: لا. لا أعذرك. فرب العالمين يرضى عليك، وعليك أن ترضي الله.. (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
أما الطعام الذي يصنع فإن السنة أن يصنع الجيران طعاماً لأهل الميت؛ فإذا حصلت وفاة في بيت فعلى الجار أن يقول: يا إخوة: الغداء عندي اليوم، والله لا تصنعون في بيتكم شيئاً ولا تشبون ناراً، ثم يأتيهم في الظهر ويأتي لهم بنصف ذبيحة أو ذبيحة كاملة ويضعها في صحنين ويدخلها على أهل البيت: صحن للرجال وصحن للنساء، ولا يذوقه في البيت رجل من الضيوف، أو من القرية، إنما هو لأهل الميت، أما الطعام الذي يحصل الآن فإنه للجماعة، يأكلونه كلهم، وكل من أتى من هنا قالوا: هناك غداء فاذهب، هذا ليس لك! هذا هو دارك، هذه بدعة،وبعد ذلك أهل البيت ما يأتيهم شيئاً، وإن أتاهم شيئاً أتتهم العظام والصحون وغسلوا ونظفوا السفر.
يقول لي أحد الإخوة -وقد توفي أخوه في قرية من القرى- يقول: والله لقد أتعبونا تعباً لا يعلم به إلا الله، يقول: نحن في عزاء وقلوبنا مكسورة وخواطرنا مسكورة -فقد مات أخوه في حادث مروري- يقول: والله ما عند الواحد منا فرصة أن يشرب كوباً من القهوة؛ فالصحون طالعة ونازلة! فقط، أكثر من (25) خروفاً ذبحت في أيام العزاء! يقول: يأكلون ويقولون: نحن قلوبنا مقطعة لا نريد أن نأكل، وهم فقط يأكلون حتى الصباح.
الذي يكثر من اللحم يقسو قلبه، يقول الغزالي : لا يكن قلبك أو بطنك مقبرة للحيوانات. تقبر فيه التيوس والخرفان والدجاج حتى يقسو قلبك؛ لأن الذي يأكل اللحوم من الوحوش هي من السباع المفترسة والطير أكلها الحبوب، والأنعام أكلها الحشائش والخضراوات، لكن الذي يأكل اللحوم هو الأسد والذئب؛ ولذا فالذي يكثر من اللحم يصير قلبه قاسياً جداً، فيقسو قلب الإنسان فلا يذكر الله ولا يذكر الموت وإنما يفرح؛ فكلما مات شخص قال: الحمد لله (نجلس فيها أسبوعاً نأكل).
كذلك نصب الخيام لا مبرر له أصلاً، لماذا الناس ينصبون الخيام؟ ينصبونها لكي يتجمعوا، لكن لو أن كلاً في بيته، فالحمد لله كل منا الآن بيته واسع لا يحتاج إلى الخيام، وإذا جاء معزٍ لن يجلس أصلاً، سيأتي ويقول: السلام عليكم، أحسن الله عزاءكم، بلغنا وفاة فلان، ويعطيهم ويسلم ويمشي، ولكن لو جلسوا وهم ستون أو سبعون أو ثمانون رجلاً أو ..! أين يجلسون؟ لا بد أن يستأجروا لهم خيمة بثلاثة -أو أربعة- آلاف ويجلسون فيها، والثلاثة آلاف هذه لو أرسلت للمجاهدين الأفغان على نية الميت لكانت خيراً والله له ولهم، وثواباً يلحقهم إلى يوم القيامة.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين : إنها إذا حولت إلى ذكر فإن هذا بدعة؛ لأنه إقرار للمنكر، إذا أردت أن تذكر فاذهب في غير هذا المكان، أما أن تقول: أنا أستغل التجمع هذا وأدخل عليهم وأقول لهم: يا إخوان! هذا الأمر لا يرضي الله. وامش، أما أن تجلس وتذكر فإنك بهذا تعطي شهادة بأن هذا الأمر مشروع، وتعطيهم مبرراً لهذا الموضوع، فعليك أن تخرج ولا تجلس في هذه الأماكن، وتحذر من هذا، تأتي إلى المجلس وتقول لهم: يا إخوان! هذا الأمر لا يجوز الجلوس فيه. وتمشي، فإن أطاعوك فالحمد لله، وإن لم يطيعوك فقد اكتسبت أجراً إن شاء الله.
الجواب: نحن وضحنا وقلنا: إن الريح الذي يخرج من الإنسان ينقض الوضوء لكنه لا يوجب غسل القبل والدبر، أي: إذا خرج منك ريح وأردت أن تتوضأ من جديد فعليك أن: تغسل يديك ثم تتمضمض وتستنشق، ثم تغسل وجهك ويديك إلى المرفقين، ثم تمسح برأسك وتغسل رجليك، ولا تغسل موضع خروج الريح؛ لأن الريح ليس له أثر مادي حتى تغسله، لكن بعض الناس يتصور أن الاستنجاء جزء من الوضوء، وهذا خطأ، فإن الاستنجاء شيء والوضوء شيء آخر؛ الاستنجاء هو: إزالة الخارج من السبيلين بالماء، والاستجمار هو: إزالة الخارج من السبيلين بالحجارة، والوضوء هو: رفع الحدث عن طريق غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل والرجلين، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] ولم يقل: اغسلوا تلك الأماكن، لكن بعض كبار السن وبعض الناس أصبحت عنده عادة ولو لم يخرج منه شيء، فإذا أراد أن يتوضأ ذهب واستنجى، لماذا تستنجي؟ قال: أريد أن أتوضأ، يا أخي! لا تستنج إلا عندما يخرج منك شيء، أما إذا لم يخرج منك شيء فاذهب واغسل أعضاء الوضوء فقط، وبعضهم يقول: أنا أجدد، لن أتوضأ لكن سأجدد! يسمي الوضوء مع غسل القبل والدبر وضوءاً، ويسمي الوضوء بدون غسلها تجديداً، فليس هناك تجديد، هذا هو الوضوء الشرعي، فيفهم هذا الكلام إن شاء الله.
الجواب: لا يعتبر إخراجاً للزكاة؛ لا يجوز أن يدعو إلى الله بمال الفقراء؟ لمن هذه الزكاة؟ يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] لمن؟ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:25] فأخرج الزكاة وأعط الفقير يأكلها، وأخرج للدعوة من جيبك، أما أن تدعو إلى الله من حق الفقير وحقك وراء ظهرك فما أخرجت الزكاة!
وكثير من الناس يريد أن يحتال على الله في هذه المواضيع! الزكاة هذه ليس لك فيها فضل أبداً ولا لك فيها تصرف؛ هي مال الله الذي آتاه لك، وهو الذي أخذه تبارك وتعالى وأمرك بصرفه في وجهته الشرعية، وليس لك أن تتدخل فيها بحيث تصرفها وفق رغباتك وتحابي بها وتجامل، أخرج مال المسكين للمسكين والفقير, وبعد ذلك إذا أردت أن تدعو فعندك -يا أخي- (97.5%) من كل مائة، وأخرج (2.5) للفقير، لكن تأخذ حق الفقير وتضعها للأشرطة و(97) تجعلها وراء ظهرك فهذا لا يصح، ومن يعمل هذا فعليه أن يخرج الزكاة من ماله.
الجواب: لا يشترط حضور أربعين شخصاً؛ لأن من اشترط من الفقهاء وهم الحنابلة وبعض الأئمة كانت أدلتهم أدلة ظنية اجتهادية فقط، إنما الصحيح من مذاهب العلماء: أن الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة، فلا يشترط لها أربعة عشر ولا أربعون .. وإنما يشترط لها ما يشترط للجماعة، فإذا حضر اثنان أو ثلاثة وخطب أحدهم واستمع الاثنان فقد حصلت الجمعة بإذن الله عز وجل.
الجواب: الأخ في الله ضروري جداً من ضروريات الحياة الإيمانية، ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ما هاجر لوحده، بل هاجر ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ للاحتياج؛ لأن الطريق يحتاج إلى رفيق، ولهذا كان يثبته ويعينه، وكان يمشي مرة أمامه ومرة خلفه، ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فيقول عليه الصلاة والسلام: (ما لك يا
أما كيف؟ فتختاره -أولاً- من المسجد، من أهل الصلاة والإيمان. ثانياً: تعرفه من سلوكه؛ من تصرفاته، وكلامه، ونظراته، وماذا يسمع، وماذا يقرأ، ومن الملابسات التي تحصل معك أنت وهو، فإن رأيته صالحاً في كل تصرفاته فعليك أن تمسك به وتسير معه في الطريق، أما إذا رأيته يأمرك بمنكر ويحبب لك السوء ويبغض إليك الطاعة ويزين لك المعصية؛ فاعلم أنه رفيق سوء! فاحذر منه وفر منه كما تفر من الأسد.
الجواب: هذه هي المصيبة -أيها الإخوة- والنكسة! هذه مصيبة؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) والنكسة هذه صعبة جداً جداً، وقد ينتكس الإنسان نكسة تدخله النار
-والعياذ بالله- ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3] وأنت -يا أخي الشاب- يا من هداك الله ثم رفعك إلى أعلى درجات الدين؛ إلى ذروة الجهاد في سبيل الله، ثم ذهبت هناك ليس لأن تتنزه .. تركت المعاش والفراش والأهل والنوم والأمن وذهبت لتضحي بروحك وتقدم قلبك وقالبك في سبيل الله، هذه نعمة وفضل كبير لا يناله إلا أصحاب النفوس الكبيرة والحظ الأوفر عند الله عز وجل، ثم لما عدت لماذا انتكست؟! لماذا ترجع إلى المعاصي؟! لا إله إلا الله! ما ذقت طعم الإيمان؟! ما عرفت حلاوة الدين؟! أين إيمانك وأنت تقف في الخنادق -هناك- تسمع أزيز الطائرات وانفجار القذائف والقنابل من جانبك وعن يمينك وأنت تتمنى أن واحدة تأتي إليك لتقطعك قطعة قطعة لكي تمسي تلك الليلة في الجنة؟!
أحد الإخوة لما رجع من هناك قلت له: كيف وضعكم؟ نحن هنا عندما نسمع الجهاد نشعر بالخوف؟ قال: والله ما هناك خوف، يقول: لما ذهبت هناك والله إنها لتنفجر على بُعد أمتار منا، وإني عندما أراها تنفجر أتمنى أن تأتي فيَّ لكي أمسي في الجنة، يقول: ولا تأتيني، ما هناك خوف، هناك أمن كامل، يقول: كنا نخرج من المعسكر إلى الجبهات كأننا والله نخرج في نزهة، إذا خرجت أنا الآن من هنا إلى القرعة أو إلى السودة وأنا في نزهة أشعر بخوف أن يأتني حادث مروري فأموت، لكن هناك يقول: الطائرات تضرب والقذائف تنفجر ونحن في خنادق الموت ولكن لا يوجد خوف، بل نفرح بالموت!
فما دام أن الله ثبتك -يا أخي- وجعلك من عباد الله المجاهدين .. فلم ترضى بالدنية؟ لماذا ترجع وتتمرغ في القاذورات؟ لماذا ترجع توسخ نفسك بالمعاصي؟ إن المعاصي حجاب بينك وبين الله، ويُخشى عليك -يا أخي- أن يختم على قلبك، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي هداك وقواك وأذهبك إلى الجهاد الأفغاني ثم رجعت إلى هنا أن يعيدك إلى ما كنت عليه من الثبات والإيمان والهداية، وأن يثبتك على هذا حتى تلقاه وجميع شباب المسلمين.
أما الوصية التي نرشدك إليها: فعليك أولاً أن تكثر من تلاوة كتاب الله؛ لأنه أعظم مثبت، فلا يوجد مثل القرآن، والله ما من شخص ينتكس إلا بسبب ترك القرآن، فأكثر من تلاوة القرآن بالليل والنهار، واجعل المصحف في جيبك، واتل التلاوة الشرعية التي فيها تدبر، لا تترك فرصة من الفرص إلا وأنت تفتح المصحف؛ لأن الله تعالى يقول: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32] فالقرآن مثبت.
ثانياً: أكثر من الطاعات الأعمال الصالحة؛ فالأعمال الصالحة كثيرة جداً جداً، منها: قيام الليل، وصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، والحضور إلى مجالس الذكر .. اجعل أوقاتك كلها مجالس ذكر، لا تترك ندوة ولا تسمع بها في الخميس أو في أبها أو في أي مكان إلا وتشغل سيارتك وتذهب إليها؛ لأنك لا يمكن أن تخرج من مجلس من مجالس العلم إلا بخير، لكن لما تبعدْ تضعفْ وتهزلْ.
ثالثاً: احذر من المعاصي والذنوب، ومن سماع الأغاني؛ لأنها تبدأ الخطوات خطوة خطوة، الشيطان لا يأمرك رأساً أن تعصي الله وتترك الدين، بل يأتيك خطوة خطوة؛ يزين لك، ويخطط للمؤامرة .. ويقول: اسمع طرف الأغنية، هذه موسيقى .. اسمعها، فإذا سمعتها .. قليلاً .. قليلاً .. إلى أن تنتكس تماماً .. ولا حولا ولا قوة إلا بالله! واحذر من سماع أصوات النساء خصوصاً في المكالمات الهاتفية، فإن التليفون الآن يفتن ويسبب إزعاجاً كبيراً للمؤمن، فاقطع الخط بمجرد أن تسمع صوت امرأة، ولا تتكلم معها أبداً إلا إذا كانت ذات محرم لك، حتى ولو كان هدفها طيباً. وبعض الشباب يقول: إنها تسألني عن أمر ديني. نقول لك: لا تتكلم ولو كان عن أمرٍ ديني، دع دينها لها ودينك لك، نريد الربح فنعود بربحين ونصبح في مواضيع أخرى! حولها على المشايخ والعلماء كبار السن؛ لأن هناك من العلماء والمشايخ من بلغوا درجة من السن والثبات والقوة في الإيمان بحيث أصبحت هذه الأمور عندهم شيئاً طبيعياً -لم يعد يحصل لهم فتنة؛ لأن الله عز وجل قد جعل لهم نوراً في قلوبهم، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث في صحيح مسلم : (تعرض الذنوب -أي: المعاصي- على القلوب كالحصير عوداً عوداً) وفي رواية: (عَوداً عَوداً) أي: مرة بعد مرة، لكن رواية: (عُوداً عُوداً) أقوى؛ لأنه يوضحها: كالحصير؛ حصير الفراش الذي فيه عيدان.. (تعرض الذنوب على القلوب كالحصير عوداً عوداً) هذا الحديث -يا إخواني- من أعظم الأحاديث في صحيح مسلم .. (فأي قلب أشربها -أي: قبلها؛ قبل الذنب ورضي به- نكتت فيه نكتة سوداء) أول ذنب نكتة سوداء، وثاني ذنب نكتة ثانية، وثالث ذنب نكتة ثالثة وهكذا.. (وأي قلب أنكرها) بمجرد ما عرض عليه ذلك الذنب.. بنتاً رأيتها فغضضت بصرك .. وأغنية سمعتها فأغلقتها .. ودخاناً تركت مكانه .. أي منكر يعرض عليك تتركه (وأي قلب أنكرها صقل قلبه -أي: جلي- حتى يكون أبيض مثل الصفا) قال: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد -من كثرة النقاط السود، مرباد: يعني متراكم- كالكوز مجخياً -أي منكوساً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) لا يعرف معروفاً؛ تقول له: هذا معروف. يقول: المعروف الأغاني والنوم والتمشية .. لماذا؟ لأنه منكوس، والله لو قرأت عليه القرآن كله وأعطيته الأحاديث كلها .. حتى ولو بعث النبي ليكلمه لم يعد ينفع فيه وعظ؛ لأنه ليس عنده مجال للاستيعاب فهو منكوس، وبعد ذلك قلبه مغطى بطبقات كبيرة من الظلام والران من كثرة المعاصي؛ حتى لم يعد للقرآن أثر يصل إلى قلبه؛ لأنه محجوب، يقول الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين:14] أي: غطى على قلوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) المعروف عنده: ما عرفه الهوى، والمنكر عنده: ما أنكره هواه لا ما عرفه الشرع وأنكره الشرع.. (وقلب أبيض كالصفاء -نسأل الله جميعاً من فضله، القلب الثاني: أبيض كالصفاء- لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أي فتنة تأتي ترجع، مهما قيل ومهما عمل فيه لا يمكن أبداً. شخص من السلف سلطت عليه امرأة وتعرضت له، فلما تعرضت له ذكَّرها بالله فرجعت صالحة، وكثير من الناس تسلط عليهم فتن ومصائب من أجل إغوائهم ولكن عندهم (صدامات) قوية وموانع بحيث من حين تأتي المعصية تهرب مباشرة ولا تقرب منه.
فنقول لك: عليك بطاعة الله، وانتبه من معصية الله، احذر منها ولو كانت صغيرة، فإن الصغيرة تجر إلى الكبيرة .. ثم تسقط والعياذ بالله، ودليل هذا قول الله عز وجل: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] فعلوا ما وعظوا به: ما وعظك الله به هو فعل طاعته وترك معصيته.
رابعاً: عليك برفقاء الخير، رفقاء الإيمان، رفقاء الدرب إلى الله، ابحث لك عن رفقة صالحة: اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة .. تجلس معهم وتذهب معهم وتسمر معهم .. يعينوك على دين الله! واحذر ثم احذر من رفقاء السوء، فإنه لا ينفعك رفيق الخير إذا كان معك رفيق سوء، فلو معك مائة رفيق خير ورفيق سيء والله ما يقومون بهدايتك وأن هذا يستطيع أن يضلك؛ لأن رفقاء الخير يبنون ورفيق السوء يهدم، والهدم أسرع من البنيان، وقد قيل:
أرى ألف بانٍ لا يقوم لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم؟! |
البنيان صعب والهدم سهل، أما ترى الباني وهو يبني الجدار من الصباح إلى المغرب، لكن إذا أتى شخص يريد أن يهدمه ماذا يصنع به؟ يضربه ضربة واحدة فقط ويسقط كله، البناء يوم والهدم لحظة، فأنت إذا جلست مع طيبين ثم جلست مع واحد فاسد أضلك، فلا بد من الحماية للصلاح؛ فاحذر من قرناء السوء!
الجواب: أولاً: كونك تشعر -أيها الإنسان- بأنك مراءٍ أو منافق، فقد قال العلماء: إن الذي يشعر بأنه ليس مخلصاً أو أن عنده نفاقاً فإن ذلك برهان إنه ظاهرة صحية تدل على صلاح في القلب؛ لأنه ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن، ويقول ابن أبي مليكة : [أدركت ثلاثين صحابياً كلهم يخشون على أنفسهم من النفاق] وكان عمر بن الخطاب يأتي إلى حذيفة بن اليمان ويقول له: [أسألك بالله هل عدني رسول الله من المنافقين؟] عمر وهو فاروق الإسلام ومشهود له بالجنة ويخاف من النفاق!
لكن الذي نخاف عليك منه هو المعصية؛ لأنك الآن عندك خير؛ تحفظ شيئاً من القرآن، وتحافظ على الصلوات الخمس، وأيضاً تحضر دروس العلم، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا تسمع الأغاني .. لكنك إذا خلوت بنفسك بارزت الله بهذه المعصية، وهذه ليست سهلة؛ لأن الله عز وجل يغضب عليك إذا مارستها، قال الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108] .. أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة:13] وجاء في حديث ثوبان وهو في السنن : (يأتي يوم القيامة أقوام بحسنات كأمثال الجبال فيقول الله لها: كوني تراباً. فتصير تراباً وهباءً، فيقال: لم؟ قال: كانوا إذا خلوا بأنفسهم بارزوا الله بالعظائم).
والاستنماء باليد الذي يسمونه بـ(العادة السرية) أو (نكاح اليد) من الكبائر! ولا ينبغي لك -أيها المسلم- أن تقع فيها بأي حال من الأحوال، ولا يفهم من كلامي -أيها الإخوة- أن الشخص لا يعصي ويصبح ملكاً من الملائكة؛ فإن العبد خطَّاء، ولا بد من الذنب، ولكن الذي نخشاه على الإنسان الاستمرار في الذنب، إنما كونك تخطئ وتتوب هذا جيد؛ لأنك إذا تبت تاب الله عليك وأرجعك إلى مكانك الأول، بل ربما يزيدك منزلة أكبر، لكن لا تتعمد الذنب، وإذا وقعت فيه فسارع بالتوبة منه ولا تصر عليه، وإذا تبت فحقق شروط التوبة، ومن ضمن شروطها: العزم على عدم العودة.
هذا ونكتفي بما حصل، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر