إسلام ويب

فضائل الصحابة - مقدمةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد اختار الله عز وجل الصحابة الكرام لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرفهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، جاهدوا معه، وحملوا راية الدين إلى أرجاء الدنيا، وقدموا نفوسهم وأموالهم من أجل إعلاء كلمة الدين، فصدقوا مع الله عز وجل فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وقد جاءت النصوص الكثيرة ناطقة بفضلهم، وشاهدة على حسن بلائهم؛ ولذلك كانت منزلتهم أعظم منزلة، ورتبتهم أعلى رتبة.

    1.   

    فضل صحابة رسول الله

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    أيها الإخوة الكرام! قال الإمام مالك رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأول صلاح هذه الأمة هو الاستنارة والاستضاءة بنور الوحيين، فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاءوا الدنيا بشموسهم وبأفاضلهم وأكارمهم وأماجدهم -صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقاً، فهم الذين نزلت عدالتهم من فوق سبع سماوات، فإذا أراد المرء منا أن يرتقي أو يتقدم أو يفوز بعلو الدنيا وعلو الآخرة فلابد من أن يستضيء بنور هؤلاء ويسير على خطاهم، فهم الذين عضوا بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أعلنها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لـعمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (عمر ينطق بالحق، أو معه الحق، وإذا سلك عمر فجاً سلك الشيطان فجاً غير فج عمر). فـعمر نفسه استضاء بكلمات من نور أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما قال له: يا عمر! الزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رسول الله ولن يضيعه الله.

    ونحن نعلنها كما أعلنها أبو بكر ، ثم نعلنها كما أعلنها عمر وعثمان وعلي أننا والله لا رقي لنا ولا علو ولا رفعة ولا تنقشع عنا هذه الكربة ولا ترتفع عنا هذه الغمة إلا بالتمسك بخطى هؤلاء.

    وقد حق لنا أن نبين فضل هؤلاء الصحابة الذين سادوا وقادوا الدنيا في مدة وجيزة من الزمن، والذين رفعهم الله وأجلسهم على عرش الدنيا في مدة وجيزة من الزمن.

    إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير الناس اختارهم الله لخير نبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال فيهم الله تعالى من فوق سبع سماوات: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وهذا دليل صريح على أن صحابة رسول الله هم خير أمة، وخير صحبة لخير نبي؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم.

    وقال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]، وهذا أعلى تزكية، وأعلى رفعة لهؤلاء الصحابة، فهي أرقى ما يكون من تعديل وتزكية، قال الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] وذلك بدلالة الاقتران، فقد قرنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله هو أحب خلق الله إليه، فلا يقرن الله جل وعلا مع رسوله صلى الله عليه وسلم إلا من كانوا على درجته. نعم. الآن أي عمل يجتهد فيه الإنسان يقل أو يستكثر كيف يقبل عند الله؟ لا يقبل إلا بالإخلاص، وقد كشف الله عن قلوبهم التي لا يمكن أن يراها أحد إلا الله جل في علاه وأعلنها للدنيا بأسرها فقال: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29] أي: أخلصوا دينهم لله جل في علاه، وهذه أيضاً لفتة على أن الله لا يقبل من عباده إلا المخلِصين المخلَصين، أما رأيت أن الله مدح يوسف وبين أنه أنقذه من براثن الزنا؛ لأنه كان من المخلصين: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

    ثم قال: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، فالذي يقيم الليل الله جل وعلا يلبسه ثوب النور في الصباح، ثم قال جل في علاه: ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].

    وهذه الآية احتج بها الإمام مالك رحمه الله على أن الشيعة الروافض كفار، فالإمام مالك رحمه الله يكفر الروافض بهذه الآية؛ لأنه قال: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ، فكل من عض الأنامل على الصحابة، وتغيظ على الصحابة فهو يدخل تحت هذه الآية: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ والروافض دائماً يدعون صباحاً ومساءً: (اللهم العن صنمي قريش)، ويقصدون بذلك أبا بكر وعمر فنعوذ بالله من الخذلان!

    قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يغزوا فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح عليهم)، وهذه من بركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبركة الذين رأوه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول العلماء: لا مقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهو الخليفة الراشد الخامس وبين معاوية ، فإن يوماً رأى معاوية فيه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين، فالصحبة لا تقارن؛ لأن الله جل وعلا لم يصطف لصحبة نبيه إلا الأخيار، قال: (يأتي على الناس زمان يغزوا فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم).

    وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟ ثم قال: إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون).

    وهذا هو الزمان الذي تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا غيباً عنه بقوله: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)، فكل من ظهر فيه السمن فليخش على نفسه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويظهر فيهم السمن) وهذه ليست على الإطلاق، فقد كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: ما رأيت سميناً فيه خير قط إلا محمد بن الحسن الشيباني، فالمقصود بقوله: (يظهر فيهم السمن) أي: بأكل الرشوة، وأكل الحرام، فلا يبالون من أي الأموال أكلوا.

    فضل الأنصار رضي الله عنهم

    في فضل الأنصار إجمالاً قال أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، فقال أبو هريرة : ما ظنكم بأبي وأمي! قوم آووه ونصروه)، وحق لهم ذلك، فالأنصار هم خير أتباع النبي، وهم الذين أسسوا هذه الأمة الإسلامية في مدينتهم، وقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقاتلوا عنه كما يقاتلوا عن نسائهم وأطفالهم؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله).

    وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار).

    وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين، قال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني).

    وفي رواية أخرى قال: (وموعدكم الحوض).

    وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه ستكون أثرة بعد موته، بأن يفضل الناس أنفسهم ويتركون الأنصار، وهذه لفتة من بعيد على أن أهل الدنيا يخسرون في الآخرة، وأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.

    فهؤلاء الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسست الدولة الإسلامية على أرضهم، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم، ومنهم من قتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رمى نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءً له، ومع ذلك فالمكافأة ضحلة عليهم في هذه الدنيا، بل وسيكون هناك أثرة عليهم، ولا يعرف الناس لهم قدراً؛ لأن الله جل في علاه سيوفيهم في الآخرة نصيبهم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الآخرة لا من أهل الدنيا.

    قال ابن مسعود : لقد شهدت مع المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما طلعت عليه الشمس -يعني: كان موقفاً بديعاً- وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر المشركين فقال: (يا رسول الله! إنا والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نقاتل من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يشرق وجهه لذلك وسره وأعجبه).

    ومن فضل الصحابة الذين باعوا أنفسهم لله جل في علاه، وائتمروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين من أصحابه صاحب السبق، وصاحب الفضل، ويرفعه على المتأخر، وإن كانوا كلهم كما بين الله جل وعلا أن كل واحد منهم له الحسنى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على خالد بن الوليد وهو يشتد ويحتد على عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن عوف كان سادس ستة قد أسلموا من السابقين، وخالد متأخر الإسلام عن عبد الرحمن بن عوف، فاشتد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد ثم قال: (لا تسبوا أصحابي) يقولها لـخالد مع أنه صاحب، ولكن ليبين له قدر عبد الرحمن بن عوف.

    1.   

    الطعن في الصحابة طعن في الإٍسلام

    ونجد الآن أن الطعن في قلب الإسلام وكبده لا يأتي إلا عن طريق الطعن في الصحابة، إما ترويج لفكر الشيعة والتنقيص من عمر بن الخطاب أو من أبي بكر رضي الله عنهما وأرضاهما، وهما من أعمدة هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنقيص من الشريعة نفسها من خلال الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن المستشرقين يريدون هدم السنة، والسنة بأسرها على لسان أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، هذا الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متأخر في الإسلام، لكنه صدق الله فصدقه الله، قال: (يا رسول الله! ما أحفظ عنك شيئاً ولا أعقل عنك شيئاً)، لكنه كان صادقاً مع ربه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابسط ثوبك، ثم وضع يده على صدره ودعا له، قال: والله ما لبثت أن انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه إلا وعقلته وفهمته كله، وما كتبت بيضاء في سوداء)، فحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما قاله، ولذلك جاء المستشرقون يريدون ضرب سنة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصاحب الجليل أكثر الناس رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والحرب التي تدور اليوم على الإسلام لا تدور علانية، ولكن من تحت أحزاب كما يقولون، فيضربون الإسلام في الثوابت، ويجعلونها حرباً على الثوابت، فإذا أرادوا أن يحاربوا الإسلام حاربوه في الجبال الشم الشوامخ، إما في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدم السنة من تحت كما يقولون وإما علناً.

    1.   

    أهمية الاقتداء بالصحابة

    والإنسان إذا أراد أن يرتقي فلا بد أن يكون له قدوة، وهذه القدوة إما أن تكون مازالت حية، وإما أن تكون قد ماتت وبشرت بالجنة، وهؤلاء الصحابة قد مشوا على الأرض وبشرهم الله بالجنة، فعلينا أن نعلم أنفسنا أولاً ثم نعلم أبناءنا ونساءنا أدب الصحابة وخلقهم واتباعهم وجهادهم ونفقتهم حيث باعوا أنفسهم بحق وصدق لله جل في علاه، وائتمروا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ضرب لنا أروع الأمثلة في التصديق واليقين في الله، واليقين في موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاء القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في سخرية: أين كنت البارحة؟ فقال: أسري بي إلى بيت المقدس، فقام أبو جهل يضحك يقول: ذهبت إلى بيت المقدس ورجعت هذه الليلة؟! فيقول: نعم، فيذهب أبو جهل ويجتمع مع القوم ويقول: الآن ينفض المجلس ونذهب إلى أبي بكر -لأنهم يعلمون أن أبا بكر يعلم أن الإبل لا تضرب إلى بيت المقدس ليلة واحدة، بل في شهر ذهاباً، وشهر إياباً- فذهبوا إلى أبي بكر الصديق فقالوا: أرأيت ما قال صاحبك؟! -والصحابة ما اصطفاهم الله إلا على علم عنده سبحانه وتعالى، كشف عن القلوب فعلم الصدق والنقاء فاختارهم لنبيه صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا يقول؟ فقالوا: يقول: إنه كان البارحة في بيت المقدس وجاء الليلة هنا عندنا! قال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم قال ذلك. قال: والله لقد صدق، ثم بين بنقاء قلبه وصدق لهجته ما يعقله الإنسان، فقال: إني أصدقه فيما هو أكثر من ذلك أصدقه في وحي ينزل عليه من السماء.

    وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان متيقناً بالله جل في علاه عندما ذهب إلى بيت المقدس، وكانت التوراة مكتوب فيها صفة عمر بن الخطاب ، وأنه هو الذي سيفتح بيت المقدس، ولذلك لما استعصى على المسلمين فتح بيت المقدس بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر : أن تعال لعل الله جل وعلا يفتح على يديك، فمنعه كثير من الصحابة منهم علي وعثمان وقالوا: أنت أميرنا فلا تذهب، فقال: والله لأذهبن. فذهب عمر رضي الله عنه وأرضاه فاستقبل مخاضة، فأخذ نعليه تحت إبطيه -تأبط نعليه- فقال له أبو عبيدة بن الجراح وكان أحب الناس إلى عمر : يا أمير المؤمنين! ما أحب أن القوم يروك على هذه الهيئة تتأبط نعليك وتسير حافياً أمامهم، فقال: يا أبا عبيدة ! والله لو قالها غيرك لأدبته على ما يقول، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، ولو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

    إن هؤلاء الصحابة هم منارات لنا، وهم القدوة بحق، فنحن نتكلم عن الصحابة ونتدبر أحوالهم حتى نعيش الإيمانيات التي كانوا يعيشونها، فنحن أشباح بلا أرواح، فمن منا جلس وحده عندما ينام فدمعت عينه من خشية الله؟! ومن منا تذكر نعمة من نعائم الله عليه فشكر الله، فلما شكر الله فاضت عيناه؟! ومن منا تذكر أنه لو كان في الفردوس الأعلى فإنه سيصاحب رسول الله فيأخذ بيده ويسير معه على شط النهر فيشرب معه العسل، ثم يذهب زائراً لربه فيرى وجهه؟ من منا يتدبر هذا؟!

    فهم كانوا يتدبرون ذلك، ولذلك أنس كان يخشى ما يخشاه أن ينزل درجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال رسول الله: (المرء مع من أحب) قال: والله ما فرح صحابة رسول الله فرحاً أشد من فرحهم بهذا الحديث.

    فنحن إنما نتدبر أحوال الصحابة لنعيش إيمانيات الصحابة؛ لأن هذه الأمة لا بد لها من أن ترجع إلى هذه الإيمانيات، ولذلك نقول: الرعيل الأول الذكي النقي قادوا وسادوا في مدة وجيزة من عمر الزمن؛ لأنهم علموا أن الله حق، وتعلموا خشية الله، والإحسان في عبادة الله جل وعلا والرقابة لله، فـعمر رضي الله عنه نفسه عندما كان يقول لـعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الأمر من هاهنا لا من هاهنا، كأنه يقول لنا: اسمعوا واعلموا أنه لو تكالبت عليكم الدنيا بأسرها وأنتم على يقين من أنكم على الحق وأنكم متمسكون بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والله لو اجتمع عليكم من بأقطارها فلن يضروكم لأنكم مع الله ومع رسول الله، فالأمر من هاهنا يدبر، يعني: من صاحب العرش، ممن استوى على عرشه ويدبر أمر خلقه، فالأمر من هاهنا لا من هاهنا، فهي عبادة الرقابة، وعبادة الإحسان:

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

    ولقد مر عمر على امرأة تقول لابنتها: يا ابنتي! أخلطي اللبن بالماء، فلا أحد يرانا، فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا، فاصطفاها عمر زوجة لابنه، فأنجبت من ذريتها عمر بن عبد العزيز الذي أشرقت شمسه على سماء الإسلام، وكان أعدل الناس في زمانه، ما ترك مسلماً ولا نصرانياً ولا أحداً إلا وأعطاه من بيت مال المسلمين، فـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ثمرة من ثمرات عبادة الإحسان لله جل في علاه.

    نحن ننطلق بإذن الله من فضائل الصحابة لنتدبر كيف آمنوا؟ وكيف استيقنوا في ربهم؟ وكيف استنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لعلنا نتخذهم قدوة فيعلو إيماننا، فنرتقي إلى ربنا، ويأخذ كل منا بيد أخيه إلى طريق الجنة، فإنه يسير على من يسره الله عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فمن جلس في مجالس العلم فهذا هو التيسير له، ومن أنفق في سبيل الله، وكف لسانه عن إخوانه فهذا ميسر له، ومن اغتاب الناس وأكل في لحوم الناس، وأقسم بالله كذباً، وتجرأ على حدود الله فهذا ميسر له، فليخش كل امرئ على نفسه، ويقول كما قال عمر وهو يطوف بالكعبة: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، اللهم اجعل كل المسلمين من السعداء وأدخلنا جميعاً الجنة.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756401735