إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد - تابع فصل في السمعياتللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القبر أول منازل الآخرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده يأتي النفخ في الصور، ثم الصعق، ثم البعث والنشور، ثم الحساب والقضاء بين العباد، وأول ما يقضى فيه بين العباد هو الدماء، وفي الحساب توزن الأعمال، ثم تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.. نسأل الله السلامة والنجاة.

    1.   

    إنكار بعض أهل البدع لعذاب القبر ونعيمه

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شرك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    فقد انتهينا من الكلام عن عذاب القبر، وبينا أن عذاب القبر واقع لا محالة ولا مرد له، وأنه ثابت بالكتاب والسنة، وبينا أن العلماء اختلفوا في عذاب القبر: هل يقع على الروح، أم على الجسد، أم على البدن والروح معاً؟ وبينا أن الراجح: أن العذاب والنعيم يقعان على الروح في الأصل، وتارة يكون على البدن وحده، وتارة على الروح والبدن.

    1.   

    أدلة القائلين بنفي عذاب القبر ونعيمه والرد عليهم

    وقد قال بعض أهل البدع بنفي العذاب والنعيم في القبر، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11] قالوا: فلو قلتم بوجود عذاب القبر لخالفتم ظاهر الآية، وقالوا أيضاً: إن عندنا من النظر ما يرد هذا العذاب وهذا النعيم الذي تزعمونه، وهذا كما يحدث في كثير من المسلسلات التي يتجرءون فيها على مسائل عذاب القبر ونعيمه، بل يتغنون بالانتقاد على الإخوة الذين يحذرون من عذاب القبر أو يبشرون بنعيم القبر، والكثير من الذين أنكروا عذاب القبر ونعيمه يتعلقون بحجج واهية، ولكن لا بد من متقن يبين كيفية ضعف هذه الأدلة.

    فقالوا في الدليل الثاني: وكيف يسأل أو يعذب أو ينعم من أكلته السباع أو الكلاب ولم يدخل القبر أصلاً؟

    وقالوا أيضاً: إننا نجلس بجانب القبر ونمكث مدة طويلةً لنسمع العذاب أو النعيم أو السؤال فلا نسمع شيئاً، وإذا كانت القبور بين منعم ومعذب أفلا يصيب عذاب الفاجر المؤمن فيكدر نعيمه وهناءه؟ فهذه شبه يطرحونها على مثبتي عذاب القبر ونعيمه، وسيكون الرد عليها في نهاية الدرس بمشيئة الله تبارك وتعالى.

    1.   

    النفخ في الصور وأقسامه

    وسنتكلم اليوم عن اللحظات الحرجة التي يمر بها الإنسان بعد دخوله القبر، فبعد أن يدخل صاحب القبر في قبره، ويدخل الكثير من الناس إلى مقتبل الآخرة، فإن الله جل في علاه لا يبقي في هذه الدنيا إلا شرار الخلق، كما جاء في الحديث: (فلا يبقى في الأرض من يقول: الله الله!) فحينئذ يأمر الله جل في علاه إسرافيل وهو ملك من الملائكة المقربين الذي التقم القرن، والقرن: هو الصور العظيم الذي ينفخ فيه الملك فيصعق من في السماوات ومن في الأرض ويموت الجميع، فإن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور نفخة واحدة يصعق منها كل إنسان.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وانتظر أن يؤذن له فينفخ في الصور)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى كل الخشية على أمته؛ لأن النفخ في الصور ليس بالهين، فهو يؤذن برحيل الدنيا والإقبال على الله جل في علاه للحساب وما فيه من الأيام العصيبة.

    وفي هذا دلالة على عظم خلق إسرافيل عليه السلام وقوته؛ ففي صيحة واحدة يهلك من في السماوات ومن في الأرض، وفي نفخة أخرى يخرج الناس من قبورهم أحياء إلى ربهم.

    وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب: فقد قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] وهذه النفخة هي نفخة الصعق؛ ولذلك استثنى سبحانه فيها، فقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] .

    وأيضاً قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51]، وبعد أن يميت الله الخلق بهذه النفخة فإنه يأمر السماء أن تمطر مطراً كالطل، أي: كالمني، فتمطر مطراً كالطل وقد بليت الأجساد وبقي منها عجب الذنب فقط، فإذا نزل المطر نبتت الأجساد كما كانت -ويكون هذا المطر قبل النفخة الثانية- فإذا نفخ إسرافيل النفخة الثانية إذا هم قيام إلى ربهم ينظرون، وهذا من الكتاب.

    أما من السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ إسرافيل في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) أي: يرفع عنقه ليسمع ثم يصعق فيموت، قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً) ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله مطراً كأنه الطل، فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا قيام ينظرون.

    إذاً: النفخ مرتان فقط، وهو هذا الراجح الصحيح، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رجح أن النفخ في الصور ثلاث نفخات، والصحيح أنهما نفختان لظاهر الكتاب والسنة، فنفخة يصعق بها من في السماوات والأرض أموات غير أحياء، ثم النفخة الأخرى بعد أن يأمر الله السماء فتمطر هذا المطر فإذا هم قيام إلى ربهم ينظرون، ثم يبعثهم الله جميعاً، وهذا البعث ثابت أيضاً بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة.

    1.   

    البعث والنشور

    البعث لغة: هو الإرسال والنشر.

    وشرعاً: هو إحياء الموتى يوم القيامة، فسيبعث الله جل وعلا الخلائق رداً على هؤلاء المكذبين لهذه الحقيقة التي لا محيد عنها، والويل كل الويل لمن يعلم أنه سيقف أمام ربه فيسأله عن كل صغيرة وكبيرة، دقيقة وجليلة، ويسأله عن ماله ونفسه، وعن ولده وزوجه وعن أبيه وأمه، وعن كل شيء حتى نفسه، وقد قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه متعجباً: ثلاث أضحكتني حتى أبكتني وذكر منها: وضاحك ملء فيه والموت يطلبه، فهل للإنسان أن يضحك ملء فيه وهو يعلم أنه سيبعث، وأنه سيقف أمام ربه، وأنه سيحاسب على كل صغيرة وكبيرة؟ فنسأل الله أن يجعلنا نعتقد هذا الاعتقاد الجازم ونعمل به وله؛ لأنه على الإنسان أن يتهيأ لهذا الموقف العظيم.

    والبعث ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقد قال الله تعالى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، فلا بد من البعث والنشور، وقال الله جل في علاه: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50].

    وأما السنة: ففي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص نقي ليس فيها علم لأحد) .

    أما من الإجماع: فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الله يعيد الخلق كما بدأه، وأن الله يجمع الخلائق يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا جميعاً لله جل في علاه كرجل واحد.

    أما صفة الخروج والبعث: فإن الله جل في علاه يرد الخلق كما بدأهم، أي: كما كانوا في بطون أمهاتهم، فإن الله يخرجهم بعثاً جديداً على هذه الهيئة، كما بين الله جل في علاه فقال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، ونستنبط من هذه الآية فائدة مهمة: وهي إثبات البعث بالقياس؛ فإن الله تعالى يقيس في هذه الآية الإعادة على الابتداء، ويسمى هذا القياس: قياساً جلياً من باب الأولى؛ لأن الإعادة أهون على الله من الابتداء، فكما أن الله جل في علاه خلق الإنسان من عدم فسيعيده بعثاً يوم القيامة وهو أهون عليه، وأنت في حياتك الواقعية قد ترى النجار يصنع من الخشب مكتبة للكتب، فإذا تكسرت المكتبة أو تعثرت سهل على النجار إعادة إصلاحها؛ لأن الإعادة أهون عليه من ابتداء صنعها، ولله المثل الأعلى، فالله تبارك وتعالى يبين لنا ذلك بقوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

    ويستنبط من هذه الآية العظيمة أيضاً: أن الإنسان سيبعث كما ولد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مفسراً لنا إجمال هذه الآية: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً) يعني: غير مختونين، فإن الجلدة التي تبعد في الختان تعود كما كانت عليه وهو أيسر على الله جل في علاه.

    1.   

    الحساب

    وهذا الحشر طريقه إلى الموقف العظيم ألا وهو الحساب، فإن الله يبعث الناس يوم القيامة ويحشرهم للحساب؛ ولذلك يقول الحافظ ابن كثير : إن الفقيه الأريب من يعلم أن الله جل وعلا عندما يترك الناس يتصارعون، فمنهم الظالم، ومنهم المظلوم، ومنهم السارق، ومنهم المسروق، ثم يموت المظلوم والمسروق والظالم والسارق دون أن يؤخذ حقهما، فإنه يعلم علم اليقين أن ثمة يوماً آخر وهو يوم القيامة للإنصاف والأخذ بحق المظلوم والمسروق وغيرهما؛ لأن الله الحكم العدل لا يتصور منه الظلم أبداً، فلابد أن تؤدى الحقوق إلى أصحابها، وفي هذا دلالة على حقيقة القيامة والمثول بين يدي الجبار جل في علاه، وهذا قياس بديع جداً.

    إذاً: فلابد من البعث والنشور، ولابد من الحساب بعدهما، فسيحاسب كل امرئ على عمله، على الكلمة، على الضحكة، على النفقة، على كل شيء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لن تزول قدما عبد من أمام الله جل في علاه حتى يسأل عن أربع: عن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه، وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به)، فلن تزول قدم عبد حتى يسأل عن هذه الأربع.

    وقد تكفل الله جل في علاه بعد البعث بالحساب، وليس لأحد دونه إلا البلاغ فقط، كما قال الله تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] وقال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد:40]، وقال جل في علاه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26] فالحساب على الله جل في علاه وهو الحكم العدل.

    1.   

    كيفية الحساب

    وهذا الحساب الثابت في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة له أمور عديدة:

    الأمر الأول: كيفية محاسبة الله تعالى للخلق؛ فأقول: إن محاسبة الخلق أجمعين تكون كمحاسبة الرجل الواحد، وقد اندهش الصحابة لذلك وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبين لهم وقال: (إنكم كما تسمعون صوته كرجل فسيحاسبكم كرجل واحد)، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فصله بقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيذكره ويقول: عبدي! تذكر ذنب كذا يوم كذا، تذكر فعل كذا يوم كذا) والعبد يقر ولا يستطيع أن يرد على الله جل في علاه ولا أن يكذب؛ لأن الله جل في علاه يختم على الفم فتنطق الأيدي والأرجل بما كسبت، قال: (فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر بين عينيه فلا يرى إلا النار، فيظن أنه قد هلك، فيأتي الله جل في علاه للمؤمن الذي زل فيقول: عبدي! أنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).

    ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو ويقول: (اللهم حاسبني حساباً يسيراً) فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: (ينظر الله جل في علاه في الكتاب فيتجاوز عنك)، فيغفر لك الله جل وعلا هذه الزلات كما سترها عليك في الدنيا، اللهم استر علينا في الدنيا، واغفر لنا في الآخرة.

    إذاً: فالحساب حسابان: حساب يسير وحساب عسير، أما الحساب اليسير: فهو على المؤمنين بأن ينظر الله جل في علاه في كتب المؤمنين ثم يغفر لهم زلاتهم.

    أما لحساب العسير والعياذ بالله: فهي المناقشة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (من نوقش الحساب عذب)، فالمناقشة: أن يناقشه الله جل في علاه على كل نعمة أنعمها عليه، كنعمة العين ونعمة اليد واللسان والبدن والمال والأهل والولد، فيحاسبه الله على كل نعمة حساباً دقيقاً، ويحاسبه أيضاً على أوقاته وأعماله وعلى كل شيء فعله في هذه الدنيا، فتخبره الأيدي والأرجل، وتطيش الصحائف، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه فهو رقيب وحسيب على نفسه، فإذا ناقشه الله الحساب علم يقيناً أنه من أهل النار، نعوذ بالله من ذلك.

    أما الأمر الثالث الذي يتعلق بمسألة الحساب: فهو أن أول من يحاسب من الأمم هي هذه الأمة العظيمة التي شرفها الله جل في علاه؛ قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] وهذه الخيرية عامة في الدنيا والآخرة، أما الخيرية في الدنيا: فالقيادة والريادة والسيادة إن تمسكت بهذا الدين، وأما الخيرية في الآخرة: فهي أول الأمم قضاءً بينهم، وهي أول من يحاسب تشريفاً وتعظيماً وتكريماً لهذه الأمة كما كرم الله وشرف وعظم نبيها بالمقام المحمود، وقد بينا أن لهذه الأمة ثلاث أولويات:

    أولها: أنها أول أمة تحاسب، كما بينا.

    ثانيها: أنها أول أمة تعبر الصراط، وما من نبي إلا ويقول عندها: اللهم سلم سلم.

    الثالثة: أنها أول أمة تدخل الجنة؛ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً من الله جل وعلا لهذه الأمة، فهي أول من يحاسب، وأول من يمر على الصراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وأمتي أول من يمر على الصراط)، وأول من يدخل الجنة.

    وأول حساب يحاسبه المرء: هو القضاء في الحقوق، والحقوق قسمات: حقوق لله وحقوق للعباد، أما حقوق الله: فالصلاة، وهي أول هذه الحقوق بعد التوحيد؛ لأننا نتكلم عن المسلمين، وهي أول ما يحاسب عليه المرء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (إذا صلحت صلحت سائر الأعمال، إذا فسدت فسدت سائر الأعمال).

    أول ما يقضى بين العباد

    وأول شيء يحاسب عليه المرء في حقوق العباد: هي الخصومات والدماء، فإذا تجاوز المرء الحساب وكان حسابه يسيراً وقد كتب الله له الجنة فإنه يقف على الصراط، ولا يعبر ولا يمر حتى يقضي الله جل في علاه في الخصومات في هذا المكان والمحل، فكل إنسان له مظلمة عند أخيه حتى الدرهم والدينار فلا بد من القصاص حتى يرى منزله من الجنة أو من النار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل؛ فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار إنما الحسنات والسيئات)، فيقف الخصم مع خصمه على الصراط ولا يمرا حتى ينظفا من هذه البلايا، فيقضي الله جل في علاه بين هؤلاء المتخاصمين سواء في الدماء، أو في الأموال أو غيرها، لكن أول شيء يقضى فيه بين العباد: هو الدماء.

    ولذلك جاء في مسند أحمد عن عائشة بسند صحيح قالت: لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره أبداً، وديوان لا يتركه أبداً، وديوان هو في المشيئة، وإذا كان في المشيئة فهو إلى المغفرة أقرب إليه من العقاب؛ لأن الله جل وعلا اتصف بالمغفرة والرحمة.

    قالت: فالديوان الذي لا يغفره الله أبداً: هو ديوان الشرك، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    والديوان الذي لا يتركه الله أبداً: هو ديوان المظالم الذي هو حقوق العباد؛ ولذلك لا يعبر أحد الصراط حتى يقتص منه، فعلى كل إنسان له مظلمة عند أخيه أن يتحلل؛ لأن يوم القيامة ليس ثمة درهم ولا دينار كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ذات يوم فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: من لا درهم له ولا دينار، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات كالجبال، فيجيء وقد سب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا لم تبق له حسنة واحدة أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) نعوذ بالله من ذلك، فمن كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل، فإما أن تستسمحه، وإما أن يتنازل عن حقه، فعلى المؤمن أن يتحلل من أخيه بأية وسيلة؛ فعند الله تجتمع الخصوم ويقضى بين العباد.

    وزن الأعمال

    ثم لابد بعد الحساب من زنة الأعمال، فإذا حاسب الله جل وعلا الناس فإن هذه الأعمال بعد المحاسبة توزن بكفة حقيقية، فكفة تكون للحسنات، وكفة تكون للسيئات، فتمام الحساب أن توزن الأعمال أو يوزن العاملون كما سنبين.

    قال الله تعالى مبيناً لنا حقيقة الميزان يوم القيامة: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] وقال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6-8]، فذكر الموازين.

    وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يرفعه قال: (أثقل ما يكون في ميزان العبد بعد تقوى الله حسن الخلق)، فحسن الخلق هو أثقل ما يكون في ميزان العبد، والشاهد من الحديث قال: (في ميزان العبد) فهو إثبات لوجود الميزان.

    كذلك حديث البطاقة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف توضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة أخرى، ففيه دلالة على الميزان أيضاً.

    وقد أجمع أهل السنة والجماعة على حقيقة الميزان، وأن الله جل في علاه سيزن أعمال العباد فيه.

    حقيقة ما يوزن يوم القيامة

    وقد اختلف العلماء في حقيقة الموزون: فهل توزن الأعمال أم العباد الذين يعملون هذه الأعمال، أم هي الصحائف التي توزن؟ وهذا الخلاف منبثق عن أدلة جاءت بإثبات كل هذه الأنواع؛ أما الأدلة على وزن الصحائف: فحديث البطاقة، قال: (فتوضع سجلات بالسيئات في كفة، وسجلات الحسنات في كفة، ثم يرى المرء بأنه قد هلك؛ لأن السجلات بالسيئات قد رجحت فيقال له: لك عندنا شيء، فيقول: وما هذا الشيء؟ فيقال: هذه البطاقة، فيقول: وما تنفع هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: لا ظلم اليوم، فيأخذ البطاقة والبطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله) لكن مدار هذه البشارات على القلوب؛ لأن كثيراً من الناس يقولون: لا إله إلا الله وليست لهم هذه الحظوة، وليست لهم هذه البشارة من ثقل بطاقة لا إله إلا الله، (فيضع البطاقة على كفة الحسنات فترجح كفة الحسنات) ففيه دلالة على وزن الصحائف.

    أما الذين قالوا بوزن العامل نفسه فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، لضآلة مقداره عند الله جل في علاه، ففيه دلالة على أن الموزون هو العامل نفسه، واستدلوا كذلك بقصة: ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عندما تسلق الشجرة فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحكوا من دقة ساقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (علام تضحكون؟ قالوا: على دقة ساق ابن مسعود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنهما كجبل أحد في الميزان يوم القيامة)، ففيه دلالة كذلك على أن الموزون هو العامل نفسه.

    وأما الذين قالوا بوزن العمل فقط فقد استدلوا بأحاديث كثيرة منها:

    قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)، وهذا وجه الشاهد؛ فقد بين أن هذه الكلمة: (سبحان الله وبحمده) ثقيلة في الميزان؛ فدل ذلك على الموزون هي الأعمال ذاتها.

    والصحيح الراجح في ذلك: هو الجمع بين هذه الأقوال، فنقول: إن المرء سيوزن؛ تقديراً وتعظيماً وتشريفاً للمؤمن؛ ليبين الله كرامة المؤمن عليه، ويبين أيضاً حقارة المنافق الفاسق الفاجر عليه.

    أما بالنسبة للأعمال والصحائف فإننا نقول جمعاً بين هذه الروايات: إن الصحائف ستوزن، فإذا وزنت الصحائف فمن باب أولى أن توزن الأعمال؛ لأن الصحائف تتضمن أعمال العباد.

    إذاً: الراجح: أن المرء يوزن وكذلك الصحائف المتضمنة للأعمال والله أعلم.

    1.   

    تطاير الصحف

    ثم لابد بعد أن يرى السعيد سعادته بتثقيل الله سبحانه لميزان حسناته ينشر الله الدواوين والكتب، فينادى على أهل اليمين فيأخذون الكتب باليمين، وينادى على أهل الشمال -والعياذ بالله- فيأخذون الكتب بالشمال، وترى الفرحة والسرور والبهجة على أهل اليمين، وترى الويل والثبور على أهل الشمال، فيقول قائل أهل اليمين: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، اللهم اجعلنا ممن يأخذ كتابه بيمينه، قال تعالى: وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:9]، أما الآخر والعياذ بالله فيقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26]، وهذا الذي ينقلب بالويل والثبور فيأخذ كتابه بشماله، نعوذ بالله أن نكون منهم.

    وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها -وقد ذكره الشارح على ضعف فيه لكنه يستأنس به- قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل تذكرون أهليكم؟ قال: أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه: في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهراني جهنم حتى يجاوز).

    ولذلك قال بعض السلف: ما من امرأة إلا وتقول لوليدها: أي بني! ألم تكن لك بطني وعاء؟ ألم يكن لك حجري غطاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟! أي بني! أحتاج إلى حسنة واحدة، فيقول: أي أماه! إليك عني فإني أحتاج إليها هذا اليوم، أو يقول: إني لها أحوج، وهذا مصداق لقول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35] نعوذ بالله من الخذلان.

    1.   

    حوض النبي صلى الله عليه وسلم

    ثم يذهب أهل السعادة والشقاوة بعدها إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم بسبب العطش الذي أصابهم، وقد اختلف العلماء في الترتيب بين الحوض والصراط: أيهما قبل الآخر؟ والغرض المقصود: هو الإيمان بالغيبيات؛ لأن هذا هو محل التفريق بين العباد؛ لأن الله جل وعلا أناط الخير والفلاح بالإيمان بالغيب فقال: (الم)[البقرة:1] إلى أن قال: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] ثم قال بعدها: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، فأناط الله الفلاح بالإيمان بالغيب.

    وتمام الإيمان بالغيب رداً على المعتزلة: الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحوض العظيم الذي اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان لكل نبي حوض، لكن هذا الحوض له من الخصوصية والكرامة والعظمة والبهاء والجمال والحلاوة، فإذا نظرت إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم فستجد أن زواياه متساوية، فطوله شهر وعرضه شهر، فكأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مربع، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يشرب منه، فيحصل بذلك العدل والتساوي حتى في الشرب والوقوف، فلا يحجب أحد عن رؤيته دون أحد؛ لأنه مربع متساوي الأضلاع.

    أما بالنسبة لكيزان وأكواب الحوض فهي كالنجوم عدداً، وعدد النجوم لا يحصى، وهي أيضاً كالنجوم بهاءً وعظمةً وتلألؤاً، فإذا سألت عن طعم الماء فهو أحلى من العسل، وإن سألت عن لون الماء فهو أبيض من اللبن، سقانا الله وإياكم من هذا الحوض الشريف شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.

    وماء هذا الحوض العظيم الذي اختص الله به نبيه يصب من نهر منحه الله لنبيه في الجنة اسمه: نهر الكوثر، قال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2]، فعندما يصب نهر الكوثر فإنه يجتمع في حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض).

    فإن قيل: أين حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أن هناك حديثين يثبتان مكان المرور بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، فأول مكان: هو منبره صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي) وتفسير هذا نرجئه لكلام العلماء في ذلك، فما من منكر لأمر ثبت في السنة إلا وكان عقابه أن يصد عن هذه السنة، وهذا كالمعتزلة الذين قالوا بإنكار الحوض فسيعطشون يوم القيامة بمشيئة الله؛ لمخالفتهم هذه السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أذود على حوضي) يعني: يبعد الناس عن حوضه، قال: (وليختلجن أناس من دوني) يعني: من أمام الحوض، قال: (فأقول: رب! أصحابي أصحابي، فيقال: يا محمد! إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) يعني: ابتدعوا والعياذ بالله، وانظروا إلى البدعة المميتة كيف تفعل بأصحابها، قال: (فأقول: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً لمن بدل وغير) فالمحروم شديد اليأس والبؤس بحق هو الذي لا يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد الأحاديث الصحيحة التي تثبت حوض النبي صلى الله عليه وسلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756448548