إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الاستواءللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وقد دل على هذه الصفة القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والعقل والفطرة، والأدلة متكاثرة جداً على إثبات هذه الصفة، وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من ألف دليل.

    1.   

    أدلة إثبات صفة الاستواء للرب جل وعلا

    دلالة السنة القولية على علو الله عز وجل

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فنستكمل سياق ما روي في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

    وقد ذكرنا أن علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق وعلو مقيد.

    ونأخذ الدلالات على علو الله تعالى، ثم نشرح معنى العلو المقيد، فالدلالات على علو الله جل وعلا تؤخذ من الكتاب ومن السنة، وتثبت بالعقل والفطرة وبالإجماع.

    فدلالات علو الله جل وعلا من السنة وردت بالقول وبالفعل وبالتقرير، سواء بالصعود الذي يدل على الارتقاء إلى أعلى، أو بالنزول الذي يدل على الهبوط من أعلى إلى أسفل، أو بالإشارة، أو بالإقرار على أن الله فوق السماء، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج الطويل المشهور أنه عرج به إلى السماء السابعة حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ففرض الله عليه خمسين صلاة، فرجع فنزل فكلمه موسى وقال: أمتك لا تقدر على ذلك. ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم من عند موسى عليه السلام إلى الله عز وجل.

    وهذا الارتقاء فيه دلالة على العلو، فإنه كان يرتقي إلى أعلى، إلى سدرة المنتهى، فيراجع ربه جل وعلا، حتى استحيا من ربه، ثم نزل وبلغ أمته أن الخمسين صلاة خففت إلى خمس صلوات بأجر الخمسين صلاة.

    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يلتمسون حلق الذكر، فيحفون الذين يطلبون العلم والذكر ثم يعرجون إلى الله جل وعلا).

    يعني: يصعدون إلى أعلى، وهذا فيه دليل على علو الله جل وعلا، (فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك..) إلى آخر الحديث.

    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، فيجتمعون في الفجر والعصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم)، فالعروج من أسفل إلى أعلى، فهذه دلالة على أنهم يعرجون إلى الله جل وعلا، فالله في العلو فوق السماء.

    وهناك نوع آخر من أنواع الدلالة وهو: النزول، والنزول لا يكون إلا من علو.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ينزل ربنا -نزولاً يليق بجلاله جل وعلا- إلى السماء الدنيا ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له).

    ومن الأدلة في السنة على العلو: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عندما جاءه الخارجي وقال: اعدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) أي: من على السماء.

    وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب).

    دلالة السنة الفعلية على علو الله عز وجل

    النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلو مما يدل على أن الله في العلو، ففي خطبة حجة الوداع وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالأمة يرشدهم ويعلمهم أن ربا الجاهلية موضوع والدماء موضوعة ... إلى آخر الحديث، ثم قال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم هل بلغت؟ قالوا: نعم، فأشار بأصبعه إلى السماء ونكت بها إليهم، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد)، فهذه دلالة بالفعل على علو الله جل وعلا؛ لأنه كان يشير بأصبعه إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: لا يجوز لأحد أن يشير بأصبعه إلى السماء!

    دلالة السنة التقريرية على علو الله عز وجل

    في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه كانت له جارية ترعى غنمه، فأخذ الذئب شاة منها، فتغيظ عليها فصكها في وجهها، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم آسفاً على ما فعل نادماً عليه، يريد أن يكفر عما فعل، فقال: يا رسول الله أعتقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها) وهذه الجارية عمرها من ست إلى تسع، يعني: أن الفطر السليمة لا تنحرف بنفسها، إنما يؤثر عليها غيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالهتهم عن دينهم) أي: غيرت فطرهم السليمة، قال عليه الصلاة والسلام: (ائتني بها، فأتى بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة)، فوسمها بالإيمان لعلتين:

    العلة الأولى: اعتقادها علو الله، وإقرارها بأن الله على العرش عال فوق السماء.

    والعلة الثانية: أنها أقرت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فوسمها بالإيمان لما اعتقدت فوقية الله جل وعلا، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي هذا الحديث إقرار فوقية الله، وإثبات علو الله جل وعلا، وفيه فائدتان:

    الفائدة الأولى: السؤال عن الله بأين؛ لأن الأشاعرة يحرمون ذلك، وهكذا الجهمية أهل التعطيل يحرمون السؤال عن الله جل وعلا بأين، فهذا أكمل الخلق وأعبد الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الله بأين، فيقول للجارية: (أين الله؟) فلما قالت: (في السماء) أقرها على ذلك، و(في السماء) هنا بمعنى على السماء، وآمنت برسالته، فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة).

    فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على العلو، وقد بلغت التواتر، فإنها تصل إلى نحو خمسين حديثاً تثبت علو الله جل وعلا.

    دلالة الإجماع على علو الله عز وجل

    الدلالة الثالثة من دلالات علو الله جل وعلا الإجماع: فقد أجمعت الأمة على علو الله جل وعلا، وعلى رأس هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الخلق برسول الله وبكلام رسول الله، وبمراد الله وبمراد رسول الله؛ فقد نزل القرآن عليهم بلسانهم العربي المبين، ولا خلاف بين العلماء أن الإجماع الذي يعمل به هو إجماع الصحابة، فأجمعت الصحابة على إثبات علو الله جل وعلا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت فقبل بين عينيه وقال: (يا رسول الله طبت حياً وميتاً) ثم خرج في الناس وهم يتخبطون فهدأهم وقال: (عباد الله! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت). فهذا إجماع سكوتي من الصحابة؛ فإنه قال: (فإن الله في السماء) يعتقد ذلك، والصحابة يسمعون أنه يقول: (إن الله في السماء) ويقرون كلامه.

    أيضاً ورد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما ذهب إلى بيت المقدس وكان على بعيره قالوا: لو ارتقيت برذوناً يعني لأجل أن الناس يهابونك ويعلمون أن لك مكانة وأنك أمير المؤمنين، فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه منكراً عليهم مشيراً إلى السماء: (الأمر من هاهنا لا من هاهنا) يعني: ليست المظاهر ولا المهابة ولا المكانات تحرك الناس أو تأتي بالنصر أو تأتي بالهزيمة، بل النصر من عند الله والتمكين من عند الله الذي هو في السماء، والتوفيق من الله جل وعلا الذي هو في السماء. فهذا أيضاً رد على الأشاعرة الذين يحرمون الإشارة إلى السماء؛ فإنه أشار إلى السماء وقال: (الأمر من هاهنا وليس من هاهنا).

    وفي رواية أخرى أنه مر في طرقات المدينة، فقابلته خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها فقالت: (إيه يا عمر !كنت في مكة تسمى عميراً ،يعني: تلعب مع الأطفال فتضربهم، ثم أصبحت عمر والآن يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر ! فإن من خشي الموت أمن الفوت، ومن آمن بالوعد أمن من الوعيد، اتق الله يا عمر ، فقال رجل: يا امرأة! أما تعرفين من تكلمين؟! تجرأت على أمير المؤمنين. قال: دعها فإنها خولة بنت حكيم التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات) وقع هذا بمحضر من الصحابة وهم يسمعون قول عمر : (من فوق سبع سماوات) ولا منكر له منهم.

    وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! إن المرأة كانت تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض حديثها، والله يقول من فوق سبع سماوات: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]). فقالت: (من فوق سبع سماوات).

    وكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. فهذا دليل على أن الصحابية الجليلة أم المؤمنين تعتقد أن الله فوق السماوات، وإقرار من أمهات المؤمنين على أن الله فوق السماوات.

    وفي التحكيم: لما جاء سعد بن معاذ وحكمه رسول الله في بني قريظة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم، قال: نعم، فقال: تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حكمت بما حكم به الله جل وعلا من فوق سبع سماوات)، فهذا اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعلا فوق السماوات السبع.

    وعن ابن مسعود بسند فيه كلام والراجح التصحيح قال: (ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة عام إلى السابعة، وما بين السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والله فوق العرش، ولا يخفى عليه منكم شيء سبحانه وتعالى).

    فهذه جملة من أقوال الصحابة رضوان الله عليهم تثبت الإجماع على فوقية الله جل وعلا، والكلام ما زال محصوراً في العلو المطلق.

    ودخل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على عائشة وهي في النفس الأخير وهي تموت رضي الله عنها وأرضاها، فكان يفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله) فقال: أبشري يا أم المؤمنين! إنك حبيبة رسول الله، وزوجته في الجنة، وبرأك الله من فوق سبع سماوات، فهذا دليل على أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعتقد هذه العقيدة والصحابة يقرون بها.

    دلالة العقل على علو الله عز وجل

    الدلالة الرابعة على علو الله جل وعلا: دلالة العقل، وأقصد بالعقل: القياس، أو محض النظر، فأقول: دلالة العقل تدل على فوقية الله، وعلى علو الله جل وعلا بمقدمات ونتائج، من المقدمات: أن السفول صفة نقص والعلو صفة كمال، والقاعدة العريضة عند كل الناس بالاتفاق: أن صفات الكمال يتصف بها الله جل وعلا، فيكون العلو صفة من صفات الله جل وعلا دل عليها العقل؛ لأن السفول صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص.

    ومن المقدمات والنتائج أن تقول: إن الله تعالى إما في العلو، وإما في السفول، فلو قلنا: إنه في السفول كان الكون فوقه، ولا يمكن السيطرة على ما يكون فوقه، فلزم أن يكون في العلو؛ لأنه هو الذي يدبر الكون، كما قال عز وجل: يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد:2]، فهذا التدبير يكون من علو.

    دلالة الفطرة على العلو

    الدلالة الخامسة والأخيرة على علو الله جل وعلا: دلالة الفطرة، فما من أحد إلا وهو مجبول مفطور على علو الله جل وعلا، ولا ترى أحداً ضاق به المقام، أو نزلت به نازلة إلا وقلبه يهفو إلى أعلى، ونظره إلى السماء، وكأن القلب يحوم حول العرش، ودائماً ترى الراقي الذي يتعبد لله جل وعلا يسمو بروحه إلى السماء.

    فدلالة الفطرة تثبت علو الله جل وعلا في أكثر من نوع: فعندما تمر بالمرء ضائقة أو نازلة وأراد أن يدعو تراه يرفع يديه إلى أعلى، وهذه دلالة على أنه يدعو من في العلو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما قال: (اللهم وعدك الذي وعدت، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك، وكان يرفع يديه حتى سقط رداؤه من على كتفيه) ولما دخل عليه الرجل، وقال: جاعت العيال وهلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا، رفع يديه إلى السماء، ولم ينزل حتى تحدر المطر من على لحيته. فالشاهد: أنه رفع يديه لله جل وعلا، فهذه فطرة الإنسان تراه يرفع يديه عند الدعاء وقلبه معلق بمن في السماء.

    وإذا أراد شيئاً ينظر إلى السماء مضطراً إلى ذلك، فسيد الخلق كان يحب أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان يديم النظر إلى السماء، قال الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] فهو كان ينظر إلى أعلى؛ لأنه يعلم أن الله في العلو، فهذه دلالة الفطرة.

    وقد ورد بسند مختلف فيه، والراجح -والله أعلم- التصحيح: (أن سليمان ذهب ليستسقي، فلما ذهب ليستسقي ومعه حاشيته رأى نملة رافعة قوائمها، كأنها ترفع يديها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم اسقنا، فقال: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم) فهذه النملة خلق من خلق الله جل وعلا تعلم بفطرتها أن الله في السماء.

    وهناك قصة طريفة جداً لـأبي المعالي الجويني لما كان يجلس في مجلس العلم، فجلس معه الهمداني فقال: كان الله وما كان العرش -أي: أن العرش ما كان مخلوقاً، بل كان الله وحده- والآن الله على ما كان قبل وجود العرش، ويؤول العرش بالملك، ويقول: ليس بمستوٍ على عرشه، فهو ينفي العلو، فقال له الهمداني : يا أستاذ! أريد منك إجابة، ما الذي يحدث معنا ضرورة في القلب إذا قال العارف بالله: يا ألله! يتجه قلبه ضرورة إلى السماء؟! فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ؛ لأنه يجد ذلك في قلبه ولا يستطيع أن يدفعه. فبالفطرة تعلم أن الله عال في السماء بائن من خلقه جل وعلا.

    هذا هو العلو المطلق، وهو علو الذات وعلو الشأن وعلو القهر، فعلو الشأن وعلو القهر اتفقت عليه جميع الطوائف، أما علو الذات فاختلفت فيه الطوائف كما سنبين.

    والعلو المقيد هو علو الله على العرش، كما قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والعلو المطلق صفة ذات، والعلو المقيد صفة فعل، أي: تتعلق بمشيئة الله جل وعلا؛ إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو. س

    1.   

    معاني الاستواء

    قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى الاستواء يأتي في اللغة على ثلاثة أوجه: إما أن يتعدى بنفسه أو يتعدى بإلى أو يتعدى بعلى، فإذا تعدى بنفسه يكون بمعنى اعتدل وقام، أو اعتدل قائماً، يفهم هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (استووا ولا تختلفوا) أي: اعتدلوا حال كونكم قائمين، ويتعدى بإلى فيكون بمعنى القصد، وهذا هو الذي يؤوله المعطلة والمعتزلة والجهمية، وتكون على بمعنى إلى فيكون معنى استوى إلى كذا أي: قصد كذا، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29] وليس معنى استوى إلى السماء علا وارتفع، بل المعنى: قصد السماء ليخلقها. ويتعدى بعلى كما في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، وتكون على أربعة معان: علا وارتفع وصعد واستقر.

    وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الرحمة وهي صفة ذاتية، يعني: أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، والعرش هو السقف الذي أحاط بالسماء، وهو في اللغة: السرير الخاص بالملك، والله جل وعلا وصف عرش ملكة سبأ بأنه عظيم فقال: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] فكيف بعرش الله جل وعلا؟

    فالعرش هو السرير الخاص بالملك، وهو سرير عظيم وصفه الله بالعظمة والمجد فقال: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، وقال جل وعلا: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116] فوصفه بالكرم، وفي قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] وصفه بالعظمة، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فرأيت موسى متعلقاً بقوائم العرش)، فدل هذا الحديث على أن للعرش قوائم، ويحمله ثمانية ملائكة، ويؤول أهل البدع العرش بالملك فيقولون: العرش معناه: الملك، فنقول لهم: هذا لفظ ظاهر قد صرفتموه عن ظاهره، فما القرينة الصارفة له عن ظاهره؟ وهل يصح أن نقول: الرحمن على الملك استوى؟! حاشا لله، فهم يقصدون بذلك أن تقول: الرحمن على الملك استولى كما سنبين تأويلاتهم الباطلة.

    وأيضاً هذا التأويل تأباه النفس، وقال تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] فهل معنى هذا يحمل ملك ربك؟! وفي الحديث: إن موسى عليه السلام رآه النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقوائم العرش. فهل معنى ذلك: أن موسى مسك وقبض على قوائم الملك بيده، لا بقوائم العرش؟! فهذا رد عليهم.

    والحديث الموقوف على ابن مسعود : بين (الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام) وصح أن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، فما بالكم بالعرش؟!

    1.   

    العرش مخلوق قبل السماوات والأرض

    هل خلق الله العرش أولاً أم السماوات والأرض؟

    قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، ففي هذه الآية الترتيب الزمني للاستواء لا للخلق؛ لأن هناك آية أخرى أثبتت أن العرش خلق قبل السماوات، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ [هود:7] أي: وكان عرشه على الماء حين خلق السماوات والأرض، إذاً العرش مخلوق قبل الأرض.

    1.   

    ذكر بعض الأدلة على علو الله عز وجل

    ثم ساق المؤلف الأدلة على علو الله التي تكلم عنها سابقاً ومنها قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وقوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك:16]، وقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] وفي هذه الآية التصريح بالفوقية.

    ثم سرد المؤلف الأحاديث من السنة، ومنها خمسة أحاديث ضعيفة، وسنأخذ بعضها ونعلق عليها تعليقات مهمة، فمن هذه الأحاديث الحديث رقم ستمائة وأربعة وخمسين، وفيه ضعف في سنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)، الشاهد من هذا الحديث (رفع نظره إلى السماء)، والنظر من دلالة الفطرة.

    والحديث ستمائة وسبعة وخمسون: عن ابن مسعود : (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)، وجه الدلالة في قوله: (في السماء) التي بمعنى على السماء.

    والحديث ستمائة وثمانية وخمسون قال عمر : والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك، ثم قتله لقتلته به. يعني: جعلته في ذمة الله وأعطيته الأمان بإشارتك إلى السماء، كأنه يقول: الله يشهد بيني وبينك أني أعطيتك الأمان فغرر به؛ لأنه أشار إلى السماء فضمنه ذمة الله جل وعلا، فلما نزل قتله، قال عمر : أقتله به؛ لأنه غرر بالرجل، فوجه الشاهد من الأثر أنه قال: (أشار إلى السماء) أي: يعطيه ذمة الله جل وعلا الذي في السماء.

    وهنا خلاف فقهي هل يقتل المسلم بالمستأمن؟ الراجح أن المسلم لا يقتل بكافر ولو كان مستأمناً أو ذمياً، والأحناف فقط يقولون: يقتل به. وكلامهم ضعيف واستدلالاتهم أضعف، ويحمل هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى أنه يقتله بالتغرير وبالخيانة، فهو قتل تعزير لا قصاص؛ لأن في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، ثم قال: فإن أرادوك على ذمة الله فلا تفعل وأنزلهم على ذمتك، فإنك إن تخفر ذمتك خير لك من أن تخفر ذمة الله جل وعلا)، والأثر موقوف على عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويقدم عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس : أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! وقد قال رسول الله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم) ومفهوم المخالفة لقوله: (تتكافأ دماؤهم) أن غير المسلمين لا تتكافأ دماؤهم مع المسلمين، ولا يقتل مسلم بذمي لكنه يعتبر عاصياً.

    والحديث الأخير، في تفسير هذه الآية: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] قال ابن عباس : لم يستطع أن يقول: من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم.

    وسئل مالك عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا الكلام أصله لـربيعة الرأي شيخ مالك ، وأصله موقوف على أم سلمة، وبعضهم رفعه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أي: أنه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً على أم سلمة، فالاستواء في اللغة معلوم المعنى، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

    وقد سئل الإمام مالك : ما معنى قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقال السائل: يا أبا عبد الله ! ليس هذا معناه إنما معناه استولى. قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى. وهذه صفة نقص، وكأن الله جل وعلا نازعه أحد فأخذ منه الملك، ثم استولى بعد ذلك على الملك، حاشا لله.

    1.   

    استغناء الله عز وجل عن العرش

    إن قيل: هل الله تعالى محتاج للعرش وحملته؟ قيل: ليس فوقيته كفوقية العباد، فالعرش ومن يحمل العرش يحتاجون إلى الله جل وعلا، والله هو الغني، والله لا يحتاج إلى العرش، بل صفة الاستواء لحكمة من عند الله جل وعلا، وهي صفة كمال تدل على أن الله إن شاء أن يفعل شيئاً فعله.

    وإن قيل: هل العرش يخلو منه سبحانه وتعالى؟ قيل: لا، بل العلماء قالوا: ينزل من عرشه ولا يخلو منه العرش؛ لأن الله ينزل بكيفية يعلمها الله جل وعلا، فالله ينزل نزولاً يليق بمقامه وجلاله وكماله، ولا نقول: يخلو منه العرش، ولا نعرف كيفية النزول، فالسماء لا تظله ولا تقله بحال من الأحوال.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755987602