إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنسللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ورد ذكر الجن في الآيات والأحاديث، فيجب الإيمان بوجودهم، وبما ذكر من صفاتهم، وهم مكلفون كالإنس، وسيجازون بأعمالهم يوم القيامة.

    1.   

    حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

    أصل خلقة الجن وأصنافهم

    قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن إبليس خلق من خلق الله].

    انتقل المصنف إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات أن إبليس خلق من خلق الله جل وعلا.

    وقد سمي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم -يعني: اختفائهم- ولأنهم أخفى ما يكون على الإنسان، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].

    والجن خلق من خلق الله جل وعلا، خلقوا قبل بني البشر، وهذه المدة حددها بعض العلماء بعشرين سنة أو أكثر، وهذا لا دليل عليه، والصحيح الراجح: أنهم خلقوا قبل البشر مع جهلنا للمدة، ويستدل لذلك بقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، فهذا قياس من الملائكة، وهذه دلالة على أن للملائكة عقولاً؛ لأن هناك من الناس من ينكر أن يكون للملائكة عقول، فهم قاسوا على ما سبق، كما فسر ذلك ابن كثير ، حيث قاسوا البشر على من سبقهم من الجن، فالجن هم الذين أفسدوا في الأرض من قبل فقاسوا عليهم، وأيضاً في بعض الروايات التي يذكرها ابن كثير : أن إبليس طاف بآدم عليه السلام قبل أن ينفخ فيه الروح، فدخل من فيه وخرج من دبره، وقال: والله إنك لضعيف، لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت أنت علي لأفتننك، فهذه دلالة على أنه مخلوق قبل أن يخلق آدم.

    ومادة خلق الجن غير مادة خلق البشر، فقد خلقوا من مارج من نار، أي: من لهب مختلط بالسواد، قال الله تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، وقال جل وعلا في سورة الرحمن: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15]، قال بعض العلماء: هو اللهب المختلط بالسواد، وإبليس هذا هو سيد القائسين قياساً فاسداً عندما اعترض على ربه في السجود وقال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، ثم بين العلة وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

    فمادة خلق الجن من نار، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما ذكر لكم)، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لكتاب الله: أن مادة خلق الجن من النار، ففيهم خفة، ولهم هيئات مختلفة، يعني: ليسوا كلهم سواء كبني البشر، ودل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الجن ثلاثة أصناف: فصنف يطيرون)، إذاً: لهم أجنحة يطيرون بها، فهذا صنف مختلف في الخلقة عن غيره، أو نقول: أصل الخلقة واحدة لكنهم يتهيئون أو يتكيفون بكيفيات مختلفة، قال: (وصنف حيات وكلاب)، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا القطط السوداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، وقال بعض الفضلاء: إن الجن يمكن أن يتمثل في صورة الكلب، وقال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) يعني: شيطان الكلاب، فالكلاب لهم شياطين كما أن للإنس والجن شياطين، وهذا مرجوح كما سنبينه.

    قال: (وصنف يرتحلون ويظعنون) يعني: الصنف الثالث من الجن، يرتحلون ويظعنون، يعني: هم رحالة دائماً، فهذه أصناف الجن.

    إذاً: مادة خلقهم النار، وأصنافهم مختلفة.

    الجن مكلفون

    الجن مكلفون كبني البشر، لهم الثواب إذا أحسنوا وعليهم العقاب إذا أساءوا، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    الاستثناء هنا يمكن أن ينزع منه (ما) و(إلا) فيكون المعنى: خلقت الجن والإنس ليعبدون، ثم انزع (الإنس) وأكمل الجملة لو كانت في خارج القرآن فتقول: خلقت الجن ليعبدون.

    إذاً: الحكمة من خلق الجن هي العبادة، فهذه دلالة على أنهم مكلفون ولهم الثواب وعليهم العقاب، بل هم مخاطبون بفروع الشريعة، بل حتى في النكاح، فلو قلنا بوجوب النكاح على الموسر نصحب الحكم على الجن أيضاً؛ لأنهم مكلفون ومخاطبون بفروع الشريعة.

    وقد ثبت عن ابن مسعود بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وأمرهم ووعظهم وذكرهم)، والقرآن أصرح من ذلك وأرقى دلالة، قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29]، ونحن أولى بذلك منهم، فهم عندما سمعوا وانقادوا وفهموا عن الله قول الله جل وعلا ذهبوا لينذروا قومهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29].

    وهذه دلالة على أنهم مكلفون.

    وأيضاً هم أصناف من حيث الظلم، ومن حيث الحقد والحسد، ومن حيث الإسلام والكفر، والعتو في الكفر، فمنهم الجني ومنهم العفريت ومنهم المارد، قال الله تعالى على لسان الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا [الجن:11]، وقال أيضاً: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] يعني: الظالمون، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14-15].

    فهؤلاء أيضاً أصناف من الجن، فمنهم المسلم ومنهم الكافر؛ ولذا نقول: إن المصروع لو صرع بجني مسلم فلك أن تخاطبه وتقول له: قد ظلمت، اتق الله واخرج، وكما نعلم فإن الصرع موجود حقاً من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم قد عالج من السحر، وعالج من الصرع، وأخرج الجني من الإنسان المصروع رغم أنف هؤلاء المبتدعة الذين يردون ذلك كله.

    ونذكر هنا مسألة مهمة حول الجن؛ وهي أن الجن له فقه وله علم ويعلّم، وقد حصل ذلك لأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو هريرة ، فقد علمه جني، إذ فاقه فقهاً في مسألة فعلمه إياها، وهذا هو الجني الذي جاء متمثلاً في صورة الرجل، فقد جاء في الصحيحين: (أن أبا هريرة كان حارساً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فكان هذا الرجل يأتي ويأخذ من الصدقة، فيأخذه أبو هريرة ويقول: سآخذك إلى رسول الله، فيقول: دعني عندي عيال ويعده ألا يعود، ثم يأتيه في الليلة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عنه ويخبره أنه سيعود، ثم بعد ذلك جاء في الليلة الثالثة فأمسكه وقال: لا بد أن آخذك إلى رسول الله، فقال: دعني وسأعلمك كلمات ينفعك الله بها، ثم علمه فقال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ آية الكرسي). وفي رواية قال: (إذا قرأت آية الكرسي فلا يزال عليك من الله حافظ بهذه الآية).

    فلما ذهب أبو هريرة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره قال له: (صدقك وهو كذوب) يعني: صدق في تعليمك هذا، وهذه أصبحت سنة من هذا الجني الذي لا نعرف اسمه، وهي سنة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما قاله هذا الجني من أننا لا ننام حتى نقرأ آية الكرسي.

    استمتاع الجن بالإنس وحقيقة وقوع الزواج بين الجن والإنس

    وهناك مسألة مهمة تتعلق بالجن ألا وهي: هل الجن يستمتعون ويتزوجون من الإنس؟ وهذه القضية زل فيها كثير من الذين لا تستطيع عقولهم قبول مثل هذه الحقائق، فأسأل الله أن يقروا بالشرع أو يبتليهم الله بالصرع، وأن يدخل فيهم مائة جني حتى يقروا بهذا الشرع القويم؛ لأنهم يردون أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتنطعون ويقولون: هذا ليس بصحيح.

    أقول: الجني يمكن أن يتزوج من الإنس وقد سئل الإمام مالك : هل يتزوج الجني بالإنسية؟ قال: أكره هذا. فلما سألوه عن العلة، قال: تأتي المرأة بحملها وتقول: هذا من زوجي الجني، فتدخل الشبهة على الناس.

    فالإمام مالك يقرر أنه يمكن أن يحصل زواج، وأن يكون فيه ولي وشهود، فهذا إقرار منه، فأقول: حتى وإن كان بعض أهل السنة يقولون بهذا، لكن نحن نقول: أنه لا تزاوج الآن، ولا نستطيع أن نقول بالتزاوج، لكن نقول بلازم التزاوج، وهو الاستمتاع، فللجني أن يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني، وأنا لمست هذا واقعاً وعندي في ذلك الأثر والنظر، أما الأثر فقد قال الله تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، وهذا وجه الشاهد، رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]، أما وجه الدلالة فتمتع الجني بالإنسي بأن يخبره بالكلمة التي يسترقها ويكذب عليه مائة كذبة، فهذا المقصود باستمتع بعضنا ببعض.

    والمتعة جاءت في السياق بصيغة النكرة ليست معرفة، والنكرة تفيد العموم، فقوله: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ، هذا الفعل يدل على عموم الاستمتاع: استمتاع بالإخبار.. استمتاع بالمتعة الجنسية المعروفة.. استمتاع بما يصنع له من الكرامات والمعجزات، فهذه على العموم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ .

    فهذا دليل على أن الاستمتاع موجود بين الجن والإنس، وخذ ما هو أقوى وأرقى في الدلالة: أن الجني يفعل ما يفعله الإنسي، قال الله تعالى: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] (لم يطمثهن) يعني: يمكن للجني أن يفعل ما يفعله الإنسي، فسيتمتع كما يستمتع الإنسي، ويجامع كما يجامع الإنسي، وهذا واقع، فقد ألزمت مرة أن أقرأ على رجل -بحكم وجودي في ذلك المكان- وكان لا يريد أن يقرأ عليه أحد، وكان هذا الرجل تأتيه جنية في أحسن صورة، ويستمتع بها كيفما شاء، لدرجة أنه هجر امرأته، فصار لا يأتيها بحال من الأحوال، فهو يستمتع بالجنية، وتأتيه في كل صورة يتخيلها. وهذا يحرم، ومثل هذا لا يرجم في ذلك ولو كان محصناً، ومع ذلك فإن لازم النكاح -وهو الاستمتاع- موجود.

    أما مسألة النكاح بين الجني والإنسي فهذا صعب، وما جاء في تفسير ابن كثير في مسألة بلقيس لما كشفت عن ساقيها بسبب الأرض الممردة بالقوارير، قال: إن ذلك بسبب أن سليمان كان يشك في أن أباها من الجن، وهذا ليس بصحيح، لكن نحن نقول أثراً ونظراً وواقعاً: إن الجني يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني قال الله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ .

    وبعض العلماء: يرجح أن من رأى في منامه أنه يجامع فهذا من تلاعب الشيطان به، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم.

    إثبات دخول الجني في الإنسي وإلحاق الضرر به

    تبقى مسألة تتعلق بالجن وهي: طالما أن الجني يستمتع بالإنسي فهل يدخل فيه أم لا يدخل؟

    الصحيح الراجح في ذلك أثراً ونظراً: أن الجني يدخل في الإنسي.

    أما الدليل من الأثر: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).

    إذاً: فالشيطان يدخل في الإنسان، وله خفة بحيث يمشي في العروق كالدماء، وأنت ما تدري عن عظم أو دقة خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فهذه الدلالة من الأثر أنه يدخل بني آدم.

    أما واقعاً فقد ورد بالنص وبالاستنباط:

    أما بالنص: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة عندها غلام قد جن من المس، يعني: حدث له صرع من الجن، ويغيب هذا الجني عقله، فيذهب عقله مرة ويفيق مرة، فلما اشتكت هذه المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتيني بالغلام، فأتته بالغلام فأخذه وأداره فضرب على ظهره). رواه الطبراني بسند صحيح، وفي هذا دلالة على أن الضرب لا يقع على الإنسي بل يقع على الجني، لكن لا يحصل هذا من كل إنسان، فبعض الناس -ممن ليس عنده علم فقه ولا علم بالقراءة ولا علم بكيفية علاج المصروع- أخذ يضرب امرأة ويسب الجني الذي بداخلها ويقول: اخرج عدو الله، اخرج يا ظالم، ويضرب المرأة على رأسها بالعصا حتى ماتت المرأة!

    فلما أحس هذا الرجل أنه سيعدم، قام بحلق نصف لحيته وترك النصف الآخر ومشى في الشارع أمام الناس من أجل أن يحسبوا أنه مجنون، فالمسألة تحتاج لعلم!

    فالمقصود: أن الضرب لا يقع للإنسان وإنما يقع على الجني، لكن للخبير التقي الذي يعرف كيف يعالج المصروع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الغلام وضربه على ظهره وقال: (اخرج عدو الله إني رسول الله)، وفي رواية أخرى قال: (فتح فمه ثم قرأ فيه ونفث فيه وقال: اخرج عدو الله إني رسول الله)، هذا فعل رسول الله، فأين المتنطعون؟! وأين هؤلاء الذين جنوا في عقولهم فرفضوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟!

    وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل لما قالوا له: هناك مصروع، فقال: خذ نعلي واذهب به إليه وحرج عليه وقل: يأمرك الإمام أحمد أن تخرج، فخرج الجني، وقيل: بعدما مات أحمد رجع فيه مرة ثانية.

    والمرأة السوداء التي كانت تصرع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورآها ابن عباس تتعلق بأستار الكعبة فسألها عن ذلك، فقالت: أخشى من الخبيث أن يكشفني، وهي تعني بالخبيث: الجني الذي يصرعها، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله: (إن شئت دعوت الله لك فيشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي أن لا أتكشف)، فهي من فقهها فضلت الصبر كما أنها أرادت الستر. فهذا الحديث دلالته ظاهرة على أنها كانت تصرع ويتلبسها الجني.

    وأيضاً ابن صياد أكبر الدجاجلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويحسبه المسيح الدجال ؛ لأنه لا يعلم الغيب، ويختبئ له خلف شجرة، فيجده معلقاً بين شجرتين وله همهمة مثل همهمة الشياطين، فقالت له أمه: (هذا محمد فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترى؟ فيقول: أرى عرشاً على الماء، ويأتيني صادق وكاذب، فقال له النبي: خبأت لك خبيئة، قال: الدخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك).

    وهذا هو محل الشاهد.

    وقد رآه ابن عمر في سكة من سكك المدينة فنظر إليه ابن عمر فإذا بالرجل ينتفخ وينتفخ حتى سد الطريق الذي سار فيه ابن عمر ، فذهب إليه ابن عمر فأوجعه بعصاه ضرباً، وذهب إلى حفصة وقال لها: أما رأيت ماذا فعل ابن صياد كذا وكذا وكذا، قالت له: وكيف تضربه؟ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه يخرج من غضبة يغضبها)؟ فهي حسبت أنه المسيح الدجال .

    المهم: أن هذا الانتفاخ الذي وقع له هو من الجن.

    فالجني يتعامل مع الإنسي ويصرعه، ولذلك كان ابن تيمية يقول: كنت أعالج امرأً فقلت للجني: اخرج، أنت ظالم، فقال: أنت شيخ الإسلام أخرج كرامة لك لتقاك وورعك. وما قال ذلك إلا ليفتنه، ولذلك قلنا: إن المعالج لا بد أن يكون فقيهاً لا جاهلاً، إذ إنه يمكن أن ينصب له الجني شرك الكفر والشرك والاستعانة به.

    لذلك قال له ابن تيمية الفقيه الحبر: اخرج عدو الله لا كرامة لي ولكن طاعة لله، فإنك ظالم.

    يعني: اخرج لأن هذه مظلمة ستحاسب عليها يوم القيامة.

    إثبات أن الجن يأكلون ويشربون ويبولون

    الجن يأكلون ويشربون ويبولون كما يفعل بنو آدم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن العظم: (إنه طعام إخوانكم من الجن).

    ومن أدلة ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فأكل كل ما في الصفحة من طعام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سم الله، رأيت الشيطان يأخذ بيده ليأكل معه)، فهذه دلالة على أنه يأكل.

    ومن الأدلة على أن الجن يشربون ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: (مر رسول الله برجل يشرب قائماً، فقال له: أتريد أن يشرب معك الهر؟ -أي: القط- فقال: لا يا رسول الله! قال: يشرب معك من هو أشر منه، الشيطان)، فهذه دلالة على أن الشيطان يشرب.

    وعندنا أدلة على أن الشيطان يبول في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ذكر عنده فلان نام حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وقوله: (حتى أصبح) فيه تأويلان:

    التأويل الأول: أنه نام حتى أصبح في الفجر، يعني: حتى طلع الفجر فلم يقم يصلي لله في الليل، وهذا قول بعض العلماء، فحذاري من التفريط في الأخذ من الليل ولو بركعة واحدة يقوم بها العبد لله جل وعلا.

    والتأويل الثاني وهو الذي رجحه الجمهور، وهو الذي يرتاح إليه القلب ويميل إليه: أنه بات حتى أصبح فلم يصل الفجر.

    وخلاصة القول: إن الجني يشارك الإنسي في كل شيء، حتى إنه مكلف كما هو مكلف.

    1.   

    الأسئلة

    الاستدلال بآية الربا على دخول الجني في الإنسي

    السؤال: هل نستدل بآية الربا في الرد على منكري دخول الجني في الإنسي؟

    الجواب: نعم. فآية الربا من أوضح الأدلة على ذلك، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، فهل هناك أصرح من هذه الآية من كتاب الله جل وعلا، فكيف يردون هذه الآيات؟! سبحان الله! لا يكون هذا إلا لمن أراد الله أن يعمي بصيرته ويضله، ومن يضلل الله جل وعلا فلن تجد له ولياً مرشداً.

    تمثل إبليس للنبي في صلاته حقيقي وليس من قبيل التخيل

    السؤال: هل كان تمثل إبليس للنبي في صلاته بسبب السحر؟

    الجواب: ليس هذا من تأثير السحر، إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم متمثلاً له وأراد أن يحرقه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وكاد يربطه في السارية ليلعب به الصبيان لكنه قال: (لولا دعوة أخي سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] لربطته في سارية المسجد).

    قدرة الجني على التمثل في صورة الإنسان

    السؤال: هل يتمثل الجني في صورة شخص معين؟

    الجواب: للجني أن يتمثل بصورة الإنسان، ويأتي الإنسان على أنه إنسان، فـأبو هريرة قلنا: إنه رأى رجلاً فقيراً، وهو يتمثل في صورة حيات كما ثبت في قصة الحية التي وجدت في مكان المرأة فذهب الرجل ليقتلها برمحه فاضطربت عليه، فما يدري من كان أسرع موتاً، فلما أخبر النبي بالقصة قال: (إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوهم ثلاثة أيام).

    دخول بعض الجن في الإنس بسبب أذية الإنسي لهم

    السؤال: هل صحيح أن من الجن من يدخل في الإنسي بسبب أذية الإنسي له؟

    الجواب: هذه صحيح، فالإنسان أصلاً لا يرى الجن فيحدث أنه يذهب ليبول في جحر أو في الصحراء أو في أماكن يتوقع أن يسكنها الجن، فالجني جاهل، فإذا بال الإنسان عليه دون أن يراه، يقوم ويصرعه عقاباً له، وأيضاً إذا صببت عليه ماء حاراً خاصة في الحمام الذي هو مسكنهم، فهذا الماء الساخن جداً قد يصيب أحد الجن فيؤذيه أو يقتله، فيصرعه الجني الآخر للانتقام منه.

    فك السحر بالسحر ليس علاجاً حقيقياً

    السؤال: وجدنا في الواقع أن بعض المسحورين يعالجون بالسحر ويتعافون، فما قولكم في ذلك؟

    الجواب: هذا هو حل السحر بالسحر، والمريض يظهر له في البداية أنه تعافى لكن فيما بعد ستكون حاله أكثر سوءاً من السابق، فهذا حل سحر بسحر، وهذا يوقع الناس في الكفر والشرك، فلا يجوز لهم أن يفعلوا هذا.

    كيف يفعل من أراد صب ماء حار في الحمام ليتجنب أذية الجن؟

    السؤال: هل تشرع التسمية لمن أراد أن يصب ماء حاراً وهو داخل الحمام؟

    الجواب: لو أردت أن تصب ماءً حاراً في الحوض فعليك أولاً أن تسمي الله حتى لا تؤذي الجان؛ لأن هذا مكانهم، فهم يسكنون في الحمامات والأسواق والبحار والجحور، فإذا أردت أن تصب الماء الحار فعليك أن تخرج وتسمي الله ثم تدخل الحمام أو تسمي بقلبك.

    ذكر الآيات التي تقرأ على المصروع

    السؤال: ما هي الآيات والأذكار التي يشرع للراقي أن يقرأها على المصروع؟

    الجواب: الإنسان المصروع تقرأ عليه فواتح سورة البقرة وآية الكرسي، وهي أشد شيء يزعجه، وإذا أردت فزد عليها بقوله تعالى: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [الأنعام:128]، وسورة الصافات من بدايتها: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات:1]، إلى قوله: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [الصافات:11]، وتكرر منها قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ [الصافات:6-8]، تكرر هذه أيضاً، وأيضاً آية: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [المؤمنون:115]، وتكررها، والشطر الأخير من سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف:29]، وقُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن:1]، والمعوذتان وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

    لا يشترط في الراقي القدرة على محاورة الجن

    السؤال: إذا كان الراقي لا يستطيع أن يحاور الجني المتلبس بالإنسي فماذا عليه؟

    الجواب: إن كان لا يستطيع أن يدعوه إلى الله، أو يحاوره، فما عليه إلا أن يقرأ، فإنه مع مواصلة القراءة عليه سيموت لا محالة.

    أسباب دخول الجني في الإنسي

    السؤال: ما هي أسباب تلبس الجني بالإنسي؟

    الجواب: هناك أسباب كثيرة لدخول الجني في الإنسي، فهو يدخل بسبب السحر؛ لأن السحر نوعان: سحر بدون جن وسحر بجن، كذلك يدخل عند شدة التفريط من المسلم، يعني: إذا كان ملتزماً لكن غفل عن ذكر الله وتقاعس عن ذكر الله ويكون الشيطان يتربص به الدوائر، فإذا رأى منه غفلة تلبس به، ومن أشد الأسباب معصية الله جل وعلا، فهي التي تجلب الشياطين على الإنسان، وعند حل السحر بالسحر يكون الشيطان فيها متمكناً غاية التمكن من الإنسي.

    إمكانية تلبس الجني بمن يحافظ على الأذكار ويواظب على العبادات

    السؤال: هل يتلبس الشيطان بالإنسي حتى مع عبادته ومحافظته على الأذكار؟

    الجواب: هذا يحصل، لكن يندر أن يكون الإنسان على التزام وذكر لله ويتلبس به شيطان، وقد يكون هذا من باب أن لهذا الرجل درجة عند ربه جل وعلا لا يبلغها بعمله، فالله جل وعلا يبتليه بهذا حتى يرتقي إلى الدرجة التي أعدها الله له.

    الرجل الراقي يمكن أن يتلبس به الشيطان كغيره من الناس

    السؤال: هل صحيح أن الراقي يكون عرضة لتلبس الشياطين به؟

    الجواب: نعم صحيح، وكان بعض الإخوة معالجاً، فجاءت عليه أوقات قصر فيها في طاعة الله وغفل عن ذكر الله فصرعه شيطان، فقيل له: نقرأ عليك، قال: لا تقرءوا علي، وأنا أعرف علاجي، فاعتكف خمسة عشر يوماً في المسجد يقوم الليل ويصوم النهار، فخرج منه فكأنما نشط من عقال.

    كلام شيخ الإسلام والإمام مالك في إثبات الزواج بين الجن والإنس

    السؤال: هل ترد قول مالك وشيخ الإسلام بحصول الزواج بين الجن والإنس؟

    الجواب: ما دام قد قرره شيخ الإسلام وقرره الإمام مالك فنحن نتبع في الإقرار، لكن نقول: لم نشهد، ونقر بالاستمتاع بالأثر والنظر.

    إمكانية تمثل الجني للإنسي بصورة إنسان والتكلم معه

    السؤال: هل يمكن للجني أن يتمثل أمام الإنس ويكلمهم ويخطب فيهم؟

    نعم يستطيع، فيأتيهم على صورة رجل فيخطب فيهم، وقد فعلها الشيطان من قبل فأتى كفار قريش على صورة سراقة ، وقال: إني أرى ما لا ترون، وكان يأتي إلى أبي جهل على صورة مرة وهو الذي كان يخطط له كيف يذهب ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أن جنياً مسلماً ذهب ليدعو من وراءه من الجن.

    الشروط الواجب توافرها للانتفاع بالرقية الشرعية

    السؤال: ما هي الشروط التي يحصل بتوافرها الانتفاع بالقراءة لعلاج السحر؟

    الجواب: أولاً: لا بد للمسحور أو المصروع أن يدعو الله بإخلاص.

    الثاني: أن يستيقن أن كل هذه العلاجات أسباب فقط، وأن الأمر بيد الله جل وعلا.

    ثالثاً: أن يتخير من المعالجين التقي الورع الذي يرضي الله فيما يفعل فقط.

    الجن أصناف

    السؤال: ما هو الدليل على وجود عدة أصناف من الجن؟

    الجواب: من أوضح الأدلة على التصنيف في الجن قول الله جل وعلا: قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ [النمل:39] يعني: هذا صنف من الجن.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755968583