إسلام ويب

الاختلاف في القواعد الأصولية - النهي ومسائلهللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في النواهي الشرعية أن تدل على التحريم ولا تحمل على الكراهة إلا بدليل، وقد اختلف العلماء في ذلك، واختلفوا أيضاً في هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟

    1.   

    تعريف النهي وذكر صيغه

    تعريف النهي

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    فما زلنا مع أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، واليوم نتكلم عن النهي وأثر الخلاف في النهي على المسائل الفقهية، فنقول: النهي في اللغة: ضد الأمر.

    وفي الاصطلاح: طلب الكف على وجه اللزوم والاستعلاء.

    طلب الكف، أي: أن الله جل وعلا يأمر أن تكف عن فعل شيء معين.

    على وجه اللزوم، يعني، لست مخيراً في ذلك.

    على وجه الاستعلاء، يعني: من الأعلى للأدنى، وتقدم الكلام عليه في مسألة الأمر.

    وحكمه: يثاب تاركه ويعاقب فاعله.

    مثال ذلك: قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].

    (ولا تأكلوا): نهي، فهذا طلب الكف عن هذا الأكل.

    على وجه اللزوم، يعني لا تأكل مال أخيك بالباطل.

    وهو على وجه الاستعلاء: يعني من الأعلى إلى الأدنى.

    فيعاقب فاعله: يعني من أكل مال أخيه بالباطل يستحق العقاب يوم القيامة، وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، لكن هو يستحق العقاب بتجرئه على هذه المحرمات.

    ويثاب تاركه: يعني من لم يأكل مال أخيه بالباطل فله الثواب عند الله جل في علاه.

    صيغ النهي

    صيغ النهي كثيرة منها: الفعل المضارع المقرون بلا الناهية، كقول الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، وقول الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، ففيهما فعل مضارع مقرون بلا الناهية.

    وقد يقرن بلا النافية ويكون المطلوب من النفي النهي، فيصبح خبراً يراد به الإنشاء، مثل قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فهذا خبر بمعنى الإنشاء، يعني لا تبدلوا فطرة الله.

    ومن صيغ النهي التصريح بعدم الحل، نحو قول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19]، وقول الله تعالى: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].

    ومن صيغ النهي التصريح بالتحريم، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ [النساء:23].

    ومن صيغ النهي التصريح بالكراهة، والكراهة الأصل فيها التحريم إلا بقرينة، كقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] يعني: وحرم عليكم الكفر والفسوق والعصيان.

    1.   

    حكم النهي

    الأصل في النهي التحريم

    الأصل في النهي التحريم، وهذا فيه خلاف بين العلماء، لكن هذا هو الراجح ما لم تأت قرينة تصرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة، والدلائل على ذلك كثيرة:

    منها قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، ثم قال في آخر الآيات: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال أنس -كما في الصحيح-: جئت إلى سعد بن معاذ ومعه جمع من الأنصار، والكئوس تدور على الرءوس، فصاح الصائح: إن الله حرم الخمر ثم قرأ الآية: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90]، إلى أن قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، فألقوا بالكئوس في الأرض فقالوا: انتهينا ربنا انتهينا.

    فالأصل في النهي التحريم، يعني إذا قيل لك: قال رسول الله: لا تفعل، فيجب عليك ألا تفعل، ويحرم عليك أن تفعل؛ لأن الأصل في النهي التحريم.

    فالصحابة سارعوا في الانتهاء، ولو كان النهي يقتضي الكراهة فممكن أن يشذ واحد منهم فيشرب، ويقول: هذا ليس بمحرم، ولا سيما وهم كانوا يشربون الخمر كالماء، بل أتلفوا المال، وإتلاف المال لا يجوز، فهذا الإتلاف للمال دلالة على أن التحريم كان على القطع والحسم، فسكبوا الخمر في الأرض، ولم يسألوا هل هو محرم أو مكروه، وعدم الاستفصال يدل على أن النهي عندهم على التحريم.

    وأصرح من ذلك حديث غزوة خيبر، فعندما عز عليهم الطعام نحروا الحمر الأهلية، وكانت حلالاً، وغلت القدور باللحوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر الأهلية)، فلما سمعوا النهي ألقوا باللحوم في الأرض وأتلفوا المال، وهذا فيه دلالة أيضاً على التحريم.

    وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل قد لبس خاتم ذهب، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الذهب للرجال، فنزع الخاتم منه وألقاه، وقال: (أيعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في أصبعه!)، فقالوا له: خذه وانتفع به، فقال: والله لا آخذ شيئاً ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم.

    ولو لم يكن النهي على التحريم لما زجر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل هذا الزجر الشديد، ولما أخذ الخاتم وألقاه على الأرض، فهذه دلالة قوية جداً على أن الأصل في النهي التحريم.

    إذاً: الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة.

    صرف النهي من التحريم إلى الكراهة

    اختلف العلماء في مسألة الصارف للنهي إلى الكراهة في مسائل كثيرة منها: النهي عن الاختصار في الصلاة، ومعنى الاختصار في الصلاة على الصحيح الراجح أن يضع اليمنى على اليسرى عند الخاصرة.

    وبعض الأحناف يفعلون هذا، وهي مخالفة للسنة مخالفة صريحة، فوضع اليمنى على اليسرى عند الخاصرة لا يجوز، وفي البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التخصر في الصلاة، وقد فسر علي وغيره الاختصار بهذا التفسير.

    فالعلماء اختلفوا: هل هذا النهي على التحريم أم على الكراهة؟

    جمهور أهل العلم يحملون النهي على الكراهة ولا على التحريم؛ لأن وضع اليمنى على اليسرى على الصدر ليس واجباً، لكنه يستحب، ولو أرسلت يديك فلا عتب عليك؛ لكن تكون قد خالفت السنة، قالوا: فإذا وضع اليمنى على اليسرى على الخاصرة في الصلاة فقد خالف السنة، ولا نقول إنه فعل محرماً، هذا قول الجمهور وهذه حجتهم.

    وأهل الظاهر يرون أن التخصر في الصلاة حرام، وأن من وضع اليمنى على اليسرى على الخاصرة فقد وقع في الإثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والأصل في النهي التحريم.

    والصحيح الراجح قول أهل الظاهر خلافاً لجمهور أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التخصر، والأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، ولم تأت هنا قرينة.

    أما التعليل بأن الضم سنة، فهذا تعليل غير مؤثر في النهي.

    حكم الشرب قائماً

    أيضاً: الشرب قائماً فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المرء أن يشرب قائماً، وقال: (من شرب قائماً فليستقئ)، والجمهور على أن النهي للكراهة؛ لأنه قد ورد الصارف، وهو شرب النبي صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم قائماً.

    فإن قال المعترض: كان ذلك من أجل الازدحام، فنقول: فقد شرب من قربة معلقة قائماً، ولا ضرورة لأن يشرب منها قائماً؛ لأنه يستطيع أن يأخذ القربة ويشرب منها جالساً، فلما شرب منها قائماً علمنا أن فعله صرف النهي من التحريم إلى الكراهة.

    أيضاً: البول قائماً، على القول بصحة حديث عمر -وهو ضعيف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول قائماً)، وقول عائشة : (ما بال قائماً قطا)، فقد صرف النهي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتى إلى سباطة قوم فبال قائماً.

    الصلاة في الأماكن المنهي عنها

    أيضاً: الصلاة في الأماكن المنهي عنها، كالصلاة في المقبرة، وكالصلاة في المسجد وفيه قبر، وكالصلاة في مبارك الإبل، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في مبارك الإبل، ونهى عن الصلاة في الحمام، فهل هذا النهي يحمل على التحريم أم على الكراهة؟

    اختلف العلماء في ذلك على قولين:

    مذهب الحنابلة أنه على التحريم، والشافعي وجمهور أهل العلم أنه على الكراهة، قالوا: والصارف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، وجه الدلالة من هذا الحديث أن كل أرض أدرك المسلم فيها الصلاة فعليه أن يصلي في هذه الأرض، فهذا العموم صارف للنهي.

    والحنابلة خالفوا الجمهور وقالوا: دليل تحريم الصلاة في هذه الأماكن خاص، وهذا هو الحق الصحيح الراجح؛ لأن الدليل الذي جعله الجمهور صارفاً دليل عام، ودليل النهي دليل خاص، والقاعدة عند العلماء أنه يقدم الخاص على العام.

    1.   

    اقتضاء النهي الفساد

    أقسام النهي من حيث تعلقه بذات المنهي عنه

    هل مطلق النهي يقتضي الفساد أم لا؟

    الراجح أن هناك تفصيلاً: فيوجد نهي عن ذات المنهي عنه، ونهي عن وصف ملازم لذات المنهي عنه، ونهي عن أمر خارجي غير ملازم له.

    وبالمثال يتضح المقال.

    الأول: النهي عن ذات الشيء كالزنا والخمر والخنزير، فنقول: عقد الزنا عقد باطل، فإذا تعاقد رجل سافل مع امرأة عاهرة سافلة مثله على الزنا والعياذ بالله فهذا العقد باطل، ومعنى باطل أنه لا يترتب عليه آثاره، فالزانية لا تملك الثمن بعدما زنى بها وأعطاها المال، فإن تابت فلا بد أن تخرج هذا المال.

    وهل ترده عليه؟ الصحيح أنها لا ترده عليه.

    وهكذا العقد على بيع الخمر أو حملها أو الإجارة عليها، كل هذه العقود باطلة، ولا يترتب عليها أثرها؛ لأن النهي هنا عائد على ذات الشيء.

    الثاني: النهي عن الوصف الملازم للذات، أي فالذات ليست محرمة، كالذهب فهو ليس محرماً في ذاته، لكن الحرام هو بيع الذهب لرجل يريد أن يلبسه، فهذا البيع حرام، ولا يترتب عليه آثاره.

    وأيضاً كبيع الذهب بالذهب مع الزيادة، فالذهب بالذهب ليس بحرام، والحرام هو في وصف ملازم للذات وهو الزيادة، فهذا الوصف الملازم للذات يحرم من أجله بيع الذهب بالذهب، فهذا البيع لا يترتب عليه آثاره، ويبطل العقد.

    الثالث: النهي عن أمر خارجي ليس وصفاً ملازماً للذات، ولا هو نهي عن ذات الشيء، كالصلاة في ثوب الحرير، فإذا صلى المرء في ثوب حرير، فهل تبطل الصلاة أم لا؟

    فالثوب الحرير ليس شرطاً ولا ركناً في الصلاة، فهو وصف خارجي، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير سواء في الصلاة أو خارج الصلاة، فهو غير مؤثر في الصلاة، فلو لبس الحرير في غير أوقات الصلاة ولم يصل به فهو آثم، ولو لبسه وصلى به فهو آثم.

    إذاً الإثم على اللبس ولا علاقة للصلاة بذلك، فالصلاة تصح ويأثم بلبس الحرير.

    فالقاعدة إذاً: مطلق النهي يقتضي البطلان والفساد إن كان النهي عن ذات المنهي عليه، كشرب الخمر أو التعاقد على بيع الخمر أو الإجارة على الزنا.

    وإن كان النهي عن وصف ملازم لذات الشيء المنهي عنه، كأن يكون شرطاً فيه أو يكون ركناً من أركانه، فهذا أيضاً تبطل به العبادة وإن كان عقداً لا يترتب عليه آثاره.

    وإن كان النهي عن وصف خارج، فهذا الوصف الخارج لا يقتضي البطلان؛ لكن نقول: يأثم صاحبه ولا تبطل به العبادة، وأيضاً لا يبطل العقد؛ والأمثلة على ذلك كثيرة منها الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فالراجح خلاف مذهب الحنابلة، فأكثر الحنابلة يرون البطلان، وابن حزم يوافقهم على ذلك.

    فالصلاة في المسجد الذي فيه قبر عند الجمهور صحيحة، ويأثم صاحبها عند البعض، وعند البعض لا يأثم؛ لأنه يجعل الصلاة مكروهة في المسجد الذي فيه قبر، والصحيح الراجح الذي لا محيد عنه أنه يأثم المصلي بذلك والصلاة تكون صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد).

    وقلنا بذلك لأن وجود القبر ليس شرطاً من شروط الصلاة وليس ركناً من أركان الصلاة، فيكون هذا النهي عن أمر خارجي، فنقول: لا تبطل الصلاة بهذا، ويأثم المصلي في ذلك المكان.

    الصلاة في المغصوب

    أيضاً: الصلاة في الثوب المغصوب أو الدار المغصوبة أو الوضوء بالماء المغصوب، هذا فيه خلاف بين جمهور أهل العلم وبين الحنابلة، فعند الحنابلة تبطل الصلاة ولا تصح، واستدلوا بحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، ومذهب الجمهور أن الصلاة صحيحة والغصب حرام؛ لأن الغصب ليس شرطاً من شروط الصلاة، وليس ركناً من أركان الصلاة.

    وكيف نرد على استدلالهم بحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد

    نقول: هو صلى صلاة عليها أمرنا، وقد توافرت فيها الأركان والشروط، وغصب غصباً ليس عليه أمرنا، فأثم بالغصب وصلاته صحيحة.

    أيضاً: البيع وقت نداء الجمعة، اختلف العلماء هل يصح العقد عند النداء أم لا يصح؟

    الحنابلة يرون أن البيع باطل، قالوا: مطلق النهي يقتضي الفساد، يعني لا يترتب عليه آثاره، فلا المشتري يمتلك السلعة، ولا البائع يمتلك الثمن.

    وقال الجمهور: البيع صحيح، ويأثمان بمخالفة النهي.

    قال الحنابلة: من باع بيعاً ليس عليه أمرنا فهو رد، أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فهو عقد باطل، والباطل لا يترتب عليه آثاره.

    قال الجمهور: الجهة منفكة، والنهي لا يعود على الذات ولا على وصف ملازم للذات، بل النهي يعود على أمر خارجي، فالله قال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، والسعي إلى الجمعة ليس من أركان البيع، وليس شرطاً من شروط البيع، وركنا البيع متوافران، وهما: الإيجاب والقبول، والشروط متوافرة، فالبيع يصح، والسعي أمر خارج عن البيع، فتتم الصفقة فيملك هذا السلعة، ويملك الآخر الثمن؛ لكنهما آثمان لأنهما خالفا أمر الله الذي قال: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، لكن البيع والشراء صحيح.

    نذر صوم يوم العيد

    أيضاً: من المسائل التي تتعلق بالبطلان والفساد: نذر الصوم يوم العيد:

    فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن صيام يوم العيدين، فلو قال رجل: نذرت لربي إن شفى أمي أن أصوم يوم عيد الفطر، والنذر ثقيل كما قالت عائشة فلا بد من الوفاء به. فلما جاء العيد صام، فما حكم هذا الصوم عند العلماء؟

    اختلف العلماء على قولين، فالجمهور قالوا: صومه باطل لا يصح، ونذره باطل لا يجوز؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الفطر ويوم الأضحى، ومطلق النهي يقتضي الفساد؛ لأن النهي انصب على ذات الفعل وهو الصوم.

    وقال الأحناف: أصل الصوم مشروع وحلال، والنهي غير منصب على الصوم؛ لأن أصل الصوم مشروع، فيصح النذر ويصح الصوم، لكن يأثم المرء؛ لأنه صام في وقت غير مباح له الصوم فيه.

    وقول الجمهور هو الصحيح؛ لأن النهي منصب على ذات الصوم فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصوم يوم العيد ويوم الفطر.

    والنذر باطل لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وهذا النذر معصية.

    أما الرد على الشبهة التي أوردوها بأن الأصل أن الصوم مشروع فنقول: نعم، الأصل في الصوم مشروع على العموم ما عدا يوم الفطر ويوم الأضحى وما عدا الأيام التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامها.

    فنحن نقول بكل الأدلة، فأصل الصوم مشروع لكن هناك استثناءات استثناها الشرع، ونحن ندور مع الشرع حيث دار، والقاعدة أن مطلق النهي يقتضي الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نذر المعصية، فيكون هذا نذر معصية لا يمكن أن يوفى به.

    وقد اختلف العلماء فيمن نذر نذر معصية، هل عليه كفارة أم لا؟ وقد سبق التفصيل في هذه المسألة.

    حكم الخطبة على الخطبة

    مسألة أخرى اختلف فيها العلماء: مسألة الخطبة على خطبة الرجل:

    اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: قول جماهير أهل العلم من الشافعية والحنابلة والأحناف: أن العقد صحيح والزواج صحيح، والعاقد المتزوج آثم؛ لأنه خالف النهي.

    القول الثاني: مذهب المالكية، ولهم أقوال ثلاثة: البطلان مطلقاً، وعدم البطلان مطلقاً كقول الجمهور، والقول الثالث وهو التفصيل، وهو الراجح في مذهبهم، قالوا: إذا بنى بها لم يبطل العقد، وإذا لم يبن بها بطل العقد.

    الظاهرية قالوا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب المرء على خطبة أخيه، ونص الحديث: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)، والأصل في النهي التحريم، ولم تأت قرينة تصرف التحريم إلى الكراهة، وعندنا قاعدة: مطلق النهي يقتضي الفساد، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخطبة على الخطبة، وهذا خالف هذا النهي، وخطب على الخطبة، فيقتضي ذلك البطلان والفساد، فلو تزوجها وفض غشاء البكارة، فعليه مهر المثل بما تمتع منها، ويفسخ العقد ويفرق بينهما.

    وقال الجمهور: العقد صحيح والزواج صحيح، إلا أن هذا الزوج آثم، وعليه أن يتوب إلى الله ويستسمح صاحبه؛ لأنه قد جاء في بعض الروايات (إلا أن يأذن له)، قالوا: فإذا علق النبي صلى الله عليه وسلم صحة الخطبة برضا هذا الخاطب، فهذا يدل على أن النهي منصب على أمر خارجي، وهو رضا الخاطب، لا على عقد النكاح بحال من الأحوال؛ لأن الخطبة ليست ركناً من أركان عقد الزواج، وليست شرطاً من شروط عقد الزواج بالاتفاق، فإذا توافرت الشروط والأركان فيكون النهي منصباً على أمر خارجي وهو رضا الخاطب الأول، فإذا كان النهي منصباً على أمر خارجي فنقول: يصح العقد ويصح الزواج، ويترتب عليه آثاره ويأثم هذا المتزوج.

    والرد على احتجاج الظاهرية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وأنه من عقد عقداً ليس عليه أمرنا فهو رد باطل، فنقول: هو قد عقد عقداً عليه أمرنا، فقد توافرت فيه الشروط والأركان؛ لكنه تعدى على غيره فعمل عملاً ليس عليه أمرنا، فاستحق الإثم ولم يستحق العقد البطلان؛ لأنه قد توافرت فيه الشروط والأركان.

    ومن باب الفائدة: متى تحرم الخطبة على خطبة أخيه؟

    اخلتف العلماء في ذلك، فالحنابلة يرون التحريم مطلقاً سواء ردوا عليه أو لم يردوا عليه، لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

    والصحيح الراجح أن وقت النهي هو وقت الركون، فإذا ركنت المرأة إلى الخاطب الأول، فلا يجوز أن يعكر عليه ويخطبها خاطب ثاني، وهذا مذهب الجمهور.

    حكم المسح على الخف المغصوب

    مسألة أخرى: ما حكم المسح على الخف المغصوب؟

    اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين، والقولان يرتكزان على تأصيل أصولي، وهو: هل النهي يقتضي الفساد أم لا؟

    فقد نهى عن التعدي على مال الغير، قال الله جل وعلا: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، فالغصب محرم منهي عنه، فمن مسح على الخف المغصوب وصلى هل صلاته صحيحة أم لا؟

    قال الحنابلة: الصلاة باطلة؛ لأن المسح أصلاً باطل، فهو لم تكتمل طهارته؛ لأن هذا الخف المغصوب وقع تحت النهي، والقاعدة: أن مطلق النهي يقتضي الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي باطل.

    أما جمهور العلماء فنظروا في النهي فوجدوه ليس منصباً على ذات الصلاة بل على أمر خارجي، فالمسح على الخف ليس شرطاً في الصلاة، وليس ركناً من أركان الصلاة ولبس الخف ليس شرطاً في الوضوء، وليس ركناً في الوضوء، والركن هو المسح، وقد مسح فتوافرت الشروط والأركان، وصحت الصلاة خلافاً للحنابلة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755961687