إسلام ويب

تيسير أصول الفقه للمبتدئين - الدليل الثالث: الإجماعللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإجماع حجة معتبرة شرعاً، ومخالفه على خطر عظيم، وهو مظهر من مظاهر متانة الدين الإسلامي، وقدسية أحكامه وتعاليمه؛ لأنه لا يكون عبثاً، بل لا بد له من مستند أوجب حصول الإجماع، وقد تناوله العلماء بالتعريف وبيان أنواعه باعتبارات متعددة، وذكر مسائل كثيرة تتعلق به، وذلك لما له من أهمية في معرفة الأحكام الشرعية.

    1.   

    مجمل الكلام في الدليل الثاني من أدلة التشريع: السنة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    تقدم الكلام عن الدليل الثاني من أدلة التشريع: هو السنة، والسنة أنواع: سنة فعلية وسنة قولية وسنة تقريرية.

    مثال السنة التقريرية: إقرار الرسول للصحابي الذي صلى بالناس جنباً متيمماً، بعد أن قال: (أصليت بالناس جنباً؟)، فهو أقره بأنه تيمم وصلى بهم جنباً؛ وذلك بسبب شدة البرودة ، فاحتج الصحابي بالآية وهي قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].

    وأما عن علاقة السنة بالقرآن فهي: مفسرة للقرآن، مبينة لمجمله، وناسخة له على الراجح من أقول أهل العلم، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه.

    فمثلاً: لفظة السارق في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، فالسنة بينت أن القطع يكون من الرسغ.

    والسنة دلالتها على الأحكام ثابتة بالأثر وبالنظر:

    فمن الأثر: قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

    وقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ [الأحزاب:36].

    وأيضاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59].

    وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105].

    ووجه الشاهد هو قوله: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ و(ما) هنا اسم مبهم يدل على العموم، أي: كل ما أراك الله فاحكم بينهم به، أي: أن الله أراك في القرآن حكماً، وأراك في السنة حكماً، فاحكم بينهم بهذه الأحكام التي أراك الله إياها.

    والسنة حفظت كما حفظ القرآن؛ وذلك بأن قيض الله رجالاً قاموا بتمييز الصحيح من الضعيف من الموضوع فيها.

    وأما العمل بالسنة فواجب، وما صح من السنة فهو حجة ولا يجوز رده؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يأتي أحدكم شبعان على أريكته، يقول: هذا كتاب الله بيننا، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني قد أوتيت هذا الكتاب ومثله معه) رواه أبو داود في سننه.

    1.   

    من أدلة التشريع: الإجماع

    الدليل الثالث من أدلة التشريع: الإجماع.

    هناك ثلاثة أدلة متفق عليها، وهي: الكتاب، والسنة: والإجماع، والرابع: القياس وهو مختلف فيه؛ فأهل الظاهر ينكرون القياس.

    تعريف الإجماع

    الإجماع لغة هو: العهد والاتفاق، قال الله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ [يونس:71]، يقال: أجمع المرء على أمر ما، أي: عزم على فعله.

    وفي الاصطلاح هو: اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي.

    فإذا نزلت نازلة من النوازل، فنظر فيها فقهاء الصحابة أو فقهاء التابعين، فاجتمع رأيهم على حكم شرعي لهذه النازلة، وقالوا: إنها تحرم، أو أنها واجبة، أو أنها مستحبة، فهذا يسمى إجماعاًًً.

    والمجتهد هو: الذي بلغ درجة الاجتهاد في العلم بالكتاب والسنة علوم الآلة.

    قوله: (اتفاق مجتهدي هذه الأمة)، يخرج بالمجتهد: المقلد، فلو اتفق المقلدة بأسرهم على مسألة ما فلا عبرة بإجماعهم، ويخرج بالمجتهد أيضاً: طالب العلم؛ لأن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: مقلد، وعالم مجتهد، ووسط، وهو طالب العلم المتبع، الذي يعلم المسألة عن قول إمام بدليله.

    أيضاً: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم يخرج به: اتفاق الأمم السابقة، فلو اجتمعت كل الأمم السابقة فلا يؤخذ بإجماعهم.

    قوله: (بعد وفاته)، أي: أنه لا إجماع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته هو الحاكم، وسنته هي الحاكمة، فقول بعض الصحابة: (كنا نبيع أمهات الأولاد، أو كنا نتسرى بأمهات الأولاد) ليس فيه إجماع، بل الدليل فيه هو: السنة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قوله: (على حكم شرعي) خرج بذلك: الحكم الوضعي، فالحكم الشرعي يدور على خمسة أحكام: واجب، مستحب، مباح، مكروه، محرم.

    حجية الإجماع

    الإجماع حجة بالأثر والنظر:

    أما حجيته بالكتاب: فقال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] فهذا دليل على الإجماع، ووجه الشاهد هنا: مفهوم المخالفة، أي: أنكم إذا تنازعتم ولستم على الحق، فردوا الأمر إلى الله وإلى الرسول يظهر لكم الحق، فإن لم تتنازعوا فأنتم على حق، فمفهوم المخالفة في دليل الخطاب يدل على أنهم على حق مع عدم التنازع.

    وكذلك: قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] فقوله: أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ فهذا هو وجه الشاهد، أي: أن الله جل وعلا جعل هذه الأمة وسطاً، وجعلها شهداء على الناس، والشاهد الذي يرضاه الله جل وعلا لا يجتمع إلا على حق.

    وكذلك: قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

    وجه الدلالة في الآية: أن سبيل المؤمنين -الذي هو الاجتماع- هو الحق؛ لأن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين، فدل هذا على الإجماع وحجيته.

    وأما حجيته بالسنة: فهو الحديث الضعيف: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) رواه الترمذي بسند ضعيف، لكن له طرق يقوي بعضها بعضاً، فيرتقي لدرجة الحسن لغيره.

    ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الأمة إذا اجتمعت، فإنها لا تجتمع إلا على حق.

    لكن يغنينا عن هذا الحديث: حديث متواتر وهو في الصحيحين: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم) فهذا الحديث فيه دلالة على أن هناك طائفة ستوفق للحق، وحتى لو خالفها من خالفها، فهم على الحق.

    إذاً: فاجتماعهم يكون حق وحجة، والطائفة التي تجتمع على الحق هم صفوة الأمة؛ لأننا قلنا: مجتهدي هذه الأمة، فإن لم تكن طائفة المجتهدين هم الطائفة التي تظهر على الحق فمن سيكون غيرهم؟!

    وأما دليل حجية الإجماع من النظر: فإن الله جل وعلا جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وجعل أفضل صحبة صاحبت النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه الصحبة، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110] فمن لوازم خيرية هذه الأمة أنها إذا اجتمعت لا تجتمع إلا على الحق، وهذا من تمام الخيرية ولوازمها.

    أنواع الإجماع باعتبار الدلالة

    الإجماع نوعان: إجماع قطعي، وإجماع ظني.

    الأول: الإجماع القطعي: وهو الذي أجمعت عليه الأمة بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلاة، والإجماع على تحريم الزنا، والإجماع على تحريم السرقة، فهذا إجماع قطعي؛ لأنه لا يحتاج إلى استنباط ولا استقراء ولا دقة نظر في الأدلة.

    وقد تواترت أقوال أهل العلم والمحققين من أهل الأصول على تكفير من أنكره، فهذا قول الآمدي والرازي والقرافي وقبلهم الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) قال: إن من أنكر الإجماع القطعي فهو كافر، وقال القرافي : يكفر من أنكر أو من جحد الإجماع، بشرط أن يكون قطعياً، فمن أنكر الإجماع القطعي فهو كافر.

    الثاني: الإجماع الظني: وهو الذي يحتاج إلى استقراء وتتبع واجتهاد ودقة نظر في الأدلة، وهذا لا يعرفه كثير من الناس.

    ومثاله: إجماع الأمة على أن الجد له في الميراث السدس.

    ومن أنكر الإجماع الظني فإنه لا يكفر بل لا يفسق، وقد نقل الآمدي الخلاف بين أهل العلم على ثبوت الإجماع الظني، وهناك قاعدة عند العلماء: أن الخلاف المعتبر لا إنكار فيه، ولكن فيه المناصحة.

    فالراجح: أنه لا يفسق ولا يبدع الذي يخالف الإجماع الظني؛ لأن ثبوته صعب.

    فهذا الإجماع القطعي والإجماع الظني من حيث الدلالة.

    أنواع الإجماع باعتبار التصريح وغيره

    أما الإجماع من حيث التصريح وغيره فهو نوعان: إجماع صريح، وإجماع سكوتي.

    الأول: الإجماع الصريح: وهو الذي صرح فيه كل إمام عالم مفت مجتهد من هذه الأمة بالحكم الشرعي.

    مثال ذلك: وقع في عصر الصحابة: أن امرأةً جاعت فأرادت أن تأكل فزنت بدرهمين، فجاء عمر بن الخطاب ليجلدها، ولما تكلم معها علم أنها لم تكن تعلم أن الزنا حرام، فقال عمر بن الخطاب : هي جاهلة بالحكم فلا تجلد، فوافقه الصحابة وقالوا: لا تجلد، فهذا إجماع صريح.

    وكذلك مثل: قضية التأمين، والتأمين تأمينان: تأمين تجاري، وتأمين تعاوني.

    فالتأمين التعاوني كصندوق الزمالة وغيره، وهذا لا حرج فيه، لكن التأمين التجاري يعتبر نازلة من النوازل، أي: أنه لا يوجد أحد تكلم عنه، غير ابن عابدين تكلم في التأمين البحري، فيوجد تأمين على الحياة، وتأمين على العين وغير ذلك، وهناك ممثلات يؤمنَّ على أنفسهن، ومنهن من تؤمن على عينها، أو لاعب الكرة يؤمن على رجله، فهذا التأمين يعتبر نازلة، فالشيخ ابن باز ينظر في التأمين ويقول: حرام، لكن الشيخ مصطفى الزرقا يقول: إنه جائز، والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني يقولان: إنه حرام، ويأتي المجمع الفقهي في الكويت فيقول: حرام، وتأتي دار الإفتاء في الأزهر وتجتمع مع إدارة البحوث فيقولون: حرام، فيسمى هذا إجماعاً صريحاً، وقد اتفق أهل العلم على أن الإجماع الصريح حجة. كذلك مثلاً: البنوك الإسلامية، إن لم تكن كلها حرام فجل معاملاتها تخالف الشرع، يقول الشيخ الألباني : هؤلاء يتعاملون بتعامل أخس من تعامل اليهود، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحوم الميتة أذابوه، ثم جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه) فهؤلاء فحول أهل العلم وأساطين أهل العلم الذين لا مخالف لهم يقولون: بأن هذه البنوك تتعامل تعاملاً فيه تحايل على الربا، فإذا قال العلماء المجتهدون: إن هذا تحايل على الربا، وأجمعوا على أنه لا يجوز، فهذا الإجماع صريح وهو حجة، لكن لو أن العلماء سكتوا عن هذه الفتوى فيسمى إجماعاً سكوتياًًً، ولا يسمى إجماعاً صريحاً.

    الثاني: الإجماع السكوتي: وهو أن يسكت علماء العصر على فتوى لمجتهد من المجتهدين دون إنكار، كأن يصل إلى العلماء أن العالم المجتهد الفلاني قال: بتحريم نقل الأعضاء، كبيع الكلى، فسكتوا، فالسكوت هنا معناه الرضا، وهذا يسمى إجماعاً سكوتياًًً.

    وهذا الإجماع اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: أنه إجماع وهو حجة.

    القول الثاني: أنه ليس بإجماع وليس بحجة وهذا قول الشافعية والمالكية.

    وأدلتهم في ذلك: القاعدة التي قعدها الإمام الشافعي من النظر: أنه لا ينسب لساكت قول -فأول من تكلم في القواعد الفقهية هو الشافعي ، كما أنه أول من كتب في الأصول، وأول قاعدة تكلم بها الشافعي : لا ينسب لساكت قول- فإذا انتقلت الفتوى إلى إمام وسكت عنها فلا يكون حجة؛ لأن هناك احتمالات:

    الاحتمال الأول: أن يكون ذهل عن المسألة، لشغله بشيء آخر، ولم يفت فيها.

    الاحتمال الثاني: أن يكون خائفاً من جَوْر السلطان، كمن عايش العصر العباسي، فيصعب عليه أن يفتي بفتوى مخالفة، كما جلد الإمام مالك على فتوى أفتاها في تحريم نكاح المتعة؛ لأنهم ينقلون عن ابن عباس أنه يقول: بإباحة نكاح المتعة، فلم يكن يستطيع أحد من العلماء أن يقولها جهاراً، فقالها الإمام مالك فجلدوه.

    الاحتمال الثالث: أنه سكت؛ لأنه لم يترجح له شيء في المسألة فتوقف، فهذه احتمالات تبين أن الساكت لم يقر على هذه الفتوى.

    القول الثالث: أنه ليس بإجماع لكنه حجة.

    القول الأول: قول الأحناف والحنابلة: أنه إجماع وهو حجة، فقالوا: إنه إذا مرت الفتوى على عالم فلم ينكرها دل ذلك على أنه رضي بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذنها صماتها) أي: سكوت المرأة إذن منها؛ ولذلك قالوا: السكوت علامة الرضا، وقالوا: الأصل عدم الاحتمالات.

    القول الثالث: قول بعض الشافعية من المحققين وبعض الأحناف: أنه ليس بإجماع، لكنه حجة ظنية لا يلزم العمل به.

    ومعنى هذا: أن الحجة الظنية يسوغ الاختلاف فيها، أما الإجماع القطعي فلا يجوز الاختلاف عليه، وهذا هو الفارق، فهذا القول قول وسط بين القولين، وهو الصحيح والراجح، ولو قال قائل: بأنهم إذا سكتوا على فتوى وعلمنا يقيناً أن هذه الفتوى بلغت العلماء، وانقرض عصر هؤلاء العلماء، فإنه يكون إجماعاًً. لما أبعد. ولكن القول الثالث: هو الراجح والصحيح.

    الأقوال في مسألة إنشاء قول ثالث بعد الإجماع

    هذه مسألة أخرى تتعلق بمسألة الإجماع، وهي: إذا اختلف العلماء في مسألة على قولين، فهل يسوغ إنشاء قول ثالث بعد القولين أم لا؟

    فمثلاً: التيمم، اختلف العلماء فيه على قولين بعد الاتفاق على الجواز، أي: ما هو الذي يتمم به المرء؟

    فالحنابلة والشافعية قالوا: التيمم لا يكون إلا بالتراب، بينما المالكية والأحناف قالوا: كل ما صعد على الأرض يتمم به. فهل يمكن لمن أتى بعدهم أن ينشئوا قولاً ثالثاً، كأن يقولوا: يجوز التيمم بورق الشجر أو بالزجاج. فهذا فيه خلاف بين العلماء، والخلاف هنا منشؤه: أنه حصل الإجماع على القولين فلا يسوغ الاختلاف عليه، وهذه مسألة خلافية اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: الجواز مطلقاً.

    القول الثاني: المنع مطلقاً.

    القول الثالث: التفصيل.

    القول الأول: قالوا: هذا ليس بإجماع، بل اسمه: خلاف، فيسوغ أن يَختلف الناس فيه أيضاً.

    القول الثاني: قالوا: أي مسألة اختلفوا فيها على قولين ليس فيها ثمة قول ثالث.

    القول الثالث: الذين قالوا بالتفصيل، وهو الراجح الصحيح، قالوا: لا يجوز أن ينشئوا قولاً ثالثاً في القدر المشترك بينهما؛ لأن أي مسألة فيها قولان يوجد فيها اشتراك في جزئية ما، فهذا يسمى إجماعاً، فلا نأتي بقول ثالث في هذه الجزئية، وأما في الخلاف فيجوز أن نأتي بقول ثالث.

    وبالمثال يتضح المقال: الله جل وعلا جعل عدة المتوفى عنها زوجها حولاً كاملاً، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] لكن قوله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] نسخت آية: إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، فيسمى هذا النسخ: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة، وهو من باب نسخ القرآن بالقرآن، وأنواع النسخ ثلاثة:

    الأول: نسخ الحكم والتلاوة.

    الثاني: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة.

    الثالث:نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.

    فإذاً: عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لكن إذا كانت امرأة حاملة ومتوفى عنها زوجها، فبأي عدة تعتد؟ قال تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] إذاً: عدة الحامل سواء متوفى عنها زوجها أو غير متوفي عنها زوجها، كأن طلقها: أن تضع حملها.

    اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

    القول الأول: قول علي بن أبي طالب وابن عباس قالا: تمكث أبعد الأجلين، أي: لو كانت حاملةً في الشهر الثامن، وبقي عليها شهر واحد حتى تضع، فأبعد الأجلين هنا أربعة أشهر، أما لو كان هناك امرأة حامل في الشهر الثاني وتوفي عنها زوجها، فأبعد الأجلين هنا حتى تضع حملها.

    القول الثاني: قول الجمهور، قالوا: المتوفى عنها زوجها إن كانت حاملة فإن عدتها وضع الحمل، واستدلوا على ذلك بحديث سبيعة الأسلمية كما في الصحيحين: (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما انتهت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشراً، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالزواج إن بدا لي).

    فبين لها أنها تحل للرجال بعد أن تضع حملها، فهذا دليل قوي على أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع الحمل، وهذا هو الراجح، فإذا طبقنا على هذه المسألة القول التفصيلي هنا: فهل يجوز لنا أن نأتي بقول ثالث أو لا؟ أولاً ما هو القدر المشترك بين القولين؟

    القدر المشترك: أنها إذا كانت حاملة فهي في العدة، سواء مر عليها أربعة أشهر وعشراً، أو لم تمر؛ وهذا هو القدر المشترك الذي لا يجوز إحداث قول ثالث يخالفه.

    فلو أتى شخص بقول ثالث: لا بد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً قولاً واحداً، سواء كانت حاملة أو غير حامل، فهذا قول لا يصح؛ لأنهم اجمعوا على أنتهاء عدتها: إما أبعد الأجلين، وإما وضع الحمل، والقدر المشترك هو وضع الحمل.

    مستند الإجماع

    وهنا مسألة أخيرة وهي: مستند الإجماع:

    اتفق العلماء على أن الإجماع لا بد أن يكون له دليل، فإن كان مستند الإجماع الكتاب صح ذلك، ومثاله: تحريم الأم، فهذا مستنده الكتاب.

    وقد يكون الإجماع مستنده السنة، كإعطاء الجد السدس، وإعطاء الجدة السدس.

    أما إن كان مستند الإجماع الاجتهاد، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

    القول الأول: عدم الصحة، وأنه ليس بحجة.

    القول الثاني: وهو القول الراجح والصحيح: أنه حجة؛ لقول الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ [النساء:83] وأولي الأمر هنا: العلماء.

    فدل ذلك أنه حجة، وأنه لو رد إلى أولي الأمر، واستنبطوه فاتفقوا فهو إجماع، فهذه الآية فيها دلالة على أن الإجماع الذي استند إلى الاجتهاد أنه حجة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756031027