إسلام ويب

تفسير سورة الأحقاف [10 - 11]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد شهد بعظمة هذا الدين وخيريته وعدالته وسماحته أهل الكتاب الذين أسلموا واستجابوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في الدين إلا من علم عظمته وخيره، أما المشركون المتكبرون المتغطرسون فقد شهدوا بالضد حيث قالوا: هذا دين يدخل فيه الفقراء، والمساكين، والسفلة من قطاع الطرق، واللصوص، فهو دين شر ليس فيه خير، ومن يضلل الله فلا هادي له من دونه أبداً.

    1.   

    الشهادة بأن القرآن حق وعاقبة الظالمين

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين:

    قال عز وجل في سورة الأحقاف: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف:10-12].

    في هذه الآيات يذكر الله سبحانه لهؤلاء المشركين أن هذا القرآن هو كتاب الله عز وجل وقد نزل من عنده سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت:52] أيها المشركون! وكفرتم به يا أهل الكتاب! وشهد شاهد منكم يا أهل الكتاب على أن هذا القرآن هو من عند الله، فكتاب موسى مثل هذا القرآن، فهذا كتاب شريعة وهذا كتاب شريعة، فآمن بالتوراة وبهذا القرآن الذي جاء من عند الله.

    ثم قال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت:52]، والخطاب هنا للمشركين, وقد نزلت هذه الآيات الآيات في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فهذه الآية الوحيدة مدنية، وباقي السورة كله مكي، كلها مكية، وقيل: آيتان من هذه السورة مدنيتان والباقي مكي.

    فالذي شهد أن هذا القرآن من عند الله عز وجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان من أحبار اليهود كما قدمنا قبل ذلك، وقد شهد له اليهود بالعلم والتقدم، وشهدوا له ولأبيه ولجده من قبل ذلك، فلما علموا أنه أسلم كذبوا وجحدوا ما قالوه، وقالوا فيه وفي أبيه شراً، والله عز وجل يكذبهم ولا يقبل منهم، قال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ [الأحقاف:10] هذا الشاهد وهو عبد الله بن سلام - وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10] أيها اليهود، واستكبرتم أيها المشركون، بل بلغ الأمر أن المشركين كانوا يسألون اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أينا أهدى سبيلاً؟ فقال الذين كفروا من أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.

    فاليهود يعرفون الله سبحانه، ويعرفون موسى عليه الصلاة والسلام، ويعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان هذا جوابهم لما سألهم الكفار: أينا أهدى سبيلاً نحن الذين نعبد الأصنام أم النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي يوحد الله ويعبده؟ فإذا باليهود الكلاب الخنازير لعنة الله عليهم يقولون لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.

    فانظر إلى هذا الكذب! فهم يعرفون أن هؤلاء أهل باطل، ولكن الكفر والجحود والاستكبار على دين الله عز وجل، والغرور بما هم فيه من الدنيا دفعهم إلى أن يلغوا عقولهم، ويكذبوا على الله وعلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقالوا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.

    بل ويحتالون كل الحيل فيقول بعضهم لبعض: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72] أي: تعالوا وقولوا له في أول النهار: سنتبعك، وفي آخر النهار نرجع عن قولنا؛ لأجل أن يتزعزع المؤمنون في دينهم فيتركوه، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء أنهم مستكبرون قال: فَآمَنَ أي: عبد الله بن سلام وَاسْتَكْبَرْتُمْ ، والمستكبر: هو الذي يعرف الحق ومع ذلك يرفض أنه يتبع هذا الحق؛ عناداً وكبراً وغروراً وفرحاً بما هو فيه، وخوفاً من أن تضيع منه الرياسة والملك، فهؤلاء استكبروا عن أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .

    وأعظم الظلم الشرك بالله سبحانه، فإذا استكبر الإنسان على دين الله استحق أن يطبع الله ويختم على قلبه وسمعه وبصره، ويجعله لا يفهم ولا يعي ولا يتبع؛ حتى يكون من أهل النار في الآخرة والعياذ بالله!

    إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: إن الله لا يهدي الذي يظلم نفسه ويظلم غيره، الذي يكفر بدين الله سبحانه ويقع في الظلم الأكبر، وكأن الظالم عقوبته في الدنيا أن يضله الله عز وجل، فإذا ظلم نفسه وظلم غيره استحق ذلك، ولما قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عممهم، فكل ظالم يستحق أن يطبع الله عز وجل عليه، وكل حسب ظلمه، فاحذر أن تكون ظالماً، فإن من عقوبة الظلمة أن يختم الله عز وجل على قلوبهم فيضلهم ولا يهديهم، ويمنع عنهم نوره سبحانه بظلمهم.

    ولما عاقب الله الذين هادوا قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160-161].

    فهؤلاء بشركهم بالله سبحانه ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فاستحقوا عقوبة الله عز وجل، وكذلك كل ظالم يستحق من الله عز وجل أن يطمس على عينيه وبصيرته، وأن يطبع ويختم على قلبه، ويجعل عليه غشاوة إلا أن يرجع ويتوب إلى ربه سبحانه.

    1.   

    وقوع الكافرين في قياس إبليس الباطل

    قال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11].

    وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني: عن الذين آمنوا، أو قالوا لهم مجادلين بالباطل، لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، إما أن الكفار يتكلم بعضهم لبعض، فيقولون عن الذين آمنوا: أهؤلاء يسلمون نحن لا؟ وكونه يسبق إلى ذلك فهو يسبق إلى الشر، فهذا لا يستحق خيراً لذلك دخل في هذا الدين، ولو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن الأشراف قد دخلنا فيه، إذاً فهذا دين باطل، فهم قالوا هذا مغترين بما هم فيه، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، فقاسوا قياساً باطلاً كقياس الشيطان، والشيطان هو أول من قاس قياساً باطلاً، فقد نظر إلى آدم فوجده مخلوقاً من طين، وهو مخلوق من نار، والنار عنده أحسن من الطين، إذاً: فأنا أحسن من آدم، وهذا قياس الشيطان، فقد قاس نفسه على أصله في زعمه أن النار أفضل من الطين، إذاً فطالما النار أفضل من الطين، وأنا مخلوق من نار، وهو مخلوق من طين إذا فأنا أفضل منه فلن أسجد له، فرفض أمر الله عز وجل، ورفض أن يسجد لآدم لعنة الله على الشيطان.

    وهؤلاء اتبعوه في ذلك، فقالوا بهذا الذي قاله فقالوا: نحن الأشرف والأفضل، وهؤلاء كونهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن ما جاء به محمد باطل، ولذلك لما كان باطلاً اتبعه هؤلاء الفقراء والمحتاجون، وأما نحن الكبراء فلا نتبع هذا الشيء؛ لأن هؤلاء ليسوا مثلنا فلا نكون مثلهم في اتباع هذا القرآن أو في اتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه.

    فالأمر ينعكس على هؤلاء كما ينعكس على الشيطان، فيقال لهذا الشيطان لعنة الله عليه: أنت قلت: أنا مخلوق من نار، والنار خير من الطين، فمن أين أتيت لنا بالخيرية هنا؟! ومن قال لك هذا الشيء؟ لا بد أن يكون معك دليل على هذا الذي تقوله، فأنت قلته بزعمك أن النار شيء شريف، مع أن النار تفور وتغلي، والنار فيها تهور واندفاع، وفيها شرر وحمق، فإذا جاءت على شيء أكلته كله، والطين فيه رزانة وهدوء، ولذلك رجع آدم لطبيعته، ورجع الشيطان لطبيعته.

    ولما غار الشيطان من آدم أصابه النفور والاستكبار حتى على ربه سبحانه، فرفض أن يطيع أمر الله، وآدم لما وقع في المعصية رجع إلى طبيعة الرزانة والهدوء، ورجع إلى الركون والتواضع وقال: أذنبت وأخطأت وعصيت الله سبحانه، رب اغفر لي! فطلب من ربه أن يتوب عليه، فنفع آدم أصله.

    ولو فرضنا أن النار خير من الطين فالله عز وجل قد كرم آدم، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، فهذا خلق الله وهذا خلق الله، والله تعلى يكرم من يشاء سبحانه، فرفع هذا ووضع هذا سبحانه.

    وكذلك هؤلاء المشركون ينقلب عليهم ما قالوه، فيقول المؤمن التقي: هؤلاء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم السباقين والخيار، فأنا أتبع هؤلاء فيما فعلوه، والذين تأخروا وتقهقروا عنه كانوا أشراراً من الخلق، فأنا أحذر أن أكون معهم، فيعكسون على المشركين ما قالوا، فكل شر جرى وراءه المشركون، فتركوا الدين الحق وذهبوا إلى الشر وإلى الشرك والباطل، وكل خير سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلم يسبقهم أحد إلى خير أبداً، إذاً: فنجعلهم أئمتنا وقدوتنا فنقتدي بهم، ولا نحدث شيئاً خلاف ما فعلوه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.

    فيقول الإنسان المؤمن: هؤلاء الصحابة بشهادة القرآن هم السابقون إلى كل خير، والكفار قالوا كذباً: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، إذاً: فقد أثبتوا أنهم سبقوا، ونقول نحن: هو الخير، فكل ما يسبق إليه الصحابة فهو الخير، ويلزمنا أن نتبعهم في ذلك، فإذا جاء صاحب بدعة قد ابتدعها قلنا له: لو كانت خيراً لسبقنا إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل فعلها الصحابة؟ فإذا قال: فعلوها، قلنا: هات الدليل على ذلك، فإذا قال: لم يفعلوها، قلنا: لست خيراً من الصحابة، فهم كانوا يسبقون -بشهادة القرآن- إلى كل خير.

    فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف

    فكل من خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالشر فيما يبتدعه، ولذلك لما وجد بعض الأمراء أناساً يتكلمون في خلق القرآن العظيم، جاءه رجل من العلماء فقال له: دعني أناظر هذا الرجل، فالخليفة أتى بهذا الرجل المبتدع الذي يقول بخلق القرآن، وأتى بهذا الرجل الصالح العالم ليناظره، فالعالم قال: إما أن تسأل وإما أن أسأل، فقال هذا المخالف المستكبر: اسألني؟

    فقال له: هذا القول الذي تقوله في خلق القرآن هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ وكانت هذه الفتنة فتنة عظيمة يمتحنون بها العلماء والناس من أجل أن يقولوا بهذا الشيء، ومن لم يقل بذلك ضربوه وسجنوه بل وقتلوه، فجاء هذا العالم ليسأل هذا الذي يقول بهذه البدعة.

    فقال له: هذا الأمر الذي أنت تقوله وتدعو الناس إليه، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ فقال له: فقال له: لم يعلمه، إذا كان لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فهل فضلك الله أنت عليه من أجل أن يعلمك هذا الذي قلته؟! فقال: لا، رجعت عن كلامي، قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم.

    فقال له: هل علمه فتكلم به أم سكت عنه؟ فتحير؛ لأنه سيقول له: هات الدليل، هات الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس أمامه إلا أن يقول: بل سكت عنه، فقال: إذا وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه، أفلا يسعك أنت أن تسكت عنه؟! فبهت الرجل، فوقفت هذه البدعة بعد قول هذا الرجل، وسكت الأمراء عن امتحان الناس، وذلك بعدما ما امتحنوا العلماء ولم يثبت في هذه الفتنة سوى الإمام أحمد رحمه الله، وشاب من الشباب الذين كانوا معه رضي الله عن الجميع.

    فالغرض أنه يقال لصاحب البدعة الذي يبتدع في الدين: إن الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، فهل هذا من الخير الذي سبق إليه الصحابة؟ فإذا قال: نعم، قلنا له: هاتوا الآثار التي تدل على هذا الشيء، فإذا لم يأت بدليل إذاً فكلامه كذب، فهو يكذب على هؤلاء، وإذا قال: لا، لم يعرف الصحابة هذه البدعة التي يقولها، نقول: الخير في اتباع هؤلاء الذين ما عرفوا هذه البدعة.

    وقد قام أحد الأمراء من بني أمية يخطب على المنبر للعيد قبل الصلاة، فإذا بـأبي سعيد الخدري رضي الله عنه يجذبه بيده، ويقول: لم يكن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد صلاة العشاء، قال: لم يكن الناس ليقعدوا إلينا، ولا يسمعوا لنا بعد صلاة العيد، فقال: ولو كان هذا الشيء. والثاني يجذبه فقال: ذهب ما تعلم يا أبا سعيد ، أي: الذي كنت تعرفه قد انتهى، فقال: والله ما أعلم خير مما لا أعلم، أي: ما أعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم خير مما لا أعلمه من بدع تحدثونها في الدين، فالإنسان الذي يريد الجنة هذه طريقه، وهي طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق الخير الذي سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين قال الكفار فيهم: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا ، فنقلب ما قالوا ونقول: بل كل خير قد سبق إليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وصلوات الله وسلامه عليه.

    1.   

    سبب نزول قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)

    إن سبب نزول هذه الآية أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة، فأجاب، وذهب إلى قومه فدعاهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم فاستجابوا ودخلوا مع أبي ذر رضي الله عنه، ولما بلغ ذلك الكفار قالوا: غفار الحلفاء دخلوا في الدين؟! هؤلاء قطاع الطريق واللصوص يدخلون في الدين ونحن لم ندخل فيه، فلو كان خيراً لما دخل فيه هؤلاء، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الزعم.

    وهذه امرأة اسمها زنيرة مولاة لـأبي بكر رضي الله عنه، كانت فقيرة ومسكينة، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعوها إلى الإسلام، فدخلت في دين الله عز وجل فعذبها أهلها، فاشتراها أبو بكر رضي الله عنه، وهذه واحدة ممن اشتراهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقهم لله عز وجل، فلما أسلمت هذه المرأة اشتراها أبو بكر وأعتقها، وعندما أسلمت عميت، ففرح الكفار وهللوا، وقالوا: أصابتها اللاة والعزى، فإذا بها تدعو ربها فيشفيها الله عز وجل، فبهت الكفار، فكان قولهم أن قالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، وأثبت الله عز وجل عليهم ذلك، قالوا: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة هذه.

    وكذلك هناك فريق آخر من الكفار وهم من بني عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع -وهؤلاء كانوا الكبراء من القبائل العالية من المشركين- وجدوا أقواماً كانوا يعتبرونهم سفلة من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة، فقالوا: إن هؤلاء الذين كانوا قطاع طريق، وكانوا لصوصاً أسلموا ونحن لم ندخل في هذا الدين، لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، فكأنهم يقيسون شرف هذا الدين وعظمته على هؤلاء الذين اتبعوه، فإذا كان الذين اتبعوه أشرافاً كان هذا الدين شريفاً، وإذا كانوا وضعاء كان هذا الدين لا يستحق أن ندخل فيه.

    فقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا فقال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها)، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانوا في الجاهلية أشراراً ولكن لما جاء الإسلام صاروا أخياراً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فدعا لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.

    والبعض الآخر من المشركين وجدوا أن بلالاً وصهيباً وعماراً وغيرهم قد دخلوا في دين الله عز وجل، فقالوا: أهؤلاء الفقراء يدخلون في الدين ونحن لا ندخل؟! إذاً فهذا الدين ليس فيه خير، فقالوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ، فهذه المعارضة من الكفار نقلبها نحن المسلمين على هؤلاء ونقول: كل خير قد سبق إليه الصحابة، فلنتبع كل ما فعلوه اقتداءً به صلوات الله وسلامه عليه، ويقال أيضاً: لو كان ما أنتم عليه خيراً أيها المشركون ما تركنا هذا الذي أنتم عليه وذهبنا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما أنتم عليه فيه الشر كله، فلذلك لا نأتيه أبداً، إن الشرك لظلم عظيم.

    قال سبحانه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، وإذ لم يهتد بالدين هؤلاء الكفار فإنهم يرمون عليه كل الافتراءات ويقولون: هذا إفك قديم، وأساطير الأولين، وقصص قديمة كنا نسمعها من قبل، وهذه قصص أتى بها محمد صلوات الله وسلامه عليه، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ وأضلهم الله عز وجل، خرج منهم هذا الكلام الخائب الذي لا يعقل: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ .

    قال الله عز وجل: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا [يونس:39] أي: كذبوا بما جاءهم من عند الله عز وجل، وكما جاء في المثل: من جهل شيئاً عاداه، فالذي يجهل الشيء هو أول من يعاديه، فإذا علمه عرف أنه الحق، فالقرآن يقول: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: لما جهلوا هذا الدين إذا بهم يعادونه، كذلك قال سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39]، فهذا القرآن العظيم هو كتاب رب العالمين وإن جحده هؤلاء المشركون، فقد آمن بعد ذلك البعض منهم، وأولادهم، ونظروا إلى أنفسهم وإلى آبائهم أنهم كانوا في ضلال مبين، وأنهم كانوا يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، بل هم الأفاكون الكذابون، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756437125