إسلام ويب

تفسير سورة الشورى (تابع) الآية [15]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعوة إلى الله سبحانه والاستقامة على الدين من صفات الأنبياء والصالحين، وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهواء أهل الباطل، وأمر بالإيمان والتمسك بكتابه وتطبيقه بين خلقه، فلا حجة بعد ظهور الحق ونزول القرآن من عند الله، فإليه سبحانه المرجع والمآب ليحكم بين خلقه بالعدل والقسط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ...)

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الشورى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15] .

    فضل الدعوة إلى الله والاستقامة على الدين

    ذكرنا في الحديث السابق والذي قبله هذه الآية العظيمة من هذه السورة، وذكرنا أنها عبارة عن عشر جمل كل جملة منها حكم قائم برأسه مستقل بذاته، وقد اجتمعت العشرة في هذه الآية الواحدة لتعطي معنى إجمالياً باتباع دين الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ، أي: لتلك الشريعة العظيمة، ولذلك الدين القيم الذي ذكره قبل ذلك في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13].

    وفي سورة يوسف أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو إلى سبيل الله، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، وقال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو إليه، وبين له طريقه، وبين له كيف يدعو إليه، فالطريق هو دين الإسلام دين التوحيد، يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة هو ومن اتبعه.

    والمؤمن يدعو إلى الله بعد أن يتعلم، فإذا أردت أن تدعو إلى الله فتعلم، والعلم الشرعي: هو العلم بهذه العقيدة الإسلامية العظيمة، العلم بشرع الله ودينه وفقه هذا الدين العظيم، فتدعو إلى الله على بصيرة وأنت تعلم إلام تدعو، وعلى أي طريق تقف وتثبت، فتدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وتستقيم على هذا الدين كما أمر الله سبحانه، وكما أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) ، وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) .

    ففي هذا الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على الصلاة، وأخبر أن الدين عظيم، ولن تحصي أنت أعمال البر وأعمال الخير التي أنت مطالب بأن تأتي بها، ولكن سدد وقارب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا) ، فتعمل عمل الخير، ولا تحصي؛ لأن الثواب يحصيه الله سبحانه، وأنت لا تعرف قدر هذا الثواب العظيم عند الله سبحانه.

    والأعمال كثيرة، فخذ بقدر طاقتك، قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فاعملوا أعمال الخير، ولن تحصوها لكثرتها، فما استطعتم فافعلوا، والثواب عند الله أعظم مما تتخيلون.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) ، بعدما قال: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فأخبرنا أن المحافظ على الوضوء إنسان مؤمن، وكما ذكرنا المحافظة على الصلاة ذكرنا المحافظة على أهم شرط في الصلاة وهو الوضوء.

    فلا بد أن تحافظ على الوضوء وتكون على طهارة، فإذا ذكرت الله سبحانه كنت على وضوء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء ما استطاع، وذات مرة سلم عليه رجل ولم يكن على وضوء، فتيمم بالجدار ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (كنت على غير وضوء، فكرهت أن أذكر الله) يعني: على هذه الحال، كره أن يرد السلام إلا وهو على وضوء، ولما لم يكن هناك ماء تيمم ورد عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا منه صلى الله عليه وسلم شيء عظيم، ولسنا مطالبين بذلك، فهو لم يأمرنا أمر وجوب أن نكون طول اليوم متوضئين، الواجب علينا أن نتوضأ للصلاة، ولكن أخبر إخباراً ليحث على ذلك، أن يكون الوضوء في أكمل حالاتك طالما أنت تقدر على ذلك، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن؛ لأنه سيحافظ على صلاته، وسيحافظ على تكبيرة الإحرام إذا أراد أن يذهب إلى الصلاة، ولو أن المؤذن أذن لصلاة العصر وهو على وضوء، فإنه سيقوم سريعاً ويصلي سنة العصر القبلية، ويتوجه إلى المسجد فيدرك تكبيرة الإحرام.

    ولو أن إنساناً أراد أن يدخل الخلاء بعد أن أذن المؤذن، فدخل دورة المياه، وقضى حاجته، ثم خرج فتوضأ، فقد تفوته تكبيرة الإحرام، ولعله إلى أن يأتي تكون قد فاتته الصلاة.

    وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فالذي يحافظ على الصلاة شهراً وعشرة أيام يصلي في جماعة مائتين صلاة، ويحافظ على تكبيرة الإحرام مع الإمام يجعل الله له أجراً عظيماً، ويكتب الله له براءتين ينجيه من النفاق، فلا يكون منافقاً ولا يموت على النفاق، والأمر الآخر أنه يعطيه براءة من النار.

    فالمؤمن يؤمل فضل الله سبحانه، ويرجو رحمة الله عز وجل، ويواظب على ذلك، ولعل الله سبحانه يمكنه، ولعله ينخذل منه شيء، فتفوته تكبيرة الإحرام، فلا ييأس ولكن يعمل أكثر، فيحاول حتى يصل في النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى.

    قال الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ أي: استقم على طريق الله سبحانه وتعالى، وحافظ على دين الله وتعلمه، وحافظ على الصلاة وعلى الوضوء تكن مؤمناً.

    نهي الله نبيه عن اتباع أهواء المشركين

    قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، أي: لا تتبع أهواء هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدعونك إلى الشر وإلى الهوى، ويدعونك إلى البعد عن شريعة الله سبحانه وتعالى، وقد كانوا يحاولون ذلك حثيثاً مع النبي صلى الله عليه وسلم.

    فقد ذهب إليه شيبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ، وقد كان الوليد أغنى المشركين، وكان أعز المشركين فيهم، وقد لقبه ربه سبحانه بأنه وحيدٌ في ماله، أي: أغنى الناس في المال، وأعز الناس في الولد وفي النسب وفي الرجال، قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:11-15]، هذا الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطيك نصف مالي ودع هذا الدين.

    و شيبة بن ربيعة يقول له: إن ابنتي أجمل البنات، أزوجك ابنتي ودع هذا الدين، ويعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بعشر نساء من أجمل النساء على أن يترك الدين فيقول له ربه: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يتبع أهواء هؤلاء، ولكن الله يقول له ذلك ليعتبر المؤمنون بما قاله الله سبحانه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستقيم على الدين، فالمؤمنون أولى بهذا، فهو قد استقام وقد أدبه ربه، وعلمه ربه سبحانه، ومع ذلك يقول الله له: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ فالمؤمنون يأخذون بذلك ويستقيمون على دين الله، وعلى طريقه، ويقيمون أمر الله سبحانه وتعالى، ولا يتبعون الهوى.

    أمر الله لنبيه بالإيمان بالكتب المنزلة من عنده وبإقامة العدل

    قال الله تعالى: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [الشورى:15] أمر أن يتلفظ بذلك: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره، آمنت بما أنزل الله من كتاب، آمنت بكل الكتب التي أنزلها الله وأخبر عنها وصدقته، وآمنت بأنها منزلة من عند رب العالمين، وآمنت أن الله أنزلها.

    ولكن معنى (آمنت): صدقت وأقررت، فالمطلوب منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلق جميعهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا دين التوحيد، ويقيموا شرع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو ناسخ لما قبله، قال تعالى:وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، فالمقصود: الإيمان بما أمرنا الله عز وجل أن نؤمن به، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر.

    وقد أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك المؤمنون بأن يقيموا هذا الدين وأن يعدلوا، قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، والعدل لا يكون إلا بكتاب من عند الله، فالله الذي نزل الكتاب بالحق والميزان، وأنزل العدل وبينه لنا، ولو ترك الناس لأهوائهم وأنفسهم، لاخترع كل إنسان ميزاناً للعدل الذي يقوله، ولكان القوي يفرض رأيه على الجميع، ويقول: العدل كذا، وهو محض الظلم، فالعدل هو الذي أمر الله عز وجل به، وفرضه سبحانه، ولا مجاملة فيه، وأنزل الله الميزان لنتعلم كيف نزن، وكيف لا نحيف ولا نظلم.

    وكذلك أمرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أن نعدل فلا نظلم، فلا يظلم بعضنا بعضاً ولا نظلم غيرنا.

    وقد تكره إنساناً، ولكنك مأمور أن تعدل معه، وقد تبغض إنساناً في الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك أنت مأمور بأن تعدل معه، وتقيم شرع الله عز وجل فيه وفي غيره، هذا هو الدين القيم العظيم الذي يعلمنا العدالة، فلا بد أن نتعلم العدالة ونعمل بها شئنا أم أبينا؛ لأن الله سوف يجازينا يوم القيامة.

    وإنَّ في ضمير الإنسان ما يدفعه أن يقوم بالعدل؛ لأن الله سيسأله يوم القيامة، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فاحذروا من عدم العدل، فإنه ليس لكون المشركين في يوم من الأيام صدوكم فالآن تظلمونهم، قال الله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

    وانظر لميزان العدالة في الإسلام، فقد أمر بالعدل ولو مع عدوك، ولو مع من تكرهه وتبغضه في الله سبحانه وتعالى، لذلك يذهب رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليأخذ منهم ما أمر الله عز وجل بأخذه، فالنبي صلى الله عليه وسلم تركهم يزرعونها على أن تكون الثمار قسمة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الصحابة رضي الله عنهم ليأخذ منهم ما هو عليهم أن يدفعوه، فحاولوا أن يرشوه، وأخذوا يحيفون في الأمر، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ومع ذلك لا يمنعني بغضي لكم أن أعدل فيكم، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، أي: قامت بالعدل وأمر الله عز وجل بالعدل.

    وهذا عمر رضي الله عنه، يأتي إليه رجل من العرب ويطلب منه شيئاً، فأعطاه عمر رضي الله عنه، ولكن في نفس عمر منه شيء، إذ كان الرجل أعرابياً، وكان جلفاً وفيه فضاضة، فقال له عمر : والله إني لأبغضك، فنظر الأعرابي إلى عمر وقال: هل بغضك لي يمنعني من حقي؟ قال: لا، قال: إنما يحزن على الحب النساء.

    فهذا الأعرابي يعترف بأن عمر كان عادلاً، وأيضاً هذا لحماقته، فإن الذي يحبه عمر هو الرجل المؤمن، ولن يحب إلا مؤمناً، فإذا كان عمر يكره هذا الإنسان فإن الأولى بهذا الإنسان أن يقول لـعمر رضي الله عنه: لم تكرهني؟ وما هي الصفة التي أغيرها إذا كان في شيء تكرهه؟ ولكن الرجل لم يفهم.

    والمقصود: أنك إن كرهت إنساناً فلا تظلمه، هذه هي العدالة التي أمرنا الله عز وجل بها.

    معنى قوله تعالى (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم)

    قال تعالى: اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ الله سبحانه هو الرب وهو الإله، ومقتضى ربوبيته: أنه يفعل أفعالاً لا يقدر عليها أحد، فينفع ويضر، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويخلق ويعدم سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، فالله هو الرب الذي يعبد وحده لا شريك له، وكلمة (الله) تعني: المعبود حقاً، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، فالله ربنا وربكم وإن زعمتم غير ذلك، فالله الذي نعبده هو الرب الوحيد سبحانه وتعالى، ولا رب غيره، ولا إله يستحق العبادة سواه.

    قال تعالى: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أي: ثواب أعمالنا لنا، ولكم شؤم أعمالكم وسيئاتكم، ولن تأخذوا من حسناتنا شيئاً، ولن نأخذ من سيئاتكم شيئاً، طالما أننا دعونا إلى الله، وقمنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقمنا دين الله عز وجل، فلنا ثواب أعمالنا سواء استجبتم أم لم تستجيبوا، قال تعالى: وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، أي: إن دخلتم في دين الله عز وجل فلكم الثواب، وإذا لم تدخلوا في دين الله فعليكم العقاب والعذاب، ولا تضرون إلا أنفسكم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده)، قالها في حجة الوداع في خطبته صلوات الله وسلامه عليه.

    فالإنسان لا يجني إلا على نفسه، وهذا معنى قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] أي: لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، وإنما كل إنسان يحمل إثمه، فإذا سن للناس سنة سيئة حمل إثمها وكأمثال آثام غيره، لا ينقص من آثام الآخرين شيء، وكل إنسان يحمل إثمه على عاتقه.

    لا حجة بعد ظهور الدين

    قال الله سبحانه: لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ يعني: قد ظهر الحق، فلا مخاصمة بيننا وبينكم، وليس هناك وقت للخصام والجدال، فقد ظهر الدين وبان، والله عز وجل نشر نوره، وكانوا قد قرروا أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، فكان اليهود والنصارى يقولون: ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن آمنا قبل أن تأتوا أنتم، فيقال لهم: إن الله عز وجل قد نبأ وبشر في كتبكم بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأمرتم أن تتبعوه، وشهد الله عز وجل عليكم بذلك، فلا حجة بيننا وبينكم، أنتم آمنتم بكتبكم ولم تؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن آمنا بكل الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأمرنا بالعدل مع الخلق وأن نقيم هذا الدين القيم وأن نعمل به، فكل الكتب قبل النبي صلى الله عليه وسلم كتب حقٌ نزلت من عند الله عز وجل، ولكن أصحابها حرفوا وبدلوا ما فيها من حق، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فجاء هذا القرآن العظيم مهيمناً عليه وناسخاً لما فيه، وأمرنا الله عز وجل أن نتبع هذا الدين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم به، فقال له سبحانه وتعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49].

    فقوله تعالى: لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: لا وجه للخصومة بيننا وبينكم، قد تبين الرشد من الغي، وقد ظهر الحق، ولذلك كان اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم حين يجيب على أسئلتهم: أنت نبي، فإذا قال لهم: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ يجيبون بأجوبة شتى، البعض منهم يقولون: نخشى أن تقتلنا اليهود، والبعض الآخر يقولون: إن داود دعا أنه لا يزال في ذريته نبي فنحن ننتظر نبياً من ذريته، والبعض الآخر يقولون: أنت نبي إلى الأميين فقط، يقرون له بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أقروا بذلك قد أقروا له بالعصمة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا يتبعونه فيظهر منهم الباطل فيما يقولون.

    فهؤلاء يشهدون أنه نبي يوحى إليه من عند الله، ومع ذلك لا يتبعونه!

    والنصارى يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: نحن على دين مثلما أنت على دين.

    وممن ذهب إليه عدي بن حاتم، فقد كان عدي بن حاتم رجلاً نصرانياً، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علق الصليب، فلما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، فقال: أنا على دين، مثلما أنت على دين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك منك، ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك وهذا لا يحل لك في دينك) أي: أنت على دين اسمه الركوسية، وفي دينك أنت لا يحل لك أن تأكل مرباع قومك، فقد كان يأخذ الربع من قومه وليس العشر، فقام الرجل تواضعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه كاشف أمره فبدأ يتراجع عما هو فيه.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى دين الله سبحانه وتعالى، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال، فقال عدي : فإني مسلم) ، فدخل في دين الله عز وجل.

    وجاءت وفود النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما دعاهم إلى الله رفضوا أن يدخلوا في دين الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] ، وتهيأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ السيدة فاطمة ، وعلي بن أبي طالب ، والحسن والحسين وخرج لهم وقال: (تعالوا نتباهل) .

    نذهب إلى الصحراء وندعو على الكذاب أن تنزل عليه لعنة الله عز وجل، فخافوا من ذلك وقالوا: نعطيك ما تريد، ماذا تريد؟ خذ منا الجزية، ولا نتباهل معك، وعرفوا أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه.

    فلذلك قال الله عز وجل: لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أي: ليس عندكم شيء من الصواب الذي تقولون أنكم عليه، ولا وقت للجدال بيننا وبينكم، وقد تبين الرشد من الغي.

    المرجع والمآل إلى الله تعالى

    قال تعالى: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا [الشورى:15] أي: لنا مرجع إلى الله عز وجل، يجازينا ويحاسبنا، فالكاذب والكافر يدخله الله عز وجل النار، والمؤمن التقي يدخله الله عز وجل الجنة، فالله يجمع بيننا يوم القيامة للحساب.

    فإن الدنيا فيها الخصومة والمجادلة، والذي صوته أعلى يغلب، فلا بد من حكم يحكم بين الاثنين، وقد يميل الحكم إلى هؤلاء وقد يميل إلى هؤلاء، ولكن في الآخرة لا يوجد مثل ذلك، فالله هو الحكم العدل سبحانه وتعالى، والله وحده يحكم بين عباده، وهو الذي يجمع بيننا ليحكم بين عباده يوم القيامة، وليجزي الظالم على ظلمه، وليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بخير جزاء على ما قدموا وعملوا، فإن يوم القيامة يوم الجمع، قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [التغابن:9] أي: ذلك يوم التغابط، ذلك يوم القيامة، يجمع الله بين عباده، ويجتمع الظالم والمظلوم، والقاتل والمقتول، والمؤمن والكافر، والشقي والتقي، الجميع عند الله عز وجل في موقف واحد، والذكر والأنثى والصغير والكبير، الكل بين يديه، فيفصل بينهم سبحانه وتعالى بالحكم العدل.

    قال تعالى: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: إلى الله مصير العباد، وكل يسير في طريقه، وفي النهاية الموت يجمع الجميع، والكل يسير إلى الآخرة، فمنهم من يدخل الجنة، ومنهم من يدخل النار، والله أعلم بحال عباده، فالعقيدة في قلب الإنسان المؤمن أن يؤمن بالله سبحانه وتعالى، وأن الله هو المعبود، وأنه الرب الخالق سبحانه وتعالى، ويؤمن بملائكة الله سبحانه أنهم يطيعون الله، قال تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

    ويؤمن أن الجنة فيها ملائكة، ويتنعم الخلق بما يفيضه الله عز وجل عليهم من رزق وبركات وتسليم الملائكة عليهم، بل ويسلم عليهم ربهم في جنة الخلود، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

    ويؤمن أن النار فيها ملائكة، قال تعالى: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، نسأل الله العفو والعافية، فالإيمان يجعل المؤمن خائفاً من لقاء الله سبحانه؛ لأنه يؤمن بيوم القيامة وأن الله إليه المصير، وأن الله يجمع الخلق يوم القيامة، فهو آمن وصدق وأقر واعترف، فلا بد من العمل طالما أنك مؤمن فاعمل لهذا اليوم، فالإيمان يدفع العبد للعمل، والإيمان بالله يدفعه لحب الله وتوحيده، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يدفعه لمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، والإيمان بكتب الله سبحانه، يعني: يأخذ شرع الله من كتابه ويقر بالكتب السابقة كلها، ويعتقد أن هذا القرآن العظيم شاهد ومهيمن على الكتب السابقة، ويعمل بما في هذا الكتاب، فهنا الإيمان يدفع للعمل بشرع الله، وللاقتداء بسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وللخوف من لقاء الله يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    كذلك يؤمن بالقضاء والقدر: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا آمن بالقضاء والقدر كان كل ما ينزل عليه سهلاً على نفسه؛ لأن الله قدر ذلك، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما أخذ هذا الميت سيأخذني أنا أيضاً، فلا أحزن حزناً شديداً يدفعني للسخط على قدر الله، فلا بد أن أرضى بقضاء الله وقدره، وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كلنا ملك لله سبحانه، هو خلقنا، وهو يملكنا سبحانه، وإليه نرجع ليجازينا.

    وقد كان بين وفاة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عدة أشهر، ولم يكن يعرف متى يموت صلى الله عليه وسلم، مات ابنه قبله صلى الله عليه وسلم حتى يصبر على فقدانه، ولا يطول عليه الأمر حتى يموت هو بعد ذلك صلوات الله وسلامه عليه.

    فالإنسان يفكر: إذا مات فلان فإنني سأموت بعده، فلماذا أتسخط على قضاء الله سبحانه؟ أنا راجع إلى الله وسيجازيني، فالإنسان يصبر نفسه، قال تعالى: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فالإنسان المؤمن يصبر لأن الدنيا فانية، فالله قبل ألف وأربعمائة سنة قال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:1] ، فعلى المسلم أن يصبر نفسه، ويواسي نفسه، حتى لا يتسخط على قضاء الله وقدره، وحتى يرضى بقضاء الله سبحانه، وحتى ينال أعظم الأجر عند الله.

    نسأل الله من فضله ومن رحمته فإنه لا يملكها إلا هو.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755984805